يرى الكاتب أن السمة البارزة في مفاهيم هومي بابا مابعد الكولونيالية هي التوظيف النفسي وعلاقتها بالمنظومة السياسية في مجابهة الخطاب الغربي. ويخلص إلى أن إلى مفهوم "الهجين" يفضح التدخل القسري في ثقافة الشعوب الأخرى، وينطوي على إدانة للممارسات الكولونيالية.

هومي بابا والقراءة النفسية بين الأنا والآخر

محمد كريم الساعدي

 

كان للمنظر ما بعد الكولونيالي (هومي بابا) دور مهم في هذه الدراسات، إذ عد من المؤثرين في هذا الخطاب لكونه سخر للمجال النقدي ما بعد الكولونيالي عدداً من المفاهيم التي أسهمت في تفكيك الخطاب الاستعماري، وهذه المفاهيم استقاها بعد بحث مستمر في كتابات (سعيد)، وكذلك في مجالات علم النفس من خلال دراسات (فانون و جاك لاكان) النفسية.

إن السمة البارزة في مفاهيم (بابا) ما بعد الكولونيالية هي التوظيف النفسي وعلاقتها بالمنظومة السياسية في مجابهة الخطاب الغربي والتي تناولها قبله (فانون)، فدراسات الأخير النظرية وعنايته بالعلاقة بين السياسة والنفس وقضايا التمثيل تتصادى في فكر بابا، شأنها في كثير من الجدالات الراهنة حول مسألة الهوية. وكذا رؤية فانون إلى الثقافة على إنها حقل أدائي، وتركيزه على الجسد الذي يقع في مركز تفكيره الخاص بالفاعلية السياسية والممارسة الثقافية. لقد عمل (بابا) على تطوير دراسات (فانون) فيما يتعلق بالتحليل النفسي والجسدي على وفق منظور (لاكان) ونظرياته النفسية وخاص في مفاهيم (التنكر، والآخر، والأنا) وغيرها من المفاهيم التي أدخلها (لاكان) في التحليل النفسي من خلال إعادة قراءة نظريات (فرويد) النفسية.

لكن قبل البدء في مفردات التحليل النفسي التي تأثر بها (بابا) ووظفها في عمله، كانت له مواقف جلية من الخطاب الكولونيالي والثقافة الاستعمارية في الهند والذي على أثرها انشأ مع عدد من الباحثين الهنود ما سمى بدراسات (التابع)، ووقع على عاتقهم عملية قلب مدونة تاريخ الهند الرسمي المكتوب من قبل المؤرخين المتأثرين بالسياسات الاستعمارية البريطانية، واقترحوا إعادة كتابته في ضوء مفاهيم مغايرة متصلة بالتاريخ الشفوي المنسي الذي استبعدته النخب الاستعمارية. وفي ضوء هذه الدراسات النقدية التي اتصف بها عمل (بابا) برز توجهه نحو مناقشة الفكر الغربي في حقبة محددة، هي الحقبة التنويرية التي رأى فيها بأنها أسهمت في صناعة الثقافة الكولونيالية والتوسع الامبريالي وناقش فكر النخب المؤثرة في تلك الحقبة التاريخية التي ابتعد مفكروها عن موقفهم الإنساني، بل أسهمت نتاجاتهم في ايجاد فكر طبقي تمييزي بين الغرب والشعوب الأخرى التي أصبحت ضحية لذلك التوجه. وهنا يرى (بابا) في إن الفكر الأوربي الإنساني التنويري لم يكن إلا ليكشف عن مفارقة ساخرة إذا ما وضع في السياق الكولونيالي لتلك الحقبة. ولم يكن الأمر يقتصر على التجاهل واللامبالاة في مواقف الطبقة المثقفة الأوربية من قضايا التوسع الاستعماري والنشاط الكولونيالي وما رافقه من أفعال لا إنسانية، بل أسهم في انتشار أنماط من المرويات الكبرى التي تزيف الواقع المحلي للبلدان المستعمرة.

وللوقوف على المفاهيم التي صاغها (هومي بابا) في كتابه (موقع الثقافة)، سيتطرق الباحث إلى أهم المفاهيم التي استقاها من (لاكان)، هي (التنكر والتمويه والعلاقات بين الدال والذات والآخر) وقد أسهمت في بناء محور نقدي يوجه ضد المركز وبنيته المحورية والعلاقة بالآخر (الهامشي).

يعد مفهوم (التنكر) من المفاهيم الرئيسة التي وظفها (هومي بابا) في نظريته، إذ يرى فيه: إعادة كشف عن تمثيل لمجموعة من العلاقات التي تدل على هوية ما أو معنى ما، فهو تمويه يؤدي للوقوع في حقل التشابه دون أن يكون لهذا التشابه الناتج عن التمويه أي جوهر مع الخلفية التي يريد أن يتقارب معها، ولكنه في الوقت نفسه يهدف إلى إظهار شيء او البوح بشيء يدل على الهوية، أو المعنى الذي يسعى إلى تأكيده. ويسعى من يقوم بـ(التنكر) أو (التمويه) إلى التأثير على الخطاب المركزي المسيطر وزعزعة المفاهيم الرئيسة التي يقوم عليها وبذلك يجعل هدفه الظهور في الساحة التي يرتكز عليها الخطاب المسيطر في صورة من التمثيل المموه الحضوري في ساحة الفاعل، وفي صورته من أجل تأكيد مفاهيم ذات طابع تمييزي وعنصري ضد الآخر وهنا يرى (بابا): ان التنكر بوصفه كناية حضور، لا يكتفي بهدم بنية السلطة النرجسية عبر دائرة الاختلاف وتكرر الرغبة في الحضور، بل يساهم في تثبيت أشكال المعرفة التمييزية والتصنيفية في الصورة الكولونيالية الحاضرة، فهو يطرح بالضرورة مسألة إقرار، أو شرعنة التمثيلات الكولونيالية، بوصفها ذات تمثيل عرقي، وثقافي، وقومي، تصنع إرباكاً وازمة في مفهوم التاريخ الثقافي للمجتمعات لخاضعة لسيطرة لتمثيل الكولونيالي.

إن النظام التمثيلي الذي يقدمه الآخر عن طريق التنكر والتمويه، يظهر من خلالها مجموعة من العلامات التي يعبر بها الآخر عن ذاته من خلال الخطاب المسيطر الكولونيالي، إذ يرى (لاكان) في مفهوم (الحضور): بأنه من يهيمن على الواقع من خلال خطاب السلطة المسيطرة على الأطر الثقافية والاجتماعية، التي يحاول المفهوم الآخر (الغياب) أن يظهر فيها من خلال التنكر والتمويه والتلاعب والتحايل في رموز وعلاقات غير مباشرة أو من خلال وسائل تعبير عديدة، او من خلال توظيف المقولات الشعبية، التي تفرز المقاصد الخفية مما يتسلل الغياب (الآخر) عبر فراغات وثغرات في خطاب الحضور، الذي يعمل دائماً الخطاب الكولونيالي، وبحسب وجهة نظر بابا، إلى تغييبه وإحلال الذات الكولونيالية في تمثيله.

لقد سعى (بابا) تأكيد مفهوم (الآخرية في الآخر) ووضع توصيفاً لمفهوم (الثبات) في الذات المؤسسة للخطاب الكولونيالي، ويمثل هذا المفهوم في بناء الذات الكولونيالية وهو بناء إيديولوجي للآخرية وسمة مهمة من سماته الثبات بوصفه دالول الاختلاف الثقافي، التاريخي، العرقي في خطاب الكولونيالية هو نمط متناقض من أنماط التمثيل: فهو يتضمن معنى الصلابة والنظام الذي لا يتغير كما يتضمن أيضاً معنى اختلاف النظام، والتفسخ والتكرار الشيطاني. ومثل الثبات فان الصورة النمطية، التي تمثل إستراتيجية الخطابية الكبرى، هي شكل من المعرفة وتعيين الهوية يترجح بين ما هو (في مكانه) على الدوام، معروف مسبقاً، وبين ما ينبغي تكراره على نحو قلق.

كذلك تأثر (بابا) بمفهوم الصورة أو المرحلة المرآوية عند (لاكان)، إذ تأتي بعد المرحلة ما قبل المرآوية، وتعني حالة شعورية موجودة في بنية الأسرة، أي إنها موجودة في داخل المركز الأسري وتمتاز بالثبات في داخل البناء الأسري، أما المرحلة المرآوية والتي يكونها الطفل بالآخرين بعد أن يجتاز شعوره بذاته وذلك بفضل استخدام (المرآة). وهنا تكون العلاقة بين الطفل وذاته علاقة بعيدة عن واقعها، وتأتي هذه اللاواقعية بعد أن يمر الطفل مع صورته بالمرآة بثلاثة مستويات (التفاعلية: أي يتفاعل مع صورته في المرآة)، والثانية (يحدث انزياح في موضوع صورته كشيء واقعي، يتوقف عن مستوى التفاعل)، والثالثة (مرحلة التقمص لشخصية الصورة التي في المرآة)، ويتعامل معها بأنها صورة لشخص آخر، وبالتالي يحدث التحول في الذات، ويبدأ معها مرحلة التنافر التي تولدها المرآة بين الذات وواقعها. ان التنافر الحاصل بين الذات والواقع ينتج فضاء من الإختلاف بين الطرفين في مفهوم خلق توافق وتواصل في صيغ انتاج مشتركات بين الشكلين، ومن يطابق الآخر بعد ان توصلت الذات الناظرة في المرآة بعدم لتشابه مع المرئي المحاكي شكلاً لها.

وهنا يربط (بابا) بين صورة الذات والآخر في المرآة بمفهوم (البعد الثالث والهوية المحاكاتية) وذلك من خلال اعتبار (الصورة) التي تكون في المرآة عند (لاكان) وفي الخطاب الكولونيالي للآخر هي ليست سوى ملحق بالسلطة والهوية ؛ فلا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تقرأ محاكتياً بوصفها مظهراً لواقع. وليس النفاذ إلى صورة الهوية ممكناً أبداً إلا بـ (نفي) أي إحساس بالأصالة أو الكمال؛ فسيرورة الانزياح والتباين (الغياب/ الحضور، التمثيل/ التكرار) تحول صورة الهوية إلى واقع حدي قائم على عتبة الشعور، فالصورة هي في آن معاً ضرب من الاستبدال الاستعاري، أو ضرب من وهم الحضور. وهنا يقع مفهوم (البعد الثالث) وهو ما يطلق عليه (بابا) الهوية المحاكاتية أو صورتها البصرية.

أوجد (بابا) في الفضاء الثالث مفهوم جديد أخذ وجوده من خلال الاشتباك الثقافي الحاصل بين الشرق والغرب، اي بتصادم ثقافتين محتلفتين، ولكل منهما فضائها المعرفي الذي يتواصل فيه افراده ثقافياً واجتماعياً. ان الفضاء الثالث هو البعد الذي يصاغ فيه النتاج الثقافي على وفق المنظور الذي يقع فيه صورة التصارع بين أنظمة الثقافة بين الجانبين مما ولد شيء ثالث يحمل عناصر الثقافتين أطلق عليه بابا اسم (الهجنة أو الهجين)، إذ يرى ان كل البيانات والأنظمة الثقافية تصاغ في فضاء يسميه (الفضاء الثالث للتعبير). عادة ما تظهر الهوية الثقافية في هذا الفضاء المزدوج والمتناقض، وهو بالنسبة إلى (بابا) يجعل الادعاء بوجود (نقاء) هرمي للثقافات قضية وأهمية.

إن نظرة (بابا) إلى مفهوم (الهجين) هي ليست نظرة تصالحيه مع الإرث الاستعماري أو تصالحيه مع ما قام به المستعمر ضد الثقافات المحلية التي خضعت بلدانها للهيمنة الكولونيالية، بل هي نظرة سلبية لفضح للتدخل القسري في ثقافة الشعوب الأخرى، وما أنتجه هذا التدخل من ثقافة هجينة تحمل من الفضائيين علامات تدلل على الصراع الثقافي بينهما، وأصبحت في الوقت نفسه علامة إدانة للممارسات الكولونيالية التي مارستها السلطة الامبريالية على الشعوب.