يبدأ الكاتب القراءة النقدية من الربط بين الذاكرة التي تستعيد عالمها القديم، فتتراكم الصور بعفوية تمزج تفاصيل الحياة اليومية، بآثار القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى. ويرى أن صدور ترجمتين مختلفتين لرواية واحدة يعكس أهمية الترجمة، وكذلك الحاجة إلى التخطيط حتى لا يتبدد الجهد.

التيه بين عالم يتهاوي ويوتوبيا مستحيلة

أحمد رجب شلتوت

 

حينما يقول ميلان كونديرا إن فن الحذف في الرواية ضرورة حاسمة، فهو لا يعمل فقط على تخلِيص الرواية من الثرثرة، بل يوجهنا مباشرة نحو جوهر الأشياء.

عالم قديمِ

يبدأ أول الفصول وعنوانه "العالم القديم" بالجملة: "أتذكر.. لا، لا أتذكر: أي سنة كانت تلك؟". بينما الأخير وعنوانه "حي روما" يبدأ بنبأ عن زلزال مدمر يليه ظهور مذنب قيل أنه بمثابة إعلان عن نهايةِ العالم، وفي الفقرة الأخيرة يقول كارلوس "هدموا المدرسة والعمارة التى سكنت بها ماريانا، هدموا بيتي وحي روما بأكمله… دارت كل هذه الأحداث كما تدور الاسطوانات في الفونوغراف الآلي، لن أعرف أبدا إن كانت ماريانا لاتزال على قيد الحياة، إذا كانت تعيش حتى هذه اللحظة ستكون فى الثمانين من عمرها".

هكذا نعرف أن حي روما بمكسيكو سيتي يمثل العالم القديم للراوي طفل كارلوس الذي يستعيد ذكرياته عن الحي عبر فصول الرواية، وربما لكونه طفلا فهو ليس متأكد تماما، أي سنة كانت تلك؟ ليست مهمة السنة، فكل السنوات سواء مادامت الأحداث تدور كدوران الاسطوانات في الفونوغراف. لكن اتخذ منها نقطة انطلاق، ففيها انتشرت أمراض النخاع الشوكي والحمّى القلاعية واجتاحت الفيضاناتُ البلادَ فاضطر الناس إلى استخدام الزوارق للتجوال فى المدينة، وتخوف الناس من انفجار ماسورة الصرف الرئيسية فتغرق المدينة، يقول أخوه "وفيم يهم ذلك، إذا كنا فى ظل نظام ميجان أليمان نسبح بالفعل فى الخراء".

وكارلوس يعرف الرئيس جيدا فأينما ذهبت تجد نفسك محاطاً بوجه السيد الرئيس: "رسوم ضخمة، بورتريهات مثالية، صور في كل مكان، رسوم كاريكاتورية تمدحه ونصب تذكارية له وقصص وأساطير تُروى عن التقدم الذي تحقق على يد ميجيل أليمان بوصفه أباً روحياً. تملُق في العلن وسب في الخفاء".

و"كانت الجرائد تقول إن العالم يمر بلحظة أسى. شبح الحرب الأخيرة يخيم على الأفق. أصبحت القنبلة النووية عند انفجارها رمزًا لتلك الحقبة المظلمة التى نعيش فيها، ومع ذلك ما زال الأمل موجودًا. أكدت كتبنا المدرسية أن المكسيك لها شكل قرن الرخاء على الخريطة. يتكهنون بأن الرخاء والرفاهية سوف يسودان العالم فى بداية الألفية الثانية التى لم تتبادر إلى الذهن بعد، إلا أننا ما زلنا نجهل تمامًا كيف سيتحقق ذلك".

لكن لا الرفاهية أتت ولا المدينة القديمة بعاداتها وتقاليدها بقت، فالعالم القديم دهسته عجلات الحداثة الأمريكية المتحالفة مع سلطة قامعة فاسدة.

تراكم الذكريات

تتراكم الذكريات والصور بعفوية تمزج تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، بآثار القرارات السياسية والاقتصادية. فيما يعتبر نقدا غير مباشر لسياسات النظام الحاكم وقتها عبر أحاديث الأطفال. فمثلا "جيم"، يدّعي أن أباه أحد السياسيين المقربين من الرئيس، لكن أحد زملاء كارلوس يقول: "إن والدة جيم ما هي إلا عشيقة هذا الرجل. وزوجته امرأة عجوز مروعة يُكتب عنها كثيراً في الصحف. سترى صورها عندما يذكرون شيئاً عن الأطفال الفقراء (ها .. ها.. يقول أبي إنهم يجعلونهم فقراء أولاً ثم يتصدقون عليهم )". وعندما يدافع جيم عن الرجل الذي ما زال يعتقد أنه والده؛ بقوله إن والده يعمل في خدمة المكسيك، سيأتيه الردّ من زميل آخر له: "نعم نعم، صحيح، يعمل في خدمة المكسيك": يقولون في بيتي إنهم يسرقون حتى ما لم يكن موجودًا. كل من هم في حكومة أليمان عبارة عن حفنة من اللصوص. إذن فليشتر لك قميصاً آخر بما يسرقه منا".

هكذا يتورط التلاميذ فى السياسة فيرثون إنقسامات الآباء السياسية والإجتماعية، مما ينعكس حتى على ألعابهم التى تصبح حروبا صغيرة: “خلال أوقات الاستراحة، كنا نأكل شطائر القشدة التي لن نذوقها فيما بعد. وكنا نلعب في فريقين: عرب ويهود. كانت دولة إسرائيل قد تأسست لتوها والحرب قائمة ضد جامعة الدول العربية. أما الأطفال الذين هم بالفعل عرب أو يهود، فقد كانوا فقط يتحدثون ليتشاتموا ويتشاجروا. كان معلمنا برناردو مونراجون يقول لهم: إنكم ولدتم هنا، مكسيكو الجنسية مثل زملائكم. لا ترثوا الكراهية. بعد كل ما مر علينا من أحداث (المذابح اللانهائية ومعسكرات الإبادة والقنابل النووية وملايين الملايين من الموتى) يجب أن يكون عالم الغد، الذي ستصبحون فيه رجالاً، عالماً يعم فيه السلام، لا توجد فيه جرائم ولا ضغائن. سمع رنين ضحكة آتية من الصفوف الخلفية، فنظر مونراجون إلينا حزيناً، متسائلا: تُرى ماذا ستفعل بنا السنوات، كم من الشرور والكوارث ينتظرنا في المستقبل؟".

وكما تضيف الرواية: "إنه العالم القديم. يشكو الكبار من التضخم والتغيرات والازدحام وانعدام الأخلاق والضجيج والجرائم والتكدس السكاني والتسول والأجانب وانتشار الفساد والغنى الفاحش لدى القليلين والفقر المزري للغالبية".

الحب والموت

النقطة الفارقة بالنسبة لكارلوس تتمثل فى مشاعر الحب التى تملأ نفسه تجاه ماريان والدة جيم، تدفعه لمغادرة المدرسة، "جئت إلى هنا لأقول لك _ بدون مواربة وسامحينى على ذلك _ إننى أحبك". بأريحية تطلب منه أن "يتعامل مع الموضوع كمزحة عابرة سوف يتذكّرها بعد سنوات طويلة بابتسامة"، لكن والديه أجبراه على الذهاب إلى القس للاعتراف بذنبه، والذهاب إلى طبيب نفسي طلبا للعلاج. وهو لم يشف من حب ماريان ولم يراه ذنبا، لذا قصد حى روما لتقصى أخبارها، وهناك يلتقى بروساليس الذى يخبره بموت ماريانا، "وأن سبب الوفاة يعود إلى عشيقها المليونير الذي صفعها أمام الجميع وأسمعها كلمات نابية لأنها انتقدت السرقات الكبيرة التي تحدث داخل الحكومة. وحينما عادت إلى البيت انتحرت فتعددت الشائعات بين تناول حبوب النيمبوتال، وقطع الوريد بشفرة الحلاقة، وإطلاق النار على الرأس مباشرة أو أنها فعلت ذلك كله تباعًا لكن الشيء المؤكد أن "جيم" الذي استفاق صباحًا وجدها ميتة وغارقة في الدماء”.

وحينما يقصد العمارة التى كانت تسكنها ويطرق الباب فيجد أناسا آخرين، ويظل متمسك باحتمال حياتها حتى النهاية فماريانا فى عالمه القديم كانت الأجمل وكانت الشخص الوحيد الذى تفهمه وحنا عليه.

بين الترجمتين

إن صدور ترجمتين مختلفتين لرواية واحدة يعكس استشعار المترجمين بأهمية تقديمها للقارىء العربى، كما يعكس مدى حاجتنا للتخطيط حتى لا يتبدد الجهد، وتفرض أيضا مقارنة بينهما، وللحقيقة فإن ترجمة شادى روحانا لم تكن بمستوى ترجمة سمر عزت، فقد استخدم كلمات عامية كثيرة ربما لا يفهم معناها القارىء، وإن تميزت بالهوامش التى أضافها لتوضيح إشارات قد تغيب عن الفهم، أما ترجمة سمر عزت فربما كانت هفوتها الوحيدة فى الجملة الأخيرة "إذا كانت تعيش حتى هذه اللحظة ستكون فى الثمانين من عمرها". فترجمة شادى روحانا "إذا كانت على قيد الحياة فهى اليوم ابنة ستين عاما" هذا الاختلاف بين الترجمتين فى العمر دفعنى للجوء للترجمة الانجليزية فوجدتها ستين عاما، وإن كانت ترجمة سمر عزت أكثر سلاسة وإن أضافت بالمجان عشرين عاما لعمر ماريانا.