كتاب جديد للباحث محمد الناجي "العبد والرعية"

العبودية والسلطة والدين في العالم العربي

صدر للباحث المغربي محمد الناجي، كتاب جديد موسوم بـ (العبد والرعية)، العبودية والسلطة والدين في العالم العربي. وقد قدم لهذا الكتاب المفكر الفرنسي ريجيس دوبري. الباحث محمد الناجي أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، عرف بأبحاثه العميقة في التاريخ الاقتصادي وعلم الاجتماع القروي. وقد خاض في ميدان ظل مجهولا هو ميدان العبودية. ويعتبر من الباحثين البارزين في هذا المجال في العالم العربي. صدر له: (الجنود، الخدم والجواري)، (صداقة الأمير).

يتوج الكتاب بخاتمة عميقة (بين السماء والأرض)، ندرجها كاملة نظرا لخصوبة رؤيتها الجامعة:

(يرزح تاريخ العالم العربي الإسلامي تحت وطأة أحداث ثقيلة تسدّ أفقه. فالذاكرة تعجّ بالمقدس، وبالشخصيات المؤسطرة، وشخصيات أخرى ملعونة. التاريخ سجين الخطاب الديني وتمثلاته. أما المجتمع الفعلي بجاذبياته وتناقضاته، بكدح الشعب، بإكراهات الحياة المادية، والصعوبات الملازمة لطبيعة قاسية إلى حد ما، فهي أمور غائبة تقريبا عن هذا التاريخ. إن القُدْسي يَحْجُب الحركية الاجتماعية ويغيّب ديناميتها التي كانت حاضرة على الدوام. فالخلفاء، المتخلّصون من بُعدهم الاجتماعي والتاريخي، يحتلّون الساحة، وبالتالي يبدو العنصر السياسي عديم الفائدة في عالم تعالَج فيه النزاعات بالاتكاء على الآيات القرآنية، وعلى الأحكام المستوحاة من السيرة النبوية. إنّ حاضرنا اليوم يذكّرنا كثيراً بقوّة مثل هذه الأحكام.

لذلك من الضروري والمستعجل نزع الطابع القدسي عن المقاربة التاريخية لهذه الفترة، وللفترات التي تَلتْها. نزعُ القداسة بمعنى إزالة الحواجز القائمة بين الحقل السياسي والحقل الديني، وقراءة هذه المرحلة التي توافق اللحظة الأساسية لتشكّل دولة مدينة، مثل جميع الدول، لمنطق اشتغال العامل الاجتماعي بالمعنى الواسع.

إن القيامَ بهذا العمل، معناهُ الانفلات من سلطة الأحداث التي تعمل، رغم أهميتها وحجمها، على تغليط منظور الدينامية الاجتماعية. معناهُ أيضا كتابة تاريخ ذي بعد إنسانيّ يسمح بإخراج الأشباح التي تسكن الحاضر بكيْفية أفضل.

معناهُ كذلك، قراءة تاريخ حقبة تعدّ استمرارًا للحقَب التي سبقتها دون أن تجري، على مستوى الوقائع، قطيعة جذرية: ذلك أنه لم تحدث في الحقيقة أية ثورة في البنيات الاقتصادية والاجتماعية. وأعتقد أنني عملتُ في هذا الاتجاه، محاولاً تجْلية طبيعة علاقة السلطة في إطار منظور مفتوح.

لقد ظهرت الدولة للوجود على أنقاض المماليك العربية القديمة. فقد كان تراثها بمثابة عامل مساعد، الأمر الذي أفضى إلى التسريع من وتيرة وضع طقوس البروتوكول الملكي. وفي الوقت الذي كانت فيه الخلافة تتآكل من الداخل، وتنهكها الصراعات الداخلية، وفي الوقت الذي كانت تحاول فيه احتواء الانفلاتات الاجتماعية، كانت الملكية تترعرع على هامشها، وتعلن عن قدومها وهي تتغذّى من تلك التناقضات ذاتها. إنّ الخلافة، في حقيقة الأمر، ورغم الصورة الأسطورية التي قدّمها عنها الإيديولوجيون المسلمون، ظلّت سجينة البنيات الاقتصادية والاجتماعية. بل وحتى داخل المجالات التي كانت مبعث فخر لها، مثل مجلس الشورى الذي من المفروض أن يحدد بكيفية ديمقراطية أشكال الاستخلاف، يجد المرء اليد الطولى للعشائر المهيمنة. لقد كان للغنى دور حاسم في الوصول إلى الحكم، كما كان الأمر خلال المراحل السابقة، والمراحل الموالية كذلك. ومهما يكن من أمر، فإن الخلافة كانت تتطور من تلقاء نفسها في اتجاه نظام حكم وراثي لا يتلاءم فقط ملاءمة أفضل مع البنيات الاجتماعية السائدة فحسب، بل كان الضامن الأفضل لنظام متوازن.

فضلا عن وجود أساس اقتصادي أوسع مجالاً، وأطول مدّة، سوف تستفيد الدولة آنذاك من الأسس الدينية التي ستسمح لها بالحصول على شرعية تتعالى عن جذورها القَبَلية. كانت هناك نفس القوانين، ونفس المنطق الذي يتحكّم في تشكّل الدول، وتشكّل المَلَكيّات العربية الصغيرة لمرحلة ما قبل الإسلام، غير أن المقدس ملأ فراغات وتأخيرات العوامل الأخرى، وسرّع من وتيرة الزمن التاريخي.

غير أن الوسط الاجتماعي لتلك المرحلة، بالتحديد، هو الذي عمل على تشكيل الأسلوب السلطوي. ذلك أنه من زاوية تعبيره ومحتواه وآلياته، فقد ساهمت مختلف الأساليب السابقة لممارسة الحكم، بدءا من علاقة السيد ـ العبد، إلى العلاقة المَلَكية، في بَنْيَنَة المجال السياسي، والمجال السماوي في الوقت ذاته. إن علاقة السلطة، التي كانت أرضية في الأصْل، بارتفاعها، شرعتْ في الربط بين الطرفيْن المتقابليْن: الجبروتُ والعدمُ. هكذا وجد السيّد والعبد نفسيهما منزوعين من عوارض الحياة الأرضية، ومحرومين من عدم الصفاء الذي من شأنه وضع السلطة أو عبادة العبد موضع شكّ. لقد بلغت السيادة كمالها في السماء، واكتمل تحقّق العبودية النهائي. وبالمقابل، سيعمل العنصر الديني على استثمار خفايا العنصر السياسي، وتعديل صيغ إضفاء الشرعية، والوصول إلى السلطة، رغم الاستمرارية في طبيعة السلطة ومحتواها الاسترقاقي. ومن ثم، فإن الحقل الديني سيغدو مجالا مركزيا للصراع الذي انخرطت فيه الأجنحة التواقة إلى الحكم. ومن ثم كذلك أهمية القيام بقراءة دنيوية للنصوص الدينية من أجل فهم السلطة. يتعين إذن فكّ رموز اللغة المقدسة، والكشف عنها، لجعلها تفصح عن رسالتها الحقيقية.

وهكذا نلاحظ وجود استمرارية قوية بين القديم والجديد. إن الخطاب التيولوجي يزعم قطيعة جذرية، باعتماده كمعيار وحيد مقدسا لا تاريخيا ، يقطع كلّ صلة بالماضي، وينكر على فترة ما قبل الإسلام، وهي الفترة التي تعتبر فترة ظلام وجهل، وضعية السابق الشرعي، وذلك على الرغم من الموروثات الجلية والحاسمة، وبصفة خاصة فيما يرتبط بالهيمنة الاجتماعية، وبالصراع من أجل السيادة. يتعلق الأمر هنا، بالتحايل على العقل التاريخي الذي تم إبعاده. بات المقدس وحده المتحكّم في عملية التحقيب، الذي تحددت بدايته بمجيء الإسلام. إن مجيء الإسلام يمثل، بكل تأكيد لحظة انتقال هامة جدا : معه توفّرت الشروط الملائمة لقيام الدولة، وامتلاكها لأسس مادية لا يستهان بها، وإقامة مجال جغرافي واسع جدا، وإعادة تشكيل النسيج الاجتماعي، وتوفير أساسه الاجتماعي الذي لم يعد يقتصر على الجناح أو القبيلة. غير أننا أبعد ما نكون عن وجود قطيعة جذرية مع الأطر الاجتماعية والسياسية السابقة.

إن العبودية بالفعل هي التي تتقدم كأسلوب للحكم، مستوحًى من العلاقات الاجتماعية الخاصة. لقد تبيّن أنّ العلاقة بين السيّد والعبد هي العلاقة الأكثر فعّالية في هذا الوسط القبَلي من أجل إقامة وترسيخ سلطة الحاكم. وسوف تشكل النواة التي ستتمحور حولها العلاقات التي سيقيمها الملك مع محيطه، ومع خدمه ورعاياه. إن العنصر الديني الذي لا يرى العلاقة بالسيد إلا بوصفها علاقة تحكّم مطلق، سيحرص على إضفاء الشرعية على السلطة المطلقة للملك من خلال حجْب أصلها الأرضي لفائدة تفويض تهبُه للسماء...).