يكشف الناقد المصري هنا عن طبيعة التحولات التي تنتاب النص القصصي حينما يتحول إلى عمل درامي وعرض مسرحي، وكيف أن تلك التحولات هي بنت الرغبة في إرهاف قدرة النص على التأثير من ناحية، والاستجابة لطبيعة كل جنسي أدبي ومتطلباته التعبيرية واستراتيجياته الفنية من ناحية أخرى.

«آشا أشري» .. امتزاج اللبن بالعسل

عبد الهادي شعـلان

 

عندما يقوم مبدع بتحويل قصته إلى مسرحية، فالراجح الأكيد أنَّ هناك ضرورة مُلحة دفعته لذلك. وهذا ما فعله الأديب المبدع حجاج حسن أدول عندما قام بمسْرَّحة قصته «الرحيل لناس النَّهر» فانكشفت أبعاداً أخرى في القصة وأضاءت حولها ما أضاف إليها جوانب مغايرة ملتصقة بنفس النَّص وبقي العمود الفقري للعمل واحداً لم ينفصل.

قبل أن تلج عالم قصة الرحيل إلى ناس النَّهر وبعد العنوان مباشرة تجد مفتاحها بين يديك، حتى لا تذهب بعيداً عن المقصود ويشطح خيالك لعالم ممتع ولذيذ في رحلة غرائبية مع ناس النَّهر يملؤها السمك الملون وأطياف الجنيات الرائعات فالمؤكد الذي تراه على باب القصة أنَّه سيغشي الجنوب موسم سرمدي واحد، هو موسم الحزن فلذلك وجب الحذر من الطوفان. وعندما تخطو الخطوة الأولى داخل القصة يمنحك المؤلف نهايته منذ البداية ويخبرك أن ما سيحدث قد حدث من قبل وأننا ندور في حلقة مغلقة، تبدأ بالغرق وتنتهي بالغرق، وما بينهما هو ما سوف نعيشه إلى أنْ تجيء النِّهاية، بالغرق الأكيد والحزن الشفيف.

وتسلك المسرحية نفس السلوك، فالمشهد الأول يُعْلِن على لسان كُلُو أنَّ: آشا مكتوب عليها أنْ تتزوج من ناس النَّهر (ص 12) ثُمَّ يؤكد كُلُو ما قاله مرَّة أخرى: سيغني لآشا أشري، سيغني للتي لن يتزوجها لا هو ولا غيره (ص 34). وعلي الرَّغْم من أنَّ كُلُو عبيط ويبشر بما سيحدث، فمنيب يقول عنه: دائماً العبيط يقول الحق (ص 26) وآشا تُعلن أنه مبارك. تقول: كُلُو يقول الكلمة فتصدقها الأيام (ص 31) وهجيجة عندما قالت عن بشارة كُلُو، أنها كلام فارغ فما قالت ذلك ألا لأنها صاحبة بشارة الزواج التي أعطاها لها كُلُو، فهي تداري عن نفسها وتدفع فرحتها ويظهر خجلها، ولو كان كُلُو بَشًر غيرها لصدقت هجيجة على كلامه أمام الجميع أملا في أن تأتي بشارتها هي، كما فعلت آشا وصديقاتها.

وليس كُلُو العبيط وحده هو الذي يعطينا نهاية المسرحية من بدايتها فصيام حبيب آشا يتعجب : ما حكاية أشا مع ناس النَّهر. آشا مغرمة بناس النَّهر (ص 19). ثُمَّ يلقي إلينا بالفاجعة التي بشَّر بها كُلُو: إذا دعاها ناس النَّهر إلى القاع سترحل (ص 20) و حتى عبد الجبار خال آشا يعلن للجدة آنا كورتي أن آشا: ستغرق يوماً يا كورتي (ص 20) والجدة كورتي تتنصل من هذا لكنها تقول لنا أنَّ هذا مكتوب وأنَّ العرض الذي سنشاهده مُسَطر فيه غرق آشا: ناس البلد يظنون أني أحرضك ولا يعلمون أنَّك مدفوعة لمصيرك (ص23) وصاحبة القضية "آشا" في اطمئنان للنهر وناسه فهي تتحدى بالنَّهر جِنِّي الطوفان والغرق: إذا أغرقني الطوفان، أتحول سمكة فري تسبح في نيلنا نحن، أخاوي ناس النَّهر (ص 46) لذلك هي تحب سمك الفِرِّي البلطي وترمي في النَّهر ما اصطاده جرجيدا من بداية المسرحية حتى نهايتها، فنفيسة تقول: خط الشَّيب شعرك وما زلت تقذفين بزنبيل الصَّياد إلى النَّهر (ص87) واختفاؤها يعني أنها تبث هيامها لناس النَّهر وأنها كما يقول طماي: مخبولة بناس النَّهر (ص 35).

إذن فالقصة والمسرحية تعلنان منذ البداية أن النِّهاية واضحة وأن هناك داخل الأحداث أموراً ينبغي إدراكها وأشياء أخرى غير اللهاث فقط وراء تتبع الحدث حتى نعلم نهايته، الحدث مهم، لكن هناك أموراً وراء الأحداث. وأول ما نلمح من تباين بين النَّص القصصي والمسرحية أنَّ هناك شخصيات أُضيفت للمسرحية لم تكن موجودة في أصل القصة كمنيرة أم صيام وشلالي وسُويا، وشخصيات أخرى بدا دورها مغايراً ومهماً وفاعلاً في المسرحية أكثر من القصة كعبد الجبار خال آشا وجرجيدا الصياد وظلت شخصية آشا وكورتي وصيام وكُلُو بنفس القوة والتأثير في العملين.

أمَّا أم آشا فلم يكن له دور فعال يذكر، ففي جملة عارضة ذُكِرت في نهاية القصة: أمي بجواري في فناء دارنا (ص30)، وأسرعتا (ص31) يعني الأم والجدة. ثُمَّ أنبأنا الكاتب أنَّها ميتة في المسرحية عندما كانت كورتي تخاطب عبد الجبار: اعمل خاطرا لأمها رحمها الله. أختك (ص50). أيضا سافرت نفيسة إلى الإسكندرية. حدث ذلك في المسرحية ولم يحدث في القصة. في القصة مرت علينا الشخصيات كأنها مخفية وراء ضباب شفاف، لأن آشا التي تروي معظم الأحداث لم تكن ترصد واقعاً تاريخياً بقدر ما كانت متفاعلة مع مجتمعها؛ مهمومة بسمك الفِرِّي وناس النَّهر والفيضان وحزنها ومأساتها المتمثلة في صيام، فكان طبيعياً أن تحكي عن الشخصيات من بعيد عدا المقربين منها والمؤثرين فيها تأثيراً مباشراً كصيام وكُلُو و الجدة وصالح الغشيم ونفيسة ومنيب؛ وذلك لارتباطهم بتيار حياتها ولأن تطورهم ونموهم وزواجهم يمثل أهمية قصوى لثباتها وانتظارها المُر.

أما شخصيات المسرحية فهي واضحة تماماً، ولها دور إيجابي فاعل في دفع الأحداث والتأثير فيها، فكل جملة حوارية تصدر عن شخصية من الشخصيات تعبر عن ذاتها ورأيها في الشخصيات الأخرى وفي الأحداث وتكشف أبعاداً في تطور الحدث الدرامي، هذا إلى جانب أنها ستتحول إلى لحم ودم يتحرك على خشبة المسرح؛ لذلك كان هناك فارق ملحوظ في التلقي، فالقصة بها حالة إنسانية متمثلة في آشا تدعوك للتفاعل معها ومشاركتها في حزنها الشخصي التابع أساساً من الهم العام. وذلك صنع اختلافاً في طريقة عرض القضية عبر التكنيك المستخدم في كلا النصين؛ فالطوفان الرهيب والخزان القاتل في القصة مغلف بشفافية مأساة آشا، مما يدعونا للحزن والأسي والتفاعل الداخلي لمحاولة إنقاذها؛ لأن مأساتها قاسية على القلب، فجيعتها الشخصية فجيعة عامة؛ فالقصة في مجملها تقطر حزناً رقيقاً يصيب شغاف القلب و الرُّوح من أول جملة حتى نهايتها، فتخرج منها وأنت مغسولاً بماء النَّهر متطهراً من أدران الواقع، نفس القضية في المسرحية يعرضها الكاتب بوجهات نظر مختلفة لأن الشخصيات متباينة ولها أهوائها ومطامحها الخاصة. هذا إلى جانب بعض الفكاهات اللذيذة اللازمة للعرض المسرحي والمنثورة في العمل، فلا ينتابنا الملل والكآبة بل نبتسم بين لحظة وأخرى في مشاركة فعالة لأصل قضية النص.

نهر النيل هو البطل المتفرد في القصة والمسرحية، فنزعه وإبداله يجعل كلا العملين يهوي إلى قرار سحيق لا يعلم مداه إلا الله، وبطولته متساوية وتأثيره لم يتغير ووجوده حيوي وقوي. فكل ما له علاقة بالنَّهر ممتلئ بالفَرَح والجمال والحياة، حتى ناس النَّهر لا ينقطع الفرح عن مائهم ولا تهمد الدفوف في قرارهم ولا يحرقهم الخوف من مستقبل يشردهم، دائما زغاريد متصلة تتماوج مع رقصة سمك الفِرِّي ولقد احتفى الكاتب بالنَّهر حتي أنه ذكره صراحة أكثر من خمسين مرَّة في القصة. فجعل النَّهر كائناً حياً موصولاً بالعمل مرتبطاً بكل صفات العذوبة والطيبة والحلاوة والدفء والطعم السلسبيل، له دوامات رقيقة كأنها غمازات سمحة في جسد بنت خمرية، ريانة تتهادى في خفر، فوقه وحوله هالة من الشفافية، وشوشة أمواجه هادئة كخطو وليد بض، نسمته عِطر يضمخ الكون. والفيضان الذي حدث لم يكن سببه النَّهر، فالنَّهر طيب مثل ناسه، لكن الخزان كتم الْمَاء في الإناء الممدود، أجبره على الفوران كاللبن الحليب، يغلي فهدم وحطم ونشز لحنه الأبدي المهيب وهو مرغم. حتى الخطر الوحيد الذي ذُكر عن النَّهر لا يكون إلا ساعة الفجر، والكون هادئ نائم في سكينة فتكون فرصة لعفاريت الأرض أن تتحرك في هذا التوقيت والنَّهر نفسه نائم وجنية الْمَاء تؤذي أيضا في هذا الوقت.

ولأن شخصية النَّهر تتسم بالطيبة فقد ذكر الكاتب (جنية الْمَاء) ولم يقل (جنية النَّهر) وكأنَّه يراعى مشاعر النَّهر بعدم نسب الجنيات إليه. بل تعدى ذلك إلى الذِّروة التي ستهلك فيها آشا فذكر أنَّ النَّاس تجمعوا عند (بحيرة الحزن) ولم يقل (نهر الحزن) ولم يذكر كلمة النَّهر في الصفحات الأخيرة التي تمثل مشهد النًّهاية الرَّهيب للقصة، بل ظل يردد "الهمبول" وكأنَّه يبعد النَّهر عن هذا الحزن ويبرئه مما يحدث، بل لعله يحيلنا إلى ما ذكره قبل ذلك من أنَّ آشا ستحيا حياة أخرى جميلة مع ناس النَّهر وستفرح فرحها الحقيقي هناك. ومما يؤكد قولنا أنَّ الجدة كورتي صرخت "آشا اتجهت إلى ناس النَّهر" ولم تصرخ آشا ستغرق عند ناس النَّهر أو ستغرق في النَّهر، مع أنَّ الصُّراخ بإنقاذ الغريق يكون مدعاة إلى الإسراع بنجدته، بل لم يذكر كلمة إغراق في هذا المشهد الصعب حتي نهايته الفاجعة فكان الرحيل لناس النَّهر مبتعداً تماماً عن الغرق والموت.

فالراجح الآن أن آشا تنعم بحياة رغده، ترقص وتغني مع سمك الفِرَّي، تعيش حياة نحسدها عليها، نحن سكان المدن، ونتمني الرحيل إليها عند ناس النَّهر. الخزان هو البطل المضاد للنهر ولولاه ما هاجر صيام وأترابه وما كان هناك فراق وأحزان وعودة مميتة ولولاه ما كان هذا الانتظار الطويل لعودة الرجال. فآشا - درة القصة والمسرحية - ولدت عام الخزان فكان شؤماً عليها، وهو أساس كل مصيبة ومرتبط بكل بلوي تخص أهل القرية، فبعد بناء الخزان سيتسرب الْمَاء على الفاركي "الخور" ويحاصر أهل القرية وستزداد حوادث لدغ العقارب والثَّعابين الصَّاعدة إلى النُّجوع من باطن الجبل وسيكون الموت السَّام. هذا الخزان الَّلعين مُفَرِّق الأحباب وقاتل الأرض وسبب شُح الرزق وصارت بسببه الحياة مملة وصعبة. بعدما كان الفيضان الطبيعي يهدر بتؤدة متدفقاً يحمل الخير والنماء فتمتلئ الأرض بالخضرة والزرع المبارك.

هذا الخزان كان السَّبب في طرد صيام فجعل آشا تصرخ صرختها المدوية: يا ناس النَّهر، حطموا الخزان، انفروا العضل غضباً، ارموا بقايا هدده بعيداً، بعيداً، والطوبة الأخيرة هناك في البحر المالح، لتسقط على بنت الجريج الكالحة (القصة ص 21). وأحمد الله أنها صرخت في ناس النَّهر أن يحطموا الخزان ولم تصرخ في ناس البر وإلا تحول صراخها إلى ثورة لا تحمد عقباها على المستوي الفني للعمل. وقد التَّحم الخزان والفيضان بالمأساة في القصة وبدا ديناصوراً جباراً لا فكاك منه كغيمة تحيط العمل كله وتقبض على أعناق أهل القرية وآشا خاصة. أما في المسرحية فكان لازماً أن تبدو أراء أهل القرية المتباينة حول تعلية الخزان وآثاره، فللصغار نقاش حول الموضوع :

أمينة : الخزان سيعلو جداره أكثر وأكثر.

أشأ : وتعلية الخزان ستغرق البلد بطوفان كطوفان نوح كما أغرق الخزان كل القرى البحرية وأغرق جدتي

هجيجة : تعلية الخزان كذب.

كلثومة : آنا أصدق.

نفيس : وأنا لا أصدق.

وقد كانت آراء الكبار لا تقل تفاوتا عن آراء الصغار :

شلالي : رزقنا يضيع، لكن يقولون أن الخزان والتعلية سيجلب الخير لبقية البلد كلها (ص37).

ويعرض شلالي نفس الرأي في موضع آخر يقول : ما يصبرنا على الغرق أن الخير سيعم باقي البلد (ص 60). إلى جانب ذلك فالمسرحية ذكرت ما لم تذكره القصة كتحديد الحكومة: حكومة صدقي في الشمال هوووي (ص 16). شكوى لصدقي باشا في الشمال، هذا المتوحش هو يعلم أننا فقراْ ضعاف وبعاد عن العالم لن يبالي، لن يبالي. (ص61) وذكر أيضاً اسم الخزان صراحة: نحن منكوبي خزان أسوان التعساء (ص61)، وحدد التعويض الذي تم من الحكومة :أي تعويض، قرشان ونصف للنخلة وريال للحجرة المسقوفة، هذه لصوصية وليست تعويضاً (ص61). كما حددت أن هجرة صيام كانت إلى الإسكندرية: الإسكندرية ماؤها مالح لا تشربه (ص56) إلى جانب أن المسرحية طرحت حلا للمشكلة: أن نعلو أكثر فوق الخزان (ص46)، يجب أن نهجر القرية إلى الجبل (ص60)، وهو ما لم تطرحه القصة وهذا صنع فارقا جيدا على مستوي التلقي لأن المسرحية تخاطب جمهور آني عن طريق أشخاص أحياء وتعطيه حقائق تجعله يعيش المأساة كما حدثت.

الخزان الجبار سبب البلاء جاء به أهل الشمال وهو الذي جاء بالفيضان؛ لذلك كان الشمال مالحاً وكالحاً ويستحق الرَّجم بطوب الخزان لأنَّه قتل الزَّرع وسرق الرِّجال وحرم النِّساء من دفء أزواجهن فكان طبيعياً أن يكون ذكر الشمال مرادفاً للخراب والضياع والجفاف والنسيان والعطش وسحب العافية وعدم الارتواء والحزن والخيبة والنَّشاز والعار والموت والأنين والثعابين واللدغ والتسمم والفساد والحرق والغرق والابتلاع. فالعمل عند أهل الشمال خنوع ولايرتقي للعمل في القرية وهو عمل ممنطق بأحزمة حمراء مثل وجوه السادة البكوات، وماء الشمال مالح لا يروي أبداً، كالنَّهر العذب وهواء الشَّمال رطب ممطر ممتلئ بالسُّحب غير المستقرة وهو يهري الَّلحم ويجعل الجفن يتهدل ويوخز الرُّوح فتثقل وتتقاعس الهمة وتخور. أما هواء الجنوب فجاف صحو.

والذي يذهب للشمال ويتزوج بحراوية قد ضاع وفُقد فيه الأمل وأصبح عاراً وفضيحة يجعل أمه تلطم خدها وتداري نفسها من أختها وابنة أختها التي تنتظر من تتزوج البحراوية. والأب يطأطأ الرأس من شدة العار ويواسيه الرجال وهو مهموم لا يشفي غليله شييء فهو يعتبر ابنه مات ولا يستحق العزاء. إن علاقة الرِّيبة بالشَّمال ومعاملة ما يخصه بانزعاج وصلت للمقارنة بين الأزياء، فالجلباب الجنوبي هو الجمال والكمال، والحِلة الشمالية تجعل صاحبها أضحوكة، تقول آشا : خيبك الله يا محجوب أفندي، تركت جلبابنا وتحذلقت بالحلة الشمالية، ألقيت بالطاقية والعمامة الشَّماء ووضعت الطربوش الأحمر بلون مؤخرة القرد (ص22) واضح هنا أن الطاقية والعمامة شماء، والطربوش بلون مؤخرة القرد.

إنَّ الحالة النفسية لآشا التي تكره الشمال لأنه أخذ منها حبيبها جعلها ترى الطربوش لون مؤخرة القرد، وما أقبح الَّلون الأحمر في مؤخرة القرد. لكنها ترى نفس الَّلون في قدم صيام غاية الجمال حين يرتدي بلغته، فاللون هو نفس اللون، لكن لأنَّه في قلب آشا مرتبط بطربوش الشمال، فقد صار كمؤخرة القرد على رأس محجوب، لامعاً جميلاً في قدم صيام. والنَّصيحة الغالية التي تعطيها الجدة كورتي لصيام خالصة من قلبها قبل أن يرحل: صيام ولدي، خذ مني كلمتين، الإسكندرية ماؤها مالح لا تشربه فهو يزيد الظماء ويهري الأمعاء ولا يروي. هواؤها رطب فلا تملأ منه الصدر وإلا تخثر دمك الجنوبي وتيبست قدماك وتصلبت على رمالها فلا تعود إلينا (المسرحية ص56) والجدات لا تنصحن إلا بما هو مجرب ومفيد، ولأنه لم يسمع لنُصح الجدة فقد ضاع في بحر الشَّمال وضيعته جريجية الشَّمال، وعندما امتلأ جوف صيام بماء البحر وخمر الشمال، فلن يكون علاجه أبداً إلا في الجنوب بسحب كل ما هو شمالي من دمه، فالرُّطوبة المالحة ستسحبها الجدة بكاسات الهواء، وبالموسى ستفصد جبينه وسمانة ساقه حتي ينز الدَّم الشَّمالي الفاسد وستدلكه بالكحول الأحمر والخل وأعشاب الجبل حتي يتقيأ كل ما له علاقة بالشمال وبرائحة الجريجية ويبصق فساد المدينة.

حتي المغازلة عندما نصحت آشا ابنة صالح الغشيم لتعلمها كيف ترقص قالت لها في القصة: تقدمي من صفوف الرجال كأنك ستغرقين في بحرهم (ص18)، فالغرق لا يكون إلا في البحر حتي وان كان بحر الشَّغف والَّلهفة، أما النَّهر فهو الحياة والدُّخول فيه انغماس في سعادة وحبور وعيش رغيد مع ناس النَّهر. والشَّمال له قوة وسطوة، حتي أنَّ الكاشف لمجرد أنه يعمل في الشَّمال؛ امتنع عمدة القرية عن زواج آشا أشري رهبة من علاقته بالشمال وعمله هناك: لولا سلطة أبينا الكاشف ومنصبه المستمد من الشمال، لتزوجها العمدة (القصة ص8). وعندما يرحل الكاشف ويعزله قساة الشمال - لاحظ أنَّ الذي عزله هم قُساة الشمال – تزول هيبته وتنتهي الحماية القوية المستمدة من الانتساب للشمال؛ فيسرع عثُمَّان ويضمها ويتشنج عليها، وتكون النتيجة أن يتم خنقها في محبسها حتي ذهبت لناس النَّهر.

والكبار الذين يستغيث بهم المرء في الدَّواهي والمصائب هم من يضمن قوتهم، ويعرف الآخرون مدي سطوتهم، وهم في القرية "الله في السماء" و"حكومة صدقي في الشمال" لأنهما أكبر شيء في عالم القرية، غضبهما قوي لا يُرَد والاستعانة بهما تخيف الطرف الآخر الظالم وهذا ما استغاث به جرجيدا في المسرحية عندما صرخ في عبد الجبار: آها، وحقي ؟ سمكي ؟ أنت المسؤول " يصرخ " عمدة هووي، مأمور أسوان هووي، حكومة صدقي في الشمال هووي، الله في سماه هووي (ص16). فجرجيدا تدرج بطلب الغوث من السُّلطة الأصغر للأكبر، فالعمدة، يليه المأمور في أسوان ثُمَّ حكومة صدقي في الشَّمال ولا شيء بعدها سوي الله في السماء.

والشيء الوحيد الجميل في علاقة الشمال بالجنوب هو هذا التَّزاوج الرائع الذي تم في الحلال بين الكاشف التُّركي وأم أشا فنتج عنه فتاة رائعة الحسن، آشا أشري جميلة الجميلات، تعانق فيها بياض الكاشف الشمالي مع سمار بنت الجنوب فكان كحليب امتزج بالعسل الأسود وقد شهد بذلك الجمال البديع الناتج من هذا الزواج أهل القرية جميعا، فهم يتهامسون (آشا شاري، التي جمعت جمال الترك والنوب) .

هذا الجمال الرائع المبدع هو المنشود في علاقة الشَّمال بالجنوب لأنه هِبة ظهر الكاشف التركي ونفرتاري أميرة الجنوب، لكن هذا الجمال غرق في النيل، حتي الكاشف نفسه عزله قساة الشمال، فقضى على تكرار هذا التزاوج الساحر الذي تؤيده الفطرة السَّليمة التي تربط بين الحليب والعسل في تمازج عبقري. قساة الشَّمال تركوا قِدر اللبن يغلي ففاض وحدث شرخ لا يلتئم، فلم يكن هناك مفر سوى الرَّحيل لناس النَّهر، بحثا عن طهارة الحليب وحلاوة العسل.