تظهر بوضوح في رواية “عزلة صاخبة جدا” محاولة كاتبها إماطة اللثام عن تهالك حياة الإنسان في الأنظمة الشمولية، إذ تتضاعف محنته إثر تغوّل الآلة إلى درجة أن التطورات التكنولوجية تفرض شروطا جديدة عليه، إلى حدّ أنه يصبح كائنا مراقبا ومتفرجا دون فاعلية.

شخص يعيش في عزلة مع آلة تأكل الكتب

زهير إسماعيل عبدالواحد

 

خير جليس في الزمان كتاب” هذا ما سجله المتنبي قبل المئات من السنين عن مصاحبة الإنسان للكتاب بوصفه أنيسا يقيم للمرء عالما صاخبا بالأفكار، خاليا من الإكراهات المضنية، وبذلك تصبح الوحدة الاختيارية عالما مستقلا له خصوصياته المميزة عن المناخ الخارجي، وهي الحالة التي تراها بصورة أخرى لدى بطل رواية “عزلة صاخبة جدا” للكاتب التشيكي بوهوميل هرابال والتي قدمها المترجم التونسي منير عليمي للقارئ العربي.

تتخذ حياة بطل “عزلة صاخبة جدا” منحى أحادي البعد، وتتكرر الوقائع يوميا كسلسلة. لكن ما ينضاف إلى عالم هانتا هو الآلة التي تسحق الكتب التي يعمل عليها، فيقضي أيامه في متابعة العناوين التي تلتهمها الآلة الهيدروليكية، التي تبدو في صورة وحش فاتح فمه على شتى الكتب والأوراق العتيقة، إذ ينقل لك هانتا انطباعاته عمّا تمرّ أمامه من المؤلفات المتنوعة.

كما أن قبو منزله لا يختلف عن بيئة عمله، بل يمنّي نفسه بنقل آلته إلى البيت حالما يبلغ سن التقاعد، ولدى عودته إلى البيت يحمل معه أكواما من الكتب التي صارت شغله الشاغل، بحيث قلّما ينتبه إلى ما يدور حوله، إذ أن أصداء أفكاره وطنين تخيلاته تغلب على الضجيج الخارجي في الشارع والطرق، ولا يرى أضواء الإشارات وعلامات المرور، وتختار خطواته دربا وحيدا معتادة عليه يوميا.

لا تخلو رواية “عزلة صاخبة جدا”، الصادرة عن دار المتوسط، من المؤشرات التي تعيّن البعد المكاني في الرواية، حيث تلقي مدينة براغ ومعالمها بظلالهما على أجواء العمل، وتطيب للبطل الضدّ نسائم نهر الفلتافا عندما يعبر ساحة المدينة وتروق له منتزهاتها، وأحيانا يركن إلى إحدى البارات غير أن ما يلاحقه بالاستمرار هو طنين الآلة، التي لا يوجد ما يماثلها إلا سيف ديموقليس.

يتخذ مسار حياة هانتا منحى أحادي البعد، وتتكرر سلسلة من الوقائع يوميا كما أن أفق علاقاته محدود جدا، ونادرا ما يتواصل مع الآخرين باستثناء من يسميه بأستاذ الفلسفة الذي يعطيه مبالغ مالية بين فينة وأخرى.

كما يقدم هانتا من جانبه خلاصة المقالات المنشورة عن المسرح في الصحف لمن يسميه بالأستاذ، فالأخير يوصيه أيضا بحسن التعامل مع الرجل العجوز، أضفْ إلى ذلك أن المادة المسرودة لا تخلو من صور الماضي، حيث يستمد هانتا من ذكرياته مع مانسا ما يخفف عليه قسوة الحاضر ومنغصات عيشه، بالتجاور مع ما يحكيه عن أيامه الرتيبة وإفصاحه عن انفعالاته الداخلية وهروبه من النوم بإسرافه في شرب البيرة.

يتناول الراوي تجربته مع الغجرية التي تظل مجهولة الاسم حتى نهاية الرواية، وهنا يكشف وجها آخر من حياة هانتا، يبدو فيه مع الغجرية أكثر صفاء وبساطة، غير أن هذه الحالة لا تدوم وذلك بعد اختفاء الغجرية، ومن ثمّ يقرأ في الصحف أنها وقعت في قبضة الغاستابو، وحين يخيب أمله بعودة عشيقته بعد نهاية الحرب يحرق الطائرة الورقية، التي كان يطلقها الاثنان إلى السماء تعبيرا عن سعادتهما العارمة.

نحن أشبه بحبات زيتون، فقط عندما نسحق نظهر أفضل ما لدينا”، يردد هانتا مقولته التي هي وليدة تجاربه، ويقول “إن الجنة ليست إنسانية ولا أي شخص له رأس بين كتفيه هو إنساني”. يتضح مما يذكره متلف الكتب نزعته العبثية تجاه الأمور الحياتية، نتيجة ما عاشه من المرارة على الأصعدة كافة، خصوصا معاناته العاطفية مع مانسا التي لا تستطيع كلّ من الشمبانيا أو الكونياك أن تمحو صورتها من ذهنه.

ما يؤثث عالم هانتا هو الكتب والآلة التي يراقب أزرارها باستمرار وهي تسحق الأوراق القديمة، وبما أن العمل الروائي يتكئ على الرسالة التي يحملها، إضافة إلى أبعاده البنائية، لذا فإنّ إدراك مكونات تلك الرسالة يصبح جزءا من انشغالات المتلقي.

وما يظهر بوضوح في رواية “عزلة صاخبة جدا” هو محاولة كاتبها إماطة اللثام عن تهالك حياة الإنسان في الأنظمة الشمولية، إذ تتضاعف محنته إثر تغوّل الآلة إلى درجة أن التطورات التكنولوجية تفرض شروطا جديدة عليه، إلى حدّ أنه يصبح كائنا مراقبا ومتفرجا دون فاعلية.

يرتعب هانتا بطل الرواية بمجرد أن يرى الآلة الجديدة التي يروّج لها الحزب الاجتماعي الذي هو نموذج لكل الأحزاب التسلطية، وما يفهم من ذلك أنّ الأنظمة الكليانية تتغلغل أكثر من خلال تجنيد الآلة في كل جزئيات الإنسان دون إيلاء أهمية لإنسانيته أو حاجاته

جريدة العرب