يخلص الباحث إلى أن قصدية المؤلف من تنوع الشخصيات وسماتها يتجاوز الدلالة السطحية، نحو عمق النسق الثقافي المسكوت عنه، وبذا يمكن قراءة شخصية السروجي وفقا للمستوى السطحي التقريري، والرمزي الدلالي، والمضمر الثقافي؛ كما تناط بالشخصية الثانوية مهام مؤثرة على الحدث السردي.

شخصية أبي زيد السروجي في مقامات الحريري

هيآتها، أنماطها، تحولاتها

محمد فليح الجبوري

 

توصل البحث إلى جملة من النتائج تمثلت بـ:

كان الحريري يعي تماماً وجوب التناسب بين هيأة الشخصية والأغراض التي وظفت للتعبير عنها، فشخصية السروجي في مقامات الاحتيال هي غيرها في مقامات الاستجداء والكدية وغيرها في مقامات الجدية.

ثمة انساق مضمرة في مقامات الحريري تكشف عنها شخصية أبي زيد السروجي، إذ لم تكن هذه الشخصية مفرّغة من محتواها الرمزي.

شخصية أبي زيد السروجي هي شخصية ثابتة لا تتطور على مستوى النص المقامي العام، إذ تكون في كل مقامة مستقلة بنفسها عن لاحقتها وسابقتها، ولا رابط بينهما إلا الأُطر العامة من حيث الموقف وتكرار أسماء الشخصيات.

التحول الحقيقي في شخصية أبي زيد نجده في المقامة البصرية، وفيها يتحول السروجي من صاحب مكيدة ومحتال إلى زاهدٍ عابدٍ، نادم على ما فات من حياته، وبذا تشكل النصف الثاني المناقض لمضمون الأحداث في المقامات الأخرى.

كل الأدوار التي أوكلت للسروجي إنما هي مواقف اجتماعية لها حضورها في الواقع الاجتماعي، حاول الحريري نقدها نقداً بناءً.

اتضح عن طريق التحليل أن قصدية المؤلف من هذه الهيآت وأوصافها أبعاداً أخرى غير الدلالات السطحية، فهو يحفر في عمق النسق الثقافي المسكوت عنه، وبذا يمكن قراءة شخصية السروجي وفقا لثلاث مستويات:السطحي التقريري، والرمزي الدلالي، والمضمر الثقافي.

في مقامات الاحتيال تناط بالشخصيات الثانوية مهام أخرى تصل إلى مصاف الشخصية الرئيسة في مدى تأثرها على الحدث السردي.

* * *

المقدمة
المقامات فن عربي أصيل ولد على يد أحمد بن الحسين بديع الزمان الهمذاني (398ه) ليتلقفه الأدباء من بعده حتى بلغ شأوه عند أبي محمد القاسم بن علي الحريري (516هـ)، وهذا الفن يجمع بين التفنن بأساليب القول والقص، إلا أن السمة الأولى غلبت عليه على الرغم من توافره على عناصر قصصية كثيرة، كالشخصيات والحدث والحوار والعقدة والزمان والمكان وغيرها، وقد ذكر الحريري ذلك في مقدمة مقاماته التي قال في وصفها: (تحتوي على جد القول وهزله ورقيق اللفظ وجزله، وتحرر البيان ودوره، وملح الأدب ونوادره )، والنص واضح وجليّ إذ جعل الحريري القص في مقاماته في الرتبة الأخيرة، وهو ما أشار إليه قوله: ملح الأدب ونوادره. ثم يشرع بعد ذلك بسرد سمات أسلوبه القولي في قص المقامات، ولم يشر إلـــى القص، وهذا يدل على أن الحريري لم يكن يريد القص لذاته، بل وظفه لإظهار موهبته أولاً، ثم إلى غايات أخرى (فأيُّ حرجٍ على مَنْ أنشأ مُلحاً للتنبيه، لا للتمويه)، فالمعالجة الاجتماعية للواقع المتردي كانت إحدى هذه الغايات.

ليس بجديد على الباحثين القول: إن أظهر شخصية في مقامات الحريري، شخصية أبي زيد السروجي، وقد جاء التمييز على لسان مبدعها (مما أمليت جميعهُ على لسان أبي زيد السروجي)، وللوقوف على هذه الشخصية ولدت فكرة البحث(شخصية أبي زيد السروجي في مقامات الحريري/ هيآتها، أنماطها، تحولاتها). وقد مارست مادة البحث -بعد استقراء هذه المقامات– سلطتها على أن يكون على أربعة مباحث: الأول منها جاء بعنوان (مفهوم الشخصية وشخوص الحريري في مقاماته)، وفيه أُوجز القول في مفهوم الشخصية وأهميتها، وطرق عرضها في القص وبقدر ما يلبي حضورها في النص المقامي، ثم تناول الباحث شخوص الحريري في المقامات بشكل عام، وسلط الضوء على آراء الباحثين بخصوص حقيقة شخصية السروجي واصطناعها، في حين جاء المبحث الثاني تحت عنوان (هيآت أبي زيد السروجي) وتناول وصف هيآت السروجي في مقامات الكدية والاحتيال والجدية، ثم المبحث الثالث الذي جاء بعنوان (أنماط شخصية أبي زيد السروجي) وفيه بحثنا الأنماط التي جاء بها السروجي في المضامين المقامية، أما المبحث الرابع فحمل عنوان (تحولات شخصية أبي زيد السروجي)، وقف الباحث فيه على تحول هذه الشخصية ولاسيما في المقامة البصرية؛ لكونها الأنموذج الأكثر اقتراباً من حقيقة مفهوم التحول، وعلى الرغم من قلة مادة هذا المبحث حرصنا على حضورها في هذا البحث؛ لأهميتها في إظهار براعة المؤلف في مدى وعيه بسردية النص المقامي.

اعتمد الباحث المنهج الاستقرائي التحليلي في تحصيل مادة البحث وبعد قراءات عدة استطعنا أن نفهم هذه الشخصية المتناقضة والمعقدة في آن واحد، وأن نسايرها في أي مكان تحل، فكنا نغضب منها، ونشفق عليها، ونتأثر بها، ونعجب من موهبتها.

اعتمد البحث على مصادر عدة منها مقامات الحريري، وصبح الأعشى، والعمدة، والأغاني فضلاً عن المراجع الحديثة، في حين جاءت الخاتمة لتوجز ما توصل إليه الباحث، ثم ثبت لروافد البحث.

المبحث الأول/ مفهوم الشخصية وشخوص الحريري في مقاماته.

* * *

مفهوم الشخصية
تُعدّ الشخصية من العناصر التكوينية المهمة في القص بأنواعه المختلفة، وهي (كائن موهوب بصفات بشرية وملتزم بأحداث بشرية)(1)، يتولى وظيفة تأدية الأدوار المناطة به، فالشخصية تمثل ظل الكائن البشري الذي يعيش الواقع المرئي، ويعدها أحد الباحثين من(أكثر عناصر القص أهمية)(2)، فلا يمكن لنص سردي أن يؤدى خالياً من الشخصيات، إلا أن حضورها في الأنواع القصصية يتفاوت كماً ونوعاً من جنس لآخر.

إن الشخصيات القصصية هي شخصيات واقعية في خلقها الأول، وإن لم تكن مخصوصة بذات معروفة، فهي لا تخرج عن الحياة الواقعية الحُبلى بالقصص والحكايات ومن هذه الحياة استنبط المبدعون شخصياتهم التي (لابد أن تعيش واقعاً يماثل واقعنا)(3) الذي نعيشه، وإلا فلا يمكنها أن تؤثر بنا، فعدم وجود التماثل يقف حاجزاً أمام اجتذابنا نحوها، ومن ثمّ لن تحضى بانتباهنا، ولذا نرى كتّاب السرد يُجهدون أنفسهم في الاقتراب من الجوانب النفسية قدر الإمكان بغية جلب انتباه القارئ نحو النص ومعايشته والتأثر به.

* * *

أنواع الشخصيات
تختلف الأجناس السردية فيما بينها في مختلف التقنيات كمّاً ونوعاً، إلا أنها تتحد في بنائها الجوهري الأساس، فالرواية والقصة القصيرة والأقصوصة والمسرحية والمقامة كلها تتطلب شخصيات وحواراً وزماناً ومكاناً وحدثاً، إلا أنها تتباين في مدى استيعابها لهذه المتطلبات، فلكل جنس سردي مقوماته التي تختلف عن الآخر من حيث الحضور والنوع. وتشترك الشخصيات القصصية في ماهية وجودها في تلك الأجناس عامةً، ويجتهد النقاد وتكثر آراؤهم حول طبيعة أنواع هذه الشخصيات اعتماداً على الأدوار التي تقوم بها، فأكثرهم يتبنى التقسيم الثنائي الذي يختلف اصطلاحياً من باحث لآخر، إذ يقسمون الشخصية على نوعين:

الأول: الشخصية المستديرة أو المدورة، وهي الشخصية التي تتغير وتتميز انفعالياً وفكرياً، ويبذل القاص كل جهده لتصويرها وسبر خباياها، وبيان صفاتها المتغيرة وسماتها المتعددة(4). وهذه السمات هي التي تتصف بها الشخصيات الرئيسة في الأجناس القصصية، ولاسيما تلك التي تأخذ مساحة لفظية واسعة وأبعاداً عدة، فيدخل فيها القص مداخل تحليلية نفسية تغوص في أعماق تلك الشخصيات.

أما النوع الآخر: فهو الشخصية المسطحة، وهذه لا تتغير ولا تتبدل طيلة أحداث القصة، فهي ثابتة لا تصيبها الحركة، فـ(تكون أحادية الجانب ذات سمة واحدة لا تتغير)(5)، فالشخصيات القصصية لا تختلف في أدوارها عن الشخصيات الواقعية إذ تعيش وتتباين في مدى تأثيرها في المجتمع، وهذا لا يعني أنها شخصيات سلبية بل ايجابية وبقدر المهمة التي تؤديها في القص، وكذلك الشخصيات المسطحة هي ايجابية وسلبية في آن واحد، ولا يمكن عدها عيباً إلا عندما تكون الشخصية الرئيسة شخصية مسطحة؛ لكونها غير مسؤولة عن الأدوار الثانوية، فلكل دور في القص شخصياته التي تقوم بأدائه كي يُقدم للقارئ وفقا لوظيفته في النص السردي وبذلك يكون قد اوجد في مخيلته ربطاً مع الواقع الآني، وبذا يكون أثر هذه الشخصية كأثر الشخصيات الاجتماعية المؤثرة في المجتمع.

* * *

طرق عرض الشخصيات
مما لاشك فيه أن لعرض الشخصيات أهمية بارزة لا تقل في أهميتها عن عرض عناصر القص الأخرى، ويتفق جل النقاد على أن الطرق الأكثر شيوعاً في عرض الشخصيات القصصية طريقتان:

الأولى: الطريقة التفسيرية والتي (تخبرنا عن شخص.. ويجري الحديث عنه من قبل المؤلف أو شخصية أخرى)(6) في الجنس القصصي. وتسمى هذه الطريقة أيضاً بالتحليلية(7).

الأخرى: الطريقة الدرامية وهي التي (تقوم بالإبلاغ بطرائق مختلفة في آن واحد، فهي تبلغ بالمعنى المنطقي بجملها والمضمون العاطفي للغتها..)(8)، وتسمى بالطريقة التمثيلية(9).

لا يمكن القطع بفنية طريقة دون أخرى، فقد تصلح في جنس وتخفق في آخر، بيد أن تعدد روافد التوصيل وإشراك المتلقي وإشغاله في استكشاف ماهية الشخصية وجعله فاعلاً في النص هو الذي يرجح فعالية طريقة دون أخرى.

* * *

شخوص الحريري في مقاماته
تُعد المقامة من الأجناس القصصية المهمة في النثر العربي القديم، وهي (فن قصصي ابتدعه العرب في القرن الرابع الهجري، وهو شكل قريب من القصة القصيرة تنظم فيه الأحداث حول بطل خيالي ورواية خيالي)(10)، فهي عربية الخلق والإبداع بل (تمثل وجه الإبداع الراقي في العربية أو الإبداع المعترف بأدبيته بين أدباء العربية الغابرين)(11)، وهي كما يراها أحد المستشرقين (أحد ضروب النثر العربي أناقة وتهذيباً)(12).

يُعدُّ الحريري من أهم رواد المقامات(13)، ومبدعيها بعد البديع الهمذاني(14)، وهو أشهر من نظمها، وإليه يرجع الفضل في شيوعها(15)، وذهب بعضهم إلى تفوقه على الهمذاني وريادته لهذا الفن إبداعياً(16)، إذ ساعدت مقاماته على (تثبيت هذا النوع من الكتابة وإعطائه الشكل الفني الثابت والعدد المحدود الكامل)(17)، فكانت مقاماته (نهاية في الحسن، فأقبل عليها الخاص والعام)(18)، فنحى بها منحى مختلفاً، إذ صيرها جنساً أدبياً يجمع بين الموهبة الأدبية والصياغة اللغوية والنقد الاجتماعي القائم على الهزل والسخرية.

مما لا شك فيه أن الحركة السردية للشخصيات المقامية تكاد تتوارى خلف كثافة الأسلوب ووعورته، وبالكاد ترتسم في مخيلة الباحث(19)؛ وسبب ذلك يعود إلى قصدية المؤلف المقامي الذي جعل من المضمون القصصي وسيلة لا غاية، ومع ذلك نجد الحريري أوجد في مقاماته شخصيات عدة، بعضها رئيسي والآخر ثانوي، ومن شخصياته الرئيسة شخصية الحارث بن همام راوي المقامات، أوكل إليه مهمة سرد الأحداث وقيادة عملية السرد، وهو يقترب كثيراً من مفهوم الراوي العليم في مفهوم السرد الحديث، الذي يعرف الشيء الكثير عن الشخصية الرئيسة(20)، بل نجده يستبطن أفعالها المستقبلية.

أما شخصية المقامات الرئيسة فهي شخصية أبي زيد السروجي -قصدية البحث- وعليها وقع الحدث المقامي سرداً وأسلوباً، فهي شخصية متلونة، ومعقدة وقلقة جداً، تتقاطع فيها طبائع عدة، فلا يستقر لها حال، تقوم فوق فسق وطهر، ووعظ وإرشاد وتضليل(21)، وهو (شاعر خطيب مترسل عالم باللغة والنحو والفقه والفرائض، يتصرف بضروب الكلام ونوادر البيان، يحترف الكدية بالاحتيال ويسلك إليها مختلف الطرق لا عدة له غير لسان فصيح، وجنان قوي.. يعاونه على احتياله ولده أو زوجته)(22)، فأحداث القص تقوم على أكتافه، وما شخصية الحارث بن همام إلا مقدمة لها ومراقبة عليها. وتكرر هاتان الشخصيتان في كل المقامات من غير استثناء، ويُلزمهما الحريري بالأدوار نفسها.

أما الشخصيات التي يمكن عدُّها شخصيات ثانوية، فهما شخصيتا ابن السروجي، وزوجته، وهما يلازمان البطل منفردين تارة، ولاسيما في المقامات التي تقوم على الاحتيال وهو الغالب، ومجتمعين تارة أخرى، وهما لا يقلان فصاحة وموهبة عنه في فن القول والحجاج والمكيدة، ومن الشخصيات الأخرى شخصيات لا يسميها بمسمياتها، بل بمهامها الإدارية: كالقاضي والوالي، وجمع من المصلين وبعض الحجاج وغيرها من المسميات التي تقع تحت طائلة احتيال أبي زيد السروجي، وتمثل هذه الشخصيات أنماطاً إنسانية صادرة عن الحقول الثقافية التي تكمن فيها(23)، فبعضها يمثل المكون المجتمعي الشعبي، والآخر السلطة التي بيدها مقدرات الناس ومصائرهم(24).

* * *

شخصية أبي زيد السروجي (الواقع والخيال)
انشغل نقادنا العرب بحقيقة وجود شخصية أبي زيد السروجي و خياليتها، ونأوا بأنفسهم عن أهمية هذا الأنموذج الذي صار عالميا على أثر احتفال النقد الأوروبي به(25). ولعل من بدهيات النقد السردي أن من يدرس القص بوصفه إبداعاً فنياً لا يعنيه فيما إذا كانت هذه الشخصية واقعية أم خيالية، بل ما يهمه مدى اقترابها من محاكاة الواقع الذي تدور الأحداث فيه. أما الشخصيات الخيالية، فهي التي تتعدى بماهيتها التكوين البشري وتخرج عن قدرات الإنسان الذي يعيش الواقع المحسوس، ومن ثمَّ فإن هذا الوصف لا يصح تطبيقه على شخصية السروجي؛ لأن مجمل أحداث المقامات هي أحداث طبيعية ممكن حدوثها لأيِّ شخص يتسم بسمات هذه الشخصية، ويبدو أن خيالية شخصية السروجي التي قال بها بعض النقاد لا يُراد منها التوصيف السابق بقدر ما يُراد بها وجود هذه الشخصية في الواقع أو لا، وهذا الأمر هو الآخر لا يعني الدارسين كثيرا؛ لأنه لا يُخل بالقراءة النقدية الواعية ولا يقدم لها ما تبحث عنه وفيه. ويذهب النقاد مذاهب شتى في نظرهم لشخصية أبي زيد السروجي، وهم يقلبونها بين الواقع والخيال، فمارجليوث يرى أنها شخصية خرافية(26)، وتابعه في ذلك أكثر من باحث(27)، في حين يرى آخرون أنها شخصية حقيقية تدعى المطهر بن سلام صاحب الحريري الذي روى عنه ملحمة الإعراب(28)، ويرى آخر أن هذه الشخصية هي خلط بين الواقع والخرافة(29)، ومهما تكن حقيقة شخصية أبي زيد فنحن إزاء شخصية فنية تؤدي أدواراً على أرض الواقع القصصي، وهي تحاكي وقائع اجتماعية خالصة اتخذت من المجتمع مورداً لها، وأخذت على عاتقها أن تكون مرآة عاكسة له بكل سلبياته ومفاسده.

ومما لاشك فيه أن الحريري في خلقه لشخصية أبي زيد السروجي قد اتكأ على البديع الهمذاني، وبطله أبي الفتح الاسكندري فحمّله سمات هذه الشخصية وخصائصها تماماً، فضلاً عن جوانب أخرى انفرد بها الحريري عن الهمذاني، فشخصية السروجي في المقامات تتشظى إلى شخصيات متنوعة تمثل في كونها حاذقةً وذكيةً وفصيحةً وعالمةً متشردةً وجوالةً(30)، وكل تلك الصفات هي صفات اجتماعية لها واقع خارجي مشابه ومعاش. ولا يجانب الصواب إذا ذهب الباحث مع من يرى أن القص في مقامات الحريري وصل إلى مرحلة النضج القصصي(31)، وإن لم يكن الغاية الرئيسة التي قصدها المؤلف، لكنه جاء محكماً على المستوى الأسلوبي والدرامي(32)، بل جاء هذان المستويان ردفين (وكأنما الإيقاع يخدر والسرد يوقظ )(33)، فهما كركبتي البعير الأدرم(34)، والتفاوت بينهما يتمثل بأيهما الأيمن والأيسر.

* * *

آليات عرض شخصية أبي زيد
أوكل الحريري مهمة تقديم شخصية السروجي في كل مقاماته إلى راويته الحارث بن همام، وهو الذي أمسك بزمام الحدث السردي في كل المقامات، ولا يكاد يختفي إلا عندما يتكلم السروجي، بل يبقى مسايراً للقص المقامي طيلة المقامة وإن اختفى ظاهرياً، فإنه في حقيقة الأمر إنما يندمج مع السامعين، وكأنه ممن تقع عليهم أحبولة السروجي، لكن ما يميزه هو معرفته المسبقة بالسروجي، ومعرفته الآنية بما يريد أن يحوكه من نصب واحتيال.

إن عناية الحريري براويته الحارث بن همام لا يقل عما يوليه من عناية لشخصية أبي زيد السروجي؛ لكونه يمثل المفتاح الرئيس للدخول إلى المقامة من جهة التلقي، ونريد به بذل الجهد المضاعف لكسب ثقة السامعين وشد انتباههم إليه، فالحارث بن همام يمثل الثيمة التي تحدد مستقبل القص في المقامة، ولاسيما فيما يتعلق بوصف هيأة السروجي، وموهبته الكلامية والأدبية، فبناء شخصية السروجي يبدأ أولا من الحارث بن همام، فتكون هذه الشخصية على عدد من الهيآت الأدبية والاجتماعية، والتي يمكن أن نصطلح عليها بـ(آليات) لكونها الوسائل التي اعتمدها الحريري لإيصال ما يريد قوله أو فعله من سلوك، ومن أهمها:

- شخصية الأديب الموهوب العالم باللغة والألغاز والأحاجي وكل فنون القول، وهذه الآلية لا تكاد تخلو منها مقامة من مقامات الحريري.

- شخصية الخطيب الواعظ، فقد وظف الحريري هذه الآلية كي يمكّن بطله السروجي من عقول الناس بمختلف مشاربهم عن طريق توظيف الدين بمختلف سبله.

- شخصية الشاعر، وهذه الآلية لها حضور فاعل في مقامات الحريري، فكل ما ورد في مقاماته لا يخلو مطلقا من نصوص شعرية، وكلها للحريري ماعدا بيتين نسبهما الحريري لصاحبهما.

- شخصية السؤول الفقير الملحف الذي أملق، فلا يجد في بيته ما يطعم عياله وذلك بقصد التأثير بالآخرين. هذه أكثر الآليات ورودا والتي يمكننا وصفها بالظاهرة النقدية.

* * *

المبحث الثاني/ هيآت أبي زيد السروجي في المقامات
بدءاً لا بد أن نشير إلى قضيتين مهمتين: الأولى إن وصف الشخصيات في مقامات الحريري جاء سريعاً ومرموزاً، بيد أن بعض هذه الإشارات تكفي لإبراز النمط(35) الثقافي المضمر في البنية الاجتماعية، لذا سنعول كثيراً على هذه الإشارات، وعلى أدواتنا النقدية في تأويل النصوص، والقضية الأخرى هي وصف مضمون النص المقامي، أنه نص يقوم على الكدية والاحتيال ليصل إلى مرحلة التداول النقدي، فيأخذ اللاحق عن السابق من دون تدبر، ومن يستقرئ مقامات الحريري لا يجد مصداق ذلك إلا في مقامات قامت على الاحتيال بلغ عددها إحدى وعشرين مقامة من مجموعها الخمسين، وست مقامات على مضمون الكدية، وما تبقى من مقامات فإنه يتوزع بين الجد والتكسب، فاستغرق موضوع الجد منها ست عشرة مقامة، أما التكسب سواء أكان شعرا أم نثرا فقد استغرق سبع مقامات، وهذا يعنى أن ثلاثاً وعشرين مقامة في غير الاحتيال والكدية، أي ما نسبته قرابة النصف من المجموع الكلي للمقامات، وهذا العدد لا يعطينا الحق بمصادرة مضمونه الذي يمثل ولا ريب (منتجا ثقافيا يمكن له أن يقول الكثير عن البنى التي أسهمت بإنتاجه بما تنطوي عليه عملية التأليف من بعد تبادلي)(36) بين النص والأنساق الاجتماعية.

إن دراستنا لشخصية أبي زيد السروجي ستتخذ من التصنيف الموضوعي السابق أساساً لها، وسنجمع بين المقامات التي تناولت الكدية من جهة، والتكسب في الإبداع سواء أكان شعرا أم نثرا من جهة أخرى؛ كون التكسب بالأدب مما يشينه العرب قديما، بل أنهم انزلوا الشاعر المتكسب درجة دنيا عن غيره؛ كونه يُخضع الإبداع للتجارة من بيع وابتياع، وسنقف عند كل موضوع من حيث الهيأة.

* * *

السروجي متكسبا ومستجديا
لقد بلغ الحريري في تعامله مع شخصياته مبلغاً كبيرا، ففي كل مرة يلبسها لبوساً خاصاً لطعن نسقٍ ما(37)، فهذه (الخطابات تتضمن مواقف ومفاهيم وتصورات تكشف عن أبنية الوعي العربي وأنظمته العميقة)(38)، ففي مقامات الاستجداء اتخذ الحريري أشكالا وهيآت كثيرة للوصول إلى مبتغاه، فأحكم في صنع هيأته بشكل يتماشى وماهية الحدث المقامي، تمهيداً لمضمون المقامة، فجعل من هذه المقدمة مفاتيح استقراء لهذه الشخصية، بل يمكننا من هذه الهيآت أن نتبين بعض ملامح القص في هذه المقامة أو تلك وبما يتوافق مع طبيعة أحداث القص.

إن استقراء مقامات الحريري يُظهر تعدد هيآت أبي زيد السروجي فيها، التي لا تخرج عن وصف شخصية المستجدي، وقد تبنى عملية الوصف في كل المقامات راويتها الحارث بن همام، ففي المقامة القهقرية مثلا يقول في وصف السروجي: (وكانَ في بحبوحةِ حلْقَتِهِمْ. وإكْليلِ رُفقَتِهِمْ. شيخٌ قد برَتْهُ الهُمومُ. ولوّحَتْهُ السَّمومُ. حتى عادَ أنْحلَ. منْ قلَمٍ وأقْحلَ منْ جلَمٍ)(39)، ويقول أيضا في وصفه في المقامة النجرانية: (إذ جثَمَ لدَيْنا هِمٌّ. علَيهِ هِدْمٌ. فحَيّا تحيّةَ ملِقٍ. بلِسانٍ ذلِقٍ)(40) وليس ببعيد عن هذا الوصف ما تجده في المقامة الملطية، وفيها يقول: (وغَلَ عليْنا شيخٌ قد ذهَبَ حِبرُهُ وسِبْرُهُ. وبقِيَ خُبْرُهُ وسَبْرُهُ)(41)، ومثل هذا نجده في المقامة الشتوية (ما عَدا شيخاً مُشتَهِباً فَوْداهُ. مُخلَوْلِقاً بُرْداهُ.)(42)، وربما كان وصفه لهذه الشخصية بهيأتها أكثر دقة وأقرب من هيأة المستجدي الذي نجده في المقامة الشيرازية إذ يقول: (إذِ احتَفّ بِنا ذو طِمْرَينِ. قد كاد يُناهِزُ العُمْرَينِ)(43)، فالسروجي في الهيآت السابقة لا يتعدى أن يكون شيخاً هرماً بدت عليه سمات الإملاق، وقد لبس لباس الفقر والعوز، فهو شيخ وهنٌ وذو طمرين، بيد أنه مع ذلك يجمع صفة الأدب، فهو ملق اللسان ذلقه، دارس الحبر باقي الخبر، وهذه الأوصاف كناية عن الإبداع والموهبة، فهو يبدي العجاب إذا أجاب على الرغم من أن الهموم قد برته وأن السموم قد لوحته.

يبدو مما تقدم من شواهد أن الحريري أراد معادلة الكفتين في شخصية السروجي، فهو متواضع في السياسة محلق في إبداعه وبيانه. ومن هذه الهيآت ما نجده في المقامة التفليسية (برزَ شيخٌ بادِي اللَّقوَةِ. بالي الكُسوَةِ والقُوّةِ.)(44)، وكذلك في المقامة المغربية إذ يقول: (حتى غَشيَنا جوابٌ. على عاتِقِه جِرابٌ. فحيّانا بالكلِمتَينِ.)(45)، وفي موضع آخر يصفه (إذْ وقَفَ بِنا شخْصٌ علَيْهِ سمَلٌ. وفي مِشيَتِهِ قزَلٌ)(46).

إن هيآت شخصية أبي زيد السروجي هذه، تكاد تتكرر وبأوصاف مختلفة لكن مؤداها واحد، ولا يكاد يفترق عن أن السروجي شيخ ناهز العمرين، وقد افتقر فقراً شديداً، حتى بدا رثّ الثياب قديمها لا تكاد تغطي بعض جسمه، فالحريري بهذه الهيآت يحاول الكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة؛ لأن النص المقامي هو نص ثقافي(47) بامتياز، وفي الوقت ذاته يهيء المتلقي لاستقبال الحدث التالي في النص، فالغرض أو محور الأحداث وعقدتها إنما يتماثل مع مقدمات النص وممهداته، وهذا لا يقتصر على موضوع دون آخر بل نجده في كل المقامات.

* * *

هيآت السروجي في المقامات الجدية
لم تكن مقامات الحريري كلها في الكدية والاحتيال بل نجد أن بعضها جاءت تحمل مضامين جدية، فتأتي هذه الهيآت على وفق ما سيأتي من موضوع، فالحريري على مستوى الوصف لا يعمد في خلقه لهيأة السروجي في هذا المضمون المقامي كما فعل في مقامات الاستجداء والتكسب وإنما تظهر لنا هيئات مغايرة توحي بالترف الفكري، وهذا ما نجده في المقامة السنجارية (ومعَنا أبو زيدٍ السّروجيُّ عُقلَةُ العَجْلانِ، وسَلْوَةُ الثّكْلانِ، وأُعجوبَةُ الزّمانِ، والمُشارُ إليْهِ بالبَنانِ في البَيانِ)(48) ولا يشير الحريري إلى وصف هيأته بعد هذا الكلام، كأنه استعاض بهذا الوصف البلاغي عن تلك الهيأة، ومن يقرأ هذا الوصف ترتسم في مخيلته هيأة الموصوف، لكن الحريري في مقاماته على اختلاف مضامينها يصف السروجي بأنه شيخ كبير السن، منهك القوى، مثلما نجده في المقامة الحلبية (لمحَ طَرْفي شيْخاً قد أقبلَ هَريرُهُ، وأدبَرَ غَريرُهُ)(49) فهو يصف هيأته من وصف حاله البدني، وهذا ما نجده في المقامة الصّورية (فبرزَ حينئذٍ شيخٌ قد أمالَ الملَوانِ قامتَهُ، ونوّرَ الفَتَيانِ ثَغامتَهُ)(50)، في حين نجده في المقامة الرقطاء يصف هيأته وصفاً جميلاً (رأيتُ غِلمَةً رُوقَةً، وشارَةً مرْموقَةً، وشيْخاً علَيْهِ بزّةٌ سَنيّةٌ، ولدَيهِ فاكهةٌ جَنيّةٌ )(51)، فلا نجد في هذه الأوصاف ذكراً للأطمار أو الأسمال بل نجد ما يدل على الهيبة، فالمقام لا يسمح بذكر تلك الصفات وهو -أي الحريري- يعي تمام الوعي أن لكل مقام هيأته التي لا يمكن تجاوزها؛لأنها تمثل نمطا اجتماعياً يتوارى من خلفه نسقٌ ثقافيٌ، أسهمت في فرضه سلطات عدة، كما نجد ذلك في المقامة الرازية (شيخٌ قد تقوّس واقْعَنْسَسَ، وتقلْنَسَ وتطلّسَ، وهوَ يصدَعُ بوعْظٍ يشْفي الصّدورَ، ويُلينُ الصّخورَ)(52)، فهذا الوصف الخارجي للشخصية لا يمكن أن يكون إلا لشخصية تحتل مكانة اجتماعية تحضى باحترام المجتمع وتعيش في بحبوحة من الرخاء. أما في المقامة الفرضية فنجد وصفاً لشخصية السروجي يقع وسطاً بين مقامات الاستجداء والمقامات السابقة، فهو شخص كغيره من أبناء المجتمع (فدخَلَ شخصٌ قد حنى الدّهرُ صَعْدَتَهُ، وبلّلَ القَطْرُ بُردَتَهُ، فحَيّا بلِسانٍ عضْبٍ، وبَيانٍ عذْبٍ، ثمّ شكرَ على تلبِيَةِ صوتِه، واعتَذَرَ منَ الطُّروقِ في غيرِ وقتِه)(53)، ويُلحظ أن الحريري وعلى لسان الحارث بن همام يأتي بذكر هوية السروجي الإبداعية فيأتي بالهيأة والحال متلازمين، وهذا الأمر نجده في المقامة الصنعانية (فرأيتُ في بُهْرَةِ الحَلْقَةِ، شخْصاً شخْتَ الخِلْقَةِ، عليْهِ أُهْبَةُ السّياحَةِ، وله رنّةُ النِّياحَةِ، وهوَ يطْبَعُ الأسْجاعَ بجواهِرِ لفظِهِ، ويقْرَعُ الأسْماعَ بزَواجِرِ وعْظِهِ)(54)، فهذه الأوصاف لا تصلح إلا لشخص عالم في الأدب، خطيب واعظ يجمع بين أساليب الإبداع وروح الدين، أما في المقامة النصيبية فنجد الحارث بن همام يصفه بكونه مبدعاً: (ألفَيْتُ أبا زيدٍ السَّروجيَّ يجولُ في أرجاء نَصيبينَ.. وهوَ ينثُرُ منْ فيهِ الدُرَرَ. ويحتلِبُ بكفّيْهِ الدِّرَرَ.. ولم أزلْ أتْبَعُ ظِلّهُ أينَما انبَعَث. وألتَقِطُ لفظَهُ كلّما نفثَ.)(55) ويقول في مكان آخر: (فدخَلَ مؤذِناً بِنا. ثمّ خرَج آذِناً لنا. فلَقينا منْهُ لَقًى. ولِساناً طلْقاً. وجلسْنا مُحدِقين بسَريرِهِ. محدّقينَ الى أساريرِه.)(56).

نستنتج من هذا كله أن هيأة السروجي ومن وصف الحارث بن همام لم تكن كتلك التي استقرأناها في المقامات التي تقوم على التكسب والاستجداء، بل نجده يراعي مضمون الحدث الذي يرسم للشخصية الرئيسة ملامحها ومسارها في السرد المقامي، فيأتي التساوق منسجماً بين تقديم الشخصية والحدث الرئيس.

هيآت السروجي في مقامات الاحتيال

برع الحريري في إلباس السروجي الهيآت التي تتلاءم وموضوع الاستجداء والجد، وهذا الأمر يتضح جلياً من المضمون والأوصاف والأحداث التي تقوم عليها المقدمة، فوصف هيأة السروجي يوحي للقارئ بمضمون المقامة سلفاً ولاسيما القاريء المثالي، ولذا نجد الحريري ينحت ملامح شخصية السروجي نحتاً كيما تتزيا بشخصية المحتال البائس، وربما يشعر القارئ وللوهلة الأولى أن السروجي بأوصافه هذه سينصب أحبولة ما، وهذا ما يمكن استشعاره في الوصف الذي تضمنته المقامة الزبيدية: (إذ عارَضَني رجلٌ قدِ اختَطَم بلِثامٍ، وقبَضَ على زَنْدِ غُلامٍ)(57)، ويبدو أن في الوصف شيئاً ما يُراد أخفاؤه، فلفظة " لثام " تدل على التنكر الذي سيفك شفرة الغش فيما بعد، والمشهد الدرامي القائم على الحركة يوحي بهذا الاحتيال. وقد يأتي الاخير بوصف آخر وبشخصية أخرى تختلف حتى عن جنس السروجي، وهذا ما يجده الباحث في المقامة البغدادية (لمحْنا عجوزاً تُقبِلُ منَ البُعْدِ، وتُحضِرُ إحْضارَ الجُرْدِ، وقدِ استَتْلَتْ صِبيَةً أنحَفَ منَ المَغازِلِ، وأضعَفَ منَ الجَوازِلِ)(58)، فالسروجي يأتي متلبساً بزي عجوز تتقدم صبية، وهو هنا يبلغ درجة متقدمة في فن الاحتيال موظفا السخرية اللاذعة، فيُغيّر جنسه ويجمع أدوات شباكه المتكونة من صبية أنحلهم الجوع، تقودهم عجوز تترنح في مشيتها، وهذا التصنع في المقامة الدمشقية أيضاً، إذ يقول الحارث في وصف السروجي: (وكان حِذَتَهُمْ شخْصٌ مِيسَمُهُ ميسَمُ الشبّانِ، ولَبوسُهُ لَبوسُ الرّهبانِ، وبيَدِه سُبْحَةُ النّسْوانِ، وفي عينِهِ ترجمَةُ النّشوانِ)(59)، فالنص يشي بشيء من علامات التصنع، فلم يقل الحريري، انه كان شاباً، بل قال إن علامته هي علامة الشباب، وهو في لباسه كالرهبان وليس كذلك، فضلاً عن ذكره لـ"سبحة" و"نشوان" وكلها لا تجمع في شخص سوي، واللافت للنظر هنا أن الحريري يتأرجح بملامح هذه الشخصية فتارة يصفها بفقرها وعوزها، وتارة أخرى يصفها بترفها المادي والمعنوي، بيد أن الجامع بين هذين الحالين أن كليهما مزيف ومن ورائه شيء آخر غير ما يظهره المشهد السردي. وهيأة السروجي في المقامة الإسكندرية لا تختلف عما سبق، إذ وصفه الحارث قائلاً: (فبَينَما أنا عِندَ حاكِمِ الإسكنْدَريّةِ، في عشيّةٍ عرِيّةٍ، وقد أحضَرَ مالَ الصّدَقاتِ، ليَفُضّهُ على ذوي الفاقاتِ، إذْ دخَل شيخٌ عِفْرِيَةٌ، تعْتُلُهُ امرأةٌ مُصْبِيَةٌ)(60)، والنص يفضي معناه بما في نية السروجي فعله، فقد وصفه الحارث بشدة الخبث والدهاء في مشهد درامي يعبر عن حنكة الحريري في رسم شخوصه، والجدير بالذكر أن مواقف الاحتيال-في أغلبها- تقوم على استدعاء الحريري لشخصيات أخرى تُسهم في تمرير عملية الاحتيال، وهي لا تخرج عن ابنه أو زوجته، كما في النص السابق أو في المقامة الرملية (وقد تَرافَعَ إليْهِ [يريد قاضي الرملة] بالٍ في بالٍ، وذاتُ جَمالٍ في أسْمالٍ، فهمّ الشيخُ بالكلامِ، وتِبْيانِ المَرامِ، فمنعَتْهُ الفَتاةُ منَ الإفْصاحِ)(61)، فأبطال هذه اللعبة هم: السروجي وزوجته الفتاة الجميلة وقد تحاكما عند الحاكم، وهذه الصورة تكرر نفسها، ولكن بشيء من التغيير على مستوى الشخصية الثانوية في المقامة البرقعيدية (طلَعَ شيخٌ في شمْلَتَينِ، محْجوبُ المُقلتَيْنِ، وقدِ اعْتَضَدَ شِبْهُ المِخْلاةِ، واسْتَقادَ لعَجوزٍ كالسِّعْلاةِ)(62)، النص يوحي بشيء ما، فعدم وضوح الرؤية هو الوصف العام الذي أراد أن يصل إليه الحريري عن طريق حجب مقلتي السروجي، وهو يلتحف رداءً اسود متّبعاً عجوزاً قبيحة المنظر تحبو حبواً لا تكاد تبين هيأتها، ويبدو أن الحريري عمد لهذا الأمر لتحقيق بعدين: الأول سطحي وهو تمرير هذه الأحبولة على الحاكم، والآخر عميق يحفر في قلب النسق السياسي الحاكم وهذا هو المراد على خلاف ما وصف به الحريري مقاماته بأنها للتنبيه لا للتمويه، ولا يختلف عن هذا وصف الحريري لشخصية السروجي في المقامة الفاروقية ولكن من زاوية أخرى (فحَيّا تحيّةَ نفّاثٍ في العُقَدِ. قنّاصٍ للأسَدِ. والنّقَدِ.)(63) فورود ألفاظ "نفّاث "و" قناص " تدل على مبتغى السروجي وتعمل على فك شفرة السرد المقامي على مستوى الدلالة السطحية والعميقة. وعلى هذا النسق الاجتماعي العرفي دل الوصف في المقامات الأخرى التي جاءت في موضوعة الاحتيال، فكلها تدل إما بلفظة من ألفاظها، أو دلالة عامة، أو شيء آخر كأن يكون تصوير موقف.

ومن هذه الملامح النقدية نستدل على أن وصف هيآت شخصية أبي زيد السروجي جاء منسجماً مع مجرى الأحداث في تلك المقامات، فلا تفكك بين أجزائها من مقدمة وعقدة وخاتمة، فالحريري كان على وعي بخصائص البناء القصصي حتى وصل به إلى مرحلة النضج بحسب توصيف محمد غنيمي هلال(64) ولذا لا مبالغة إذا ما وصفناه بإجادته في التوفيق بين رسم الشخصيات والحدث، يزاد على ما تقدم أننا نشعر بهيمنة الأسلوب الساخر في مجمل الشواهد المتقدمة، بوصفها فناً لـ(إبراز الحقائق المتناقضة والأفكار السلبية في صور تغري بمقاومتها، والرد عليها وإيقاف مفعولها، من غير اللجوء إلى الهجوم المباشر)(65) فالسخرية هنا سخرية بناءة هدفها المعالجة لا المطارحة في أفانين القول وأساليبه.

* * *

المبحث الثالث/ أنماط شخصية أبي زيد السروجي
لعل من نافلة القول: إن مرادنا من مصطلح (النمط)، هو النمط السردي، ذلك المفهوم المجرد الذي (تصنف وفقه النصوص السردية استناداً إلى مقاييس شكلية ووظائفية محددة، والهدف من اعتماد هذا المفهوم اختزال التنوع الشديد في ضروب السرد وطرائقه إلى عدد محدود من الأنماط السردية التي تمثل الأشكال السردية الأساسية)(66)، وهو أيضاً محاكاة لمثال معين، تتوخى هذه المحاكاة ترسيخ ذلك الشكل(67) في بنية النص السردي، ومن ورائه مخيلة القارئ، وقد تجلى هذا المفهوم في شخصية أبي زيد السروجي فهو (ينتقل بين المساجد واعظاً، وفي السوق بائعاً وأمام القوافل دليلاً، وفي المجالس أديباً أو معلماً)(68)، وهو بهذه الأشكال بين الجد والتكسب والاستجداء والاحتيال، فشخصيته تتكرر بأردية مختلفة، في اغلبها تسعى إلى غاية واحدة هي كسب المال والسخرية من القائمين عليه، وهذا هو ظاهر الغاية، أما باطنها فهو المعالجة الاجتماعية عن طريق نقد المجتمع نقداً بناءً(69)، وما المقامات إلا وليدة مظاهر اجتماعية(70) ولذلك نجدها (صورة معبرة وصادقة في وصفها للحالة الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية التي كانت يحياها الفقراء والبسطاء والمعدمون)(71)، حاول الحريري أن يزج السروجي في خضم هذه المعالجات ليتحد معها ويكون نداً لها في آن واحد، وقد يظن البعض أن هذه معالجات قاصرة؛ لأنها قابلت بين السيئ والأسوأ منه، والأمر فيه نظر بل أني لأزعم أن الحريري كان من الذكاء في قمته، ومن الدهاء في ذروته حتى استطاع أن ينقل لنا أنساقا ثقافية بعيدة الغور بمختلف صورها واتجاهاتها، وفي الوقت ذاته استطاع أن ينأى بنفسه عن بطش السلطة السياسية الحاكمة، بل يمكننا إخضاع النص المقامي لنظرية التفاعل النصي(72) بين المؤلف والأنساق الثقافية المضمرة في البنى الاجتماعية السائدة من دون شك أو خلاف نقدي.

إن قراءة النص المقامي لا يمكن أن تكون فاعلة إذا لم تتجاوز بناءه السطحي المتمثل بالمضامين الظاهرة، وهي أشبه ما تكون بمعالجات الواقعية النقدية إلى قراءة واعية عميقة تستكشف خبايا هذا الركام الثقافي الذي وصلنا في غفلة من تابو السلطة، الذي ما زال بكرا إلى اليوم.

* * *

أنماط شخصية أبي زيد السروجي في مقامات التكسب والكدية
يمثل موضوع التكسب والكدية في مقامات الحريري موضوعاً ذات مضمون واحد فكلاهما إساءة، فالكدية هدر لكرامة الإنسان، والتكسب بالشعر والموهبة الإبداعية هدر لكرامة ذلك الفن الإنساني الجميل، ولذا نجد المتذوق العربي قديماً كان يُكرم الشاعر غير المتكسب وينزله المنزلة العليا.

يرى أحد الباحثين أن الكدية صفة ملازمة في مقامات الحريري، وهي عنده المرآة التي يعكس بها ظروف بطله وحنكته ودهائه(73) ويبدو أن الباحث قد جانب الصواب فيما ذهب إليه؛ لأن الكدية لم تستغرق كل مقامات الحريري بل جاءت في بعضها، ومن ثم فإن إظهار حنكة البطل ودهاءه لم يكن فقط في هذه المقامات، بل في كل المقامات سواء التي قامت على الاحتيال أم المضامين الجدية، ففي كل هذه المقامات نجد السروجي متقلدا موهبته وحنكته ولباقته.

إن شخصية السروجي في المقامات التي اعتمدت التكسب والكدية قامت على شخصيتين نمطيتين:

الأولى: نمط شخصية الأديب الموهوب الذي يجمع بين الشعر ومعرفة اللغة والقص والألغاز والأحاجي، وهي شخصية موسوعية أخذت من كل علم بطرف، وهي تنحو نحو التكسب بهذه الموهبة لا الكدية، والفرق بين المصطلحين واضح وجليّ؛ لأن الكدية تكون من دون مقابل، وهي تدخل ضمن (المسألة والسائل) في حقل التشريع الفقهي، أما التكسب فيتحقق بوجود عمل يقوم به الآخر سواء أكان المقايَضُ به مادياً أم معنوياً. ويتجلى هذا النمط من شخصية السروجي في المقامة القهقرية (وكانَ في بحبوحةِ حلْقَتِهِمْ، وإكْليلِ رُفقَتِهِمْ، شيخٌ قد برَتْهُ الهُمومُ.. إلا أنهُ كان يُبدي العُجابَ إذا أجابَ، ويُنْسي سحْبانَ كلّما أبانَ، فأُعجِبْتُ بما أوتيَ من الإصابَةِ، والتّبريزِ على تلكَ العِصابةِ، وما زالَ يفضَحُ كلَّ مُعمًّى ويُصْمي في كلّ مرْمًى إلى أن خلَتِ الجِعابُ ونفِدَ السّؤالُ والجوابُ، فلما رأى إنْفاضَ القوْمِ.. عرّضَ بالمُطارَحَةِ واستأذنَ في المُفاتَحةِ)(74)، فالوصف الذي جاء به النص يغني عن شرحه، فالسروجي كان في غاية الفصاحة والبلاغة ليتجاوز سحبان وائل أمير الفصاحة، متفنناً في الإجابة حتى انحاز إليه فكر القوم ليأخذهم بالمطارحة في فن البلاغة، فهو الذي يقود دفة الكلام فيُبل الحضور بألغازه وأحاجيه، والأمر كذلك نجده في المقامة النجرانية (إلى أن قالَ لهُمْ: يا قومِ إنّ الاحتِمالَ منْ كرَمِ الطّبْعِ، فعَدّوا عنِ اللّذْعِ والقَذْعِ، ثمّ هلُمّ إلى أن نُلغِزَ، ونُحكّمَ المُبرِّزَ، فسكنَ عندَ ذلِك توقُّدُهُمْ، وانحَلّتْ عُقدُهمْ)(75)، فالسروجي في هذه المقامة يتحداهم في عقر دارهم، وهو مستحكم من صنعته البلاغية، ممسك بزمام المبادرة ولكن بعدما أفرغ القوم ما في جعبتهم، أما معرفته باللغة وإتقانها بكلياتها وجزئياتها نجده في المقامة القطيعية (قال: فاسَفْهَمْنا العابثَ بالمَثاني، لِمَ نصَبَ الوصْلَ الأوّلَ ورفَعَ الثّاني؟ فأقْسَمَ بتُربَةِ أبَوَيْه، لقدْ نطَقَ بما اختارَهُ سيبوَيه، فتشَعّبَتْ حينئذٍ آراءُ الجمْع، في تجويزِ النّصبِ والرّفعِ.. واستعَرَ بينَهُمُ الاصطِخابُ.. حتى إذا سكنَتِ الزّماجِرُ.. قال: يا قومُ أنا أُنَبّئُكُمْ بتأويلِهِ، وأميّزُ صَحيحَ القوْلِ منْ عَليلِهِ، إنهُ لَيَجوزُ رفْعُ الوصْلَينِ ونصْبُهُما، والمُغايَرَةُ في الإعرابِ بينَهُما، وذلِكَ بحسَبِ اختِلافِ الإضْمارِ، وتقْديرِ المحْذوفِ في هَذا المِضْمارِ)(76)، فالسروجي هنا عالم في اللغة والنحو، فقه ما في كتاب سيبويه حتى فصل بين القوم في فك رموز المسألة، ومن هذا أيضاً ما جاء على لسان الحارث بن همام قائلا: (فورَدَ عليْنا من أحاجِيهِ اللاّتي هالَتْ لمّا انْهالَتْ، ما حارَتْ لهُ الأفكارُ وحالَتْ، فلمّا أعجزَنا العَوْمُ في بحرِهِ، واستسْلَمَتْ تَمائِمُنا لسِحْرِهِ، عدَلْنا منِ استِثْقالِ الرّؤيَةِ لهُ الى استِنْزالِ الرّوايَةِ عنهُ، ومِنْ بَغْيِ التّبرّمِ بهِ إلى ابتِغاء التعلّمِ منهُ فقال: والذي نزّلَ النّحْوَ في الكَلامِ منزِلَةَ المِلْحِ في الطّعامِ.. لا أنَلْتُكُمْ مَراماً ولا شفيْتُ لكُمْ غَراماً، أو تُخوّلَني كلُّ يدٍ ويخْتَصّني كلٌ منكُم بيَدٍ، فلمْ يبْقَ في الجماعةِ إلا منْ أذْعَنَ لحُكمِهِ ونبَذَ إلَيْهِ خُبْأةَ كُمّهِ، فلمّا حصلَتْ تحتَ وِكائِهِ أضرَمَ شُعلَةَ ذكائِهِ فكشَفَ حينئذٍ عن أسْرارِ ألْغازِهِ وبدائِعِ إعْجازِهِ)(77)، فالسروجي عالم باللغة سحر الجمع بعلمه حتى تحوّل هذا الجمع من ندًّ إلى تلميذ يتلقى علومه في اللغة والألغاز، إلا أن هذه التلمذة تتطلب تضحية اشترطها السروجي مسبقا قبل أن يدلو بدوله فكان له ما أراد وحقق مبتغاه عن طريق عرض الأحاجي وفك أسرارها، وقد برع في حلها وإظهار إعجازها، ونال ما نال من الجماعة، وهذا ما نجده في المقامات الأخرى إذ يتخذ السروجي من موهبته مصدر رزقه الذي قل، فلا وسيلة أمامه إلا هذا السبيل، ومن هذه المقامة المطلية(78)، والشيرازية(79)، والشتوية(80).

أما الشخصية النمطية الأخرى فهي شخصية الخطيب، وإن كانت هذه الشخصية يمكن أن تكون جزءاً من الشخصية الأولى لكن أفردنا لها في هذا المقام لكونها تشكل ظاهرة بارزة على مستوى المقامات كلها، وهي تأخذ مساحة أوسع من كل الشخصيات الأخرى، لذا نجد السروجي يعول على خطبه الوعظية التي مثّلت غرضاً أساسياً في مقامات الحريري(81)، وقد اختلف جمهور هذه الخطب، فتارة نجده يقف خطيباً مفوهاً يخطب بالناس، وأخرى يوجه كلامه إلى الحاكم أو القاضي، وهذا ما نجده في المقامة المروية (فحَيّا الوالي تحيّةَ المُحْتاجِ، إذا لقِيَ ربَّ التّاجِ، ثمّ قالَ لهُ: اعْلَمْ وُقيتَ الذّمّ.. أنّ مَنْ عُذِقَتْ بهِ الأعْمالُ، أُعْلِقَتْ بهِ الآمال. ومَنْ رُفِعَتْ لهُ الدّرَجاتُ، رُفِعَتْ إليْهِ الحاجاتُ. وأنّ السّعيدَ منْ إذا قدَرَ وواتاهُ القدَرُ، أدّى زكاةَ النِّعَمِ.. والتزَمَ لأهْلِ الحُرَمِ، ما يُلتزَمُ للأهْلِ والحرَمِ. وقد أصبحْتَ بحمدِ اللهِ عَميدَ مِصرِكَ، وعِمادَ عصْرِكَ. تُزْجى الرّكائِبُ إلى حرَمِكَ، وتُرْجى الرّغائِبُ منْ كرَمِكَ.. وتُستَنْزَلُ الرّاحةُ منْ راحَتِك)(82)، فالسروجي في هذا المقام يقف أمام الوالي مستجدياً في ظاهر الخطاب، لكنه على مستوى النسق المضمر يقف مطالباً بحقه، فـ(النصوص ليست خرساء لكي نستنطقها رغم شكلها الخطي المسطور على بياض الورقة.. إنها تبدو مأوى لجثث الكلمات.. تكون في الوقت نفسه قد امتلأت بالنداءات الغامضة..)(83)، ولاسيما أن السروجي قدم في خطبته المسوغات الشرعية والعرفية التي توجب حقه على الوالي، فهو الذي ترفع له الحاجات، وهو عميد الأمة وعماد العصر، وكأنه أراد القول: ولهذه الأسباب عليك أيها الوالي أن تلبي مطالبي، وهذا الأمر نجده أيضاً في المقامة التفليسية (قال: يا أولي الأبْصارِ الرّامِقَةِ، والبَصائِرِ الرّائِقَةِ، أمَا يُغْني عنِ الخبَرِ العِيانُ ويُنْبئُ عنِ النّارِ الدخانُ؟ شَيبٌ لائِحٌ ووهْنٌ فادِحٌ وداءٌ واضِحٌ والباطِنُ فاضِحٌ، ولقدْ كُنتُ واللهِ ممّنْ ملَكَ ومالَ ووَليَ وآلَ..فلمْ تزَلِ الجَوائِحُ تسْحَتُ، والنّوائِبُ تنْحَتُ حتى الوَكْرُ قَفْرٌ، والكفُّ صَفْرٌ.. والصّبْيَةُ يتَضاغَوْنَ من الطّوى، ويتمنّونَ مُصاصَةَ النّوى، ولمْ أقُمْ هذا المَقامَ الشّائنَ.. إلا بعْدَما شَقيتُ ولُقيتُ وشِبْتُ ممّا لَقيتُ، فلَيتَني لمْ أكُنْ بَقيتُ، ثمّ تأوّهَ تأوّهَ الأسيفِ)(84) فالسروجي حاول أن يستميل الناس بكل ما أوتي من فنون القول وأساليبه، فعرض حاله وحالة أبنائه مع تظلم وافتقار شديدين، فالفقر لم يُبق لديه من شيء وقد كان ذا جاه ومال، وما هي إلا برهة حتى تبلغ الخطبة تأثيرها على الناس، (فازْدَهى القومُ بذَكائِهِ ودهائِه. اختلَبَهُمْ بحُسْنِ أدائِهِ مع دائِهِ، حتى جمَعوا لهُ خَبايا الخُبَنِ، وخَفايا الثُّبَنِ)(85)، وهو في مقام الاحتيال على الجمع في ظاهر دلالته.

يعرض الحريري في مقام الخطب الوعظية وجوهاً مختلفة يتعرض لها الإنسان تؤدي إلى افتقاره، فالفقر يمكن أن ينال الغني مثلما ينال الفقير، ولذا علينا أن نعي الرسالة المبتغاة من هذه الالتفاتات الواعية بحفرياتها المعرفية، وهي أن آفة الفقر يمكنها أن تسحق الغني والكريم وميسور الحال وذا الملك على حدٍّ سواء ولا تقتصر على شخص دون آخر، سواء أكانت هذه الرسالة غاية الحريري أم لم تكن. ومن المقامات التي وظفت فيها الخطبة الوعظية لغرض الاستجداء المقامة الساوية(86)، والكرجية(87).

* * *

أنماط شخصية السروجي في المقامات الجدية

يمكننا حصر أدوار السروجي في هذا المضمون في ثلاث شخصيات نمطية:

- نمط شخصية الخطيب: وفيها يتبنى مهمة الإصلاح الاجتماعي الصادق؛ لأن هذه المقامات لا تقوم على الاحتيال وإنما على النوايا الحسنة والخيرة، فيوظف السروجي الخطبة في خدمة الغرض، وغايته هنا التوعية والتذكير بما سيؤول إليه حال الدنيا، وهذا ما نجده في المقامة الرّملية إذ إن السروجي ينادي الناس: (يا أهْلَ ذا النّادي، هلُمّ إلى ما يُنْجي يوْمَ التّنادي! فانْخرَطَ إليْهِ الحَجيجُ وانْصلَتوا، واحْتَفّوا بهِ وأنْصَتوا، فلمّا رأى تأثُّفَهُمْ حولَهُ.. قال: يا معْشرَ الحُجّاجِ، النّاسِلينَ منَ الفِجاجِ، أتَعْقِلونَ ما تُواجِهونَ، والى منْ تتوجّهونَ؟ أم تدرونَ على مَنْ تَقْدَمونَ، وعلامَ تُقدِمونَ؟ أتَخالونَ أنّ الحجّ هوَ اختِيارُ الرّواحلِ، وقطْعُ المراحِلِ؟ أم تظنّونَ أنّ النُسْكَ هوَ نَضْوُ الأرْدانِ، وإنْضاءُ الأبْدانِ.. والتّنائي عنِ البُلْدانِ؟ كلاّ واللهِ بل هوَ اجتِنابُ الخَطيّةِ، قبلَ اجْتِلابِ المطيّةِ، وإخلاصُ النّيّةِ، في قصْدِ تلكَ البَنِيّةِ)(88)، فالحريري في هذا الموقف وعلى لسان بطله السروجي يُعالج آفة تنخر في بنى التكوين المجتمعي ألا وهي آفات الرياء والنفاق والجهل -وما أحوجنا اليوم لهذا النصح– فهو يخاطب من عليه أن يكون أشد الناس التزاماً بهذا النصح، وهم يتجهون صوب مكة لغرض أداء مناسك الحج أو العمرة، فالسروجي يخلص في نصحه للحجاج، بل نكاد نشعر بهذا الإخلاص، ولاسيما أنه لا يبغي شيئاً سوى النصح، فركّز في خطبته على صدق الإنسان في نواياه لا فيما يفعله ابتغاء رياءٍ أو تجارة أو غرض آخر. ومن المقامات التي تناولت موضوعات الجد وفيها يبرز السروجي خطيباً هي المقامة السمرقندية (برزَ الخَطيبُ في أُهْبَتِهِ، مُتهادِياً خلْفَ عُصبَتِهِ، فارْتَقى في مِنبَرِ الدّعوةِ.. ثمّ قامَ وقال: الحمدُ للهِ الممْدوحِ الأسْماء.. أحمَدُهُ حمْدَ موَحِّدٍ مُسلِمٍ.. وهوَ اللهُ لا إلهَ إلا هوَ الواحِدُ الأحَدُ.. أرسَلَ محمّداً للإسْلامِ ممَهِّداً، وللمِلّةِ موطِّداً، ولأدِلّةِ الرّسُلِ مؤكِّداً، وللأسْوَدِ والأحْمَرِ مُسَدِّداً.. اعْمَلوا رَحِمَكُمُ اللهُ عمَلَ الصُلَحاء، واكْدَحوا لمَعادِكُمْ كدْحَ الأصِحّاء، وارْدَعوا أهْواءكُمْ ردْعَ الأعْداء، وأعِدّوا للرّحلَةِ إعدادَ السُعَداء.. وادّكِروا الحِمامَ وسَكْرَةَ مصْرَعِهِ، والرّمْسَ وهوْلَ مُطّلَعِهِ، واللّحْدَ ووحْدَةَ مودَعِهِ، والمَلَكَ وروْعَةَ سؤالِهِ ومَطْلَعِهِ)(89)، فالخطبة كلها في الوعظ والإرشاد، فالعمل الصالح، وكبح هوى النفوس، والاستعداد ليوم المعاد، وذكر الموت وسكراته، والقبر وأهواله والملك وسؤاله، هي مطالب يُذكر بها السروجي جمهوره، وهو لا يبغي من جراء ذلك مالاً أو جاهاً، وهذا ما نجده في المقامة البصرية أيضاً إذ يقف السروجي (فوْقَ صخْرَةٍ عالِيَةٍ، وقدْ عصيَتْ بهِ عُصَبٌ لا يُحْصى عديدُهُمْ، ولا يُنادَى وَليدُهُمْ)(90)، ليصدح بما جادت به قريحته قائلا:(يا أهْلَ البصرَةِ رعاكُمُ اللهُ ووقاكُمْ، وقوّى تُقاكُمْ، فما أضْوَعَ ريّاكُمْ، وأفضلَ مَزاياكُمْ! بلَدُكُمْ أوْفَى البِلادِ طُهرَةً وأزْكاها فِطرَةً، وأفسَحُه رُقعَةً، وأمرَعُها نُجعَةً، وأقوَمُها قِبلَةً، وأوسَعُها دِجلَةً وأكثرُها نهْراً ونَخلَةً.. لمْ يتدنّسْ ببُيوتِ النّيرانِ، ولا طِيفَ فيهِ بالأوْثانِ، ولا سُجِدَ على أديمِهِ لغَيرِ الرّحْمَنِ)(91)، إلى أن يصل إلى قصده وغايته (ولا مَنَّ لي عليكُمْ، إذْ ما سعَيْتُ إلا في حاجَتي، ولا تعِبْتُ إلا لراحَتي، ولسْتُ أبْغي أعطِيَتَكُمْ، بل أستَدْعي أدعِيتَكُمْ، ولا أسْألُكُمْ أموالَكُمْ، بل أستنزِلُ سُؤالَكُمْ، فادْعوا إلى اللهِ بتوْفيقي للمَتابِ)(92)، فالدعاء هو مراد السروجي ومنتاهه، فهو لا يبغي العطايا الزائلة، بل يستجدي الدعاء المستجاب بعدما أذنت الحياة بالزوال وبات خيط الدنيا مقطوعاً لا محال، فأين المآب، وهذا ما نجده أيضاً في المقامة الرازية(93)، والمقامة الصورية(94).

- نمط شخصية الأديب الموسوعي وفيها يجمع السروجي بين البلاغة والحكمة والشعر والنقد، فهو بليغ متمكن من أداته في المقامة النصيبية فـ(هوَ ينثُرُ منْ فيهِ الدُرَرَ، ويحتلِبُ بكفّيْهِ الدِّرَرَ، فوجدْتُ بها جِهاديَ قد حازَ مَغنَماً.. ولم أزلْ أتْبَعُ ظِلّهُ أينَما انبَعَث، وألتَقِطُ لفظَهُ كلّما نفثَ)(95)، فالسروجي في هذا النص بليغ عالم، فهو محط أنظار من حضر عيادته، وكما وصفه الحارث (فلَقينا منْهُ لَقًى، ولِساناً طلْقاً)(96)، وعلى الرغم من مرضه إلا أنه كان ذا حضور مميز ملك قلوب الحاضرين وأفكارهم، ولعل ذلك يتضح كثيراً في المقامة الرقطاء إذ إنَّ السروجي وأبناءه قد تفننوا في سبل القول وأفانينه(97) وهذا ما نجده في المقامة الفرضية، وبحسب وصف الحارث بن همام (فحَيّا بلِسانٍ عضْبٍ. وبَيانٍ عذْبٍ.)(98) فهو متمكن من البلاغة واللغة.

أما في ميدان النقد وتمييز جيد الكلام من رديئه، فنجد السروجى عالماً ناقداً في المقامة الفراتية (قال الشيخُ: لقدْ أكثرْتُمْ يا قوْمُ اللّغَطَ.. وإنّ جَليّةَ الحُكمِ عِندي، فارتَضوا بنقْدي، ولا تستَفْتوا أحداً بعْدِي، اعْلَموا أنّ صِناعَةَ الإنْشاء أرْفَعُ، وصِناعَةَ الحِسابِ أنفَعُ، وقلَمَ المُكاتَبَةِ خاطِبٌ، وقلَمَ المُحاسَبَةِ حاطِبٌ، وأساطيرَ البَلاغَةِ تُنسَخُ لتُدْرَسَ. ودساتيرَ الحُسْباناتِ تُنسَخُ وتُدرَسُ. والمُنشِئُ جُهَينَةُ الأخْبارِ. وحقيبةُ الأسْرارِ. ونَجيُّ العُظماء. وكَبيرُ النُّدَماء. وقلَمُهُ لِسانُ الدولَةِ. وفارِسُ الجولَةِ. ولُقْمانُ الحِكمَةِ. وتَرْجُمانُ الهِمّةِ.. والشّفيعُ والسّفيرُ. بهِ تُستَخْلَصُ الصّياصي. وتُملَكُ النّواصي. ويُقتادُ العاصي. ويُستَدْنى القاصي. وصاحِبُهُ بريءٌ من التّبِعاتِ.. غيرُ معرَّضٍ لنَظْمِ الجِماعاتِ.. فعقّبَ كلامَهُ بأنْ قال: إلا أنّ صِناعَة الحِسابِ موضوعةٌ على التّحقيقِ. وصَناعَةَ الإنشاءِ مبنيّةٌ على التّلْفيقِ.. وقلَمَ الحاسِبِ ضابِطٌ. وقلمَ المُنشِئ خابِطٌ.. ولوْلا قلَمُ الحُسّابِ لأوْدَتْ ثمرَةُ الاكتِسابِ. ولاتّصَلَ التّغابُنُ الى يومِ الحِسابِ.. أنّ يَراعَ الإنْشاء متَقوِّلٌ. ويَراعُ الحِسابِ متأوِّلٌ. والمُحاسِبُ مناقِشٌ. والمُنشِئُ أبو بَراقِشَ. ولكِلَيْهِما حُمَةٌ حينَ يرْقَى. إلى أنْ يُلْقى ويُرْقى.)(99)، فالسروجي هنا ناقد متفرد عالم بالصناعات، وهو بصدد المقارنة بين صناعة الحساب وصناعة الإنشاء، بيد أنه يأخذ الصناعتين من وجوههما الايجابية، وكلاهما في وظيفته أفضل، فرفعة الإنشاء تقابلها منفعة الحساب، وصاحب الإنشاء نجي العظماء وسفير الدولة وترجمان الحكمة وغيرها من الصفات التي عددها، وفي صاحب الحساب مقرون بالتحقيق والتصديق والضبط على خلاف صناعة الإنشاء التي تقوم على الكذب والتلفيق وغيرها من الصفات.

يفصح النص عن جملة من الأنساق الثقافية التي يقرّها الخطاب الثقافي العام، المؤلف الأول لكل النصوص الإبداعية؛ لأن (النص السيري أو الخبري أو المقامي أو الشعري بأنماطه الجدية والهزلية أو غيرها، إنما هو تفريع للنص الأكبر، وتنويع على النص االنموذج؛ إنه في النهاية "نص ثقافي")(100)، ومن هذه الأنساق الصراع الفكري بين أرباب الصناعات والعلوم، ومحاولة أصحاب كل فكر وصناعة النيل من الفكر الآخر وبشتى الوسائل، فضلا عن تأرجح النقاد والحكام في تبنّي هذه الصناعة دون غيرها، فلديهم القدرة على استدعاء البراهين والأدلة لنصرة هذه الصناعة دون غيرها بغض النظر عن حقيقة هذه الصناعة ومدى إيمانهم بمقدرتها ومبادئها(101)، وقد كشف الحريري هذا التناقض عندما مدح صناعة الإنشاء، ومن ثم عاد فذم أرباب هذه الصناعة عندما قال: إنّ يَراعَ الإنْشاء متَقوِّلٌ.. وصَناعَةَ الإنشاءِ مبنيّةٌ على التّلْفيقِ.. وقلمَ المُنشِئ خابِطٌ.. والمُنشِئُ أبو بَراقِشَ.

وشخصية الناقد نجدها أيضاً في المقامة المراغية، وفيها يدلو بدلوه بقضية القديم والحديث النقدية؛إذ يقول: (أنَسيتُمْ يا جَهابِذَةَ النّقْدِ.. ما أبْرَزَتْهُ طَوارِفُ القَرائِحِ، وبرّزَ فيهِ الجذَعُ على القارِحِ، منَ العِباراتِ المهَدَّبَةِ، والاستِعاراتِ المُستَعْذَبَةِ، والرّسائِلِ الموشّحَةِ، والأساجيعِ المُستَمْلَحَةِ? وهلْ للقُدَماء إذا أنعَمَ النّظَرَ مَنْ حضَرَ غيرُ المَعاني المطْروقَةِ المَوارِدِ، المعْقولَةِ الشّوارِدِ، المأثورَةِ عنهُمْ لتَقادُمِ المَوالِدِ، لا لتقدُّمِ الصّادِرِ على الوارِدِ)(102) في هذا النص يفصح الحريري عن رأيه في إحدى أهم القضايا النقدية التي وقف عندها النقد العربي القديم ومنذ زمن مبكر ألا وهي قضية القديم والحديث.

يستنتج من النص السابق أن الحريري كان من أنصار المحدثين الذين تبنّوا ما جاء به أبو تمام من استعارات بعيدة الدلالة كثيرة التوظيف، فضلا عن ظاهرة التزويق اللفظي الذي شاع في عصر الحريري، وحجته أن ما جاء به القدماء من المعاني معروف متداول فلا جدة فيه، وبحسب القراءة التأويلية لهذا النص، وفي موضع آخر يصف الحارث بن همام موهبة السروجي قائلا: (فلمّا فرَغَ منْ إمْلاءِ رِسالَتِهِ، وجلّى في هَيْجاء البَلاغَةِ عنْ بَسالَتِهِ، أرضَتْهُ الجماعَةُ فِعْلاً وقوْلاً، وأوْسَعَتْهُ حَفاوَةً وطَوْلاً)(103)، والنص يفصح عن مهارة السروجي في القول والإنشاء مشفوعاً بالعطايا التي كان يسعى جاهدا للحصول عليها، فالنص المضمر الذي يمكن استنتاجه هنا هو أن عملية التكسب بفنون القول والموهبة الإبداعية كانت من الأمور التي اعتادها الناس، وليس من حرج في الأمر، ولاسيما أن الإعجاب قد ترجم إلى القول والفعل. ومن المقامات الأخرى التي جاء بها السروجي بلباس الأديب الموسوعي المقامة الحلبية(104)، والمكية(105) وفيهما نجده يقول الشعر مضمناً إياه أروع أساليب القول.

- نمط شخصية الناقد الاجتماعي ونريد بالناقد الاجتماعي، الشخص الذي خبر ماهية علاقات الناس مع بعضهم، وخبر كيفية تعامل بعضهم مع البعض الآخر. فالحريري عن طريق شخصية أبي زيد السروجي يحاول الوقوف على هذه العلاقات وكيفية بنائها، وهذا ما نجده في المقامة السنجارية(106) عن طريق اختلاق حوار بين الشخصية الرئيسة واحدى الشخصيات الثانوية، وفي المقامة الديمياطية يحاور ابنه، مبتدئا بالاستفهام: (كيفَ حُكْمُ سيرَتِكَ، معَ جيلِكَ وجيرتِكَ؟ فقال: أرْعَى الجارَ ولوْ جارَ، وأبذُلُ الوِصالَ لمَنْ صالَ، وأحْتَمِلُ الخَليطَ ولوْ أبْدى التّخليطَ، وأودّ الحَميمَ ولو جرّعَني الحَميمَ، وأفضّلُ الشّفيقَ على الشّقيقِ، وأفي للعَشيرِ وإنْ لمْ يُكافئْ بالعَشيرِ.. وأُحِلّ أنيسي محَلّ رَئيسي، وأُودِعُ مَعارِفي عَوارِفي، وأُولي مُرافِقي مَرافقي، وأُلينُ مَقالي للقالي، وأُديم تَسْآلي عنِ السّالي.. وأقْنَعُ منَ الَجزاء بأقَلّ الأجزاء، ولا أتظلّمُ حينَ أُظلَمُ، ولا أنْقَمُ ولو لدَغَني الأرقَمُ)(107)، حرص الحريري في النص على استدعاء الصفات التي أقرها التشريع الإسلامي، وبها نُظمت علاقة الإنسان بنظيره ابتداءً من علاقة الجوار وصولا إلى علاقة الإنسان بذاته. ويبدو أن المؤلف كان على وعي تام بأهمية هذا الموضوع، ولاسيما أن (المقامات نوع من السرد المخادع، فخلف الجدة الظاهرة، والوقار اللفظي والأسلوبي يقبع هزل عميق غير ظاهر، أول مظاهر ذلك الهزل قلب الحقائق وتمويهها)(108)، فهو ينقل لنا مشهداً سردياً لظاهرة اجتماعية انقلبت فيها الموازين، إذ يتحول الابن إلى الجهة التي يفترض أن يكون الأب فيها بحكم خبرته الحياتية، ولذا نراه ينقل لنا وجهة نظر الأب من هذه القضية وهي وجهة سلبية، وفي نص آخر في المقامة ذاتها نجد السروجي ينتفض معترضاً على ولده قائلا: (ويْكَ يا بُنيّ إنّما يُضَنّ بالضّنينِ، ويُنافَسُ في الثّمينِ، لكِنْ أنا لا آتي غيرَ المُؤاتي)(109)، فهو يوجه علاقة ولده مع الآخرين باتجاه خاطئ، إذ يؤشر إلى نسق ثقافي خطير يضرب بجذوره في عمق التكوّن المجتمعي العربي لظاهرة طالما استشرت في مجتمعاتنا بحكم الجهل والتجهيل وغياب الوعي الإنساني والإسلامي على السواء، وهذا الأمر نجده أيضاً في الوصايا التي كان يوصى بها ولده، ولاسيما في المقامة الحرامية(110)، فكانت مواثيق في علاقات الناس مع بعضهم من وجهة نظره التي أراد إيصالها للقراء عن طريق شخصيته أبي زيد السروجي.

* * *

أنماط شخصية أبي زيد السروجي في مقامات الاحتيال
تنماز هذه المقامات بكون الشخصية الرئيسة لا تأتي منفردة بل بمعية شخص آخر، كأن يكون ابنه أو زوجته في الأغلب، ويمكننا عدّ هذه الشخصيات فواعل رئيسة في هذا النوع من المقامات؛ لكونها تزاحم الشخصية الرئيسة في تأثيرها على المشهد السردي، لذا نجد شخصية السروجي تكاد تكون متماثلة في عموم هذا النوع من المقامات؛ لأن مبادرة الحدث السردي ليس بيدها وحدها.

يقع الاحتيال فيها على فئتين من الناس تمثلان مرسلا إليه في ظاهر الأمر، أما حقيقته فهي السلطة الحاكمة بمختلف توصيفاتها: أولى هاتين الفئتين هم القضاة والولاة ويأخذ هذا الخطاب مساحة أوسع في بنية النص المقامي بمجموعه؛ إذ يشكل نسبة كبيرة مقارنة بالموضوعات الأخرى.

ويبدو أن ما دفع الحريري ليتخذ من هؤلاء ضحايا لأبي زيد كونهم يمثلون السلطة الحاكمة، فهو يحمّل هؤلاء مسؤولية تردّي الأوضاع، أو أنهم أحد أسباب تردّيها، فالسلطة القضائية والسياسية هما المسؤول الأول أمام الله سبحانه وتعالى وأمام المجتمع عن هذا التردي، فأراد الحريري أن يبين فساد هذه السلطة وعدم أهليتها في مسك زمام إدارة أحوال الناس، وفي الوقت ذاته عمل على إيصال فكرة إمكانية هزيمة هذه السلطة والنيل منها ولو بأبسط الطرق ومن أضعف المخلوقات في المجتمع. فكان الحريري يوظف أكثر من شخصية لإحكام عملية الاحتيال، وهذا ما نجده في المقامة الصعديّة (إذ دخَلَ شيخٌ بالي الرّياشِ. بادِي الارتِعاشِ. فتبصّرَ الحفْلَ تبصُّرَ نقّادٍ. ثم زعَمَ أنّ لهُ خصْماً غيرَ مُنقادٍ. فلمْ يكُنْ إلا كضَوْء شَرارَةٍ.. حتى أُحضِرَ غُلامٌ. كأنّهُ ضِرْغامٌ. فقال الشيخُ: أيّدَ اللهُ القاضيَ.. إنّ ابْني هذا كالقَلَمِ الرّديّ. والسيفِ الصّدِيّ. يجهَلُ أوْصافَ الإنصافِ. ويرْضَعُ أخلافَ الخِلافِ. إنْ أقدَمتُ أحجَمَ. وإذا أعرَبْتُ أعجَمَ. وإنْ أذْكَيْتُ أخْمَدَ.. معَ أنّي كفَلْتُهُ مُذْ دَبّ. إلى أن شبّ. وكنتُ لهُ ألْطَفَ مَنْ ربّى ورَبَّ.)(111)، فالسروجي يشكو سوء خلق ولده إلى القاضي بعقوقه له، مستعرضاً مفاصل رعايته منذ كان طفلا حتى صار شاباً مصورا هذا الابن وكأنه الند للوالد، ولذا نجده يتمكن من استدراج القاضي(فأكْبَرَ القاضي ما شَكا إليْهِ. وأطْرَفَ بهِ منْ حَوالَيْهِ. ثمّ قال: أشْهَدُ أنّ العُقوقَ أحدُ الثُّكْلَينِ. ولَرُبّ عُقْمٍ أقَرُّ للعَينِ)(112)، لكن الابن ينكر ذلك مدافعاً عن نفسه قائلاً: (والذي نصَبَ القُضاةَ للعدْلِ.. إنّه ما دَعا قَطُّ إلا أمّنْتُ. ولا ادّعى إلا آمَنْتُ. ولا لَبّى إلا أحْرَمْتُ. ولا أوْرَى إلا أضْرَمْتُ. بيْدَ أنهُ كمَنْ يبْغي بيْضَ الأنُوقِ. ويطْلُبُ الطّيَرانَ منَ النّوقِ! فقالَ لهُ القاضي: وبِمَ أعْنَتَكَ. وامتَحَنَ طاعتَكَ؟ قال: إنهُ مُذْ صَفِرَ منَ المالِ. ومُنِيَ بالإمْحالِ. يسومُني أنْ أتلَمّظَ بالسّؤالِ.. وقد كانَ حينَ أخذَني بالدّرْسِ. وعلّمَني أدَبَ النّفْسِ. أشْرَبَ قلْبي أنّ الحِرْصَ مَتعَبَةٌ. والطّمَعَ معْتَبَةٌ.. والمسألَةَ مَلأمَةٌ)(113) وبهذا الأسلوب الأخاذ يمتلك الغلام قلب القاضي، فالحجة قوية والمسألة معيبة، وبذا تكون سهام السروجي قد أصابت وعلِق القاضي بشباكه، فما عليه إلا رعاية هذا الصيد الوفير حتى يتمكن الوالد والولد منه، وعندما أحس السروجي غضب القاضي لمراوغته، أنشد في مدح عدله بعد أن استحكم عطاياه، و(علِمَ أنّهُ سينصُرُ كلِمَتَهُ. ويُظهِرُ أُكرومَتَهُ. فما كذّبَ أنْ نصَبَ شبكَتَهُ. وشوَى في الحَريقِ سمكَتَهُ. وأنْشأ يقول:

يا أيّها القاضي الذي عِلـمُـهُ * * وحِلمُهُ أرسَخُ منْ رَضْـوَى

قدِ ادّعى هَذا على جـهـلِـهِ * * أنْ ليسَ في الدُنيا أخو جَدوى

وما دَرَى أنكَ منْ معـشَـرٍ * * عطاؤهُمْ كالمَنِّ والسّـلْـوى

فجُدْ بِم يَثْنيهِ مُـسـتَـخـزِياً * * مما افتَرى من كذِبِ الدّعوى

وأنثَني جَذْلانَ أُثْـنـي بـمـا * * أولَيتَ من جَدوى ومن عَدوى

قال: فهَشّ القاضي لقولِهِ. وأجزَلَ لهُ منْ طولِهِ.)(114)، وقد وصف الحارث انصراف السروجي بعد أن نال عطية القاضي بفعل احتياله فقال: (فأبْدى حينَئِذٍ الاهْتِشاشَ ورفَعَ الارتِعاشَ. وقال: منْ كاذَبَ أخاهُ فلا عاشَ! فعرَفْتُ عندَ ذلِكَ أنهُ السَّروجيُّ بِلا مَحالَةٍ ولا حُؤولِ حالَةٍ. فأسرَعْتُ إليْهِ لأصافِحَهُ، وأستَعْرِفَ سانِحَهُ وبارِحَهُ. فقال: دونَكَ ابنَ أخيكَ البَرَّ، وترَكَني ومَرَّ)(115)، بهذا العرض الدرامي الذي ضم ابرز مكونات المشهد السردي في هذه المقامة، يمكننا أن نصفه بنص مسرحي توافرت فيه أغلب المتطلبات الدرامية من شخصيات ومكان وحوار وعقدة وحركة تمثيلية(116)، أحكمها المؤلف غاية الإحكام، ويمكننا بهذا النص أن ندلل على أن ظاهرة تداخل الأجناس لم تكن وليدة العصر الحديث، بل يمكن اثبات وجودها في النص المقامي العربي الذي لا تتشكل هويته بجنس أدبي خالص فهو أجناس شتى. ومن المقامات الأخرى التي قامت على ثيمة الاحتيال المقامة المعرّية (تقدّم خَصْمانِ إلى قاضي مَعرّةِ النّعمانِ. أحدُهُما قدْ ذهَبَ منْهُ الأطْيَبانِ. والآخَرُ كأنّهُ قَضيبُ البانِ.)(117)، وغير بعيد عن فحوى المقامة الصعديّة تقوم أحداث المقامة المعرّية فيقع القاضي ضحية أحبولة بطليها السروجي وابنه، والأمر كذاك في المقامة الشعرية إلا أن حلبة الاحتيال تتبدل، والمرسل إليه يختلف في مسماه لا في وظيفته، بوصفه ممثلا عن السلطة، وإذا بمشهد (دراماتيكي) يقوم على الجلبة يجتاح الفضاء الخارجي لدار الولاية حيث ُ(فُرْسانٌ مُتتالونَ ورِجالٌ مُنثالونَ، وشيْخٌ طويلُ اللّسانِ قصيرُ الطّيلَسانِ. قد لَبّبَ فتًى جَديدَ الشّبابِ، خلَقَ الجِلْبابِ.)(118)، فهذا المشهد هو بداية لأحبولة يقوم بها السروجي وابنه على الوالي، فيبدأ بسرد حججه (إني كفَلْتُ هذا الغُلامَ فَطيماً. وربّيتُهُ يَتيماً.. فلمّا مهَرَ وبَهَرَ. جرّدَ سيْفَ العُدْوانِ وشَهَرَ. ولمْ إخَلْهُ يلْتَوي عليّ ويتّقِحُ. حينَ يرتَوي مني ويلْتَقِحُ)(119)، فردَّ عليه الغلام (عَلامَ عثَرْتَ مني. حتى تنشُرَ هذا الخِزْيَ عني؟ فوَاللهِ ما ستَرْتُ وجْهَ بِرّكَ. ولا هتَكْتُ حِجابَ سِتْرِكَ. ولا شقَقْتُ عَصا أمرِكَ.)(120) وحجة القيام في هذه المقامة تتمثل بقول السروجي:(ويْلَكَ وأيُّ رَيْبٍ أخْزى منْ رَيْبِكَ. وهلْ عيبٌ أفحَشُ منْ عيبِكَ؟ وقدِ ادّعيتَ سِحْري واستَلْحَقتَهُ. وانتحَلْتَ شِعْري واستَرَقتَهُ؟ واستِراقُ الشّعرِ عندَ الشّعراء. أفظَعُ منْ سرِقَةِ البَيْضاء والصّفْراء.)(121) وبعد سباق في ميدان النقد استحكم الوالي من ذنب الفتى وقال له: (تبّاً لكَ منْ خِرّيجٍ مارِقٍ. وتِلميذٍ سارِقٍ!)(122) وبعد مطارحات في ميدان القول -نزولا على حكم الوالي- بين السروجي وابنه بقصد الاختبار، أعجب الوالي بالفتى وترجى الشيخ بالصفح عنه، وفي ذروة الحدث السردي يلملم السروجي أطراف شباكه متهيأً للظفر وقد قرأ بحنكته، ما يدور في مخيلة الوالي قائلاً ومعللاً: (والذي زيّنَ السّماء بالشُّهُبِ. وأنزلَ الماء من السُّحُبِ. ما روْغي عنِ الاصْطِلاحِ. إلا لتَوْقّي الافتِضاحِ. فإنّ هذا الفتى اعْتادَ أن أمونَهُ. وأُراعيَ شُؤونَهُ. وقد كانَ الدهرُ يسُحّ. فلمْ أكُنْ أشُحّ. فأمّا الآنَ فالوقْتُ عَبوسٌ. وحشْوُ العيْشِ بوسٌ. حتى إنّ بِزّتي هذه عارَةٌ. وبيْتي لا تَطورُ بهِ فارَةٌ.. فرَقّ لمَقالِهما قلبُ الوالي. وأوى لهُما من غِيَرِ اللّيالي. وصَبا إلى اختِصاصِهِما بالإسعافِ.)(123) في النص المتقدم ينبري السروجي، وقد عركته المواقف ليستحوذ على عقل الوالي وماله في وقت واحد بعدما اجتهد في القول والوقت معا، فنال مراده وانصرف منتصراً.

أما حضور الزوجة فنجده في المقامة الإسكندرية؛ إذ قال الحارث بن همام يصف: (فبَينَما أنا عِندَ حاكِمِ الإسكنْدَريّةِ. في عشيّةٍ عرِيّةٍ. وقد أحضَرَ مالَ الصّدَقاتِ. ليَفُضّهُ على ذوي الفاقاتِ. إذْ دخَل شيخٌ عِفْرِيَةٌ. تعْتُلُهُ امرأةٌ مُصْبِيَةٌ. فقالت: أيّدَ اللهُ القاضيَ.. إني امرأةٌ من أكرَمِ جُرثومَةٍ.. وأشرَفِ خُؤولَةٍ وعُمومَةٍ. مِيسَمي الصَّونُ.. وخُلُقي نِعْمَ العَوْنُ.. وكان أبي إذا خطَبَني بُناةُ المجْدِ.. سكّتَهُم وبكّتَهُم. وعافَ وُصلَتَهُمْ وصِلَتَهمْ. واحتجّ بأنّهُ عاهَدَ اللهَ تَعالى بحَلْفَةٍ. أن لا يُصاهِرَ غيرَ ذي حِرفَةٍ. فقيّضَ القدَرُ لنَصَبي.. أنْ حضَرَ هذا الخُدَعَةُ ناديَ أبي. فأقسَمَ بينَ رهْطِهِ. أنّهُ وَفْقُ شرْطِهِ. وادّعى أنهُ طالَما نظَمَ دُرّةً الى دُرّةٍ. فباعَهُما ببَدْرَةٍ. فاغْتَرّ أبي بزَخرَفَةِ مُحالِهِ. وزوّجَنيهِ قبْلَ اختِبارِ حالِه)(124)، وحينما يسأل القاضي الشيخ برهانه يسترسل منشدا في حال الأدب وما صار إليه في ذلك الوقت من الكساد والضعة، فيستميل قلب القاضي ويحكم بصدقه لحسن حديثه وإنشاده على الرغم من تعاطف القاضي مع الفتاة في مشروعية شكواها، فخاطبها بخطاب فحواه الصبر على الابتلاء قائلا: (وإني لأخال بعْلَكِ صَدوقاً في الكلامِ. برِيّاً من المَلامِ. وها هو قدِ اعتَرَفَ لكِ بالقَرْضِ.. وتبيّنَ أنّه مَعروقُ العظْمِ. وإعْناتُ المُعْذِرِ مَلأمَةٌ.. وكِتْمانُ الفَقْرِ زَهادَةٌ. وانتِظارُ الفَرَجِ بالصّبرِ عِبادَةٌ. فارْجِعي الى خِدرِك.. وسلّمي لقَضاءِ ربّكِ. ثمّ إنّهُ فرضَ لهُما في الصّدقاتِ حِصّةً. وناوَلَهُما منْ دَراهِمِهما قَبصَةً. وقال لهُما: تعلّلا بهذه العُلالَةِ.. واصْبِرا على كيْدِ الزّمانِ وكدّهِ.. فنَهَضا وللشّيخِ فرْحَةُ المُطْلَقِ من الإسارِ. وهِزّةُ الموسِرِ بعْدَ الإعْسارِ)(125)، وبهذا ينجح السروجي من تمرير هذه الأحبولة على قاض آخر مستغلا ذكاءه وفطنته. وهذه المشاهد المسرحية تكررت في مقامات عدة ولاسيما التي تتخذ من ثيمة الاحتيال مضمونا لها، كما في المقامات التبريزية(126) والرملية(127) والبكرية(128).

وهنالك احتيال يكون ضحاياه الناس أنفسهم عن طريق التعامل اليومي، وفضاؤه السوق والخان وطريق السفر، وفيه يأتي السروجي منفرداً، كما في المقامة الفاروقية والحديث على لسان الحارث بن همام (وقفَ علَيْنا ذو مِقْوَلٍ جريّ. وجرْسٍ جهْوَريّ. فحَيّا تحيّةَ نفّاثٍ في العُقَدِ. قنّاصٍ للأسَدِ. والنّقَدِ.)(129)، وبعد أن نصب السروجي فخّه وشباكه استطاع أن يخدع الجميع بتباكيه واستغاثته من هول ما مرّ به (فلمّا بصُرَتِ الجَماعَةُ بذِلاقَتِهِ. ومرارَةِ مَذاقَتِهِ. رفأهُ كُلٌ منْهُمْ بنَيْلِهِ.واحتَمَلَ طلَّهُ خوْفَ سيْلِهِ. قال الحارثُ بنُ همّام: وكان هذا السّائلُ واقِفاً خلْفي. ومُحتَجِباً بظهْري عنْ طرْفي. فلمّا أرْضاهُ القومُ بسَيْبِهِمْ. وحقّ عليّ التّأسّي بهِمْ. خلَجْتُ خاتَمي من خِنصِري. ولفتّ إليهِ بصَري. فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيُّ بِلا فِريَةٍ. ولا مِرْيَةٍ. فأيقَنْتُ أنّها أُكذوبَةٌ تكذَّبَها. وأُحبولَةٌ نصبَها.)(130).

يبدو لنا أن الحريري قد أجاد استثمار شخصية أبي زيد السروجي بكل عن طريق حمولاتها الثقافية والاجتماعية والنفسية، فهو يصوب سهام نقده نحو الشخصية العربية بماديتها ونفاقها حفرياته في بعدها النفسي، ليسبر أغوار تلك الشخصية بوصف أن شخصية السروجي تمثل أنموذجاً ينتمي إلى بنية اجتماعية، شرعنت في دواخلها وبتعليلات واهية كل التناقضات المنبوذة من قبل الدين والنموذج المثال للحقيقة الإنسانية بوصفها بذرة لم تخضع لاستباحات البنى العرفية.

* * *

المبحث الرابع/ تحولات شخصية أبي زيد السروجي
لعل من نافلة القول: إن شخصية السروجي هي الشخصية الأكثر حضوراً في مقامات الحريري، وعليها يقوم الحدث المقامي، وهي شخصية حاضرة في كل المقامات خلافاً لشخصية أبي الفتح الاسكندري التي غابت عن بعض مقامات الهمذاني(131)، وعلى الرغم من هذا الحضور المميز إلا أنها شخصية غير نامية براقشية على حدّ وصف عبد الفتاح كليطو لها، أي لا يمكن تركيب أجزائها؛ وذلك لفقدان الحدث المركزي الذي يربط بين مقامة وأخرى(132)، وهذا ليس عيباً بقدر ما هو خصيصة اتسمت بها المقامات بشكل عام، فلا وجود لرابط سردي يوصل بين مقامة وأخرى، وإذا ما أردنا تلمس هذا التحول لابد أن نبحث عنه في المقامة الواحدة، وهذا أيضا لا يتوافر في مجمل مقامات الحريري، وإن توافر فأنه لا يتسم بالثبات، فهو مراوغ نتيجة لطبيعة الحدث السردي في المقامة ذاتها؛ لكن الذي نؤثره في هذا المقام هو التحول الجوهري الذي طرأ على شخصية أبي زيد في المقامة البصرية، ويبدو لنا أنها مركز إشعاع أتى بتوهجه على كل الأحداث السردية التي ضمتها مجمل المقامات الأخرى، إذا لم نقُل كلها وعلى المستويين المختلف والمؤتلف، وبذا نجدها تصلح لدراسة هذه الظاهرة النقدية، فهذه المقامة تمثل النصف الآخر المختلف عن المقامات الأخرى على مستوى سلوك الشخصية، والمؤتلف على مستوى رد الفعل وماهية السرد القصصي.

إن مخيلة الحريري تدعونا إلى قراءة السلوك المتأرجح بين مختلف الثيمات التي جاءت في متون المقامات التي سبقت المقامة البصرية على أنه أشبه بالمراحل العمرية التي يمر بها الإنسان ويكون فيها على غير هدى لتأتي هذه المقامة لتكون صرخة تصحيح المسار، فهي الندم على ما فات والتوبة منه، ولاسيما أن السروجي تعلق في هذه المقامة بالصلاة والاستغفار والموعظة، وترك الدنيا بما فيها؛ لشعوره بقرب المأتى والورود، لذا نرى أن التحول الحقيقي لهذه الشخصية يكون في هذه المقامة، على الرغم من وجود صيحات الندم والتوبة في بعض المقامات التي اعتمدت الجد عن طريق الخطب الوعظية، إلا أنها لا تشكل تحولا حقيقيا في مسيرة شخصية السروجي؛ لكونها سرعان ما يجهضها الحدث المقامي المتتالي.

يبدو أن الحريري كان على وعي تام بمضمون المقامة البصرية من حيث البعد الزمكاني على مستوى فضاء الكتابة، وعلى تتابعية هذه المقامة زمنياً واتخاذها نهاية لمطاف كتابة هذا النص، وموعدا لإعلان توبة السروجي، فكانت على مستوى المضمون مراجعة سلوكية سردية لسيرة السروجي على مدى المقامات كلها، فهي بمثابة منبر إعلامي أعلن فيه السروجي توبته الأبدية.

لو عدنا إلى نص المقامة البصرية لوجدنا آيات ما ذهبنا إليه جلية عند التدبر، فالحارث بن همام يرى ([ذا] أطْمارٍ بالِيَةٍ. فوْقَ صخْرَةٍ عالِيَةٍ. وقدْ عصيَتْ بهِ عُصَبٌ لا يُحْصى عديدُهُمْ. ولا يُنادَى وَليدُهُمْ. فابتَدْتُ قصْدَهُ.. ورجَوْتُ أنْ أجِدَ شِفائي عندَهُ. ولمْ أزَلْ أتنقّلُ في المَراكِزِ.. إلى أن جلسْتُ تُجاهَهُ. بحيْثُ أمِنْتُ اشْتِباهَهُ. فإذا هوَ شيخُنا السّروجيّ لا ريْبَ فيهِ. ولا لَبْسَ يُخْفيهِ.)(133)، في هذا النص مفارقة وهي أن الحارث ولأول مرة يلتقي السروجي وجهاً لوجه، وهو على حقيقته بلا أدوات الاحتيال المعهودة، فلابد أن في الأمر شيئاً ما. ثم يشرع السروجي في خطبتة وأمام هذا الجمهور الكثير بالتعريف عن نفسه بعدما بيّن فضائل البصرة وأهلها فقال: (أما أنا فمَنْ عرَفَني فأنا ذاكَ.. ومنْ لم يُثْبِتْ عِرْفَتي فسأصْدُقُهُ صِفَتي. أنا الذي أنجدَ وأتهَمَ. وأيمَنَ وأشأمَ. وأصْحرَ وأبحَرَ.. نشأتُ بسَروجَ. ورَبيتُ على السُّروجِ. ثمّ ولَجْتُ المَضايقَ. وفتحْتُ المغالِقَ. وشهِدْتُ المَعارِكَ.. سَلوا عني المشارِقَ والمَغارِبَ.. والمَحافِلَ والجَحافِلَ. والقَبائِلَ والقَنابِلَ. واستَوْضِحوني منْ نقَلَةِ الأخْبارِ. ورُواةِ الأسْمارِ. وحُداةِ الرُكْبانِ.. لتَعْلَموا كمْ فجٍّ سلَكْتُ.. ومَلحَمَةٍ ألْحَمْتُ. وكمْ ألْبابٍ خدَعْتُ. وبِدَعٍ ابتَدَعْتُ. وفُرَصٍ اختلَسْتُ.. واستَنْبَطْتُ زُلالَهُ بالخُدَعِ. ولكِنْ فرَطَ ما فرَطَ والغُصْنُ رَطيبٌ. والفَوْدُ غِرْبيبٌ. وبُرْدُ الشّبابِ قَشيبٌ.)(134).

نجد في هذا النص المقتطع من المقامة البصرية ترميزا عميقاً لمجمل مسيرة السروجي، وهو يمثل إيقونة الحريري الدالة على الشخصية العربية آنذاك، إذ شرع السروجي بسرد مغامراته الحياتية، وهو في ريعان شبابه، وكأنه يستعرض لنا مجمل مسيرته وسلوكه في المقامات التي سبقت هذه المقامة، إذ لم يترك هنة أو ضعة إلا وذكرها، فالمقام مقام مراجعة لمسيرة حياة بكاملها ليصل إلى الآن واللحظة (وقدِ استشَنّ الأديمُ. وتأوّدَ القَويمُ. واستَنارَ اللّيلُ البَهيمُ. فليْسَ إلا النّدَمُ إنْ نفَعَ. وترْقيعُ الخَرْقِ الذي قدِ اتّسَعَ..)(135)، فالسروجي نادم على ما فات بعد كل تلك الروح المشاكسة، فلا يجد إلا الندم والاستغفار واستجداء العفو والتوبة من الله تعالى عن طريق استجداء دعاء الناس أنفسهم حقل مغامراته بالأمس القريب (أن لكُمْ منَ اللهِ تعالى في كلّ يومٍ نَظرَةً. وأنّ سِلاحَ الناسِ كلّهِمِ الحَديدُ. وسِلاحَكُمُ الأدْعِيَةُ والتّوْحيدُ. فقصَدْتُكُمْ أُنْضي الرّواحِلَ. وأطْوي المَراحِلَ. حتى قُمْتُ هذا المَقامَ لَديْكُمْ. ولا مَنّ لي عليكُمْ. إذْ ما سعَيْتُ إلا في حاجَتي..ولسْتُ أبْغي أعطِيَتَكُمْ. بل أستَدْعي أدعِيتَكُمْ. ولا أسْألُكُمْ أموالَكُمْ. بل أستنزِلُ سُؤالَكُمْ. فادْعوا إلى اللهِ بتوْفيقي للمَتابِ. والإعْدادِ للمآبِ. فإنهُ رفيعُ الدّرَجاتِ. مُجيبُ الدّعَواتِ. وهوَ الذي يقبلُ التّوبَةَ عنْ عِبادِهِ ويعْفو عنِ السّيّئاتِ.)(136)، ثم ينشد السروجي شعرا يصور لنا فيه ندمه وتوبته طالباً العفو منه تعالى، إذ يقول(137): (مخلع البسيط)

أستغْفِرُ الـلـهَ مـنْ ذُنـوبٍ * * أفرَطْتُ فيهِـنّ واعْـتَـدَيْتُ

كمْ خُضْتُ بحْرَ الضّلالِ جهْلاً * * ورُحتُ في الغَيّ واغْتَـدَيْتُ

وكمْ أطَعْتُ الهَوى اغْتِـراراً * * واختَلْتُ واغْتَلْتُ وافْتـرَيْتُ

وكمْ خلَعْتُ العِذارَ ركْـضـاً * * الى المَعاصي ومـا ونَـيْتُ

وكمْ تَناهَيْتُ في التّخـطّـي * * الى الخَطايا وما انتـهـيْتُ

فلَيتَني كُـنـتُ قـبـل هـذا * * نَسْياً ولمْ أجْنِ مـا جـنَـيْتُ

فالمَوتُ للُـجْـرِمـين خـيرٌ * * من المَساعي التي سـعَـيْتُ

يا رَبِّ عفْواً فـأنْـتَ أهـلٌ * * للعَفْوِ عنّي وإنْ عـصَـيْتُ

وعلى الرغم من علامات الندم والتوبة إلا أن الحارث بن همام لم يطمئن قلبه اتجاه حقيقة فعل السروجي، فشد الرحال ليطلع على أمره في بلدته، فوجده و(قد نبَذَ صُحبَةَ أصْحابِهِ. وانتصَبَ في مِحْرابِهِ. وهو ذو عَباءةٍ مخلولَةٍ. وشمْلَةٍ موصولَةٍ..وألْفَيْتُهُ ممّنْ سِيماهُمْ في وُجوهِهِمْ منْ أثَرِ السّجودِ.. ولمْ يزَلْ في قُنوتٍ وخُشوعٍ. وسُجودٍ ورُكوعٍ. وإخْباتٍ وخُضوعٍ. الى أن أكْملَ إقامَة الخمْسِ.. حتى إذا التمَعَ الفجرُ. وحقّ للمُتهَجِّدِ الأجْرُ. عقّبَ تهجّدَهُ بالتّسْبيحِ)(138)، وبعد أن اطمأن الحارث لسيرة السروجي استوصاه طمعاً في تقاه (أوْصِني أيها العبْدُ النّاصِحُ. فقال: اجعَلِ الموتَ نُصْبَ عينِكَ. وهذا فِراقُ بيني وبينِكَ.)(139)، فالموت والفراق هما آخر ما يتحصله الإنسان، وشتان مابين حياة السروجي في المقامات التسع والأربعين وخاتمته في المقامة الخمسين، إذ مثلت هذه المقامة انعطافة كبيرة في حياة هذه الشخصية النموذج.

* * *

الخاتمة
بعد أن حطت رحلة أبي زيد السروجي في سروج، وقد انقطع لرِّب العباد، متوسلاً تائباً عابداً زاهداً، يحط بنا الرحال في صفحة النتائج متوخين أبرزها، موجزين أهمها:

كان الحريري يعي تماماً وجوب التناسب بين هيأة الشخصية والأغراض التي وظفت للتعبير عنها، فشخصية السروجي في مقامات الاحتيال هي غيرها في مقامات الاستجداء والكدية وغيرها في مقامات الجدية.

شخصية السروجي موسوعية في تحصيلها الإبداعي، فهو عالم في اللغة والنقد والبلاغة والإلغاز والأحاجي، وهو فقيه في الدين وفي علاقات الناس بعضها مع البعض الآخر.

نادراً ما تأتي شخصية أبي زيد منفردة في مقامات الاحتيال، بل تأتي برفقة إحدى الشخصيتين الابن أو الزوجة.

يرد السروجي في أغلب مقامات الحريري بوصفه خطيباً واعظاً سواء أكانت هذه المقامات للاحتيال أم للكدية أم لأغراض الجدية.

شخصية أبي زيد السروجي، شخصية ثابتة لا تتطور على مستوى النص المقامي العام، إذ تكون في كل مقامة مستقلة بنفسها عن لاحقتها أو سابقتها، ولا رابط بينهما إلا الأُطر العامة من حيث الموقف وتكرار أسماء الشخصيات.

التحول الحقيقي في شخصية أبي زيد نجده في المقامة البصرية، وفيها يتحول السروجي من صاحب مكيدة ومحتال إلى زاهدٍ عابدٍ وقد ندم على ما فات، وبذا تشكل النصف الثاني المناقض لمضمون الأحداث في المقامات الأخرى.

تتركز أغلب مواقف أبي زيد في مضمون الاحتيال على القضاة والولاة والحكام لقصدية تمويهية.

كل الأدوار التي أوكلت للسروجي، إنما هي مواقف اجتماعية لها حضورها في الواقع الاجتماعي، حاول الحريري نقدها نقداً بناءً.

اعتمد الحريري في وصف هيأة السروجي في المقامات الجدية على وصف مهاراته الأدبية وجعلها الصورة العاكسة لهيأته.

يوظف الحريري في مقامات الاحتيال الهيئات السلبية والايجابية معا بغية خداع المتلقي.

يتضح عن طريق التحليل أن لقصدية المؤلف من هذه الهيآت وأوصافها أبعاداً أخرى غير الدلالات السطحية، وإنما نراه يحفر في عمق النسق الثقافي المسكوت عنه، وبذا يمكن قراءة شخصية السروجي وفقا لثلاث مستويات: السطحي التقريري، والرمزي الدلالي، والمضمر الثقافي.

ثمة انساق مضمرة في مقامات الحريري تكشف عنها شخصية أبي زيد السروجي، إذ لم تكن هذه الشخصية مفروغة من محتواها الرمزي.

في مقامات الاحتيال تناط بالشخصيات الثانوية مهام أخرى لتصل إلى مصاف الشخصية الرئيسة في مدى تأثرها على الحدث السردي.

وظف الحريري شخصية أبي زيد السروجي توظيفاً ناجحاً بوصفها جزءاً من البنى الثقافية والاجتماعية والنفسية.

(أ.م.د. محمد فليح حسن الجبوري، جامعة المثنى، كلية التربية)

* * *

الهوامش
(1) المصطلح السردي، جيرالد، تر: عايد خضر نوار، المجلس الأعلى للثقافة، 2003، 42.

(2) فن كتابة الرواية، وايانا فات فاير، نزار عبد الستار جواد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988، 46.

(3) المواقف النقدية، في نقد القصة القصيرة في العراق، د. كريم الوائلي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2006، 204-205.

(4) ينظر: النقد التطبيقي التحليلي، خالد عدنان عبد الله، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986، 68.

(5) ينظر: المصدر نفسه، 67.

(6) الوجيز في دراسة القصص اولتنير وليندل لويس، تر: عبد الجبار المطلبي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1983، 132.

(7) ينظر: النقد الأدبي، احمد أمين، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط4، 1967، 1/138.

(8) الوجيز في دراسة القصص، 138.

(9) ينظر: النقد الأدبي، أحمد أمين، 1/138.

(10) السرد العربي القديم، الأنواع والوظائف والبيان، إبراهيم صحراوي، الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 1429/ 2008، 85.

(11) في نظرية الرواية/ بحث في تقنيات السرد، د.عبد الملك مرتاض، عالم المعرفة، الكويت، 1998، 21.

(12) تراث الإسلام، حب، لجنة التأليف والنشر، 1936، 1/87.

(13) ينظر: فنون النثر في الأدب العباسي، د. محمد عبد الرحيم صالح، دار جرير للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، ط1، 1432ه/2011م، 174.

(14) ينظر: السرد العربي القديم / الأنساق الثقافية وإشكاليات التأويل، د. ضياء الكعبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005، 125.

(15) ينظر: النثر الفني في القرن الرابع الهجري، د. زكي مبارك، ط2، مطبعة السعادة بمصر، 1/202.

(16) ينظر: موسوعة السرد العربي، عبد الله إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2008، 1/297.

(17) مقامات الحريري/ دراسة لغوية، عبد الحسين جعفر، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2008، 18.

(18) صبح الأعشى، القلقشندي، المؤسسة العربية العامة للترجمة والتأليف والنشر، 11/110.

(19) ينظر: موسوعة السرد العربي، 303.

(20) ينظر: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، د. حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2000، 47.

(21) ينظر: - البناء الفني للمقامة العربية في العصر العباسي، د. عباس مصطفى الصالحي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2001، 61.

- المقامات أصالة وفناً وتراثاً، عبد الأمير مهدي الطائي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2001، 79.

(22) أدباء العرب في الأعصر العباسية، بطرس البستاني، القاهرة، ط6، 1960، 431.

(23) الأدب والغرابة / دراسة بنيوية في الأدب العربي، عبد الفتاح كليطو، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط3، 2006، 78.

(24) ينظر: السخرية في أدب المازني، د.حامد عبده الهوال، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1982. 34،

(25) ينظر: الأدب الفكاهي. د. عبد العزيز شرف، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1، 1992، 106.

(26) ينظر: تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي، انيس المقدسي، دار العلم للملايين، ط6، بيروت، 1979، 392.

(27) ينظر:- المقامة، د.شوقي صيف، ط2، القاهرة، 1964، 50.

– رأي في المقامات، عبد الرحمن باغي، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان/ الأردن، 1995، 17.

(28) ينظر: - نصوص أدبية، د.نوري حمودي القيسي، د. يونس احمد السامرائي، ط1، 1952، 73.

– تاريخ الأدب العربي العصر العباسي الثاني، إبراهيم أبو خشب، 96.

(29) ينظر: تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي، 391.

(30) ينظر: فن المقامات بين المشرق والمغرب، د. يوسف نور عوض، دار القلم، ط1، بيروت، 1979، 172.

(31) ينظر: الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلال، مكتبة الانجلومصرية، القاهرة، ط3، 1962، 226.

(32) ينظر: فن المقامات بين المشرق والمغرب، 174.

(33) المشاكلة والاختلاف، قراءة في النظرية النقدية العربية وبحث في الشبيه المختلف، د. عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994، 150.

(34) استعرنا مقولة هرم بن قطبة بن سنان الفزاري في حكمه بين علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل، وقد تنافرا لديه في أيهم أفضل. ينظر:- الأغاني، الأصفهاني، 15/ 287. العمدة، ابن رشيق القيرواني، تح: محي الدين عبد الحميد، 1/28.

(35) ينظر: الأدب والغرابة، 78.

(36) بلاغة التزوير/ فاعلية الإخبار في السرد العربي القديم، د.لؤي حمزة عباس، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الجزائر، ط1، 1431ه/ 2010م، 11.

(37) ينظر: موسوعة السرد العربي، 308.

(38) ينظر: الأنظمة السيميائية/ دراسة في السرد العربي القديم، د. هيثم سرحان، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2008.

(39) مقامات الحريري المسمى بالمقامات الأدبية، أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري (ت 510ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 154.

(40) المصدر نفسه، 406.

(41) المصدر نفسه، 350.

(42) المصدر نفسه، 435.

(43) المصدر نفسه، 343.

(44) المصدر نفسه، 324.

(45) المصدر نفسه، 145.

(46) المصدر نفسه، 28.

(47) ينظر: ترويض الحكاية بصدد قراءة التراث السردي، د. شرف الدين ماجدولين، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الجزائر، ط1، 1428ه/2007، 28.

(48) مقامات الحريري المسمى بالمقامات الأدبية، 162.

(49) المصدر نفسه، 457.

(50) المصدر نفسه، 288.

(51) المصدر نفسه، 241.

(52) المصدر نفسه، 191.

(53) المصدر نفسه، 133.

(54) المصدر نفسه، 15.

(55) المصدر نفسه، 176.

(56) المصدر نفسه، 178.

(57) المصدر نفسه، 332.

(58) المصدر نفسه، 117.

(59) المصدر نفسه، 106.

(60) المصدر نفسه، 79-80.

(61) المصدر نفسه، 449.

(62) المصدر نفسه، 62.

(63) المصدر نفسه، 185.

(64) ينظر: الأدب المقارن، 226.

(65) الأدب الفكاهي، 35.

(66) معجم السرديات، محمد القاضي وآخرون، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، تونس، بيروت، مصر، المغرب، الجزائر، ط1، 2010، 465.

(67) ينظر: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة/ عرض وتقديم وترجمة، 221.

(68) مقامات الحريري، المصورة، دراسة تاريخية، ثرية فنية، ناهده عبد الفتاح التميمي، الرشيد للطباعة والنشر، الجمهورية العراقية، 1979، 15.

(69) المصدر نفسه، 15.

(70) ينظر: بديع الزمان الهمذاني، مارون عبود، ط3، القاهرة، 1971، 15.

(71) المقامات أصالة وفناً وتراثاً، 10.

(72) ينظر: الكلام والخبر/ مقدمة للسرد العربي، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1997، 50.

(73) ينظر: فن المقامات بين المشرق والمغرب، 162.

(74) مقامات الحريري، 154.

(75) المصدر نفسه، 407.

(76) المصدر نفسه، 226-227.

(77) المصدر نفسه، 228-229.

(78) المصدر نفسه، 348.

(79) المصدر نفسه، 343.

(80) المصدر نفسه، 432.

(81) ينظر: فن المقامات بين المشرق والمغرب، 168.

(82) مقامات الحريري، 370.

(83) البئر والعسل/ قراءات معاصرة في نصوص تراثية، حاتم الصكر، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ن ط1، 1992، 9.

(84) مقامات الحريري، 325-326.

(85) المصدر نفسه، 328.

(86) المصدر نفسه، 97.

(87) المصدر نفسه، 232.

(88) المصدر نفسه، 296.

(89) المصدر نفسه، 265-266.

(90) المصدر نفسه، 505-506.

(91) المصدر نفسه، 506-507.

(92) المصدر نفسه، 511.

(93) المصدر نفسه، 190.

(94) المصدر نفسه، 285.

(95) المصدر نفسه، 176.

(96) المصدر نفسه، 178.

(97) ينظر: المصدر نفسه، 240.

(98) المصدر نفسه، 133.

(99) المصدر نفسه، 202-205.

(100) ترويض الحكاية بصدد قراءة التراث السردي، 28.

(101) وهذا الأمر يقودنا إلى أنساق أبعد غوراً وأكثر خطرا ً، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالحديث النبوي الشريف، رواية وكتابة، وربما كان الأمر في مرحلة الرواية أكثر خطورة لعدم وجود المرجع الكتابي، فالفرصة سانحة في استمالة أي محدث كان لصالح السلطة مقابل كلمات يقولها على لسان الرسول، والسلطة تتبنى عملية ترويج هذه الرواية دون غيرها ليتلتبس الباطل بالحق على الناس وهذا ما حدث، وحجتنا هذا الكم الهائل في كتب الأحاديث التي قسمت على درجة صحتها، وإذا كان هنالك بعض الحرج في تدليس الأحاديث النبوية، فالأمر أكثر يسر عندما يتعلق بالتأريخ، وما أدرانا كيف كُتب هذا التأريخ؟ ومما لا ريب فيه أن تاريخنا هو تأريخ السلطة التي أرادته ورضيت عنه وكافأت عليه، فما أحرانا بإعادة النظر بهذا التأريخ السلطوي.

(102) مقامات الحريري، 53-54.

(103) المصدر نفسه، 59.

(104) المصدر نفسه، 456.

(105) المصدر نفسه، 125.

(106) المصدر نفسه، 162.

(107) المصدر نفسه، 36-37.

(108) موسوعة السرد العربي، 312.

(109) مقامات الحريري، 37.

(110) المصدر نفسه، 484.

(111) المصدر نفسه، 361-362.

(112) المصدر نفسه، 362.

(113) المصدر نفسه، 362-363.

(114) المصدر نفسه، 366.

(115) المصدر نفسه، 368.

(116) ينظر:- الفن ومذاهبه في النثر العربي، د. شوقي ضيف، دار المعارف مصر، ط10، 1983، 299، - رأي في المقامات، ، 24.

(117) مقامات الحريري، 71.

(118) المصدر نفسه، 210.

(119) المصدر نفسه، 210 -211.

(120) المصدر نفسه، 211.

(121) المصدر نفسه، 211.

(122) المصدر نفسه، 214.

(123) المصدر نفسه، 219.

(124) المصدر نفسه، 79-80.

(125) المصدر نفسه، 86.

(126) المصدر نفسه، 386.

(127) المصدر نفسه، 294.

(128) المصدر نفسه، 415.

(129) المصدر نفسه، 184-185.

(130) المصدر نفسه، 187.

(131) ينظر: فن المقامة بين الأصالة العربية والتطور القصصي، د. عباس الصالحي، 49.

(132) ينظر: الأدب والغرابة، 85.

(133) مقامات الحريري، 505-506.

(134) المصدر نفسه، 509-511.

(135) المصدر نفسه، 511.

(136) المصدر نفسه، 511.

(137) المصدر نفسه، 511 -512.

(138) المصدر نفسه، 515.

(139) المصدر نفسه، 520.

* * *

روافد البحث

- أدباء العرب في الأعصر العباسية، بطرس البستاني، ط6، القاهرة، 1960.

- الأدب الفكاهي. د. عبد العزيز شرف، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1، 1992

- الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلال، مكتبة الانجلومصرية، القاهرة، ط3، 1962.

- الأدب والغرابة /دراسة بنيوية في الأدب العربي، عبد الفتاح كليطو، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط3، 2006.

- الأغاني، لأبي فرج الأصفهاني، دار الثقافة، بيروت، 1978.

- الأنظمة السيميائية/ دراسة في السرد العربي القديم، د. هيثم سرحان، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2008.

- البئر والعسل/ قراءات معاصرة في نصوص تراثية، حاتم الصكر، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1992.

- بديع الزمان الهمذاني، مارون عبود، ط3، القاهرة، 1971.

- بلاغة التزوير / فاعلية الإخبار في السرد العربي القديم، د.لؤي حمزة عباس، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الجزائر، ط1، 1431ه/ 2010م.

- البناء الفني للمقامة العربية في العصر العباسي، د. عباس مصطفى الصالحي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2001.

- بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، د. حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2000.

- تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي الثاني، د.إبراهيم أبو الخشب، دار الفكر العربي1975.

- تراث الإسلام، حب، لجنة التأليف والنشر، 1936.

- ترويض الحكاية بصدد قراءة التراث السردي، د. شرف الدين ماجدولين، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الجزائر، ط1، 1428ه/ 2007.

- تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي، انيس المقدسي، دار العلم للملايين، ط6، بيروت، 1979.

- رأي في المقامات، عبد الرحمن باغي، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان/ الأردن، 1995.

- السخرية في أدب المازني، د.حامد عبده الهوال، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1982.

- السرد العربي القديم/ الأنساق الثقافية وإشكاليات التأويل، د. ضياء الكعبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005.

- السرد العربي القديم، الأنواع والوظائف والبيان، إبراهيم صحراوي، الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 1429/ 2008.

- صبح الأعشى، القلقشندي، المؤسسة العربية العامة للترجمة والتأليف والنشر.

- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيرواني، محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، ط3، 1383ه/ 1964م.

- فن كتابة الرواية، وايانا فات فاير، تر: نزار عبد الستار جواد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988.

- فن المقامات بين المشرق والمغرب، د. يوسف نور عوض، دار القلم، بيروت، ط1، 1979.

- فن المقامة بين الأصالة العربية والتطور القصصي، د. عباس الصالحي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الجمهورية العراقية، 1984.

- الفن ومذاهبه في النثر العربي، د. شوقي ضيف، دار المعارف مصر، ط10، 1983.

- فنون النثر في الأدب العباسي، د. محمد عبد الرحيم صالح، دار جرير للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، ط1، 1432ه/ 2011م.

- في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، د. عبد الملك مرتاض، عالم المعرفة، الكويت، 1998.

- الكلام والخبر/مقدمة للسرد العربي، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1997.

- المشاكلة والاختلاف، قراءة في النظرية النقدية العربية وبحث في الشبيه المختلف، د. عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، ط، 1994.

- المصطلح السردي، جيرالد، تر: عايد خضر نوار، المجلس الأعلى للثقافة، 2003.

- معجم السرديات، محمد القاضي وآخرون، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، تونس، بيروت، مصر، المغرب، الجزائر، ط1، 2010.

- معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة/ عرض وتقديم وترجمة، د. سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1405ه/ 1985م.

- المقامات أصالة وفناً وتراثاً، عبد الأمير مهدي الطائي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2001.

- مقامات الحريري، دراسة لغوية، عبد الحسين جعفر، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد، 2008.

- مقامات الحريري المسمى بالمقامات الأدبية، أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري (ت 510ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت ط3.

- مقامات الحريري، المصورة، دراسة تاريخية، ثرية فنية، ناهده عبد الفتاح التميمي، الرشيد للطباعة والنشر، الجمهورية العراقية، 1979.

- المقامة، د.شوقي صيف، القاهرة، ط2، 1964.

- المواقف النقدية، في نقد القصة القصيرة في العراق، د. كريم الوائلي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2006.

- موسوعة السرد العربي، عبد الله إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2008.

- النثر الفني في القرن الرابع الهجري، د. زكي مبارك، ط2، مطبعة السعادة بمصر.

- نصوص أدبية، د.نوري حمودي القيسي، د. يونس احمد السامرائي، ط1، 1952.

- النقد الأدبي، احمد أمين، دار الكتاب العربي، ط4، بيروت، لبنان، 1967.

- النقد التطبيقي التحليلي، خالد عدنان عبد الله، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986.

- الوجيز في دراسة القصص اولتنير وليندل لويس، تر: عبد الجبار المطلبي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1983.