ترى الروائية والناقدة اللبنانية أن الجانب التاريخي المهيمن في النص يحضر من ناحية التأكيد على ماضي عدن التليد؛ في العمل على تخليق فضاء سردي جمالي يؤلف بين الشخصيات جميعها في رؤيتها للمدينة مع التأكيد على حقائق الاستغلال الغربي لمدينة عدن، تحديداً سيادة بريطانيا على شعبها، في مقابل انقسام أبناء الشعب إلى من يرى في الثورة والاستقلال الحل الوحيد للحرية، وبين قسم آخر ينبهر بتقليد المستعمر على اعتباره يحمل قوة تدفع إلى التحضر.

أحمد زين يسرد مراحل حاسمة من ذاكرة عدن

لنا عبد الرحمن

 

تهيمن مدينة عدن في رواية «ستيمر بوينت» للروائي اليمني أحمد زين على رقعة السرد الفسيحة، في إطار حكائي يؤلف بين عناصر ثلاثة يقوم عليها النسيج السردي ككل وهي: التاريخ، المكان، واللغة. تمتزج هذه العناصر التي تشغل النص معاً في تضفير يصعب فصله عند التلقي، بحيث لا يغلب أحدها على الآخر، بل إن فتنة هذه الرواية تقوم على براعة التوليفة التي اختارها أحمد زين ليحكي عن مدينةٍ تأسر الأبطال، فيبدون كالمجاذيب في هواها، ويصبحون انعكاساً لها: قاسم، الشاب، العجوز الفرنسي، الضابط الإنكليزي، نجيب، سمير، أريس، سعاد وآخرون... كل منهم لديه أسبابه التي يضعها في هالة كبرى يبرّر من خلالها ارتباطه بعدن، وعلى رغم اختلاف طبيعة العلائق بين الأبطال مع المدينة وتجاذبها بين محور شرق وغرب، فإنها تصبّ في تباعدها وتقاربها في بؤرة عدن، مدينة تركت بصمتها عليهم جميعاً. عدن هنا، هي الأول والآخر، البدء والمنتهى، الحب وآلامه، التوق للبقاء والرغبة في الفناء فيها، وهذا الحب يشترك فيه الأبطال جميعاً سواء كانوا من أهلها، أو وافدين إليها، أو عابرين على أرضها. كأن يقول في الفصل الأخير: «من يترك من في حال الانحراف في عدن؟ هل نكون نحن من يتركها أم هي التي ستتركنا عند تلك النقطة الحرجة؟. تنبه الشاب إلى أنه أصبح في منتصف الطريق، حيث يمكنه سماع الهدير في المرفأ الكبير، كم طريق تؤدي إلى عدن؟ تساءل في نفسه، طريق قوافل البخور في الأزمنة السحيقة، أم مسالك الغزاة منذ الرومان إلى الكبتن هينس إلى...».

الذاكرة والتاريخ

يبدأ السرد مع شاب يمني يعمل في خدمة عجوز فرنسي. السرد يُغيّب اسمه ليستخدم كلمة «الشاب» في مقابل كلمة «العجوز» مع الفرنسي، وهذه الثنائية (الشاب- العجوز، الشرق والغرب) لا تبدو مرتجلة أو عبثية في نص مثل «ستيمر بوينت»، ينبني في شكل غير مباشر على تقديم الثنائيات، مع اختيار زمن في أعقاب الحرب العالمية الثانية وصراع القوى الاستعمارية من فرنسية وإنكليزية للهيمنة على الشرق. من هنا يبدو التجاذب انعكاسياً في النص، فالعجوز الفرنسي تسحره مدينة عدن ويبني فيها قلعته المطلة على البحر، والشاب اليمني الذي يشعر أنه يتحول إلى شخص آخر بمجرد دخول بيت سيده وانضمامه إلى «الأبهة» الكولونيالية، لكنّ الشاب ليس مجرد خادم بسيط، هو يعمل في تدريس الأطفال اليمنين البسطاء، قدم من الحديدة بعدما فقد والده في الثورة. أحبّ الشاب عدن بل استولت عليه بالكامل: «صدمتك عدن فاجأتك بكل ما فيها دفعة واحدة، بدت من أول وهلة قطعة من الجنة»، تسكنه هواجس وتلمع في ذاكرته خيالات أساطيل الرومان وملوك البرتغال وسلاطين الترك، وغيرهم يبحرون في نهارات صامتة، يتخطون الحواجز المائية، كي يهاجموا سواحل عدن لاحتلالها وتسهيل نقل الحرير والأفاوية من الهند إلى الصين. ويستمر الشاب في استحضار تاريخ المدينة عائداً بذاكرته إلى عام 1893 مع مذكرات البحار الإنكليزي الكابتن هايتس الذي حلم طويلاً بعدن، وتمكن من تحقيق حلمه مع غزاة يحملون السلاح الأبيض ويغوصون بأقدامهم في المياه الضحلة. في مقابل استحضاره التاريخ (الماضي)، يبدو له الحاضر مخيفاً، مع تخيله نجيب الشاب اليمني الماركسي، ثم يشم رائحة الدم التي تنبعث من كلماته. نجيب الذي يكلمه عن تحرر الفرد وتحرير الجسد والموقف من الدين إلى الصدام العنيف والقسوة في إيذاء الآخر، ولم يكن الآخر سوى الشاب وأمثاله ممن لا يؤمنون بالعنف كحل.

أما العجوز الفرنسي فهو يعتبر أن حياته تنتشر في كل شبر من المدينة، عدن ليست مدينته، لكنه اختارها لتكون مكاناً له، صنع عالمه على أرضها اشتغل في بناء السفن و«اللنشات» وأطلق عليها أسماء عربية، بعد أن أمضى عمره في التجارة وسيطاً بين الأميركان والإنكليز، أخذ توكيل شركة «شل» وأصبح اسماً صعباً يملك مفاتيح اللعبة التجارية والاجتماعية في عدن.

لكنّ تقاطعات الأفكار بين الشاب والعجوز تتمحور حول الخوف من الخطر الزاحف نحوهما منذ تحطمت أسوار مدينة صنعاء، فالدماء تسيل هناك والرصاص يقتل حتى الأحلام، لكن لا يصغي الإثنان إلى ما يقوله كل واحد منهما عن هواجسه ومخاوفه، لأنهما لم يكونا أبداً قريبين، لكنّ الخطر المقبل يوحد بينهما لنقرأ هذا المقطع: «أنت لا تكره العرب أيها الفرنسي... تكره حد الموت ما يمكن أن يفعلوه بك، جزاء غطرستك واستخفافك بهم في كل الأزمنة... تعرف يا رجل عدن، أنا أيضاً لا أملك الشجاعة لمواجهتهم بعد أن حاصروني في خانة من يفضلون الإنكليز. إذن أنت وأنا في خندق واحد».

في مقابل الشاب والعجوز، هناك شخصية نجيب الثوري ورفاقه، وسعاد التي التحقت بالتنظيم السري للمرأة قبل أن تذهب إلى جمعية المرأة العدنية، نزعت غطاء الرأس وارتدت البنطلون لكنها لم تتقبل تحرر الجسد وظلت نظرتها إلى علاقة المرأة بالرجل مرتبكة. هناك أيضاً إيريس الباحثة الإنكليزية التي جاءت إلى عدن لتقوم ببعض الأبحاث لكنها استقرت فيها، وأحضرت رجلاً ليقوم بخدمتها ينجذب إلى كيانها الطاغي وتستعمره لغتها فيقلدها بافتتان، ترتبط إيريس بعلاقة جسدية غامضة مع الشاب والعجوز في آن واحد، وتنسى أغراضها البحثية التي جاءت من أجلها.

علاقة ثنائية أخرى من التجاذبات تقدمها «ستيمر بوينت»، بين قاسم والضابط الإنكليزي المخصي، يقدم الضابط التسهيلات لقاسم في التجارة والتهريب، في حين يعمل قاسم على تقديم بائعات الهوى للضابط.

يأتي اسم تسيمر بوينت من منطقة «التواهي» وهي نقطة التقاء البواخر، حيث الحيّ الأوروبي الذي يطلق عليه الإنكليز هذا الاسم. وكأن هذا المكان هو قلب عدن، وهو بؤرة انكشاف التاريخ والجغرافيا، إنها المدينة التي يلتقي فيها الإنكليز والفرنسيون والهنود والبرتغاليون، والأتراك والعرب، مدينة تبدو كوزموبوليتانية- عربية، على رغم طغيان الثقافة الإنكليزية على أرضها.

يطرح ضابط إنكليزي تساؤله عن عدن قائلاً: «إلى أين تتجه هذه المدينة، ألم يكفها أنها أصبحت ثالث أهم ميناء في العالم بعد نيويورك وليفربول؟»، يقول تاجر: «يجوع العالم من حولنا ويعرى إذا لم تغادر البواخر من ميناء عدن، إذا لم تقلع الطائرات من مطارها محملة بالسكر والأرز والملح والجلود والتوابل وكل شيء».

لعلّ الجانب التاريخي المهيمن في النص يحضر من ناحية التأكيد على ماضي عدن التليد؛ في العمل على تخليق فضاء سردي جمالي يؤلف بين الشخصيات جميعها في رؤيتها للمدينة مع التأكيد على حقائق الاستغلال الغربي لمدينة عدن، تحديداً سيادة بريطانيا على شعبها، في مقابل انقسام أبناء الشعب إلى من يرى في الثورة والاستقلال الحل الوحيد للحرية، وبين قسم آخر ينبهر بتقليد المستعمر على اعتباره يحمل قوة تدفع إلى التحضر.

حساسية اللغة

لعل اللغة السردية ضمن أكثر العناصر اللافتة في رواية «ستيمر بوينت». لغة رائقة، وصفية، دقيقة، تملك حساسيتها ورهافتها الخاصة بحيث تتحكم بالسرد وتقدمه بصيغ جمالية، تتكل في شكل كبير على الضمائر، تغيب الأسماء أحياناً، أو يكون في شكل لمّاح يحتاج من القارئ حضور ذهن كي يربط ضمير «هو» أو «هي» عائد لمن؟ كذلك ينتقل السرد بخفة من الراوي العليم، إلى أنا المخاطب ضمن المقطع السردي الواحد، كأن يقول: «تطلّع إلى الأريكة حيث يجلس العجوز فلم يره، والمرآة ما عادت موجودة. ينهض بتثاقل يأكل الهلع قلبه. أين يكون ذهب؟ لم تترك مكاناً لم تفتش فيه، حتى غرفة نومه، التي دفعت بابها وهالتك مساحتها...أغلقت باب الفيلا وراءك وخرجت، رحت تسير ببطء خلال الأشجار وبين الصخور، تحد بصرك في الغبشة الخفيفة، ولم تر أحداً».

على رغم خطورة ما يسرده من أحداث تتعلق بالتاريخ، بالكولونيالية، بالحرب بالخوف بالموت، بقيام الثورة، بانتظار تحولات كبرى كفيلة بأن تغير الحياة ككل للأبطال يتسّم السرد منذ الصفحة الأولى وحتى النهاية بسلاسة هادئة ترجّح كفة جماليات اللغة ولا تحيد عنها. لم يلجأ أحمد زين إلى لغة متوترة في المقاطع السردية التي تتضمن عنفاً أو خطراً ما، بل حافظ على إيقاعه اللغوي الواحد، من دون إسقاط للمعنى، أو الغرق في رتابة السرد، أي أن الشغف بالانشغالات الجمالية لم تجعل الكاتب بعيداً عن الانغماس بالتفاصيل الواقعية المراد تقديمها، ما يدل على أن الشكل الروائي مع مضمون يهتم بالتاريخ والسياسة وفلسفة المكان، قادراً على أن يقدم رواية تعكس واقعيتها الجمالية المبتكرة.

 

جريد الحياة