يطرح الكاتب السوداني هنا مجموعة من الأسئلة الأساسية حول مشروع طه حسين التحديثي، الذي يربط العقل المصري بالعقل اليوناني، ليتفادى الأصول اللاعقلانية للمشرق. مع أن الغرب وحوض المتوسط بعلومه استفاد من الحضارة العربية في تعريب أرسطو وإعادة شرحه بل واستكمال مشروعه على يد الوليد بن رشد.

طه حسين .. مصر والقطيعة مع المشرق

غسان علي عثمان

 

في حق السؤال عن المعنى:
لماذا طه حسين؟ هذا هو السؤال الذي طرحته على نفسي، وما هي المساهمات المُزينة لحضوره الثقافي والفكري؟ وكيف يمكن التعرف على طبيعة حضور الرجل فينا؛ حضوره المعرفي؟ فطه حسين قد تكون حركته في حدود مُجمدة تخص قطره المصري بشكل مباشر، هذا طبعاً قبل الانفتاح الثقافي لمصر بعد نزول الملك عن الحكم 1952م، طيب، تبدو هذه الأسئلة مزيفة إذا عقدنا العزم على المقايسة بين أدوار شتى للراحل طه حسين علي سلامة (نوفمبر 1889- أكتوبر 1973م) فالرجل حاضر فينا بصور شتى، ومرمى تهم وتوصيفات ذات طابع تقريري ومباشر، وبعضها انطباعي، وكذلك محل توقير وتقديس دون مبالغة، فالقول به عميداً للأدب العربي يعكس المضمون الأيديولوجي، أكثر منها صفة معرفية.

والأسئلة محل المدخل أعلاه تتعلق بالزاوية التي يجب علينا أن نتناول بها عطاء الرجل، وستواجهنا مشكلة في ذلك وهي أين نضع مساهمات طه حسين الفكرية أي مواقفه وأراؤه ومطارحه من قضية الحداثة العربية باعتباره أحد المساهمين في الدفع بها قدماً، فهل يسعنا تعميده مفكراً ورائداً من رواد التنوير في الحضارة العربية المعاصرة؟ وإن قلنا بذلك فما هي أبرز مساهماته ومواقفه؟ وإن قلنا به أديباً دخل إلى حظيرة الإشكال المعرفي من زاوية الإنتاج الأدبي فهل ستفصح لنا مؤلفاته بحقيقة مواقفه؟ وهل كان طه حسين واعياً بمشروعه التنويري؟ أم أنه عرض في ميدان الأدب ما سمح لآخرين بتنسيبه؟ وأيضاً علينا طرح السؤال الأهم هل دُرس الرجل في زمانه الثقافي؟ بمعنى أوضح هل وضعت مساهمات حسين في حيزها التاريخي لتسهل عملية إجراء الفرز المفاهيمي لطبيعة سيرته الفكرية.

في سنة 1902 دخل طه الأزهر الشريف وهي ممارسة تقليدية لأبناء مصر القادمين من الريف (ولد في قرية الكيلو قريبة من مغاغة إحدى مدن محافظة المنيا في الصعيد الأوسط المصري) أصيب بالرمد ففقد بصره، 1908 دخل الجامعة المصرية، سنة 1914م نال فيها شهادة الدكتوراه وموضوع الأطروحة: "ذكرى أبي العلاء" التي أثارت الجدل ولم تزل، عام 1914 أوفدته الجامعة المصرية إلى مونبيليه بفرنسا، لمتابعة التخصص، درس علم النفس والتاريخ الحديث. بقي هناك حتى سنة 1915، سنة عودته إلى مصر، 1919 عين طه حسين أستاذاً للتاريخ اليوناني والروماني في الجامعة المصرية، وكانت جامعة أهلية، فلما ألحقت بالدولة سنة 1925 عينته وزارة المعارف أستاذاً فيها للأدب العربي، فعميداً لكلية الآداب في الجامعة نفسها، وذلك سنة 1928، وفي 1934 أعيد حسين إلى الجامعة المصرية بصفته أستاذا للأدب، ثم بصفة عميد لكلية الآداب ابتداء من سنة 1936، 1942م تعيينه مديراً لجامعة الإسكندرية، وفي سنة 1950م صدر مرسوم تعيينه وزيراً للمعارف, وبقي في هذا المنصب حتى سنة 1952 ، منح لقب الباشوية سنة 1951 وعمل رئيساً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة. توفى طه حسين يوم الأحد 28 أكتوبر 1973م. وهنا السؤال عن الجديد الذي رافق مسيرة الرجل بعد وصول الجيش إلى الحكم، وانعكاس ذلك على مشروعه الفكري والأدبي، وفوق أن الرجل ينتمي للقوى القديمة، نراه يقول في حق التغيير الذي جرى، في مقال له بعنوان (روح الثورة) الذي نشر في مجلة التحرير «1 ديسمبر 1952» "..إن كلمة الثورة أدق معنى وأصدق دلالة وأجود تصويراً للحياة التي نحياها منذ شهور.

ولم يكتف د. طه حسين بذلك بل طالب هذه الثورة بأن تقوم وتقرر الإقدام الجريء السريع على طائفة من الأعمال الإصلاحية الخطيرة التي تهيئ للشعب في كل يوم صدمة نفسية ليعلموا أن حياتهم قد تغيرت حقاً.1 المهم في هذا الاتجاه أننا نحتاج لمن يعد دراسة دقيقة عن التبدلات التي رافقت مسيرة طه حسين بعد ثورة 1952م، هذا برغم ما كتب إلا أنه لا يشبع، فهل تزحزح الرجل عن موقعه احتماءً بالشك بعد الانقلاب الثقافي الذي جرى في مصر على يد ضباط الجيش، نجد هنا؛ حسين (على هامش السيرة) حسين (في الفتنة الكبرى) ترى ما أسباب هذا التحول؟ التحول من الواقع إلى التراث، أهو عودة متأخرة لإعادة نقد التراث فرط فيها طه حسين بأن تجاوزها في تحديده أسباب الحضارة؟!.

إن طه حسين يمثل مشروعاً قائماً بذاته في جسد الثقافة العربية، وحضوره فينا باق طالما أن الأسئلة التي طرحها لا تزال تُشكل علينا وتحيطنا من كل جانب، وما يهم في هذا الصدد أن يكون النظر إلى المشاريع التنويرية قائم على إعادة دراسة أصولها المعرفية، لا أن نغرق في التمجيد وتعداد المآثر والمناقب، والوقوف عند الحوادث هنا وهناك، فقيمة مشروع طه حسين في فلسفته النقدية، في إيمانه بالشك المنهجي (وإن أفرط في توظيفه بدايات تفتح وعيه) وكذلك قيمة الرجل في صدقه، وعدم تهيبه أي ردود أفعال غير مراقبة تأتيه من هذا أو ذاك، فهذه الفروسية الفكرية تستحق الاعتبار والاحترام، ونقول بإننا هنا لا نعد إلا صورة أولية عن الرجل، وكان لنا أن نأتي لنعصف ذهنياً حول الرجل ومشروعه، لكن يقر في وعينا أن النص المكتوب أكثر قدرة على الضبط في الطرح، ويشكل لبنة أولية تسمح لنا بتطوير رؤانا لاحقاً حول الرجل ومشروعه، فهنا لا تجد سوى أفكار عامة حول ما بان لنا على نسبيته من أفكار نقدية، قطعاً لا تمنحنا الحق في القول بإطلاقيتها ولا تسمح لغيرنا بالبناء فوقها هكذا دون تدبر.

ولكن مسألة الأصالة والمعاصرة، هي مسألة ثقافية في المقام الأول، مسألة تتعلق بالشعوب وثقافاتها، أجرم البعض حينما سمى بان هناك (صراع للثقافات) الثقافة لا تملك في بنيتها مقومات الصراع، نقول بأن تراثنا العربي اهتم قديماً بمسألة الشعوب والثقافات، فقد تنبه الجاحظ إلى الفروق الثقافية بين الشعوب وفي معرض حديثه عن (العجم) – اليونان والرومان يقول (إن كل معنى (للعجم) فإنما هو عن طول فكرة ، وعن اجتهاد وخلوة ومشاورة ومعاونة، وعن طول تفكر وعن دراسة كتب.. أما العرب فيقول: ... فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام ، وليس هناك معاناة ولا مكابدة ، ولا إجالة فكر ولا استعانة...)2 ما أردنا قوله إن قضية اختلاف الثقافة بين الشعوب هم عربي قديم، وليست وليدة التجربة الاستعمارية البغيضة التي أنجز في ظل التحرر منها طه حسين كتابه (مستقبل الثقافة في مصر).

على الدارس لمؤلفات الرجل أن يعترف بأنه قد يكون أمام أكثر من طه حسين واحد! فحسين (الشعر الجاهلي) قطعاً ليس هو (الشيخان أبو بكر وعمر) وهذا أمر مفهوم. بقي شيء أخير وجب قوله وهو أن النقد الذي نمتهنه يقوم على استخدامه كأداة كشف العيوب البارزة والمستترة في أي نص، هذه مهمة مجانية وغير منتجة بل وانتهازية طالما أنها تبني موقفها على إنتاج الآخرين هكذا دون إضافة أو تمييز، إننا نفهم النقد كأداة حوار؛ حوار مع الصيرورة المنسلة من بنى النص، فالنقد لو تحول إلى أداة معيبة فقد قيمته المعرفية..

خطاطة عامة: (المنهج .. الرؤية .. الإشكالية)
المشكل في أساس المعنى الذي أراده طه حسين بالعمل النقدي، أهو التماسه التغيير الحضاري عبر إعداد مسودة كاملة لمخاطبة قضايا عصره؟ وهل كان يملك ويستطيع؟ أيكفيه توسله بالأدب ظناً بأنه الوسيلة الأوجه لمخاطبة قطاع عريض من الناس دون أدنى كلفة اجتماعية، ومن يعدد دراسات طه حسين الأدبية سيضع يده بصورة ما على المضمون الأيديولوجي بوصف الزمان الثقافي الذي تحرك فيه طه حسين، فكتابه (الأيام) المنشور في العام 1929م، يدشن جديد في أدب السيرة الذاتية، سيرة تتكشف ملامحها ومخافيها لا من السرد وإنما من الراهن الثقافي والسياسي الذي لا محالة وسم سلوكه الاجتماعي، ففي الوقت الذي كانت مصر تعيش مرحلة متقدمة من هزيمتها على الصعيد السياسي (مصر الخارجة من ثورة 1919 أكثر خيبة وتطلع – إلغاء الحماية البريطانية على مصر 1922م والاعتراف المبطن باستقلالها – صدور أول دستور 1923م) ولم تتعاف بعد من الصدمة، وفي هذه الفترة بدأت دعاوى (التنوير العربي).

والرجل من زمرة (المتفرنسين) في الثقافة المصرية، أي الذين درسوا في الجامعات الفرنسية وعادوا أكثر تمسكاً بالحالة النقدية للأوضاع الاجتماعية والثقافية في البلاد، ولمجايلي الرجل دور يسمح لنا بتشكيل الصورة حول الهموم المعرفية التي كانت محل نظر ذلك العهد، فسلامة موسى القادم من باريس يصدر كتابه (مقدمة السوبرمان – 1910م) والذي قد يعد دعوة امتصاص الصدمة عبر الالتحاق بالتبعية للغرب روحاً ومعنى، والدعوة إلى القطيعة مع التراث المشرقي، وقد يكون للأمر وجاهة حقيقية. وفي الأمر صلة، نعني أنه من المفيد دراسة المجال الثقافي الذي تحرك في طه حسين.

مشروع طه حسين في الأخذ بأسباب الحضارة:
وبخصوص قضية (الأصالة والمعاصرة) عند الأديب طه حسين فقد انتخبنا لإجراء الفحص النقدي عينات مفاهيمية من كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) الصادر 1938م من ضمن سلسلته الكبيرة من المؤلفات الموزعة بين روايات وقصص ابتداء بـ(الأيام – ثلاثة أجزاء (1967م, 1939م, 1926م) وختاماً بـ(الحب الضائع (1951م)، وفي التاريخ الإسلامي من نواحي شتى من (في الأدب الجاهلي (1958م) أصلاً في الشعر الجاهلي (1926م) وحتى الشيخان (أبوبكر وعمر) (1960م) ، وكذلك مترجماته بداية بـ(قادة الفكر) (1925) وانتهاءً بـ(من بعيد 1958م) ، وقد يطرح السؤال حول طبيعة هذا الاختيار وفلسفته، ولما وبما سوف نجمع أيدينا على مشروع الرجل وجوهر رؤاه في القضية محل التعليق (الأصالة والمعاصرة)، وكل هذه أسئلة مشروعة طالما أنها تتخذ من البناء النقدي مدخلاً للتفسير، والسبب ببساطة أن الرجل أفصح في هذا الكتاب عن رؤيته للنهضة في مصر، مصر ما بعد الاستقلال يقول: «وأنا .. مؤمن بأن مصر الجديدة لن تبتكر ابتكاراً ، ولا تخترع اختراعاً، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة.»3 وهذا قريب بأدبيات فلسفة التاريخ الألمانية كما نجدها عند كانط وهيجل فالتاريخ روح تسري، وما الحوادث إلا منتظمة وفق قانون عام، ويضيف دعماً لفكرة المتلازمة الحضارية بين الماضي والحاضر والمستقبل قائلاً: (ومن أجل هذا لا أحب أن أفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد ، وحاضرها القريب) وعن صعوبة القطع مع الماضي جملة وما أن الحاضر والمستقبل تجليات لما تختمره الذات المصرية في ماضيها الموصوف بالزاهر (لأننا لا نريد ولا نستطيع أن نقطع ما بيننا وبين ماضينا وحاضرنا من صلة..)4. هذه من مسببات الاختيار لهذا الكتاب لمعرفة موقف الرجل من قضية المعاصرة والأصالة الموجهان لما نطرحه هنا.. وأيضاً نطلب من قارئنا أن يقف معنا حتى النهاية ونصل به ومعه إلى النتيجة التي تفصح عن طبيعة موقع الرجل؛ موقفه النقدي من هذه القضية، لكن أيضاً اسمحوا لي بالتعليق بشكل مختصر عن قضية (الأصالة والمعاصرة) في الثقافة العربية، وأقول أنها ليست وليدة وليست جديدة فقد طرحت من قبل بصور مختلفة واعتقد أنها قادمة من جملة الصراع الفقهي الذي جرى عند بدايات الدولة العباسية في عصر التدوين (القرن الثاني الهجري) فقد بان للعقل الفقهي أن أوجب فعل منطقي يحمي الذاكرة الدينية من التشتت توظيف قياس (الغائب على الشاهد) وهو قياس في جوهره يحكي عن قضية الأصالة والمعاصرة .. وهذا أمر آخر..

منطلقات القراءة ومسألة المنهج:
أعمال كثيرة تركها الأديب طه حسين هذا غير الترجمات والدروس التي كان يلقيها، وهي تشكل في منظورنا خطاباً مكتمل الأركان هدفه صياغة المعرفة الثقافية في مصر أوائل وأواسط القرن الماضي، والخطاب بطبيعته مصطلح لساني، يتميز عن نص وكلام وكتابة وغيرها بشكله لكل إنتاج ذهني، سواء كان نثراً أو شعراً ، منطوقاً أو مكتوباُ، ذاتياً أو مؤسسيا .. وللخطاب منطق داخلي وارتباطات مؤسسية، فهو ليس ناتجاً بالضرورة عن ذات فردية يعبر عنها أو يحمل معناها أو يحيل عليها، بل قد يكون خطاب مؤسسة أو فترة زمنية أو فرع معرفي ما5. وخطاب حسين خطاب (عقل) لأنه يسميه هكذا (العقل المصري)6 ولابد من وجود منهج حاكم لهذا المشروع فإن كل منهج يصدر عن رؤية ولا بد: إما صراحة وإما ضمناً. والوعي بأبعاد الرؤية شرط ضروري لاستعمال المنهج استعمالاً سليماً مثمراً، الرؤية تؤطر المنهج، تحدد أفقه وأبعاده، والمنهج يغني الرؤية ويصححها7، وكما يفهم أن اللفظ جسم وروحه المعنى وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم يضعف بضعفه ويقوى بقوته8.

وهذا ما يجب أن ينطبق على قراءة المشروع الحسيني (نسبة لطه حسين) فالرجل أغزر الانتاج بدافع دون شك، وهذا الدافع قد لا يبين في سطح المعرفة المنتجة في قوالب أدبية وظيفتها الافصاح أكثر عن عدم الافصاح، وهذه وظيفة الأدب كما نراها، ولذا فإننا سنعمد إلى قراءة الشاغل البنيوي للرجل أكثر من نصوصه وإن كانت تعنينا بصورة مباشرة للتعرف على الثابت والمتغير فيها. فهل كان المضمون الأيديولوجي9 هو المحرك بل الفاعل الأساس في الحقل المعرفي لمشروع طه حسين؟ للإجابة عن هذا السؤال وجب الدخول في حوار مع بنية كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) والذي نعده نص فصّاح جداً لوضوح الرؤية فيه، وأيضاً لطابعه التوجيهي المباشر. ومقترحاته العملية والإصلاحية.

الأصالة والمعاصرة ، هل الحداثة بتجاوز التراث ونفيه؟
سؤال المعاصرة هو سؤال الحداثة، سؤال النهضة، وقد توزعت الإرادات الفكرية لمشاريع المثقفين العرب في التصدي لهذا الزوج (أصالة/معاصرة) وهذا الزوج يعبر عن السؤال المؤرق والدائم الحضور، لماذا تأخرنا وتقدم الآخر (الغرب)؟! والصحيح أنه يمكننا حصر بعض هذه الاتجاهات في (السلفي – الليبرالي – الاشتراكي – الماركسي) ونعتقد أن دعوة طه حسين إلى المصرية في الثقافة والفكر قد توضع ضمن تيار النزعة القطرية الضيقة، نقول نعتقد!

في كتابه الخطاب العربي المعاصر (المركز الثقافي العربي، 1982م) توصل الجابري إلى أن سؤال النهضة وراء انبعاث كل حركات التغيير والثورة في عالمنا العربي الإسلامي، ووضع هذه المشاريع النهضوية العربية متمترسة خلف نموذجين؛ الأول: الحضارة الأوروبية، والتي كانت بالنسبة لهم (دعاة النهضة) تحدياً ثقافياً (بحكم الحداثة) وعسكرياً (دول تحت الاستعمار)، والنموذج الثاني: الحضارة العربية الإسلامية التي شكلت بالنسبة لرواد التغيير السند الذي لا بد منه في تأكيد الذات لمواجهة التحدي وبين هذين النموذجين قوي إحساس بالفارق الذي أنتج (الانحطاط) الذي يعيشونه، واقع (النهضة) الذي يقدمه لهم أحد النموذجين: العربي الإسلامي في الماضي، والأوروبي في الحاضر، لقد فكروا في النهضة كواقع يجب صنعه!، ولكن هل نجحوا؟!.10

والحق أن طه حسين كان واعياً بأهمية حضور التراث وتوجيهه (فنحن بين اثنين: إما أن ننكر ماضينا كله ونجحد أسلافنا جميعاً ونرفض مجد المسلمين الذين أسسوا الحضارة الإسلامية ، وما أظننا مستعدين لشيء من هذا، وإما أن ننهج نهجهم ونذهب مذهبهم ونأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية في قوة كما أخذوا هم في قوة بأسباب حضارة الفرس والروم..)11، لم نفهم كيف يساوي بين ما يسميه (الأخذ)؛ أخذ الثقافة العربية الإسلامية من حضارتي الفرس والروم، وبين دعوته إلى تقليد الغالب بعبارة بن خلدون، هذا أمر غير دقيق لم (تأخذ) الحضارة العربية الإسلامية من حضارة الفرس والروم، الصحيح أنها استوعبتها ضمن مسيرة إعادة بناء الوعي التي جرت فيها وتجري باستمرار، لقد قام العقل العربي باستيعاب وتجاوز الرافد الفارسي واليوناني ضمن منظومته القيمية، وهذا أمر قوة، فقد فعل العقل العربي ذلك من موقع استواءه على الحضارة العالمية آنذاك.

فالأخذ الموصوف عند طه حسين والذي يدعو إليه أبناء مصر؛ الأخذ من الحضارة العالمية الجديدة، لا يشبه بأي حال من الأحوال ما قامت به الحضارة العربية في أوج ازدهارها من احتواء وتوجيه الأداب الفارسية والتي تمثلت فيما نسميه بالآداب السلطانية – رافد بن المقفع وغيره، والعلوم اليونانية قام الكندي والفارابي بعربنتها أي تحويلها من سياق الفضاء اليوناني إلى داخل أطر الثقافة العربية، فعلوا ذلك لأنهم كانوا في مركز قوة، وكذلك فعل بن رشد وقبله بن باجه إذ استوعبوا أرسطو لا كما يردد بأنهم شرحوا نصوصه هذا أمر خاطئ، أما حالة طه حسين وجيله؛ حالة التبعية والانكسار الذي عبر عنها هو ذاته بالقول".. ألا نلقى الأوروبي فنشعر بأن بيننا وبينه من الفروق ما يبيح له الاستعلاء علينا والاستخفاف بنا..)، فكيف يستقيم منطق القوة عندما سادت الحضارة العربية الإسلامية، ومنطق (التبعية والانكسار) في الأخذ بالنموذج الغربي؟!

ويقول إنه في دعواه تبني المتوسطية لم يأت بجديد لأن واقع الحال يقول بوجود هذه الثقافة في بنية الثقافة العربية (إني في حقيقة الأمر لا أدعو إلى شيء . فنحن آخذون بأسباب هذه الحضارة الحديثة بالفعل منذ اتصلنا بأوروبا في أوائل القرن الماضي، وأخذنا بها يزداد ويشتد من يوم إلى يوم، لا نستطيع غير ذلك، ولا نملك العدول عنه. ولو قد حاولنا هذا العدول لهلكنا«12 أهذه حتمية تاريخية أم وعي بتداخل الثقافات بين الشعوب، والإيمان بوجود روافد هذا التفكير في العقل العربي؟

إن قضية الأصالة والمعاصرة، أو قضية المنهج الذي يجب اتباعه في الوصول إلى الحداثة يطرحها طه حسين في كتابه معترف بالفارق النفسي بين المصري والأوروبي، الفارق الذي أوجده التناقض الذي قال به الجابري في (التمثل والكراهية) لنموذج الاستعمار (وأريد من كل مصري مثقف محب لوطنه، حريص على كرامته، ألا نلقى الأوروبي فنشعر بأن بيننا وبينه من الفروق ما يبيح له الاستعلاء علينا والاستخفاف بنا.)13، والسؤال أتوجد معاصرة دون أصالة؟ أيمكن تجاوز التراث بما هو حاضر فينا، والقطيعة معه لتمثل نموذج آخر باهر هو الحضارة الغربية؟! وألم تقم النهضة في أوربا على إعادة قراءة التراث اللاتيني القديم، قراءته لا لأجل تمثله بل لإعادة تشكيل الوعي من جديد، فالتاريخ الفلسفي للحضارة الغربية متمثلاً في هردر14 وكانط15 وهيجل وماركس قام على فكرة (التقدم) في التاريخ، وفي تلك العبارة (إن التاريخ هو حاصل الممكنات التي تحققت).

(أمصر من الشرق أم من الغرب؟!) أي شرق؟ وأي غرب؟
إن قضية الرجل تتعلق بـ(النهضة) نهضة مصر بعد الاستقلال، وسؤال النهضة ظل حاضراً رغم أصابته بكثير من الاختراقات فالخطاب النهضوي العربي لم يستطع طوال المائة عام الماضية من إعطاء مضمون واضح ومحدد، ولو مؤقتاً لمشروع (النهضة) التي يبشر بها، لقد بقي هذا الخطاب يستقي تحديداته لـ(النهضة العربية) المنشودة، لا من الواقع وحركته وآفاق تغييره أو اتجاه تطوره بل من (الإحساس بالفارق) إحساس الوعي العربي بالمسافة الواسعة والهوة العميقة بين واقع السقوط والانحطاط في الحياة العربية المعاصرة، وبين واقع التقدم واطراده في عالم (الآخر) العالم الأوروبي)16، والرجل قرر أن يدخل إليها عبر نقد (العقل المصري) نقداً يتخذ من التاريخ القديم أداة لإعادة بناء الوجود الحضاري للأمة المصرية، لقد سيطر على حسين العقل الهيغلي القائل بوجود روح في التاريخ، هي هنا (مصر القديمة)، ويطرح حسين ما يثير الاهتمام وهو استخدامه لثنائية (شرق/ غرب) فقد يبدو من سياق النص أنه يقصد بالشرق (الشرق الأقصى) .. (ولا أريد بالطبع الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي وإنما أريد الشرق الثقافي والغرب الثقافي)17.

هذا التوصيف لا يحل المشكل، فالغرب والشرق الثقافيين ليسا شيئاً مفهوماً أو له معنى متفق عليه، ذلك أن الشرق الذي يفصله طه حسين، يفصل تأثيره على مصر يظل جغرافياً باعترافه هو (أيهما أيسر على (العقل المصري) أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي)18 الصيني والياباني جغرافيا والفرنسي والإنجليزي كذلك، وينفي طه حسين أية علاقة بين مصر والشرق الأقصى الذي قلنا بأنه مفهوم جغرافي وإن قال بغير ذلك (وما أظن أن علماء التاريخ المصري القديم يستطيعون أن يدلونا على أثار أو نصوص تشهد بوجود هذه الصلات المستمرة المنظمة بين مصر في عصورها الأولى وبين الشرق الأقصى)19، وقد حصر التأثر الحادث (للعقل المصري) في صيرورة جغرافيتها بشعوب البحر الأبيض المتوسط20.

وفي سبيل إثبات هذا التأثر يعلل طه حسين عملية الأثر والتأثر هذه الحاصلة بين المصري واليوناني بأن مصر حاضرة في شعر القصاصين اليونانيين وممدوحة الذكر لديهم21. ورغم الطابع السطحي لهذه المسببات إلا أنه قد يُعذر بسبب جهة الخطاب والمخاطب فيه، وطه حسين يقول بأسبقية التأثير المصري على العقل اليوناني (كان العقل المصري إلى أيام الأسكندر مؤثراً في العقل اليوناني متأثراً به .. فلما كان فتح الإسكندر للبلاد الشرقية .. اشتد اتصال الشرق بحضارة اليونان، واشتد اتصال مصر بهذه الحضارة، وأصبحت مصر دولة يونانية، واصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان، ومصدراً من مصادر الثقافة اليونانية [22] (الأفلوطينية بالطبع)، وبالعودة إليه نراه ينفي أي اتصال بين ما سماه بـ(العقل المصري) وسنعود إليه، وبين عقل الشرق الأقصى (العقل المصري لم يتصل بعقل الشرق الأقصى اتصالاً ذا خطر ... واتصل بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى، اتصال تعاون وتوافق وتبادل مستمر منظم للمنافع في الفن والسياسة والاقتصاد).23

إن هذا النفي في الصلة بما يسميه الشرق الأقصى يطرح تساؤلاً هاماً جداً قد أجاب عنه ضمناً في قوله بالاتصال المصري مع العقل اليوناني، وبصورة أخرى يمكننا وضع أيدينا على جوهر ثنائية (شرق/ غرب) لدى الرجل. فالعقل اليوناني دخل إلى الثقافة العربية عبر نظامين معرفيين – نظام معرفي مشرقي ونظام معرفي مغربي – بمعنى آخر (عقل) مشرقي (عقل العرفان: الذي يهرب باستمرار إلى عالم الميثولوجيا المفلسفة، العرفان، كموقف وكنظرية، تكريسٌ للنظرة السحرية للعالم، أولاً وأخيراً؛ فهو تكريس أيضاً للبنية العامة للثقافات القديمة التي يشكِّل فيها الفكر السحري، وليس العلم24) و(عقل) مغربي، العقل المشرقي والذي تولى عملية تبيئة الفكر اليوناني؛ الفكر الفلسفي (أفلاطون وأرسطو) متمثلاً في الفارابي25 وابن سينا26 – والمغربي متمثلاً في ابن رشد وابن خلدون لاحقاً. لكن يظل السؤال أنه كيف يستقيم أو ماذا أراد طه حسين من ثنائية (الشرق/ الغرب)؟ أي بمعنى أوضح ما هو المقصود فعلاً بالشرق والغرب كذلك؟! ثم وجب علينا الوقوف عند ما يسميه (العقل المصري)، فهل كان طه حسين يؤمن بوجود (عقل) مصري مستقل؟! علينا الوقوف قليلاً هنا .. هل للأمر علاقة بثنائية أخرى هي (دين/ دولة) أو (سياسي/ ديني)؟! سنجيب عن هذا بعد الفقرة القادمة.

عقل بأي معنى؟!
لفظة (عقل) كما نجدها في معجم لالاند (عقل( ملكة، سبب، نشاط، علة Reason، من المرجح أن أقدم معنى للكلمة يتعلق بـ ratus من reor بمعنى ظن واعتقد وفكر، ويبدو أنه كان دالاً، قبل العصر المأثور، على حساب وعلاقة بنحو خاص. وأدخله لوكريس وشيشرون في اللسان الفلسفي.27 وعبارة (العقل المصري) تفيد بشكل مباشر إلى وجود مفهوم ثابت لدى طه حسين ويرى أن العقل المصري ليس شرقياً بمعنى أنهم لم يداخله شيء من ثقافات الصين واليابان والهند28، أي أنه عقل مستقل بذاته، وهذه النظرة التي يمكن وصفها بالنظرة المشحونة بالعصبية العرقية تدل دلالة كافية على فساد الرأي بوجود (عقل) مصري مستقل بذاته، هذا إذا نظرنا إلى العقل باعتباره شيء آخر غير الفكر، فالعقل هنا كما نفهمه أداة للإنتاج وليس إنتاجاً، أما انتاجه فهو ما نطلق عليه (الفكر)، وبذا فالعقل ليس شيئاً داخل الذات هو عملية اكتساب مستمرة وتغذية تتحدد بروافد تدخل وتخرج تؤثر وتتأثر وتموج فيها أطراف من موجات عديدة مختلفة في درجة والقوة والثبات.

وبذلك نقول أن ثمة صعوبة في الوقوف مع طه حسين بالقول بوجود (عقل) مصري هو شيء آخر غير العقل العربي، عقل الكل الداخل إلى بنية الثقافة العربية، فهل كان العقل المصري بمعزل عن التأثر بالموروثات التي خالطت العقل العربي؟! (الموروث الفارسي، الذي ورثه الإسلام بعد الفتح ، والموروث اليوناني وينقسم إلى قسمين: ما ينتمي إلى العصر الهيلينستي (اليوناني-الروماني)، وما ينتمي إلى العصر الهيليني الإغريقي الخالص، ثم الموروث الصوفي، القائل بأنه "الباطن" و"الحقيقة"، المُحايثين لكل دين.؟!.

لأننا لو سلمنا بوجوده (العقل المصري) لأمكن القول بوجود (عقل مصري فرعوني- عقل مصري هكسوسي – عقل مصري روماني – عقل مصري نوبي ... ألخ) فالحق الممنوح لتجاوز المؤثر يسمح بتعدد الذوات المفكرة، وقد يكون الدافع القومي هو ما حدا بحسين أن يطرح مثل هذا المفهوم، ويبدو أنه لم يحمله أكثر من خصوصيته الحضارية المرتبطة في نظره بحالة مصر قديماً، إذا هو الماضي الذي يغذي الحاضر، ليس هذا فقط بل يحدد له مستقبله.

وحسين إذ أراد تمييز المصريين بعقل يخصهم طمعاً في إزالة أي أثر للمشرق (الجغرافي بحسب وصفه) أي عقل لم يداخله شيء من سحر الشرق وغنوصيته المتمثلة في الحضارة الفارسية والهندية بشكل خاص والذي تحول بسبب الفتح إلى رافد من روافد التفكير العربي، أمكن دحض هذا الأمر فالحضارة الفرعونية ليست إلا بنية يشكل فيها السحر أساسياً معرفياً، فكيف بإمكاننا تفسير وجود السحر كمحدد قار في السياسة الفرعونية (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) – سورة الأعراف) ولذا فرفض المشرق المتشكل بواسطة نظام اللاعقل يخشاه طه حسين ويهرب منه دون أن يعترف بأن بنية عقله المصري المقترح يتشكل من ذات الطينة المعرفية.

العلاقة بين (العقل) المصري و(العقل) اليوناني:
(ولا غناء أن نتحدث عن (الفلسفة الإسكندرية) التي نشأت عن هذا الاتصال الشديد المتين بين العقل المصري والعقل اليوناني.)29 (الفلسفة الإسكندرية) والأقواس من عندي ما هي هذه الفلسفة الاسكندرانية؟ وما هو الدور الذي لعبته في تمتين العلاقة بين العقلين – مصري – يوناني؟! وهل كان محقاً في قوله بأنها مدرسة عقلانية؟! هذه الأسئلة هي محور الفقرة القادمة.

في تاريخ (مدرسة الاسكندرية):
مدرسة الإسكندرية هي المدرسة التي أسسها الأسكندر الأكبر (باليونانية: ألكساندروس أوميگاس) انتشرت تعاليمها (تعاليم) أفلوطين عبر أستاذه المؤسس الأول لتيار (الإفلاطونية الجديدة) نومنيوس الذي عاش في سورية في القرن الثاني الميلادي، والذي كانت نصوصه تدرس وتشرح في مدرسة أفلوطين نفسه، وأفلوطين الموصوف في الثقافة العربية بـ(الشيخ اليوناني) وقد عكفت هذه المدرسة على التوفيق بين الفيثاغورية من جهة والديانات الشرقية من جهة ثانية30، وقد عمل نومنيوس على دمج الدين في الفلسفة وبالضبط (حكمة اليهود) في فلسفة أفلاطون.31

والعلوم الفلسفية اليونانية انتقلت إلى الفكر العربي الإسلامي عبر أربعة تيارات لبست كلها ثوب الإفلاطونية الجديدة (التوفيق بين الدين والفلسفة):

- الأول حمله التراجمة والكتاب الذين من أصل إيراني يسميهم كوربان.

- الثاني: التراجمة النصارى الذين قدموا من جنديسابور.

- الثالث: الأساتذة الحرانيون وتلاميذتهم.

- الرابع: مجلس التعليم القادم من الإسكندرية.32

إن مضمون هذه المدرسة نجد تجلياته في التفلسف الإسلامي كما هو عند الفارابي وابن سينا، فالاثنان انشغلا بمسألة التوفيق بين الدين والفلسفة، إذن تأثيرها يمس العقل الموصوف بالمصري، فالعقل هنا كما لا يريده طه حسين يرتبط بذات القضايا التي انشغلت بها مدرسة الإسكندرية – الجسر – بين مصر وحضارة اليونان، هي مسألة التوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية، وحضور أرسطو الفيلسوف السببي العقلاني باهت بل ومنحول، فهل تقف هذه الفرضية ضد عقلانية العقل اليوناني المتصل بالعقل المصري كما أراد طه حسين القول؟!

ثنائية (شرق/ غرب) امتداد قديم لليونانية المعربة في المشرق والمغرب العربيين:
طه حسين خريج المدرسة الفرنسية، تلميذ المدرسة الفرنسية، وريثة العقل الأرسطي اليوناني، والتي سنجدها في قطيعة مع التراث المشرقي، وفي تأثر دائم واعتراف بفضل (Averroes) وهي المقابلة اللاتينية لاسم الوليد بن رشد.33 وهذه القطيعة المعرفية مع العقل المشرقي؛ العقل يصفه محمد عابد الجابري بأنه (العقل المشرقي بسبب من تأثره بالباطنية السينوية والغرائبية الفارابية، مارس تشويهاً في تعريب أرسطو، فالفرق كبير بين الأفلاطونية (مدرسة الإسكندرية) والأرسطية، ولكن الفارابي ضحية الإفلاطونية كتب مؤلفه ( التوفيق بين آراء الحكيمين) ما يقوم مثالاً عن شطط الربط بين منهجين مختلفين روحاً ومضمونا، لقد أراد الفارابي أن يجمع بين مدرستين هما امتداد طبيعي لبعضهما. فأفلاطون كان مثالياً (يشبهه هيجل لحد كبير)، وأرسطو كان مادياً (يشبهه كانط وباشلار).34 هذا مع الوضع في الاعتبار الرموز المشكلة للعقل المشرقي الواقف في الضد من المشروع النقدي في الثقافة الفرنسية الوارثة للثقافة اللاتينية والتي بدورها امتداد طبيعي لمشروع اللاتين الرشديين، إن المدرسة الفرنسية هي امتداد لمشروع ابن رشد. فهل ينكر حسين أن الحضارة الغربية ورثت ابن رشد ومشروعه الثقافي الشامل في إصلاح العقل العربي؟!

خلاصات وآفاق:

كما يجدر بنا القول إن ما طرحناه في هذه الورقة بمثابة خطاطة عامة لقضية الحداثة عند طه حسين، وستظل أسئلة الورقة حاضرة إلى حين استكمالها، وفي خلاصات يمكن الوقوف عليها نقول:

- طه حسين يربط العقل المصري بالعقل اليوناني، يفعل ذلك ليتفادى الأصول اللاعقلانية للمشرق، ولكن يبدو أنه أعادنا مرة أخرى لثنائية المشرق والمغرب في الثقافة العربية – بمعنى – مشروع الفارابي/ ابن سينا في (التوفيق بين العقل والنقل- بين الله والأرض – الجسد والروح – التوفيق بين الحكمة والشريعة بلغة ابن رشد)، وعقل مغربي عقل ابن رشد رائد العقلانية العربية الإسلامية، ونصوصه التي تميزت بالنضوج الفكري وبالمعرفة الأصيلة بالفلسفة القديمة، وأهم ملامحها قيامها على الفصل بين الدين والفلسفة وذلك بغرض الحفاظ على الدين من الرؤية الغنوصية واستشراء الباطنية المفرطة، وذلك على عكس المدرسة المشرقية والتي هي باطنية- هرمسية- غنوصية- لا عقلية، ولذا نجده يقول بالعلمانية (فالمسلمون قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيء آخر).35

هذا الكلام لا يصمد أمام التحليل، الرجل هنا يحمل عبء الفلسفة في المشرق – فلسفة التوفيق بين آراء الحكيمين، ولكن هل فكرة المنافع تتنافى مع الدين كمكون من مكونات الدولة؟!.

- التعلق بالعقل اليوناني وعلومه كما هي في مدرسة الإسكندرية يجعل طه حسين يخلط بين المصادر الأفلاطونية المتمثلة في المدرسة الإسكندرية – المسيحية اللاهوتية، وبين ما أراده من تمثل العقل اليوناني كما هو عند أرسطو؛ أرسطو الذي وصل مشوهاً في المشرق، فكيف يمكن حل هذا الإشكال؟!

- قضية الأصالة والمعاصرة باعتبار العقل المصري جزء من كل قديم – هو مصر القديمة – قد يوقع طه حسين تحت الإشارة إلى تعصبه القطري – وانكاره للمؤثرات الشرقية في العقل المصري إن وجد عقل مصري مستقل. والتراث الذي يسعى حسين لتجاوزه ونفيه سيغلق أمام فرضيته الباب؛ فرضيته القائلة بأن مصر للغرب وليس للشرق، كيف؟ فالغرب ذاته أعاد بناء وعيه الخاص عبر نقد نقد تراثه، فكيف يستقيم الحال في التمثل بغير تتبع مستمر؟!

- هل الغرب وحوض المتوسط بعلومه له مصدر آخر غير الحضارة العربية كما هي في تعريب أرسطو وإعادة شرحه بل واستكمال مشروعه على يد الوليد بن رشد، وهذا يجعل تمثل الغرب غير ذا جدوى، إن لم يكن متهافتاً؟!

- أراد حسين القطيعة مع العقل المشرقي لإقامة مشروعه النهضوي، لكن قد يكون هو ذاته وقع ضحية هذا العقل بقوله بالتأثير البالغ لمدرسة الإسكندرية، وهي التي قلنا بلاعقلانيتها بل ومحاولتها التوفيق بين الدين والفلسفة؟

- هل العقل الطامح إليه مشروع حسين يجد محدداته في الفلسفة الغربية التي ورثت تراث ابن رشد؟ وهو بذلك لا يقطع مع المشرق (الصين – واليابان) بل مع الفلسفة المشرقية كما هي تبدأ بالفارابي وتنتهي عند الغزالي..!

- وهل القطيعة بمعنى النفي أم الاستيعاب والتجاوز؟ كأساس لأي عملية نهضة؟ وهل يمكن تجاوز التراث الحاضر فينا؛ في بنية الوعي واللاوعي لا نملك الفكاك منه وتخطيه انطلاقاً إلى نهضة مرجوة؟!


ghassanworld@gmail.com

كاتب وإعلامي من السودان- صدر له: الهوية السودانية (تفكيك المقولات الفاسدة)- العلمانية في نقد المفهوم- ديكور العويل في معنى السيرة- عنف النخبة (قراءة في جذور التكوين والامتياز)- معد ومقدم برنامج الوراق الثقافي.

هوامش:

[1] راجع مقال (طه حسين والثورة والدستور الجديد) – رشاد كامل - www.masress.com/rosasabah/118973

[2] أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ – البيان والتبيين – الجزء 4 - بيروت: دار إحياء التراث العربي – 1968 – صفحة 49 – 50

[3]مستقبل الثقافة في مصر – 1938- طبعة دار المعارف – ص (20) – نسخة إليكترونية عن منتدى مكتبة الإسكندرية – 1996م.

[4] مرجع سابق: نفس الصفحة.

[5] ميشال فوكو – نظام الخطاب – ترجمة د. محمد سبيلا- ص 4

[6] سنعرض لهذه المسألة بتفصيل أكثر لاحقاً.

[7] نحن التراث – محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية – 2006م – ص (30)

[8] أبو علي الحسن القيرواني ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، جزء 1 ، ص 124

[9] المقصود بالمضمون الأيدلوجي، أي الوظيفة الآيديولجية (السياسية – الاجتماعية) التي يعطيها صاحب الفكر للمادة المعرفية (راجع الجابري، نحن والتراث ص (34).

[10] (الخطاب: ص 22)

[11] الكتاب 46

[12] الكتاب 47

[13] الكتاب صفحة 16

[14] يوهان جوتفريد هردر (1744 – 1803م) كاتب وشاعر وفيلسوف وناقد ولاهوتي ألماني.

[15] إيمانويل كانت – 1724- 1804 – فيلسوف ألماني

[16] الخطاب العربي المعاصر: ص 196

[17] مستقبل الثقافة – صفحة 18

18] سابق – ص 19

19] الكتاب – صفحة 19

20] راجع الكتاب صفحة 20

21] الكتاب صفحة 21

22] الكتاب صفحة 25

23] الكتاب صفحة 20

24] بنية العقل العربي، ص379

25] (ولد عام 260 هـ/874 م في فاراب وهي مدينة في بلاد ما وراء النهر وهي جزء مما يعرف اليوم بكازاخستان وتوفي عام 339 هـ/950 م)

26] (المولود سنة 370هـ (980م) بقرية أفشنا القريبة من بخاري، وتوفي في مدينة همدان (في إيران حاليا) سنة 427هـ (1037م). من أم قروية وأب بلخی, ووالده من أتباع الباطنية، كما ذكر ابن سينا وقد كان يحضر اجتماعاتها السرية ويعقد بعضها في بيته

27] أندريه لالاند - موسوعة لالاند الفلسفية – منشورات عويدات (بيروت – باريس)

28] الكتاب صفحة 22

29] الكتاب صفحة 25

[1][30] راجع – محمد عابد الجابري – نحن والتراث – مركز دراسات الوحدة العربية – 2006- صفحة 189.

31] سابق – صفحة 190

32] سابق صفحة 193

33] أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ولد في قرطبة سنة 520 هجرية / 1126 ميلادية ، وتوفي في المغرب سنة 595 هجرية / 1198 ميلادية.

34] راجع مخطوطة كتابنا – محمد عابد الجابري – الانخراط في التراث لأجل الحداثة 2011 منشور بمنبر بن رشد للفكر الحر ببرلين.

35] الكتاب – صفحة 24