يؤكد الباحث السوري المرموق على أهمية دراسة الفلسفة الهندية. فالدعوة إلى «عالم واحد» تبدو من مآثر الفكر السياسي، إلا أنه من المتعذر تحقيق الوحدة السياسية في معزل عن تفاهُم فلسفي. فالفلسفة هي أمل الإنسان من أجل تقريب شعوب العالم ضمن انسجام روحي وعقلي.

السِّمات البارزة للفلسفة الهنديَّة

نـدرة اليـازجي

 

تمهيد
تطورت الفلسفةُ الهندية تطورًا طويلاً ومعقدًا؛ وقد يكون تاريخُ تطوِّرها أطول من تاريخ أيِّ موروث فلسفيٍّ آخر. ومع أن النظرة التاريخية ذات أهمية كبرى لفهم موروث كهذا، فإنه يتعذر علينا القيام بدراسة تاريخية دقيقة لهذا التطور. ونتيجة للنقص في تدوين التاريخ لدى الهنود أنفسهم فقد ضاع الكثير من التفاصيل المتعلقة بالتتابع التأريخي للنصوص الفلسفية الحِكَمية، أو على الأقل، لم يُحفَظ لها سجل. لذا يمكن كتابة تاريخ الفلسفة الهندية في خطوطها العريضة وحسب – هذا مع العلم بأن فلسفة كهذه لا تكتمل من دون التعرف إلى الفلاسفة المسؤولين عن ظهور المذاهب الفلسفية وعن تطور الفكر. وعلى كل حال، نتيجة لتعمق الهنود في الفلسفة وإهمالهم للتأريخ، فإننا نعرف عن الفلسفات الهندية أكثر مما نعرف عن الفلاسفة أنفسهم؛ إذ إننا لا نعرف سوى النزر اليسير عن سِيَر الفلاسفة الهنود الأقدمين. فمن جهة، نتعرف أحيانًا إلى مؤلِّف بعض القصائد؛ لكن، كما هي الحال في الفلسفة المادية الهندية وبعض الفلسفات الأخرى، تظل النصوص الأصلية غير متوافرة وتفاصيل المناهج مجهولةً تمامًا.

* * *

المراحل الرئيسة الأربع للفلسفة الهندية
مرت الفلسفة الهندية إبان تطورها بأربع مراحل رئيسة انتهت في العام 1700 ب م: أولاها مرحلة "الفيدا" التي يعتريها الغموض، وتقع تقريبًا بين 2500 و600 ق م. في تلك الفترة، استقر الآريون الذين قدموا إلى الهند من آسيا الوسطى وجعلوها موطنًا جديدًا لهم وطوروا ثقافتها وحضارتَهم الآرية تدريجيًّا. أما من الناحية العلمية، فإنه لا يمكن تسمية هذه الفترة بـ"عصر فلسفي"، بل بفترة "تلمُّس" – وذلك لأن الدين والأسطورة والفلسفة اتصل بعضُها ببعض وعانت من نزاع وانقسام شديد مستمر. إنه، على كلِّ حال، عصر تطور فلسفي؛ وتُعتبَر مبادئه التي عُرِضَتْ في الأوپنشاد لهجةَ العصر، إن لم تكن النموذج الدقيق لتطور الفكر الفلسفي الهندي عمومًا.

تشتمل أدبيات هذه الفترة على أربعة من الفيدا هي: رِگْ فيدا، يَجُر فيدا، ساما فيدا، وأتَهرفا فيدا. ولكلٍّ منها أربعة أقسام تعرف بالمَنْترا، والبراهْمَنا، والأرِنيَكا، والأوپنشاد. وتشكل المنترا، وهي أناشيد، وخاصة الأناشيد الأخيرة من رِگ فيدا، بداية الفلسفة الهندية. وفي انطلاقها من فكرة التعدد في الأجزاء الأولى من الفيدا، مرورًا بالتوحيد وانتهاءً بالواحدية الوجودية، عبرت هذه القصائد والأناشيد الطريقَ إلى "الواحدية" في الأوپنشاد. وتشتمل البراهمنا، وهي مخطوطات دينية، على قواعد السلوك وواجبات العبادة. أما الأرنيكا والأوپنشاد، فإنها تمثل خلاصة البراهمنا وتبحث في المسائل الفلسفية. وترشد البراهمنا ربَّ البيت إلى طريقة العبادة اللازمة، حتى إذا ما حلَّت به الشيخوخة وجب عليه أن يلجأ إلى الغابة ليأخذ مكانه شخصٌ آخر يقوم بالطقس الذي كان يقوم به هو سابقًا.

والأرنيكا، التي تقع بين البراهمنا والأوپنشاد، تشجع الملتجئين إلى الغابة على التأمل. وتمثل الأرنيكا مرحلة الانتقال من طقوس البراهمنا إلى فلسفة الأوپنشاد. ولئن كانت الأناشيد من إبداع الشعراء، فإن البراهمنا من وضع الكهنة والأوپنشاد حصيلةُ تأمل الفلاسفة. وعلى الرغم من أن الأوپنشاد استمرار لديانة الفيدا، لكنها تُعتبَر احتجاجًا فلسفيًّا قويًّا على ديانة البراهمنا. والحق أننا نجد فيها الميل إلى "الواحدية الوجودية الروحية"– هذا الميل الذي تتصف به الفلسفة الهندية بوجه أو بآخر والذي يعتمد "الكشف العقلي" كمرشد إلى الحقيقة المطلقة أكثر مما يعتمد الفكر.

* * *

تمتد الفترة الثانية لتطور الفكر الفلسفي الهندي –وهي المرحلة "الملحمية"– بين 500 أو 600ق م و200ب م. وتُعرَف هذه الفترة بأنها عرض مباشر للعقائد الفلسفية في أدب غير ممنهج وغير علمي، ونخص منها بالذكر ملحمتَي الراماينا والمهابهارَتا العظيمتين. وتشمل هذه الفترة أيضًا النشوء الأول للبوذية والجينية والشيفية (نسبة إلى الإله شيفا) وغيرها. وتُعتبَر البهگفدگيتا، وهي جزء من المهابهارتا، أحد النصوص الثلاثة الرئيسة في الأدب الفلسفي الهندي. وعلاوة على ذلك، تعود بداية المدارس الهندية المستقيمة الرأي إلى تلك الفترة، كما تعود بداية المناهج العديدة إلى فترة ظهور البوذية؛ إذ إنها تطورت معها. أما الأعمال المنهجية للمدارس الرئيسة فقد كُتِبَتْ بعد ذلك الحين. غير أن أصول معتقدات المدارس العديدة وُضِعَتْ في أثناء الحقبة الملحمية.

وتُعتبَر هذه الحقبة من أخصب المراحل الفلسفية الهندية وغيرها من الفلسفات، كاليونانية والفارسية والصينية؛ وقد ترشدنا معرفتُنا لهذه الفترة إلى غنى الفكر الفلسفي وتنوعه وعمقه. وفي تلك الفترة انبثقت فلسفاتٌ أخرى أيضًا، كمذهب الشك، والمذهب الطبيعي، والمذهب المادي، إلى جانب البوذية والجينية والمناهج الأخرى التي عُرِفَتْ فيما بعد بالمناهج الهندية الأرثوذكسية. أما مناهج التشارفاكا والبوذية والجينية غير الأرثوذكسية فقد تبلورت في مناهج مُحكمة في وقت لاحق.

في تلك الفترة، نُظِمَ الكثير من دهرما شاسْترا، وهي مقالات في الأخلاق والفلسفة الاجتماعية. وصُنِّفَتْ هذه المقالات، مثلها كمثل غيرها من النصوص التي ظهرت آنذاك، في نصوص فلسفية نقلية (سمرِتي) إذا قيست إلى أدبيات فترة الفيدا (شروتي) التي تُعَد مراجع ونصوصًا ملهَمة وموثوقة. وتُعَد دهرما شاسْترا مقالات منظمة تتحدث عن سلوك الآريين في حياتهم، وتصف تنظيمهم الاجتماعي وأعمالهم وواجباتهم الأخلاقية والدينية.

* * *

تُعَد الفترة الثالثة مرحلة "السوترا" التي تعود إلى أوائل الحقبة المسيحية تقريبًا. وفي تلك الفترة، كُتِبَت البحوث الممنهجة للمدارس العديدة، واتخذت المناهج طابعَها الذي مازال قائمًا حتى الوقت الحاضر، ووُضِعَت عقائد كلِّ منهج في أقوال مُحكمة، يعتريها الغموض أحيانًا، وفي عبارات تُعَد تذكيرًا للمبتدئين، وذلك لكي تعرِّفهم إلى تفاصيل المناهج الفلسفية التي انتموا إليها والتي لا يعرفها معرفةً دقيقةً إلا الضالعون في ذلك المنهج. وفي تلك الفترة أيضًا، تطور الموقف النقدي في الفلسفة إلى جانب الموقف المنهجي؛ واحتوت السوترا شروحًا إيجابية للمناهج ومناظرات شاملة ضد المناهج الأخرى. وإضافة إلى ذلك، نجد في السوترا الفكر الذي يعي ذاته، إذ يقل فيه الخيالُ الإنشائي والبصيرة العفوية.

تتكون المناهج الهندية الستة الموجودة في السوترا في أثناء هذه الفترة من:

1. نيايا: الواقعية المنطقية؛

2. فَيشِشكا: التعددية الذرانية؛

3. سامكهيا: الثنوية التطورية؛

4. اليوگا: التأمل المنظم؛

5. پورفا ميمامسا: المقالات الأولى التفسيرية للفيدا المتعلقة بالسلوك؛ و

6. أوتَّرا ميمامسا: المقالات المتأخرة للفيدا المتعلقة بالمعرفة؛ وتسمَّى أوتَّرا "فيدنتا" التي تعني "نهاية الفيدا".

* * *

الفترة الرابعة –وهي المرحلة "المدرسية"– هي تلك التي كُتِبَتْ فيها الشروح على السوترا من أجل توضيحها. ولم تُكتَب الشروح على السوترا وحدها، بل وُضِعَتْ تفسيراتٌ لهذه الشروح، وتعليقات على تلك، إلخ. ومن الصعوبة بمكان أن نحدد تواريخ دقيقة لتلك الفترة الممتدة من زمن السوترا حتى القرن السابع عشر. وتُعَد أدبياتها توضيحيةً بالدرجة الأولى، وجدليةً أو تنظيريةً بالدرجة الثانية. وقد تناقشت جماعات من المعلِّمين طويلاً واختلفت في صدد تفاصيل العقائد الفلسفية مع ممثلي المدارس الأخرى. وأحيانًا، نجد أن الشراح مائلين إلى الغموض أكثر من التوضيح؛ لذا نجد المنطق الغامض يحل محل التوضيح والفلسفة. وتُعتبَر النماذج الرفيعة من الشروح قيِّمة، ولا تقل منزلةً عن واضعي المناهج أنفسهم. ويؤخذ شنكرا، مثلاً، –وهو كاتب إحدى الشروح الشهيرة على السوترا، على مذهب الفيدنتا– على أنه فيلسوف أفضل من بادَرايَنا، الرائي، الذي كتب الفيدنتا سوترا الأصلية (برهما سوترا) ذاتها. وقد شاعت في تلك الفترة مناقشات غير فلسفية وغير جديرة بالتقدير نسبيًّا. ومن ناحية أخرى، وُجِدَ إبانها أعظم فلاسفة الهنود، الذين نذكر منهم، بالإضافة إلى شنكرا، كومارِلا، شريدهَرا، رامانوجا، مَدهفا، فاتشَسپَتي، أودَيَنا، بهاسكَرا، راگهوناتها، وسواهم. وبالفعل، كان هؤلاء مبدعي مناهجهم الخاصة، ولم يكونوا مجرد معلِّقين على المناهج القديمة: ففي لباس المعلِّقين، عرضوا أفكارًا جديدة تمت بصلة إلى الأفكار القديمة. ويدل هذا الأمر على احترام الفلاسفة الهنود لفلسفاتهم القديمة وتعلُّقهم بها واعترافهم بالأصالة الفلسفية، كما يدل على الإبداع الفكري المتصل بعقلهم وبصيرتهم.

وفي الوقت الذي كانت فيه الفترة المدرسية تزدهر وكانت تفاسير الأفكار القديمة تدوَّن، فقدت الفلسفةُ الهندية روحها الدينامية حين وقعت الهند فريسة العدوان الأجنبي في القرن السادس عشر. ولوقت طويل، ظل الهنود الذين يحصِّلون ثقافةً إنكليزية يخجلون من موروثهم الفلسفي، ويفتخرون بأن يكونوا في تفكيرهم كالأوروبيين وبأن يقتفوا خطى الإنكليز في حياتهم وفكرهم. وقد أدى إحياء الإنكليز للثقافة إلى إحياء مماثل، غير مقصود، للفكر الهندي. وقامت في هذه الفترة حركاتُ إصلاح وطنية (مثل "برهمو سَماج" و"آريا سَماج") لعبت دورًا هامًّا في بعث نهضة فلسفية ودينية في الهند. وفي العصر الحديث – ونعني بعد قيام الحركة الوطنية وحصول الهند على استقلالها – اعتُبِرَتْ عمليةُ إحياء الفلسفة الهندية أعظم عمل نهضتْ له الهند.

وفي القرن العشرين، تأثر الفكر الهندي بالفكر الأوروبي، كما تأثر هذا الأخير بالفكر الهندي من خلال كتَّابه وشعرائه وفلاسفته وحكمائه. والحق أن إحياء الوعي الهندي والتعلق بعظمة فلسفته أدى، منذ عهد قريب، إلى تطوير "لهجة وطنية" في الفلسفة والسياسة. أما نزوع المتطرفين إلى الحطِّ من النتائج التي نجمت عن احتكاك الفكر الأوروبي بالفكر الهندي فقد اعتُبِرَ علامةً سيئة. واليوم، يفكر الهنود على غرار آبائهم: فهم يعتمدون على الأسُس القديمة ويقيمون انسجامًا بينها وبين الأسُس الحديثة. ولا شك أن تطور الفلسفة الهندية في المستقبل سيقترب من الفلسفة الأوروبية، وذلك في سبيل إحداث تأليف بين الفلسفتين.

روح الفلسفة الهندية وخصائصها
الفلسفة الهندية معقدة للغاية. وخلال العصور، تعمق العقل الفلسفي الهندي في دراسة الأوجُه المتعددة للخبرة الإنسانية وللعالم الخارجي. وعلى الرغم من أن بعض الطرق، مثل الطريقة التجريبية للعالم الحديث، كانت أقل تقدمًا من غيرها، لكن النتائج التي بلغتْها الفلسفةُ الهندية في معرفة الحقيقة كانت عميقة ومتنوعة، تمامًا كالموروثات الفلسفية الأخرى. والحق أن المناهج الهندية الستة الأساسية، ومناهجها الثانوية العديدة، ومدارس البوذية الأربع الرئيسة، والمدرستين التابعتين للجينية، ومادية تشارفاكا، تُعَد براهين على أن تنوع الآراء في الفلسفة الهندية أمر لا ريب فيه. وهكذا يصعب علينا أن نصف الفلسفة الهندية ككل بصفات أو طرق معينة، كما يصعب تطبيقها على جميع المناهج العديدة والثانوية للفكر الفلسفي الهندي التي تطورت خلال أربعة آلاف سنة تقريبًا. غير أن ثمة ما نستطيع أن نميِّز به هذه الفلسفة عن غيرها. ويمكن لنا أن نوضح هذه الميزات باتجاهات العقل الفلسفي الهندي أو بـ"وجهات النظر" التي شرحها الهنود في فلسفاتهم.

1. تتركز قيمة الفلسفة الهندية في الفكر الروحي
يُعتَبر الدافع الروحي هامًّا في حقلَي الحياة والفلسفة. إذ تنظر الفلسفة الهندية إلى الإنسان على أنه كائن روحي في طبيعته، وتهتم لمصيره الروحي، كما توحِّده مع وجود روحي في جوهره. لكن هذه النظرة لا تنطبق على مدرسة تشارفاكا المادية: باستثناء هذه المدرسة المادية، لا يُعتبَر الإنسان أو الكون ماديين من حيث الجوهر؛ كما أن نجاح الإنسان وازدهاره لا يشكلان هدفًا للحياة الإنسانية. وترتبط الفلسفة بالدين ارتباطًا وثيقًا، وذلك باعتبار الدين تأملاً فلسفيًّا، لأن الدافع الرئيس في الفلسفة والدين كليهما يكمن في السلوك سلوكًا روحيًّا في الحياة الأرضية وفي بلوغ خلاص الإنسان في علاقته بالكون. وهكذا تكون الفلسفة الهندية كلها، من بدايتها في الفيدا إلى الوقت الحاضر، قد جاهدت لتحقيق إصلاح اجتماعي–روحي في البلاد. وفي هذا السبيل، اتخذ الأدب الفلسفي أشكالاً عديدة، ميثولوجية وشعبية أو فنية وعلمية، وذلك لكي يرتقي بها إلى مستوى الحياة الروحية. حقًّا إن المسائل الدينية كانت، ومازالت، سبب عمق وقوة وغاية العقل والروح في الفلسفة الهندية.

2. تتيقن الفلسفة الهندية من علاقة الفلسفة بالحياة
يتحقق هذا التطبيق العملي للفلسفة في الحياة في كلِّ مدرسة فلسفية هندية تقريبًا. وعلى الرغم من أن الغزارة الطبيعية والازدهار المادي قد عبَّدا الطريق لإشراق فكر فلسفي، لكن الفلسفة لم تُعتبَر، مع ذلك، رياضةً ذهنيةً قط. لذا برزت العلاقة الوثيقة بين النظرية والواقع، بين العقيدة والحياة، في الفكر الهندي. وتبحث كل مدرسة فكرية هندية عن الحقيقة لا لذاتها، بل لتجعل الناس أحرارًا. ولا يعني هذا البحث شيئًا من الذرائعية لأنه أعمق وأعظم منها بكثير. فالحقيقة لا تقاس بالواقع والعمل فقط، بل تُعَد المرشد الوحيد للعمل والقائد الوحيد للإنسان الذي يفتش عن الخلاص. وينطلق كل منهج فلسفي هندي من مشكلات الحياة المأسوية والعملية، ويبحث عن الحقيقة لكي يحل مسألة شقاء الإنسان في العالم الذي يجد نفسه فيه. وهكذا لم تكن التعاليم الهندية مجرد كلمات أو معتقدات مدرسية. فكل معتقد في هذه الفلسفة يعمل على تفتيح قلب الإنسان وتحويل طبيعته. في الهند تعاش الفلسفة لأنها فلسفة حياة – وهذا لأنه لا يكفي أن نعرف الحقيقة، بل لا مناص لنا من أن نحياها. لذا لا يهدف الهندي إلى معرفة الحقيقة المطلقة وحسب، بل يسعى إلى تحقيقها ليتحد معها.

إن ما يؤكد العلاقة الوثيقة القائمة بين النظر والعمل، بين الفلسفة والحياة، في الفلسفة الهندية، هو التشديد على "الطهارة الأخلاقية" كضرورة حتمية لطالب الفلسفة أو الباحث عن الحقيقة. وفي هذا الصدد، يدعو شنكرا إلى التمييز بين الأبدي وغير الأبدي؛ وهذا يعني أنه يعلِّم الطالب أن يتحلَّى بمزية التساؤل ويحثه على الكف عن الرغبة في ثمار العمل، في هذه الحياة أو في الحياة المقبلة، كما يطالبه بأن يتنكر لكلِّ الرغبات البسيطة والدوافع الذاتية. ويدعو شنكرا إلى ضبط النفس، ونكران الذات، والصبر، وسكينة الذهن، والإيمان؛ كما يشدد على التحرر لتسهيل بلوغ الغاية العليا للحياة.

3. تتصف الفلسفة الهندية بموقفها وتقرُّبها الباطنيين من الحقيقة
تتصل الفلسفة اتصالاً وثيقًا بمعرفة الذات. وتنطلق هذه الفلسفة من العالم الخارجي أو من العالم الداخلي، من طبيعة الإنسان الفطرية، أي من "ذات" الإنسان (أتما). وفي سيرها لبلوغ الحقيقة، اهتمت الفلسفة الهندية بحياة الإنسان الداخلية أكثر مما اهتمت بالعالم الخارجي وبالطبيعة المادية. والعلم المادي، على الرغم من تطوره في العصر الذهبي للحضارة الهندية، لم يُعتبَر الطريق الذي يؤدي إلى الحقيقة التي لا توجد إلا في الداخل. فالعقل، وليس الموضوع، يحظى باهتمام الفلسفة الهندية. وهكذا يُعتبَر علم النفس وعلم الأخلاق فرعين للفلسفة؛ وهما بهذه المثابة أهم من العلوم التي تدرس الطبيعة المادية فقط. ولا يعني قولنا هذا إن العقل الهندي تغاضى عن دراسة طبيعة العالم المادي؛ بل على العكس، تفوقت الهند في بحوثها العلمية عمومًا، وفي العلوم الرياضية، كالجبر والفلك والهندسة بخاصة، واشتهرت بتطبيق هذه العلوم الأساسية في مجالات عديدة من النشاط الإنساني، وفي الوقت ذاته، أحرز الفكر الهندي تقدمًا في ميادين علم الحيوان والنبات والطب. لكن الهنود شعروا، منذ وقت طويل جدًّا، بأن روح الإنسان الباطنة هي المفتاح أو السر الوحيد لحقيقته وحقيقة الكون، وهي ذات دلالة أسمى من العالم المادي أو الخارجي.

4. الاهتمام بالباطن سبيل إلى المثالية
يتميز معظم فلاسفة الهند بأنهم "مثاليون"، بوجه أو بآخر. وتظهر مثالية الفلسفة الهندية، الهندوسية خاصة، بميلها إلى مثالية التوحيد. وتعتقد هذه الفلسفة، في غالبيتها، أن الحقيقة واحدة في مطلقها وروحية في مطلقها. ويبدو أن بعض المناهج قد اعتنق الثنوية أو التعددية، لكنه صَبَغَها بطابع الواحدية الوجودية. وإذا ما ركَّزنا تفكيرنا على ما تحتويه الفلسفة الهندية ككل، دون الانتباه إلى فروعها المختلفة، نجد أنها تشرح الحياة والحقيقة في ضوء مثالية الواحدية الوجودية. ويعود هذا إلى مرونة العقل الهندي وإلى مرونة المثالية الواحدية وديناميتها التي تتخذ أشكالاً عديدة وتعبِّر عن نفسها كوحدة – حتى في العقائد المتنازِعة. وفي الواقع، لا تُعتبَر هذه الوقائع متناقضةً بقدر ما تُعتبَر أوجهًا مختلفة للتعبير عن وحدة أساسية تكتنف الفلسفة الهندية جمعاء.

لعبت الفلسفة المادية دورها إبان مرحلة معينة في الهند. وعلى الرغم من محاولة المدارس الروحية إسكاتها، لكنها وجدت قبولاً لها عند بعض الناس. وعلى كلِّ حال، لم تستطع هذه المادية أن تستمر، وذلك لقلة أتباعها ولضآلة تأثيرها الإيجابي. لقد عرفت الفلسفة الهندية النزعة المادية، لكنها تغلَّبتْ عليها، وتقبَّلتْ المثالية، وجعلت منها النظرة الوحيدة القائمة، حتى ولو اتخذت لذاتها مضمونًا معينًا.

5. تعتمد الفلسفة الهندية على الكشف وسيلةً إلى معرفة المطلق وعلى الفكر وسيلةً إلى معرفة النسبي
الفكر والمعرفة الفكرية لا يكفيان. فعلى الرغم من أن الفكر لا يخطئ كليًّا، لكنه لا يكفي. فلكي يعرف الإنسانُ الحقيقةَ عليه أن يحظى باختبارها فعليًّا. ففي الفلسفة الهندية لا يعرف الإنسان الحقيقة وحسب، بل يحققها. أما الكلمة التي تعني "فلسفة" في الهند فهي درشنا التي تُشتَق من الجذر درش الذي يعني "الرؤيا". و"الرؤيا" هذه تعني أن نتجهز بخبرة كشفية مباشرة في الموضوع لنتحد معه. وتتعذر علينا المعرفة مادام الفكر والموضوع مختلفين أو متباعدين. وقد اعتمدت المذاهب اللاحقة للفلسفة الهندية، حتى منذ بداية المناهج، على الفكر من أجل صياغة ممنهَجة للمذاهب والمناهج، ومن أجل إيجاد تبريرات منطقية، كما اعتمدت عليه في حسم المناظرات التي كانت تقوم بين منهج وآخر. ومع ذلك، تعتمد المناهج كلها، ماعدا منهج تشارفاكا المادي، على وجود طريق أعلى لمعرفة الحقيقة، طريق أسمى من الفكر، هو "الإدراك المباشر" أو "اختبار الحقيقة المطلقة" التي لا يمكن الوصول إليها بالفكر بأيِّ شكل من الأشكال. يستطيع الفكر أن "يشير" إلى الحقيقة، لكنه لا يستطيع أن يكتشفها أو يبلغها. فإذا كان الفكر وسيلة الفلسفة بمعناها الفكري، كان "الكشف" الوسيلة الوحيدة لإدراك المطلق. وهكذا تعتمد الفلسفة الهندية اعتمادًا كليًّا على الكشف، وتعترف بفاعلية الفكر والذكاء عندما يطبَّقان في نطاق طاقتهما المحدودة أو فيما يناسبهما من استعمالات.

6. تعترف الفلسفة الهندية بالمرجعيات القديمة
على الرغم من اختلاف مناهج هذه الفلسفة في نطاق عودتها إلى شروتي القديمة وعلاقتها بها، فإنها تقف –الأرثوذكسي منها وغير الأرثوذكسي، باستثناء تشارفاكا– موقفًا نبيلاً وتتقبل البصيرة الكشفية التي تكلم عليها أصحاب الرؤى الأقدمون في الأوپنشاد، أكان مختبروها بوذيين أم مهافيريين (نسبة إلى مهافيرا، مؤسِّس الجينية) أم غيرهم. لقد أدرك الفلاسفة الهنود قيمة الموروث، كما أفصح عنه الأقدمون؛ ولم يخرج الفلاسفة الذين يعودون إلى الفترات المتأخرة عن كونهم شارحين للحكمة القديمة أو معلِّقين عليها. وعلى الرغم من التبدل الذي طرأ على المذاهب القديمة، لكن روحها وأفكارها الأساسية حافظت على قيمتها على مدى العصور.

والحق أن احترام المرجعيات لا يقف حائلاً دون التقدم، لأن استمرار الفكر، وإنْ لم يكن على صعيد واحد، لا يقضي على وحدة المعتقدات ولا يناقض صفاتِها الأساسية التي تقوم على الروحانية والباطنية والكشف والاعتقاد الوطيد بأن الحقيقة يجب أن تعاش، لا أن تُعرَف وحسب.

إن احترام الهنود الشديد لرائيهم الأقدمين –وإنْ يكن مبالَغًا فيه– ينبع من اعتقادهم بأن الذين يعرفون الحقيقة فعلاً هم هؤلاء الذين يحققون الحقيقة. لذلك فهم يوجهون أنظارهم نحوهم ليدركوا الحقيقة التي أدركها سالفوهم. لقد أبدعت الهند مذاهب كثيرة ومناهج فلسفية عديدة؛ وقد تم هذا الإبداع على الرغم من احترام الهنود لحكمائهم الأقدمين واعتبارهم مكتشفي الحكمة. ويظهر احترام الهنود لمكتشفي الحقيقة الأقدمين وإبداعهم المستمر في إعلانهم أن الفلسفة الهندية ليست معتقدًا دينيًّا مذهبيًّا، بل هي فكرة واحدة تدور حول موضوعات عديدة. ويبدو تحرُّر هذه المناهج من النزعة التقليدية القديمة في أن مذهب سامكهيا الأصلي، مثلاً، لا يذكر شيئًا عن إمكان وجود الله، على الرغم من وضوح الفكرة في مذهبه. ويعترف اليوگا والفيشِشكا بوجود الله، لكنهما لا يعترفان بأنه خالق العالم المادي؛ أما ميمامسا فإنه يتحدث عن الله، لكنه ينفي أهميته ويُدخِل فاعليته في باب النظام الأخلاقي للعالم. ولكي نفهم هذه الأمور فهمًا أوضح، علينا أن نعود إلى المناهج البوذية الأولى التي ترفض الإله الشخصي وإلى تشارفاكا التي تنكر وجود الإله اللاشخصي. وهذا ما يدلنا على اعتماد الفكر الفلسفي الهندي على مقوماته الأولى والقديمة على الرغم من اختلافه معها.

7. ضرورة النقل لروح الفلسفة الهندية ونهجها
تعود هذه الفكرة إلى رِگ فيدا، حيث أدرك الراؤون أن "الدين الحق" يشتمل على جميع الأديان: الله واحد، لكن الناس يدعونه بأسماء مختلفة. وتعترف الفلسفة الهندية، بطريقتها التأليفية، بالمظاهر المتعددة للتجربة والحقيقة. فالدين والفلسفة، المعرفة والسلوك، الكشف والفكر، الإنسان والطبيعة، الله والإنسان، الظاهر والباطن، مظاهر تنسجم كلها في الميل "التأليفي" للعقل الهندي. ويميل الهندوسي إلى الاعتقاد بأن المناهج الستة، بالإضافة إلى اختلافاتها وفروعها الثانوية، ينسجم بعضها مع بعض وتتكامل في الرؤيا الكلِّية الواحدة.

ولدى مقارنتها بالفلسفة الغربية، بموقفها التحليلي حيال المعرفة والتجربة، تكون الفلسفة الهندية "تأليفية". فالنصوص الأساسية لهذه الفلسفة لا تهتم لمظهر واحد للتجربة والحقيقة، بل تهتم لمحتوى النطاق الفلسفي كلِّه. فالميتافيزياء، والإپستمولوجيا، والأخلاق، والدين، وعلم النفس، إلخ، مسالك لا ينفصل أحدها عن المسالك الأخرى؛ بل إن الفكر يتعامل معها في وحدتها الطبيعية كمظاهر لحياة وتجربة واحدة أو لحقيقة واحدة شاملة.

هذه الرؤيا التأليفية للفلسفة الهندية هي التي حققت هذا التسامح الديني والفكري الذي نراه في الفكر الهندي خلال العصور. والمنازعات الحديثة بين الجاليات الدينية القائمة لأسباب سياسية ليست من فعل العقل الهندي، بل هي خصم لدود لعبقريته الفريدة الساعية إلى التكيف والتسامح الذي يجمع الفرق والملل ضمن حقيقة واحدة وحياة واحدة.

* * *

بالإضافة إلى هذه الصفات النظرية والعقلية الملازمة للفلسفة الهندية، نجد وحدةً فكريةً متماسكةً أساسيةً في الحقل العملي. ولهذه الوحدة أوجُه عديدة. ففي الدرجة الأولى، تنبع مواضيع فلسفات الهند –هندوسية وبوذية وجينية وتشارفاكا– من القضايا العملية لحياة الإنسان ومن قصوره وآلامه التي تتألق في ذروته –باستثناء عقيدة تشارفاكا– في الانعتاق الكامل. وفي كلِّ حالة، بما فيها التشارفاكا، يتسم الموضوع بالواقعية أكثر من النظرية، وذلك لأن تشارفاكا لا يهتم بالنظري لذاته، بل لعيش حياة اللذة، من حيث إن هذه تُبرِز نمطًا آخر من أنماط الحياة. لذا فإن غاية الحياة في الهندوسية والبوذية والجينية واحدة في الجوهر: مفهوم "الانعتاق" (مُكشا) هو الموضوع الرئيسي في الهندوسية والجينية، تمامًا كما يتحقق في النيرفانا، غاية البوذية. أما المعنى الدقيق للانعتاق فإنه يختلف بين المدارس الهندوسية والبوذية ذاتها؛ لكن المعاني الأساسية لـمُكشا (الانعتاق) والنيرفانا ("الفناء") هي "الغبطة" التي تعني التحرر من الشقاء والألم والانعتاق من دورة التجسد من جديد (سمسارا). وأحيانًا، يبدو الهدف سلبيًّا، إذ يشير فقط إلى التحرر من الألم ومن التقمص؛ ومع ذلك، فهو يعني العمل الإيجابي من أجل تحقيق حياة أغنى وأكمل والوصول إلى الغبطة الأبدية. فالروح تعمل من جديد على تحقيق صفائها الأصلي لتتحد مع المطلق وتقيم علاقتها مع الله بمجرد الوجود الأزلي للروح النقية في فرديتها، وفي كلِّ الأحوال، تتحرر من قصورها وتورُّطها في الحياة.

لمناهج ومدارس الفلسفة الهندية عقلٌ واحد في ما يتعلق بغاية الحياة وبوجود صالح على الأرض. فالروح الأساسية لفلسفة الحياة في الهندوسية والبوذية والجينية تكمن في اللاتعلق (الزهد). ويُعتبَر اللاتعلق هذا موقفًا عقليًّا يحققه الفرد في النصيب المقسوم له من الحياة. وعلى هذا الأساس، يحيا وجودًا يوميًّا "عاديًّا" مع الناس، دون أن يتبرم بنتائج أفعاله أو يتورط فيها؛ وبهذا يبلغ نوعًا من التسامي الروحي والعقلي على المفاهيم الأرضية دون أن تستعبده. ولا يكون هذا الموقف سلبيًّا أو هروبًا، لأن الفرد يشارك في نشاطاته اليومية بما يتفق مع موقعه في المجتمع. ويكون هذا العيش والسلوك والعمل الخالي من إحساس التعلق بالأشياء القضيةَ الرئيسةَ التي تجعله يحيا في هذا العالم دون أثرة أو أنانية.

* * *

تعترف مدارس الهندوسية والجينية والبوذية بعقيدتي كَرما والتقمص. وتؤمن هذه المدارس بأن الإنسان ملتزم بتحقيق الكمال الروحي والأخلاقي إن هو شاء الخلاص. وتعتقد أيضًا أن "العدالة" هي قانون الحياة الأخلاقية تمامًا كما أن ناموس "العلة والمعلول" قانون العالم الطبيعي: "ما يزرعه الإنسان إياه يحصد." ولما كانت العدالة والكمال الأخلاقي لا يتحققان في عمر واحد، فإن هذه المناهج تؤمن بالتجسد من جديد (التقمص) حتى يُمنَح الإنسانُ فرصةً تتيح له إمكان التقدم الأخلاقي الذي يؤدي به إلى الكمال. لذا يعزز الفلاسفة الهندوس، باستثناء أتباع مدرسة تشارفاكا، منذ بدايات الفيدا حتى المراحل اللاحقة، فكرة النظام الأخلاقي للكون. فكَرْما والتقمص هما الوسيلتان اللتان، من خلالهما، يتحقق النظام الأخلاقي للكون في حياة الإنسان.

نظام الطوائف
ثمة عامل آخر يوحِّد المدارس الهندية في الحقل العملي، على الرغم من أن مدارس تشارفاكا والبوذية والجينية لا توافق عليه، وهذا لأن نمط الحياة الاجتماعية الذي تقبل به المدارس، دون الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات القائمة بينها في حقلَي الميتافيزياء والإپستمولوجيا، يتجلَّى في تقسيم المجتمع إلى أربع "طوائف"، تمثل للمراحل الأربع للحياة، أي القمم الرئيسية التي يبحث عنها الإنسان. ففي الهندوسية، ينقسم المجتمع إلى أربع فئات تتحد في الوظيفة، وهي: الكاهن المعلم (برهمِن)، الملك أو القائد السياسي والحربي (كشتريا)، والتاجر (فَيشيا)، والعامل (شودرا). وتسمَّى الطوائف الثلاث الأولى "المولودة مرتين"، ويشير هذا اللقب إلى الهندوس الذين تلقوا أسرار الدين؛ أما الطائفة الرابعة فإنها لا تتصف بهذه المزية. وتشمل حياة "المولودين مرتين" مراحل أربع هي: الطالب (برهمتشارِن)، ورب البيت (گرِهَستها)، وساكن الغابة (فانَپرَسْتها)، والراهب الجوال (سنياسِن).

وفي هذا النظام الاجتماعي، لا يدخل الفرد حياة العزلة ما لم يكن قد أتم واجباتِه نحو الناس كطالب وكربِّ أسرة؛ وفي المرحلتين المتأخرتين من حياته، يركز أكثر فأكثر على الناحية الروحية ويبحث عن الحقيقة لكي ينعتق. لذا كانت غايات الحياة التي يتقبلها الهندوس تتجسد في الاستقامة أو طاعة القانون الأخلاقي (دهرما)، وفي الثروة والتقدم المادي (أرْتها)، وفي الرغبة (كاما)، وفي التحرر (مُكشا). ويسيطر دهرما، القانون الأخلاقي، على الحياة؛ وهذا يعني أن تحقيق الثروة وتلبية الرغبة لا يتمان بكسر قواعد الأخلاق. لذا، كان مُكشا يمثل الغاية السامية التي يهفو إليها الناس. ويتقبل الهندوس هذه الفلسفة الاجتماعية دون أي تعليق. وتتجلَّى هذه الفلسفة في أدبيات دهرما شاسْترا، لكنها لا تحظى بأيِّ بسط ولا توجد إلى جانب أيِّ تبرير فلسفي في النصوص الفلسفية التطبيقية. وفي نظر الهندوس، تكون هذه الحياة المثالية بمثابة روح الوحدة لحياة البلاد الاجتماعية والخلقية، وذلك على الرغم من أن البوذية والجينية –وهما أقليتان– لا تتبعان هذا النموذج الخاص المحتذى للحياة.

* * *

خاتمة: القيمة المتضمَّنة في دراسة الفلسفة الهندية
تُعتبَر دراسةُ الفلسفة هامةً من النواحي الفكرية والتاريخية والسياسية. ويعتبر الموروث الهندوسي الفلسفةَ أقدم وأطول تطور مستمر للبحث العقلي عن طبيعته الحقيقية ومكانة الإنسان في نظرها. وقد بدأ هذا الموروث باستهلال الفيدا القديمة، التي يمكن لنا اعتبارها أقدم المخطوطات التي وصلتنا عن العقل الإنساني والتي استمرت، على كرِّ العصور، في تقدم فلسفي مزدهر، جاهدةً أن تستوعب الحياة والحقيقة. ودراستنا، نحن أبناء اليوم، لهذا الموروث يجب ألا تكون عملية تنقيب أثريٍّ عن شيء مضى. وعلى الرغم من أننا نحترم الماضي ونقدِّره، فقد اهتم العقَّال الهنود، إبان العصور، بالحقيقة الجوهرية التي لا تخضع لزمان ولا لمكان.

كذلك، يجب ألا ندرس الفلسفة الهندية كمجرد دراسة إقليمية لبلد ماضٍ حاول أن يبلغ تخوم الحقيقة. وعلى الرغم من اتهام بعض النقاد الغربيين للفلسفة الهندية بإهمال الطريقة العلمية، فإن المفكرين الهنود لم يكونوا ضد التجربة، ولم يهملوا الطبيعة في دراساتهم للحقيقة؛ وفي دراستهم للإنسان، لم يقتصروا على صفات الإنسان الهندي. إذن، فالتركيز الهندي على دراسة طبيعة الإنسان الداخلية هو، في غالبيته القصوى، تركيز على دراسة الإنسان العالمي.

كانت تعاليم فلاسفة الهنود، ولا تزال، نقاط تحوُّل للفكر الإنساني. ولم تكن جميع الأفكار والمناهج الفلسفية الهندية عميقة وذات دلالة؛ لكن العمق والسموَّ اللذين بلغهما الراؤون والمفكرون الهنود يشيران إلى عمق القوى التي يتحلَّى بها العقل الإنساني. لذا تمثلت الفلسفة الهندية في عقل الإنسان وروحه وهما يتسنَّمان ذروات قواهما في الحقلين الديني والفلسفي.

ومن الناحية الفلسفية، تُعَد دراسةُ الفلسفة الهندية هامة في البحث عن الحقيقة؛ وهذا لأن واجب الفلسفة يتضمن "شمولية أنماط البصيرة" كلِّها والتجارب الواقعة في نطاقها جميعًا. والحق أن للفلسفة الهندية أثرًا واضحًا في هذا المجال. وتتمثل المسائل الرئيسة في الفلسفة الهندية في تلك الموضوعات التي يواجهها الإنسان المفكر منذ أن بدأ يتساءل عن الحياة والحقيقة. ولهذه الفلسفة قضايا أخرى خاصة بها، وتوكيدات مختلفة، ورسائل فهم للحقيقة، وحلول فريدة، هي: مساهمة الهند في رسم الحقيقة داخل إطارها الكلِّي. والحق أن الحاجة الماسة إلى الفلسفة، في الوقت الحاضر، تشير إلى الإلمام بسائر المنظورات الفلسفية التي تشتمل على البصائر الفلسفية العائدة إلى الموروثات العالمية الكبرى كافة. إذن، فالهدف ليس أن نتبنَّى فلسفةً فريدةً تقضي على الفوارق في المنظور، بل أن نتفق على قيم ومنظورات مطلقة تُعتبَر أساسيةً للفلسفات جميعًا. وإن فلسفة عالمية كهذه تتضمن البصيرة الروحية التي تميز بها أصحاب الرؤى والمفكرون الهنود الذين قادوا البحث الفلسفي الهندي أو وجَّهوه طوال عصور عديدة.

يُعتبَر من الأهمية السياسية بمكان أن تُقدِم شعوبُ العالم على دراسة الفلسفة الهندية. وكما يبدو، تظهر الدعوة إلى "عالم واحد" وكأنها من مآثر الفكر السياسي. والواقع هو أنه يتعذر تحقيق الوحدة السياسية في معزل عن تفاهُم فلسفي. فالبصائر السياسية، والاتفاقيات، والفوارق السياسية، إلخ، تُعتبَر ثانوية من منظور العقل الإنساني. وتعتمد الأحوال الاجتماعية والسياسية في المناطق المتعددة للعالم، في تحليلها النهائي، على الفكر الفلسفي والروحي وعلى مثاليات شعوب العالم. إذن، فالفلسفة هي القطب الذي لا مناص للإنسان من الاتجاه إليه، وهي الأمل الذي ينشده الإنسان من أجل تقريب شعوب العالم بعضها من بعض في مودة وتفاهم وفي انسجام روحي وعقلي. من دون هذا الانسجام والتقارب، يتعذر تحقيق الوحدة السياسية أو غيرها؛ وهذا لأن ستقبل الحضارة يعتمد على عودة الوعي الروحي إلى قلوب الناس وعقولهم. وقد ساهمت الفلسفة الهندية، إبان تطورها الطويل الذي ركَّز على الناحية الروحية، مساهمةً قيمةً يصعب علينا الاستغناء عنها في هذا المجال.

(عن معابر)

(ندره اليازجي (1932- ) فيلسوف ثيوصوفي سوري، كاتب ومحاضر ومترجم في الفلسفة والإپستمولوجيا وعلم النفس. من مؤلَّفاته: "الاشتراكية ومفهوم العدالة"، "رد على اليهودية واليهودية المسيحية"، "دراسات في المثالية الإنسانية"، "رسائل في مبادئ الحياة"؛ ومن مترجَماته إلى العربية: "الفكر الفلسفي الهندي" (س. رادهاكرشنان وش. مور)، "ظاهرة الإنسان" (تلار دُه شاردان)، "الطفرة الروحية للألفية الثالثة" (روبير لنسن)، "علم النفس اليونغي" (يولاند ياكوبي).

* * *

مراجع أساسية

(1) DASGUPTA, S., Indian Idealism, Cambridge University Press, 1962.

(2) GARRATT, G.T. (ed.), The Legacy of India, Oxford University Press, 1938.

(3) LEVY, J., The Nature of Man According to the Vedanta, Routledge & Kegan Paul, London, 1956.

(4) RADHAKRISHNAN, S., Indian Philosophy, vols. I & II, The Macmillan Company, New York, George Allen & Unwin, London, 1956.

(5) RADHAKRISHNAN, S., The Hindu View of Life, George Allen & Unwin, London, 1954.