في استقصائه للعلاقة بين الشعر والرسم المؤتلف بينهما والمختلف، يكشف لنا الباحث المغربي بعد التأمل النظري لما كتبه المفكرون الغربيون منذ أرسطو، والمنظرون العرب القدامى من الجرجاني حتى القرطاجني في شأن العلاقة بينهما وأجه التماثل والاختلاف بينهما، عن بعض تجليات تلك العلاقة في عدد من النصوص المغربية المعاصرة.

المؤتلف والمختلف بين الشعر والتشكيل

الرسم كنموذج

خالد هلالي

 

لا ضير في أنّ الشّعر من الفنون التعبيرية التي استطاعت الانفتاح على محيطها الإبداعي، وهو انفتاح تجاوز مقولة الانغلاق على الذات إلى التفاعل مع أشكال مغايرة للقوالب المتحكمة في إنتاج النص الشعري؛ فالاختلاف بين الفنون من حيث الأدوات التعبيرية لا ينفي إمكانية التقارب بينها. ولعلّ فن التشكيل (كنموذج الرسم) أحد أوجه هذا التزاوج بين ما تخطّه القصيدة من كلمات وما توحي به من دلالات ومضامين من جهة، وبين ما تثيره اللوحة أو الصورة من ألوان وظلال تعبيرية تنعكس على مخيّلة المتلقي. وهذا ما أقرّه العديد من النقاد والفلاسفة والفنانين منذ زمن بعيد، ممّا ساهم في استثمار بعض إواليات تلك الفنون، وإمدادها في الوقت نفسِه ببعض عناصره ومقوِّماته. لكن عملية الأخذ والعطاء هاته، لم تصل درجة الانصهار بين الفنين (الرّسم والشعر)، بل حافظ كلّ فن على خصوصياته الإبداعية التي تميّز بها؛ وهذا يثير فضول الوقوف عند المؤتلف والمختلف بين الطرفين كفنين تعبيريين يسعيان إلى التأثير في المتلقي وإمتاعه بالكلمة كما الألوان والظلال؟

متسائلا أيضا إلى أي حد يمكن أن نقرأ الصورة أو اللوحة بواسطة الكلمة الشعرية، وبالعكس كيف يمكن لنا أن نقرأ قصيدة عن طريق لوحة مرسومة؟

أولا: أوجه الاتفاق بين بين الشعر والرسم:
سأتحدث عن الشّعر والرّسم باعتبارهما فنّان يسعيان إلى التفاعل مع المتلقي والتأثير فيه، سواء عن طريق الكلمة الشعرية ذات الإيقاع المهيكل لموضوع القصيدة، أو بواسطة اللوحة المؤطّرة لمضمون الرسم. فنحن ننتقل من الشعرـ سواء خضع للوزن الخليلي أو تجاوز ذلك إلى نمط شعري مغايرـ إلى الرّسم باعتباره "عمل تخطيطي كروكي لشيء تمت رؤيته في لحظة معينة، وبترتيب عارض كالسحب أو الناس، أو التكوينات الأخرى التي تجذب النظر".([1]) وهو هنا يعتمد على حاسّة البصر باعتبارها أهم جهاز في عملية التلقي. إلى حدود هذا السّطر لم تتّضح الرؤية في شقّها الائتلافي بين الرسم والشعر، ممّا يحتم علينا أن نتقدم بخطوة أخرى للوقوف عند أهم نقاط التلاقي بين ما يقال وبين ما يرسم. فالمدخل لتوضيح ذلك هو أنّ الفنون باختلاف طبيعتها تتغيّا إمتاع الحواس([2])؛ وهذا ما أكّده أرسطو وزكّاه فيما بعد القديس أوغسطين؛ عندما تطرّق إلى الفنون التي تمتع العين والفنون التي تمتع الأذن.([3]) وقبل ذلك تطرّق النقاد، كما الفلاسفة، إلى المعايير المتحكّمة في عملية الإبداع؛ حيث نجد بداءتها المحاكاة؛ فأرسطو أشار إلى أنّ "الشّاعر كالرّسام كلاهما محاك".([4]) وقد بيّن لسنغ ذلك في المقاربة التالية عندما أشار إلى أنّ "الرسم الذي هو فن مكاني قد يحاكي الفعل الإنساني (موضوع الشعر ومادته) أي يقدم قصّة. والشعر قد يحاكي الأجسام والحجوم (موضوع الرسم ومادته) أي يقدم لوحة."([5])

فالرّسم والشعر "يلتقيان في إعادة تشكيل الواقع من جديد ومحاولة تجاوزه وفي تحسين المفهوم ومحاولة تقديمه مشخّصا، وفي تقديم النموذج الفنّي وتعميمه، ولكن كلّ بحسب مادّته التي تشكله".([6]) وهي علاقة تعمل على ترسيخ فكرة تصوير العالم، ونقله ومحاكاته، سواء تعلّق الأمر بالكائنات والأشياء والظواهر، أو كان داخليا يتّصل بمشاعر الشاعر [أو الرّسام] وانفعالاته إزاء تلك الظواهر.([7]) كل ذلك دفع الشاعر سيمونيدس إلى الإقرار بأنّ "الرسم شعر صامت والشعر صورة ناطقة".([8]) وإذا كانت المحاكاة تصويرا للأشياء وتمثيلا لها في الأذهان، فإنّ هذه العملية تتم في المخيّلة، والمخيّلة هي قوة إدراكية تجمع بين الصور وتؤلّف بينها، بل وتعيد تشكيل معطياتها في علاقات جديدة([9]). فهي تتعلق بالآثار التي يدركها الحس؛ وبذلك يغدو الخيال وسيطا تتحقق به المحاكاة ([10]).

وعلى اعتبار أنّ التخييل" انفعال جمالي [ذهني...يثير] الحركات الخيالية للقوى الذهنية".([11]) فالواضح أنّ الموازنة بين الشعر والرسم لدى الفلاسفة المسلمين كانت "تستهدف تأكيد الأساس الحسي للتخييل وطابعه التجسيمي".([12]) وفي هذا الصّدد عمد الجرجاني إلى المقارنة بين "تخييلات الشاعر وتصاوير الرسام، على أساس أنّ كلاّ منهما قد ينقل الواقع أو يحاكيه في أشكال فنيّة ويقدّمه بطريقة حسّية تعتمد في قوّتها وإثارتها على مخاطبة الإحساسات والمخيّلة، ويلحّ على أنّ روعة الشّعر ترتدّ إلى التصوير وتجسيم الأفكار والمشاعر الوجدانية في أشكال محسوسة يمكن رؤيتها".[13] بل اعتبر أنّ "معاني النحو كالأصباغ في الرّسم"([14]). وتطرّق حازم القرطاجني إلى نقط التلاقي بين الشعر والرسم، حيث حدّدها في أنّ كلاّ من "الشاعر والرسام يقدّم الواقع تقديما حسيا، وإن كان الرّسام يتوسّل بالألوان والظلال المباشرة، والشاعر باللغة أو الصورة، فكلاهما يصوّر الواقع ويخيّله للمتلقي كأنّه محسوس ومنظور إليه. [كما أنّ] كليهما يطمح إلى أن يحقّق ما يستطيع من التناسب بين معطيات مادّته. [إضافة إلى أنّ] كلاّ [منهما] يؤثر في المتلقي، ويهدف إلى إيقاع المحاكيات في أوهام الناس وحواسّهم".([15]) وقد اختصر هذه المعادلة هوراتيان بمقولته "الشعر تصوير".([16])

ومن نماذج هذا التفاعل بين ما يكتب وبين ما يرسم، نجد توظيف لوحات تشكيلية في دواوين شعرية حديثة ومعاصرة؛ من ذلك ما قام به الشاعر المغربي عبد الناصر لقاح، عندما وظّف رسوما تشكيلية للفنان يونس بنعميروش في ديوانه (شهوة الأشجار). وهي رسوم تعكس مضمون تلك القصائد وتموجاتها وما توقّعه من مدّ وزجر، فجاءت الرّسوم بخطوطها المتمايلة لتضيف جمالية فنية لفضاء النص وتملأ البياض بدلالات تتماشى والمعاني المتولدة من تلك القصائد، وهي تجربة تعكس أن انفتاح الشاعر على الرسم هو ذكاء وقدرة على استيعاب مدى التأثير المتبادل للصورة بين الفنين الرسم والشعر. كما نحا نحوه الشاعر حسن نجمي في ديوانه" الرياح البنيّة"، والذي ضمّن ديوانه رسوما للتشكيلي محمد القاسمي ... الخ. وهذا التفاعل قد يتّخذ أشكالا أخرى، حيث تختزل القصيدة في لوحة مرسومة على شكل قصّة يمكن تخيّلها؛ ولتقريب ذلك نأخذ نموذجا من قصيدة "وفاء" للشاعر عبد الناصر لقاح، إذ يقول:([17])

جسد عار

كأنه الهواء

جسد شبح

ترى من الجلد فيه نواشرهُ

جسد يوشك أن يخطو ...

جسد عار

يرتديه العراء

هذه القصيدة صورة معبّرة عن تلك الرسوم التّي وظّفها الشاعر في ديوانه، حيث يصف تلك الخطوط الإيروكية التي تشبه جسدا عاريا كالشبح لا يكسوه لحم.

ومثال آخر من ديوان "اشتعال السرو"([18])، حيث يقول في قصيدة "أمي"

يلابسني وجهها في المدى

زاهيا كالأماني

يحدّد حجم انفعالي

ودائرة المستحيل المرابط

في القلب كالانبهار

كالمبادئ والانحسار اللذيذ

يداعبني شعرها

يستوي فيه حزني

وبهجة روحي وأذكر شوقي إلى صدرها

ففي هذه القصيدة يقدّم الشاعر صورة حسيّة ومرئية تعكس لحظة من لحظات الحنين انتابت الشّاعر وهو يتذكر شوقه إلى وجه أمّه، وهي تطّل من عل في زهو وأنفة؛ إذ يجتمع انبهار القلب والحزن وبهجة الروح.

ثانيا: أوجه الاختلاف:
العلاقة بين فنّي الشعر والرسم هو وليد تصور فلسفي قديم تطوّر عبر مراحل وانخرط فيه النقاد كما الشعراء والرّسامون. وأكدّت جل المداخلات التي عنت بتلك العملية على أن هذا التداخل هو نتيجة نقاط اشتراك تجمع كلا الفنّين، ممّا يضفي مسحة جمالية أخرى أثناء عملية التلقي. ورغم ما قيل عن ذلك التفاعل الإيجابي بين الفنّين؛ فإن ذلك لم يُزحهما عن الإطار العام اللذان يشتغلان فيه، وكذا لم يلغ خصوصيّة كل مادّة إبداعية، مما يبقي جسر الاختلاف ظاهرا بينهما. وهو تباين أشار إليه لسنغ؛ عندما فرّق بين زمنية الشعر ومكانية الرسم؛ وبعبارة أخرى فالشّعر محدود في زمن قولي معين، عكس ذلك فالإطار الذي يوضع فيه الرسم؛ يضعه في خانة الفنون المكانية.([19]) على الرغم من أنّ "الرسم يعبر عن الزمان من خلال المكان".([20]) وهذا التغاير بين الفنّين يظهر كذلك في طبيعة المحاكاة، والمواد الذي يستعملها كل مبدع؛ فبينما نجد الرسام يحاكي أصباغا يسعى إلى مزجها وترتيبها وفق الموضوع الذي أثاره. نجد أن الشاعر يحاكي أفعالا وسلوكات ومظاهر من خلال تنظيم مخصوص للكلمات بمراعاة معاني النحو.([21])

المعطى الثالث للتمايز يتمثل في الصورة؛ ففي حين نجد أنّ الصورة في الفن التشكيلي "يصوغها الخط أو اللون أو المادة الصلبة".([22]) تتميز الصورة الشعرية" بوفرة المواد التي تساعد على تشكيلها، وترفع من قيمتها الجمالية، كالإيقاع، وتنوع الحركة وتعدّدها عن طريق اتكائها على الفعل، والزمان وامتداده وتنوعه". [23] كما أنّ الصورة التشكيلية تقدّم "نفسها إلى المتلقي كاملة أو شبه ناجزة، وذلك لأنها تأخذ مكانا محدّدا يمكن للعين أن تحصره ضمن منظورها، بينما تعتمد الصورة الشعرية على خيال متلقيها"([24]). ممّا يوسّع من مساحة الدلالات التي يمكن استخراجها من عملية القراءة.

الخلاصة التي يمكن أن أطمئنّ إليها؛ هي أنّه على الرغم ما أحيط بتلك العلاقة من تثبيت وترسيخ لنموذج تفاعلي بين فنّين أحدهما زماني (الشعر ) والآخر مكاني (الرسم)، فإنّ العمل الشّعري ليس بمكنته أن يصير لوحة إبداعية تقدّم نفس الإحساس والتخييل الذي تمنحه اللوحة المرسومة، كما أنّ الرسم لا يقدر على أن يحدث فينا أثرا مشابها لما يثيره الشعر. أو بعبارة أخرى، لاتستطيع الكلمة أن تقدّم بديلا حقيقيا للوحة التي تركن إلى الخط واللون والضوء. كما أنّ الرسم لايمكن أن يشكل بديلا موضوعاتيا عن الجملة الشعرية في مستواها المقروء أو المرئي. تبقى العلاقة إذن مشحوذة بين المدّ الجذب، وهي أوجه تتباعد وتتقارب لتمزج الفنيّن بخليط جمالي، يؤثث للحظة إبداعية تجمع بين طريقتين في التوصيل، وهي عملية يؤطرها الإحساس لماهو مرئي والإدراك والمحاكاة والخيال والتخييل، لكن تبقى الإزاحة بينهما في الأدوات التي يوظفها كل مبدع في محاكاته لمحيطه، وكذا طريقة تلقي المضمون الشعري والمعطى اللوني الذي تجسّده اللوحة الإبداعية وكذلك في طبيعة الصورة التي تميز كليهما.

 

([1]) ـ برنارد مايزر: الفنون التشكيلية وكيف نتذوقها، ترجمة سعد المنصوري،. ص: 69.

([2]) ـ نعيم اليافي: الشعر بين الفنون الجميلة، ص:12.

([3]) ـ نفسه، ص:12.

([4]) ـ نفسه، ص:13.

([5]) ـ نفسه، ص:18.

([6]) عبد الله عساف : اللوحة التشكيلية وأثرها في الصورة الفنية في شعر الحداثة ( شعر الستينات في سورية، أنموذجا)،، ص:27.

([7]) ـبديعة الخرازي: مفهوم الشعر عند نقاد المغرب والأندلس، بتصرف. ص: 49.

([8]) ـ نعيم اليافي: الشعر بين الفنون الجميلة، ص:14.

- جابر عصفور:مفهوم الشعر، بتصرف. ص:248.([9])

. - نفسه،بتصرف. ص:248 ([10])

([11])ـ يوسف الإدريسي: التخييل والشعر: حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية، ص:165.

([12])ـ نفسه، ص:193.

([13]) ـ تامر سلوم : نظرية اللغة والجمال في النقد العربي، ص:177.

([14]) ـ نفسه، ص:178

([15]) عبد الله عساف : اللوحة التشكيلية وأثرها في الصورة الفنية في شعر الحداثة ( شعر الستينات في سورية، أنموذجا)، ص:26.

([16]) ـ نعيم اليافي: الشعر بين الفنون الجميلة، دار الجليل، دمشق. ط 1، 1983م، ص:14.

([17]) ـ عبد الناصر لقاح: ديوان شهوة الأشجار، ص:43.

([18]) ـ عبد الناصر لقاح: اشتعال السرو، ص: 52.

([19]) ـ نعيم اليافي: الشعر بين الفنون الجميلة،، ص:17ـ 18.

([20]) عبد الله عساف : اللوحة التشكيلية وأثرها في الصورة الفنية في شعر الحداثة ( شعر الستينات في سورية، أنموذجا)، ص:27.

([21]) ـ تامر سلوم : نظرية اللغة والجمال في النقد العربي،ص:178

([22]) عبد الله عساف : اللوحة التشكيلية وأثرها في الصورة الفنية في شعر الحداثة ( شعر الستينات في سورية، أنموذجا)، ص:27.

([23])ـ نفسه، ص:27.

([24])ـ نفسه، ص:27 ـ 28.

 

 

المراجع المعتمدة في الدراسة:

 

ـ برنارد مايزر:الفنون التشكياية وكيف نتذوقها، ترجمة سعد المنصوري، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، دار الزهراء الرياض.

ـ تامر سلوم : نظرية اللغة والجمال في النقد العربي، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1983م. ط 1، 1983 م.

- جابر عصفور: مفهوم الشعر. دراسة في التراث النقدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 5، 1995م.

ـ عبد الله عساف : اللوحة التشكيلية وأثرها في الصورة الفنية في شعر الحداثة ( شعر الستينات في سورية، أنموذجا)، مجلة الوحدة، السنة السابعة، عدد 82 ـ 83، يوليوز/ أغسطس، 1991 م. محرم . صفر 1412 ه .

ـ عبد الناصر لقاح: اشتعال السرو: منشورات الأنوار مصر، د ط، 1989 م.

ـ عبد الناصر لقاح: ديوان شهوة الأشجار، سندي للطباعة والنشر، ط 1، 1996 م.

ـ بديعة الخرازي: مفهوم الشعر عند نقاد المغرب والأندلس. في القرنين السابع والثامن الهجريين، مطبعة المعرفة الجديدة، الرباط،ط 1، 2005م.

ـ نعيم اليافي: الشعر بين الفنون الجميلة، دار الجليل، دمشق. ط 1، 1983م.

ـ يوسف الإدريسي: التخييل والشعر: حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية، منشورات ضفاف، دار الأمان، الاختلاف، ط 1، 1433 ه/2012م.