يرى الناقد المغربي أن هذه الرواية تصوير دقيق لما تعج به مجتمعات الجنوب الشرقي على وجه العموم. إنها نوع من الكتابة الإبداعية التي تعيد الاعتبار للجنوب المهمش الذي يصارع من أجل البقاء. هامش المكان والأرض التي حجبها الفضاء المديني. لا نقرأ في الرواية إبداعا فحسب، بل إننا نقرأ تاريخ منطقة بأكملها؛ بسماتها وخصوصياتها التي أفاض المعجم الصحراوي فيها.

سلطة الأشياء في رواية «بدو على الحافة»

لعبد العزيز الراشدي

جـواد السراوي

نعتزم في هذا المقال تسليط الضوء على سلطة الأشياء في رواية "بدو على الحافة" للكاتب المغربي عبد العزيز الراشدي. وسيتبدى من خلال تتبعها في سياقها النصي أنها تحفل بمجموعة من الدلالات الرمزية، بيد أنها تتجاوز طابعها المادي المحسوس لتؤدي أدوارها الجمالية، ولتقيم ـــ من جهة أخرى ـــ مسافة بينها وبين قارئها. ومن جهة أخرى، سنلمح إلى رمزية الفضاء في رواية بدو وسيتكشف أيضا أنه يحيل على نسق معين، بأفراحه وأتراحه، بعاداته وتقاليده وأنماط عيشه. وتندغم سلطة الأشياء مع الفضاء الآسر عبر معجم يمتح كلماته من الطابع الصحراوي، من الواحات من هذا الكل الجنوبي الذي ينعم بخصوصياته المتفردة.

عبد العزيز الراشدي هو كاتب مغربي من مواليد مدينة زاكورة، صدر له مجموعة من النصوص القصصية والروائية نذكر منها على سبيل التمثيل : " طفولة ضفدع"(قصص) الصادر عن منشورات اتحاد كتاب المغرب (2005). وأيضا رواية " بدو على الحافة" الصادرة عن الدار العربية للعلو ناشرون، بيروت (2006). كما أنه كاتب رواية " مطبخ الحب" الصادرة مؤخرا في طبعة جديدة عن منشورات الزمن. حصل الراشدي على جوائز أدبية منها: جائزة اتحاد كتاب المغرب (2004). جائزة الشارقة العربية في مجال الرواية(2006). جائزة ساقية الصاوي للقصة القصيرة(2006).

  1. بصدد الرواية

تبدأ رواية "بدو على الحافة" للكاتب المغربي عبد العزيز الراشدي بحادثة اصطدام سيارة بها غرباء بعمود كهربائي، تكثر تأويلات سكان القرية حول الحادثة، ومن ضمنها يُلتفت إلى شخصية المحجوب الوافد الجديد على القرية من الصحراء. تبقى السيارة في تلك القرية كقطعة خردة بالية. بعد ذلك، ينتقل بنا السارد لقصته مع الدكتورة التي جاءت لمداوة أهل القرية، (داء العيون) تكتشف هوسها بالصحراء، وبسكان الواحة، هؤلاء الذين يميزهم نمط عيش مختلف؛ عاداتهم وتقاليدهم، أفراحهم وأتراحهم، والعلاقات المتوترة والمعقدة التي كانت تجمعهم فيما بينهم. ثم ترسل الرواية في وصف طقوس القرية الجنوبية وفي مقدمتها طقس العزاء. تفقد يطو زوجها عبد النور، تُفرش الحصائر، يقرأ الطلبة القرآن، تجهش النائحة في بكائها كدلالة على وقع المصيبة. يحضر المحجوب من جديد في الحكاية، يتذكر قصة حبه بيطو ورفض الأب تزويجه إياها. في الأخير، يلتقي المحجوب بغرباء السيارة التي اصطدمت بالعمود الكهربائي وهم: عسو وإيدير والشيخ احماد، الذين يرغبون في الذهاب لمنزل عبد النور للبحث عن نصف الخريطة المفقودة التي ستخول لهم فتح الكنز الموجود في القرية! يفضل عسو الهروب متخفيا بين فرقة أولاد سيدي احماد أو موسى. ينتهي السارد من كتابة بحثه حول تاريخ المنطقة، الذي جاء خصيصا له، تغادر الدكتورة القرية، يخيم الحزن على السارد وعلى القرية، تنتهي الحكاية لتبدأ أخرى...

  1. سلطة الأشياء في رواية بدو على الحافة

لا تحتفي رواية بدو على الحافة بالفضاء الهامشي فحسب، بل إنها تعمد إلى الكتابة بمعجم صحراوي غني وحافل بالرمزية، وفي هذا السياق، يمكن القول إن اختيار معجم وفضاء بعينه للكتابة ليس اختيارا اعتباطيا، بل يرجع جزء من ذلك إلى الاختيارات الجمالية للكاتب التي قد تتقاطع مع مساره السردي. فليس من عاديات الأمور أن نجد رواية تحتفي منذ بدايتها حتى نهايتها بالأشياء مثلما تحتفي بالأمكنة التي تستلزم من القارئ معاودة موضعتها في نسقها الخاص في أفق معرفة ما قد تحفل به في سياقها من دلالات. ثمة عدد كبير من الأشياء التي يعرض لها سارد "بدو على الحافة" في سياقات مختلفة من الرواية، وهي أشياء لا يمكن النظر إليها باعتبارها معطا ماديا مرئيا نتمثله في الواقع العياني على نحو بصري فحسب، بل إنها ترشح بمجموعة من الدلالات الرمزية التي تتكشف في السياق النصي مثلما تنفتح على مرجعها الواقعي. وترتيبا على ذلك، يمكن القول إنه " لم توجد الأشياء في الرواية المغربية بشكل اعتباطي وإنما قامت بدور وظيفي، خدمة البناء الأطروحي للرواية. فلم تعد ديكورا خارجيا يرسمه الكاتب ليجعل منه خلفية جمالية، بل أصبحت الأشياء تقوم بدور إيجابي هام، إنها تحضر وتسيطر، وبموازاة ذلك لها خلفيات ومحركات رمزية."[1] وبالرغم من وجود قواسم مشتركة بين المجتمعات والثقافات والأنساق، إلا أن ثمة عددا من الخصوصيات التي تميز هذا المجتمع عن ذاك، تلك الثقافة عن الثقافة الأخرى، ذلك النسق عن النسق آخرـ والحال أننا لا ندعي بأن الأشياء التي تحتفي بها رواية بدو تغيب في أنساق أخرى ونصوص روائية أخرى بقدر ما أنها تحضر في هذا النص الروائي ـــ في اعتقادنا ــــ للدلالة على خصوصية الجنوب ــ الجنوب الشرقي في حالتنا ـــ في اللباس والمأكل والمشرب، في العادات والتقاليد وطقوس الاحتفالات وأنماط العيش، هذه التي قد تختلف بدورها في السياق الثقافي الواحد.

يقول السارد:

ـــ " يخرجون حاسري الرؤوس بعد أن يأكلوا الكسكس الحار، ويشربوا مياه الخوابي ذات نكهة القطران.." [2]

ـــ " حين دخل عليها تلك الليلة، لأول مرة، كان ذا جسد ممتد، كما لو أن طوله زاد، عرفته بلباسه الأبيض و كميته المذهبة التي يتمنطق بها.."[3]

ـــ " أحيانا، يجيء غرباء آخرون، بلحى " هداوية" و "بنادير" تسمع في كل الأرجاء. يقصدون دار القبيلة في البداية للضيافة، ويختلس بعضهم الوقت لزيارة الزاوية في القصر القديم المهجور."[4]

ـــ " حين فتحوا صندوق السيارة، وجدوا به كيس زرع وفأسا ومعولا غريب الشكل، وكان ثمة بعض الطعام والأوراق الممزقة."[5]

ـــ " سار في منتصف الزقاق بثقة، لأنه يعرفه تمام المعرفة؛ أغلب الناس لا يستطيعون المرور بالزقاق، زاعمين أن " الدكانات" الترابية وسطه، والتي لابد للمار أن يصطدم بها، تبدل أماكنها."[6]

ـــ " حين يمرون على المنازل عند الضحى والعشيات، يرقص الأطفال في الأزقة على وقع دفوفهم الحزينة، التي تواكبها، أدعية وأناشيد صوفية، تدعو للبذل والزهد، وترك متاع الدنيا والتفكر في الرحيل."[7]

إن أشياء من مثل "الخابية" و"الكمية" و"المعول" و"الشكارة" و"الدكانات" التي تأتلف في إحالتها على الطابع الصحراوي تشي منذ الوهلة الأولى بالاختلاف الذي يجعلها تنآى عن أشياء العالم المديني الذي يمتلك هو الآخر أشياءه الخاصة التي ليس بالضرورة أن تتطابق وتلك. تشكل الخابية في متخيل إنسان الجنوب الشرقي عموما ذلك الوعاءالأنسب لصيانة عدد من الحاجيات وحفظها من الضياع. وبلغة حديثة فإنها تشكل المعادل الموضوعي لـما يسمى اليوم بـ" الثلاجة" وتتعدد الخوابي بتعدد الحاجيات بحيث نجد خابية الماء وخابية التمر ..إلخ. أما الكمية فلها رمزيتها الخاصة وهو ما يمكن تمثله في مناسبات الأفراح على سبيل التمثيل، كحفل الزفاف الذي يستلهم في تلك الأوساط الأدوات التقليدية التي تشي بعمق تاريخي. فـ"السيوف" و "البنادير" و"الدفوف" كلها أشياء/ أدوات موسيقية تنتظم فيما بينها لخلق الوحدة والانسجام بين أعضاء الفرقة الموسيقية التي قد تحج باتجاه عرس أو ختان أو مأدبة. وتلعب هذه الأشياء علاوة على "الشكارة" و اللباس الموحد (الأبيض) والشبشب(الأصفر) والعمامة (البيضاء) دورا جوهريا في خلق تلك الوحدة التي يسهر "الشيخ" على تحقيقها. وفي الحالات التي يتم فيها خرق "بند" من تلك البنود المنظمة لعرس أو مأثم يُلجأ إلى "النصاف" كنوع من العقاب الرمزي الذي يُلجأ إليه بعد الإجماع لزجر كل المخالفات التي يمكن أن تؤثر على السير العادي للأعراف. إن "النصاف" في الجنوب الشرقي يعادل بلغة حديثة ما قد نسميه " الغرامة " التي قد تكون نقدية( في الغالب) مثلما أنها قد تكون غرامة أخرى حسب ما اتفق عليه أعضاء القبيلة ورجالاتها. ويشي هذا في تقديرنا على شكل من أشكال "القوانين الوضعية" التي عمدت إليها مجتمعات الجنوب الشرقي ليس من أجل تنظيم العلاقات فيما بينها فحسب، بل من أجل حفظ بنائها الداخلي من كل تصدع. يقول السارد في هذا السياق: " ثم يجتمع الرجال ــــ الذين يخبئون أولادهم حذر ما يقول ـــــ أمام الجامع، بعد إدراكهم فداحة الأمر لسن القوانين: لا خروج بعد صلاة العشاء، ومن يخرج يعط "النصاف" ويطعم ستة أفراد من القبيلة في بيته حسب العرف القديم الدائم. وتبدأ المراقبة الدورية."[8]

لا يمكن النظر إلى الأشياء في رواية بدو على الحافة باعتبارها أشياء مادية يجب تمثلها في الواقع العياني، أي كمعطيات مادية ذات أغراض معينة فحسب. بل إنها ترشح بمجموعة من الدلالات الرمزية التي تعلن عنها انطلاقا من سلطتها داخل النص الروائي. وتبعا لذلك، فإن الروائي " يتعامل معها بشكل رمزي وليست كقيمة مادية محسوسة"[9]إنها احتفاء بأشياء الجنوب الشرقي التي صارت تعرف في تقديرنا طريقها إلى الزوال لاعتبارات كثيرة. وهي من جهة أخرى احتفاء بخصوصية تلك المجتمعات.

  1. الفضاء في رواية بدو على الحافة

تحتفي رواية بدو على الحافة بالفضاء من حيث إحالته عبر مجموع الرواية على الجنوب الشرقي وما يميزه من خصوصيات. إنه فضاء مفتوح ومنفتح يعلي من مفهوم الجماعة. يقول السارد:

ــــ " مر زمن طويل، ثم ضاق المكان بعسو من جديد وقرر أن يتحرك ويتخذ المبادرة. دفع باب "المراح" فسمع صوت الدجاجات في منزل مجاور."[10]

ـــــ " يلتقي شبان القرية، المتراكمين في كل الأنجاء، حول الحانوت."[11]

ــــ " يلتف حول القصر الكبير سور غليظ، مشقوق، بأمكنة عدة، وعند بوابة القصر الكبير المفتوح، ينغرس باب عند المنتصف.."[12]

ـــــ " هاهم الناس قد غادروا القصر القديم ذا الأزقة الضيقة، والأسوار الحامية، لقد حولوا منازلهم القديمة، إلى مساكن للبهائم ومخازن لتبن الحصاد، وبنوا منازل أخرى في الخارج أبعد قليلا."[13]

إن "المراح" ليس هو "الحانوت" و"الحانوت" ليس هو "دار القبيلة" التي يتم فيها عقد كل اللقاءات التي تهم القرية/ القبيلة . و"القصر القديم" ليس هو "القصر الكبير"، ذلك البناء الأثري الذي يشي بصنعة البنائين وتفننهم فيه، إنه ليس فضاء ماديا يُعاش فيه فحسب، بل يصير معطى أنطولوجيا دالا على تاريخ وسياق معين. "القصر الكبير و"دار القبيلة" و"المصرية" و"المراح" كلها فضاءات رمزية لا تكشف عن فضاء الجنوب الشرقي فحسب بل إنها في تقديرنا قد تحيل على الطابع الاجتماعي الذي يسم تلك الأوساط. إنها فضاءات للقاء وتبادل الحديث والنقاش حول القرية بأفراحها وأتراحها، وهي أيضا فضاءات للأكل والشرب..إلخ. يشير أحد الباحثين أننا " لا نحمل أنفسنا عناء البحث في دلالة أي شيء من الأشياء: هل هذا الشيء الديكوري يدل على الرفض أو التمرد أو الإبداع أو التقليد، هل أواني الأكل تدل على فردية الإنسان واجتماعيته"[14]. أليست هذه الفضاءات دلالة على اجتماعية إنسان الجنوب الشرقي وتغنيه بمفهوم الجماعة، الذي تعكسه الضميمة بينه وبين عشيرته في الأعراس والمآثم، في الأفراح والمآثم؟ أليست تلك الفضاءات العامة المفتوحة بمثابة تلميح إلى مفهوم "الغرفة" التي بدأ يشيع في تلك المجتمعات وتقلص مفهوم الجماعة؟.

خاتمة:

رواية بدو على الحافة تصوير دقيق لما تعج به مجتمعات الجنوب الشرقي على وجه العموم. إنها نوع من الكتابة الإبداعية التي تعيد الاعتبار للجنوب المهمش الذي يصارع من أجل البقاء. هامش المكان والأرض التي حجبها الفضاء المديني. لا نقرأ في الرواية إبداعا فحسب، بل إننا نقرأ تاريخ منطقة بأكملها؛ بسماتها وخصوصياتها التي أفاض المعجم الصحراوي فيها. إنها رواية تكتب بالأشياء وبالأمكنة لتشكل بذلك ذاكرة جمعية لإحدى مجتمعات الجنوب الشرقي.

طالب باحث بماستر الأدب العام والنقد المقارن، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط.

 

[1] محمد التعمرتي، دلالة الأشياء في الرواية المغربية، ص 18.

[2] عبد العزيز الراشدي، بدو على الحافة، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط3، بيروت، 2009، ص 25.

[3] الرواية، ص 43.

[4] الرواية، ص 25.

[5] الررواية، ص 6.

[6] الرواية، ص 70.

[7] الرواية، ص 23.

[8] الرواية، ص 13.

[9] محمد التعمرتي، دلالة الأشياء في الرواية المغربية، مرجع مذكور، ص 18.

[10] الرواية، ص 78.

[11] الرواية، ص 66.

[12] الرواية، ص 33.

[13] الرواية، ص 48.

[14] محمد التعمرتي، دلالة الأشياء في الرواية المغربية، مرجع مذكور، ص 4.