يبحث الروائي العراقي الوضع العراقي بعد 2003 ويرسم صورة لتكوّن مليشيات الأحزاب الطائفية، من خلال بائع خضار يتحول إلى شيخ معمم ينخرط في عالم الميلشيات والجريمة بعد سفره إلى النجف للدراسة في مدارسها الدينية، وفي مسيرة الشخصية المحورية تتشجر شخصيات تعكس الواقع الاجتماعي والثقافي والحياتي في بدايات الاحتلال.

رواية العدد

رأس التمثال

حسن الفرطـوسي

 

إهداء
حبل النجاة قد يغدو مشنقة
إلى/ مارغريت حسن .. العالقة في سمو الحق.

(1)

بعد أن حطّم كل جسور التواصل مع رعيّته، أخذ يتباهى بآخر شعرة أبقى عليها، حتى إنها اكتسبت اسمه..

إنه ليس خليفة الله على أرضه، هو ليس سوى بائع خضار متجوّل في بغداد. سأختار له البداية، لكني سأترك لكم اختيار النهاية، أو النهايات، وفق ما تقتضية ترسبات الحكاية..

ما قالته زوجته مساء أمس، غرس في روحه هاجساً مرعباً، جعله يتقلّب على سريره طوال الليل، شعر بأن الشيطان قد أوقع بينه والنوم في تلك الليلة.

وعلى الرغم من أن السنوات الخمس الماضية قد تركت بعض القلق الذي اقتحم حياة الشيخ ناصر في فترات متباعدة بسبب تقلبات الحياة السياسية والصراعات الحزبية في البلد، إلا أنه كان ينام بعمق دونما أرق يخالج عينيه.

نهض من سريره بتثاقل متوجها إلى باحة بيته المعتمة، وبدأ يعب أنفاسا عميقة، كمن يريد تفريغ رئتيه من هواء متعفن.

"اللعنة.. أي هاجس مخيف هذا الذي سرّبته إلى روحي هذه المجنونة بنت المجنون؟ ولكنها، واقعاً، على حق في كل ما قالته! ما الذي سيكون عليه مصيري لو اكتشفت الشرطة وجود هذه الكارثة في بيتي؟ رأس تمثال لرئيس مخلوع في بيت رجل دين معروف ومحسوب على جهة سياسية متنفذة! يا لها من فضيحة ستلوكها ألسن المؤيدين قبل الحاقدين!".

دار في إرجاء الباحة التي بدت أضيق مما مضى.. سار نحو حنفية الماء المنحنية على حوض مغسلة منصوبة في مكان منعزل من الفناء، وراح يتوضأ بعد أن قرر أن يحتمي بركعتي صلاة لطرد وساوسه المرعبة.. برودة الماء المنسكب على يديه ووجهه منحته شيئاً من الطمأنينة، جعلته يطيل المكوث متكئاً على حافة المغسلة وهو يتأمل انسكاب الماء على ساعديه اللتين بدتا أنعم بكثير من ذلك الزمن الذي كان قادرا فيه على حمل رأس تمثال صلد يزن أكثر من مئة كيلو غراماً..

من على حافة المغسلة تذكّر تفاصيل ما حدث بكل جزئياته.. في التاسع من نيسان من العام 2003 تحطمت تماثيل كثيرة لشخص واحد، تماثيل متعددة الأحجام والأوضاع، كان أولها التمثال العملاق الذي احتلّ ساحة الفردوس ببغداد والذي شهد العالم بأسره سقوطه عبر شاشات التلفزة. وكان الشيخ ناصر آنذاك ليس سوى بائع خضار متجول بعربة خشبية، اصطف بين الحشود التي حضرت مشهد سقوط التمثال.. قبل أن يرتدي العمامة بعد تلك الأحداث ببضعة أشهر.

إنها لحظات سقوط الدولة رسمياً وسقوط الوطن، حين هرب حماته عراة، وابتسم الخونة والعملاء بخبث وتشفي، بينما بكى محبوه بنواح غامض، لا يعرفون له تفسيراً.

نعم، هي أحداث كثيرة ولم يكن التمثال وحده الذي سقط، وحتى حينما يتذكرها تزدحم الأحداث مع بعضها كمن عاش حلماً تداخلت فيه الأزمنة والأمكنة.. كان يراقب المشهد بذهول، مشهد الشاب صاحب العضلات المفتولة والمطرقة الكبيرة التي كانت ترتد عليه مع كل طرقة دون أن تحدث سوى شرخ بسيط على قاعدة التمثال، ولكنه واصل الطرق بلا طائل، حتى كادت تخذله قواه، حيث بدا الوهن واضحاً من خلال صوت المطرقة الذي أخذ يخفت شيئاً فشيئاً، وسط إحساس تسلل إلى الجميع بأنه لا يستطيع فعل شيء أمام صلادة الكتلة الكونكريتية التي انتصب عليها التمثال.. لكن وصول الرافعة العملاقة التي أحضرها الجيش الأمريكي بددت الاحراج وأنقذت الشاب ذو العضلات المفتولة من موقف لا يحسد عليه.

جاره العقيد "أبو ورقة" المتقاعد من الجيش منذ سنوات، والمولع بتأويل كل شيء على نحو مشفر، همس له بأن حضور الرافعة الأمريكية في ذلك الموقف ما هو إلا رسالة رمزية إلى العراقيين، وكأن لسان حالهم يقول "لا تحاول أيها البائس، ما هكذا يسقط الطغاة.. ابتعد أنت ومطرقتك الغبية، فنحن نعرف لغة الجبابرة، ونعرف كيف نسقط الرؤوس". وكانت حجة العقيد "أبو ورقة" هي أن مثل تلك الرافعة لا موقع لها في المعركة سوى أن تستعرض لسيناريو معين أمام العالم، مهمتها الوحيدة هي أن تقوم بدور المنقذ لذلك المأزق الحرج، وتقوم بعملية سحب التمثال من رأسه وإسقاطه أرضاً بعد أن تخور قوى الشاب صاحب المطرقة دون أن يهتز التمثال.

وعلى الرغم من أن ناصر يرى في بعض الأحيان أن كلام العقيد "أبو ورقة" يحمل الكثير من المنطق الصائب، لكنه غالباً ما يراه متحذلقاً ليس إلا.

انصرف ناصر نحو مشاركة الحشود في التهليل والأهازيج فرحاً بالخلاص من دكتاتور مهووس بغرس تماثيله في كل مكان، كما شارك في صفع حطام التماثيل بنعاله، لكن فكرة طارئة راودته في لحظة غامضة جعلته يحمل رأس أحد التماثيل العملاقة وينقله إلى بيته بواسطة عربته الخشبية، في وقت انشغل الآخرون بنهب ما يستطيعون حمله من دوائر الدولة المنهارة..

على طريق مكسو بطبقة سميكة من الغبار في منطقة العلاوي كانت العربة تتهادى حاملة الرأس، شاقة طريقها وسط مشهد احتوى صخب التناقضات وهي تصطدم ببعضها.. كان ناصر يدفع العربة بهمّة عالية وإصرار كبير على إيصال رأس التمثال إلى بيته في أسرع وقت ممكن، لكن تظاهرة صادفته وأعاقت حركته، ثمة حشد من الشيوعين، كلهم تقريبا في العقد الخامس من العمر، بينهم عدد لا بأس به من النساء، أعمارهن مقاربة لأعمار الرجال المشاركين بالتظاهرة، يسيرون بأعلام حمراء ويهتفون "وصانا فهد من مات، ثورتنا إشتراكية" وعلى الرغم من الحماس الذي تتمتع به التظاهرة، إلا أن الهتاف بدأ يخفت شيئاً فشيئاً مع إرتفاع صوت أذان الظهر من مسجد ابن بنيّة القريب.. في اللحظة تلك كان على اليمين ثمة حشد من العمال بثياب بالية يصلون مسبلي الأيدي في ساحة لنقل البضائع، بينما جاء رتل من العجلات المدرعة للقوات الأمريكية ليشقّ تظاهرة الشيوعيين إلى نصفين ويمضي في طريقه مخلفاً سحابة من دخان وغبار.

لمحه جاره العقيد أبو ورقة وهو يدخل رأس التمثال الكبير إلى البيت، كان واقفاً كعادته في باب داره، مرتدياً برنصه المخملي الذي يعطيه ملامح الطبقة الأرستقراطية رغم إنه يعيش في منطقة شعبية جداً ويجاور بائع خضار متجول، كان العقيد يراقب الفوضى التي التهمت الشوارع والبيوت، يراقب الحشود الراكضة باتجاه دوائر الدولة والحشود القادمة منها بعد نهب أثاثها وأجهزتها، بينما تعلو محياه ابتسامة خفية.. إبتسامة تضمر مزيجاً مضطرباً من المشاعر، شماتة، أسف، فقدان، إستسلام، خذلان، وقد لا يخلو من الرغبة في أن يكون شاهد عيان لحدث يراه بداية لمشوار، لا نهاية دكتاتور وحسب.

تقدم العقيد بخطوات واسعة باتجاه بيت ناصر، في الوقت الذي كان فيه الأخير يدحرج الرأس الكبير ليوصله إلى مكان تحت السلّم.. دفع الباب دون استئذان، باغته بوجوده عارضاً عليه المساعدة. ناصر أدرك أن العقيد لم يأت لغرض المساعدة، وإنما لإيصال رسالة رمزية، كعادته، مفادها بأنه يعلم بوجود رأس التمثال.

ارتسمت على وجه ناصر ابتسامة مشوبة بالخوف والقلق وهو يحاول إيجاد أي كلام يقوله:

  • أريد أن أحتفظ بهذا الرأس لكي لا ننسى الأيام السود التي عشناها تحت حكم هذا الدكتاتور الظالم.
  • معك حق، معك حق، الاحتفاظ بالرأس مهم جداً لتذكّر الأيام السود، فضلاً عن إنه سيكون ذا قيمة مالية كبيرة بعد بضع سنوات.

الجملة الأخيرة التي قالها العقيد أبو ورقة بصوته المخنوق نزلت بمثابة الصعقة على كيان ناصر وزادت من اضطرابه، لكن قول شيء، أي شيء حتى لو كان بلا معنى، أمر لابدّ منه:

  • لا يهمني ثمنه المادي.. كل الذي أريده هو أن أشمت بصاحب التمثال وأضرب رأسه بنعالي هذا، في أي وقت أشاء.
  • معك كل الحق.. لكن عليك أن تخبئه جيداً لكي لا يراه أحداً.. دعني أساعدك بنقله إلى مكان آمن.

انحنى أبو ورقة ليعين جاره في دحرجة الرأس حتى أوصلاه إلى الزاوية المحصورة تحت السلّم، ثم أعاد عليه وصيته بأن يغطيه بدثار محكم وغادر المكان بخطوات تشي بزهو ونشوة.

منذ ذلك اللقاء الاستثنائي أصبح العقيد أبو ورقة يشكل هاجساً مقلقاً رافقه بشكل دائم، خصوصاً مع تصاعد الأحداث وتكاثر الأحزاب والمليشيات والجماعات الدينية.

سحب الشيخ ناصر يديه بكسل من تحت الحنفية واتجه نحو وسط باحة الدار وهو ينفض يديه مما علق بهما من ماء.. وجد نفسه في لحظة أمام رأس التمثال المركون تحت السلّم. جلس القرفصاء أمامه.. تأمله.. تأمل ملامح الوجه التي بدت أقلّ حدّة مما مضى.. تفرّس في العينين المتحجرتين، وسارت نظراته نحو انحناءات الوجنتين، نزولاً إلى الشارب الذي خفتت فيه علامات الغطرسة والتجبّر.. مرّر يده النديّة على تضاريس الوجه الصنمي الجامد.. تسرّب إلى نفسه إحساس بالحسرة والندم.. بصق على تلك الملامح ونهض مبتعداً كمن يحاول التحرّر من إثم ما.. سار وسط الباحة حيث الحديقة الصغيرة التي تحتلّ بضعة أمتار مربعة من بيته، انتبه إلى شحوب شجيراتها التي أوشكت على الجفاف، ذكره بشحوب وجه زوجته حين تنتابها نوبات الغضب.

في البدء كانت نبرة اعتراضات زوجته لا تتعدى حدود السخرية "ليتك جلبت لنا مبردة هواء، أو طباخ، أو حتى كرسياً، بدل هذه الصخرة البليدة يا رجل"، هكذا كانت لغة اعتراضها، قبل أن تتصاعد شيئاً فشيئاً نحو التهديد بالقطيعة.

  • قصة الغضب قد بدأت أول مرّة قبل بضعة أعوام، قبل أن يصبح ناصر شيخاً دينياً، حيث كانت الزوجة في حالة هستيرية لم يشهدها من قبل، كان كل شيء في ملامحها يوحي بالخوف والفزع وهي تصرخ في وجهه الذي اكتسحته الحيرة "لن أبقى في هذا البيت أبداً، سآخذ طفلي وأذهب إلى حيث لا تعلم.. عليك أن تقرر الآن وتختار، إما أنا في هذا البيت، أو هذا الرأس المشؤوم.. هل تتخيّل ماذا سيحلّ بنا لو اكتشف رجال المليشيات وجود هذا الرأس؟ أنا أقول لك، سيقتلوننا ويلقون بجثثنا إلى الكلاب السائبة وسيعتبروننا من أعوان النظام السابق".

هز رأسه محاولاً تهدئتها:

  • هدئي من روعك، سأتدبّر الأمر، أعاهدك إن أبعده الليلة!
  • أتمنى أن لا يكون كلامك هذا مجرّد تهدئة مؤقتة مثل المرّة السابقة.
  • لا، صدقيني، هذه المرّة سأخلصك منه إلى الأبد.

مع حلول الظلام أحضر عربته الخشبية وساعدته الزوجة في حمل الرأس الضخم لوضعه على العربة ثم دثره بلحاف قديم ومضى يدفع العربة بحذر لئلا يكشف أمره، متخذا الطرق الضيقة التي توصله إلى بيت أخته الساكنة في الحي المجاور. كان يدفع العربة وهو يفكّر بالكلام الذي سيقوله لأخته، بحيث يضمن إقناعها باستضافة "ثروته الموعودة" كما كان يقينه طوال الفترة الماضية.. قال في سرّه، بينما كانت العربة تتخطى وعورة الطريق "لابدّ وأن أتمكن من إقناع أختي بالاحتفاظ به، إنه ثروتي الموعودة، ولا يمكن أن أتخلى عنها بعد كل تلك الأشهر من الرعب والخوف، كلها سنة أو سنتين بأكثر الأحوال وسيكون بوسعي أن أبيعه بمبلغ خيالي، سأقول لأختي بأنها ستنال خيراً وفيراً في حالة بيعه".

انحرف بعربته نحو اليمين باتجاه الشارع العام المؤدي إلى بيت أخته، الشارع كان أكثر عتمة من الزقاق الضيق الذي قدم منه. أربكه وجود بعض الشبان المتجمعين في رأس الزقاق، ألقى عليهم التحية متصنعا المرح، لكي يخفي ارتباكه، ثم واصل دفع عربته على عجل.

في تلك اللحظة كانت زوجته قد سارعت بتنظيف مكان رأس التمثال بهمّة ونشاط بعد أن جهزت أشياء قديمة لتشغل بها مساحة ما تحت السلّم، لقطع الطريق أمام زوجها بإعادة الرأس المشؤوم مرّة أخرى.

استقبلته أخته ببشاشة وترحاب وهي ترفع يدها حاملة الفانوس النفطي لكي يتسنى لها رؤية ملامحه التي كساها العرق والخوف والترقّب.. لم يواجه الكثير من العناء في إقناعها بالاحتفاظ برأس التمثال عندها.. عاد إلى بيته فرحاً مطمئناً، حاملاً بشرى التخلص مما ملأ قلب زوجته رعبا طوال الفترة الماضية.

بيد إن تلك الطمأنينة لم تدم طويلاً.. بعد أيام قليلة فاجأته أخته طالبة منه أن يستعيد أمانته ويخلصها من ذلك الرعب الذي جلبه لها.. قالت له بشفتين مرتجفتين "لا أستطيع الاحتفاظ به".

وبذات المغامرة الليلية أعاده، وما أن أدخله إلى بيته، حتى دخلت زوجته في نوبة جنون لم تخطر له على بال، فقد انتابتها نوبة هستيرية عنيفة جعلتها تحطم كل ما يقع تحت يديها، كان ينظر بذهول إلى ملامحها التي استحالت إلى كتلة من الجنون والفزع.. ارتبك كل شيء بينهما، ازدحمت الأسئلة مع الأجوبة، الصراخ مع الصمت، لم يعد ثمة فارق بين ما هو مدهش وما هو بديهي.

ابتسامة فاترة شقت طريقها إلى شفتيه وهو يجلس على الحاجز الإسمنتي المنخفض الذي يسوّر الحديقة "أي لحظة مجنونة تلك التي قلبت حياتي رأساً على عقب، وأي قدر هذا الذي يجعل كل ما فعلته لا تكفي لإخفاء رأس تمثال متحجّر الملامح؟ سامحك الله يا أبا ورقة، لا أدري ما إذا يتوجب عليّ أن أدعو لك أم أدعو عليك!".

كان لتدخلات العقيد أبي ورقة ونصائحه تأثير كبير في التحولات المصيرية التي شهدتها حياة الشيخ ناصر.. ورغم أن علاقتهما توطدت بعد تلك الواقعة، بيد إنها كانت تنطوي على بعض الشك والريبة، رغم كل ما قدمه أبو ورقة من خدمات وإرشادات، مما جعل الشيخ ناصر يشعر بشيء من الطمأنينة تارة، والقلق والتوجس تارة أخرى.. كان يشعر أحياناً بأن العقيد أبو ورقة لم يكن شريراً وليس لديه أية نية سيئة تجاهه، ولكنه لا يدري أي شيء عما يتسلى به العقيد أبو ورقة.

هو يتسلى وحسب...

ذلك ما قاله أبو ورقة في حديثه ذات مرّة مع صديق قديم له كان قد خدم معه لسنوات طويلة في قيادة أحد الألوية العسكرية في زمن الحرب العراقية الإيرانية.. قال له بأنه يتسلى بتجريب النظريات الاستخباراتية التي قرأها بعد إحالته إلى التقاعد.. قال له:

  • إنها فرصة هائلة للتجريب، سأتخذ من بائع الخضار هذا عينة مختبرية لنرى النتائج.
  • لكنك تلعب في نار قد تحرقك في لحظة سهو.
  • هه.. النار هي التي تلعب فينا جميعا يا صديقي.
  • أنت تسكن منطقة في غاية الخطورة، وكر كبير للمليشيات المسلحة، وأي وشاية صغيرة ستعيد إلى الأذهان بأنك عقيد سابق في جيش حقبة أصبحت مكروهة.
  • لا تقلق.. الجميع هنا يعرفونني جيداً ويعرفون حكايتي مع لقب "أبو ورقة".

كانت حكاية مدهشة وبالغة الرمزية، وقد رددتها الناس بإعجاب شديد على مدى سنوات.. ومن خلال تلك الحكاية اكتسب العقيد صباح مشكور لقب "أبو ورقة" حيث كان يقود أحد الألوية القتالية أبان الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت لثمان سنوات. ورغم كل ما يعرف عن العقيد صباح من انضباط عسكري وحزم في تنفيذ الأوامر وتحريك جنوده، إلا أن غبار سنوات الحرب الطويلة الذي توغل إلى كل تجاويف الحياة وأخفت بريقها وأفقده الإيمان بجدوى الحرب وعزز يقينه بعبثية المعارك التي تلتهم الأرواح بوحشية يصعب تخيلها.. معارك يقرر زمانها ومكانها دكتاتور جاهل بالعلوم العسكرية وبلحظات نزقة تخامر نرجسيته المتضخمة.

أرّقه هاجس أن يكون أداة لإبادة جنوده، واستحال زمن وجوده في جبهات القتال إلى جحيم لا يطاق.

لم يكن بوسعه سوى إدعاء الجنون...

كان ذلك الحل الأمثل للخروج من المأزق.

بدأت تلك الدراما حينما أقدم في إحدى الليالي المقمرة على الخروج من ملجأه بملابسه الداخلية حاملاً بندقية الكلاشنكوف وتوجه نحو الساتر الترابي المواجه للعدو، وأخذ يطلق النار بشكل عشوائي وهو يصرخ بأعلى صوته "الأول يبقى أول.. الأول يبقى أول" وكان يقصد اللواء الأول الذي هو على رأس قيادته.

مكتب الاستخبارات التابع للواء أرسل برقية سرية وعاجلة إلى القيادة العليا مفادها بأن العقيد صباح أصيب بنوبة هستيرية، وذكر في البرقية تفاصيل ما حدث بكل دقة.

في اليوم التالي حضرت لجنة تتألف من عدد من الضباط برتب عالية، من بينهم طبيب نفساني برتبة عسكرية عالية أيضاً، وقاموا بزيارة مفاجئة لمقر العقيد للوقوف على حقيقة ما جاء بالبرقية.. وجدوه في حال لا يخطر على بالهم قط، إذ كان يرقص عارياً على إيقاع أغنية شعبية تقول كلماتها "شنهي السالفة فهموني".. اكتسحت ملامحهم الدهشة وتجمدت نظراتهم عليه وهو يتمايل مع موسيقى الأغنية.

كان تقريرهم الأولي يفيد بضرورة إعادته إلى الخطوط الخلفية. وبعد أيام قليلة وصل كتاب نقله إلى الوحدات الخلفية البعيدة عن خطوط المواجهة مع العدو والتي يقطنها عدد قليل من الجنود غير المسلحين من جنود الخدمة والإعاشة والتموين.

في مقرّه الجديد لم يكن العقيد مطالباً بشيء سوى التواجد فقط.. كان يمضي ساعات طويلة في مكتبه الخاوي وحيداً في انتظار الزيارة الأسبوعية التي يقوم بها الطبيب المعالج، وأحياناً كان يتجول متبختراً بقامته الممشوقة في أرجاء الثكنة دون أن يكلم أحداً، إلا أنه كان حريصاً على التقاط أي ورقة أو قصاصة ورق تصادفه أثناء تجواله، ويدسها في جيبه على نحو سريع ومن ثم يعود إلى تفحصها ورقة بعد أخرى حينما يعود إلى مكتبه.

تلك العادة أثارت انتباه جنود ثكنته العسكرية الجديدة، وقد وجدوا فيها ملهاة لدفع الضجر عنهم، فدأبوا على رمي قصاصات الورق في طريقه ليقوم هو بالتقاطها ويعبئ بها جيوبه، ولفرط ما كان الجنود يتسلون في تلك اللعبة، فسرعان ما تطورت تفاصيلها وصاروا يتفننون في مشاكسة آمرهم.. بدأت اللعبة تتطور حينما بدأ بعض الجنود بكتابة رسائل غرامية إلى حبيباتهم دون أن يوقعوها بأسمائهم الحقيقية، أو يكتبون قصائد غزل شعبية، حتى وصل الأمر ببعض الجنود إلى رسم صور إباحية على أوراقهم قبل رميها في طريقه، عضو ذكري منتصب بالحجم الطبيعي، صورة امرأة عارية.. ثم يتجمعون خلف غرفة مكتبه ليراقبوا من خلال النافذة ردود أفعاله التي غالباً ما كانت قهقهة عالية وهو يتفحص وجبة الأوراق التي التقطها في جولته الأخيرة.. كان الجنود يكتمون ضحكاتهم وهم يرون العقيد يضحك حتى تدمع عيناه وهو يردد "ملاعين.. سرسرية.. هتلية".

بقي العقيد صباح على هذا الحال لما يقارب عاماً كاملاً، وكانت تلك فترة ذهبية بالنسبة لجنود الثكنة، وكذلك بالنسبة له أيضاً، إذ أنه تعرّف عن كثب على التفاصيل اليومية لحياة الجنود وكل ما يشغل أذهانهم.

وأخيراً جاء البريد الذي طال انتظاره وتسلّم كتاباً رسمياً ممهوراً بختم وزارة الدفاع يقضي بإحالته على التقاعد لأسباب صحية.. أمسك الورقة بكلتا يديه، وضعها أمامه على سطح المكتب، تأملها بفرح، أعاد قراءة كل حرف فيها بإمعان، ثم سحب نفساً عميقاً من سيجارته قبل أن يطوي الورقة ويدسها في جيب معطفه.

رزم حقيبته بهدوء دون أن يستعين بجندي الخدمة المرابط عند الباب، خرج من مكتبه بمشيته المعتادة التي تشبه مشية الأوزة، شق طريقه بخط مستقيم نحو باب النظام وابتسامة واضحة تكسو ملامحه.. في الطريق ناداه أحد الجنود المشاكسين:

  • سيدي.. سيدي.. هناك ورقة ملقاة على الأرض.

استدار نحو الجندي بذات الابتسامة، رمقه بنظرة ثعلبية، ثم قال له بصوت يقترب إلى الهمس:

  • التقطها أنت لعلّها تنفعك.. أما أنا فقد عثرت على الورقة التي كنت أبحث عنها.. وهي الآن تستقر في جيب معطفي.

 

كان الشيخ ناصر قد سمع تلك الحكاية مراراً كما سمعها سواه ممن عرفوا العقيد صباح، وأدركوا أنه كان يسعى إلى إحالته على التقاعد لأسباب صحية، ذلك ما أكسبه صورة البطل النزيه في عيون الرافضين لتلك الحرب، الذين فضلوا الهروب من أداء الخدمة العسكرية، على الرغم من أن ذلك قد يؤدي بهم إلى عقوبة الإعدام، على أن يشتركوا في حرب لا طائل منها.. ومنذ ذلك اليوم أطلق عليه اسم العقيد أبو ورقة.

* * *

(2)

ليس بوسعه الآن، وهو جالس على سور حديقته الصغيرة، أن يتذكر تفاصيل تلك اللحظة التي تمكن خلالها من كبح جماح ذلك الجنون والغضب ليحيلهما إلى انصياع تام من قبل زوجته التي استعادت ملامحها الوديعة وهي تنصت بشرود لما قاله:

  • اسمعيني جيداً، هذا التمثال من صنع أمهر النحاتين في البلد، وما صنعه من تماثيل تغزو المتاحف العالمية، ذلك ما أبلغني به أحد تجار التحف والمقتنيات الثمينة، فهذا الرأس هو ثروتي التي بعثها الله لي، ولن أفرّط به مهما حصل.
  • ولكن.....
  • اسمعيني حتى أكمل كلامي.. سأقول لك ما أفكّر به، ولك الحق بعد ذلك في فعل ما تشائين.. مم أنت خائفة؟؟ من المليشيات؟ حسناً، أنا سأنضم إلى المليشيات، بل إني سأرتدي العمامة، وسأجعل لهذا البيت حصانة تحرّم على أي مخلوق مداهمته.. غداً صباحاً سأرابط في مسجد الحي ولن أخرج منه إلا وأنا معمم تهابه الناس وتحسب له ألف حساب.
  • وكيف؟؟......
  • كل الذي عليك فعله هو نسيان بائع الخضار المتجوّل.. إنه زمن ولى دون رجعة.. ها.. قبل أن أنسى، بوسعك استخدام العربة الخشبية كوقود لتنورك.

تلك الفكرة التي قلبت حياة ناصر رأساً على عقب كانت من ابتكارات العقيد أبي ورقة الذي اقترح عليه أن يضع حداً لمعاناته مع رأس التمثال..

قال له وهو يمد عنقه الطويلة المتجعدة كعنق سحلية برية:

  • عليك أن تختار واحداً من ثلاث حلول.
  • دلّني عليها؟
  • الأول هو أن تتخلص من رأس التمثال، بإمكانك أن تلقي به في النهر ليلاً.
  • هذا حل أعرفه.. لا أريد أن أفقد الرأس.. هات حلّك الثاني؟
  • الحل الثاني هو أن تحتفظ به وتتحمل القلق الذي أنت فيه.
  • أهذا حل برأيك، أم إنك تمزح؟
  • إذن ليس أمامك سوى الحل الثالث.
  • وما هو؟
  • هو أن تحصّن بيتك من أي تفتيش محتمل، وبوسعك فعل ذلك فيما لو تنضم إلى أحد الأحزاب الدينية المتنفذة ويستحسن لو ترتدي عمامة بيضاء وتصبح رجل دين، عندها لا أحد يتجرأ على دخول بيتك.. إننا في زمن السطوة الدينية.. فكر في الأمر وسأعينك في تدبير الخطوات المناسبة.

صعقه المقترح الثالث.. لكن اللغة التي تحدث بها العقيد أبي ورقة جعلت من المقترح أمراً يسيراً، بوسع أيّ كان أن يقدم على فعله، أقنعه بأنها خطوة لا تحتاج إلى أكثر من قراءة بضع كتيبات عن أحكام الطهارة والوضوء والنجاسات وحفظ بعض الآيات القرآنية عن ظهر قلب ومن ثم تعلن عداءك إلى المحتل الأمريكي بكل ما تمتلك من غضب.. هذا كل ما في الأمر، مغامرة بلا خسائر.. لا يمكن لأي مخلوق أن يمنعك من أن تكون عالماً بأمور دينك.

توقدت في روح ناصر الرغبة في خوض المغامرة، أمضى أياماً حبيس بيته، يفكر في كيانه الجديد الذي لم يخطر على باله يوماً، استعرض في مخيلته سمات كل رجال الدين الذين يعرفهم، تأمل استقامة أجسادهم أثناء سيرهم، نبرة أصواتهم، طريقتهم في الحديث، أساليبهم في التعاطي مع العوام من الناس، وكل ما يمكن لإدراكه البسيط أن يناله من هيئة رجل الدين.

بعد أيام من العزلة والتفكّر والتيه في مجاهيل مشروعه الموعود، ذهب إلى بيت جاره العقيد، وجده يقرأ كتاباً، أثار فضوله غلاف الكتاب الذي يحتوي على صورة لرجل معمم، سأله عن ماهية الكتاب وعن صاحب الصورة، أجابه العقيد أبو ورقة:

  • صاحب الصورة، حسب ما جاء في مقدمة الكتاب هو آية الله العظمى السيد حسين الحسيني المرعشي النجفي، الملقب بشهاب الدين، والكتاب يتحدث عن كراماته وقبس من حياته.
  • أنا محظوظ إذن، ويبدو أن هذا الكتاب جاء في الوقت المناسب.. ولكن هل تعتقد بأنه ينفعني في موضوعنا الذي اتفقنا عليه؟
  • هو فعلا جاء في الوقت المناسب.. وكذلك أعتقد بأنه ينفعنا، لكن منفعته تكمن في ترك ما اتفقنا عليه.
  • ما هذا الذي تقوله؟! "قال ناصر بتوسل، بينما اكتسحت علامات الإحباط ملامحه"
  • نعم، علينا أن نصرف النظر عن الفكرة التي طرحتها عليك، لأني ما كنت مقدراً مدى خطورتها، وقد أدركت ذلك بعد أن قرأت هذا الكتاب.. أنت تعلم بأن هذه النوعية من الكتب لم تكن متاحة سابقاً.
  • لكن ماذا استجد في الأمر؟ وما الذي اكتشفته لتغير رأيك؟
  • اكتشفت بأني سأقودك إلى التهلكة.. كنت أعتقد أن دخول الوسط الديني أمر هيّن ولكني أدركت بأنها مغامرة محفوفة بالخطورة.
  • أنا مستعد للمخاطرة! قل لي ما هي المخاطرة؟
  • إنه وكر ثعابين يا ناصر، ولا يهون عليّ أن أدفعك باتجاه الخطر، فأنت جاري ولا أريد لك الشر.
  • يا رجل قل لي ماذا اكتشفت لكي أعرف ما عليّ فعله؟
  • حسناً.. سأقرأ لك هذه الصفحة وعليك أن تقرر.

وبدأ أبو ورقة يقرأ من إحدى صفحات الكتاب، بينما اكتفى ناصر بالإنصات كمن يستمع إلى بيان حربي:"قال السيد شهاب الدين (قدس سره العظيم): كان والدي يحضر درساً عند المحقق الآخوند - صاحب الكفاية - وكنت أرافقه في الطريق، وكان يرى شخصا يلبس زيّ أهل العلم، وما كان يراه والدي إلا ويدعو عليه قائلاً (اللهم اخذله في الدنيا والآخرة) وسمعت منه ذلك مراراً، فسألته يوماً عن سبب ذلك، فقال والدي: هذا الذي تراه كان يحضر درس الآخوند مع شيخ آخر من بلدته، وكان الأستاذ يمتدح صاحبه ويشيد بذكائه وفطنته، فاشتعلت فتيلة الحسد به، وفي يوم ابتلى صاحبه بالزكام وكنت عنده لعيادته فدخل هذا الشيخ وقال له "دواؤك عندي" فجاءه بمسحوق ووضعه في إناء وناوله، وبعد سويعة أخذ المسكين يتقيأ وتغير لونه وبعد سويعات ارتحل إلى جوار ربه، وعلمنا إنه سقاه السم، وذلك من شدة حسده، وقد أيتم أربعة أطفال من حنان الأب".

أغلق أبو ورقة الكتاب ونحاه جانباً، ثم توجه مركزاً نظراته على عيني ناصر المندهشتين:

  • هل بإمكانك أن تتعايش مع بيئة مثل هذه.. طلبة علوم دينية يقتلون بعضهم بدوافع الغيرة والحسد؟
  • ليس جميعهم بهذه الأخلاقيات.. ثم إني سأكتفي بمسجد الحي وليس لدي نية الدراسة في النجف أو كربلاء.
  • ولكن هذا مسجد متواضع وليس فيه مدرسة تؤهلك لارتداء العمامة.

عبس وجه ناصر وبدت عليه الحيرة.. طأطأ رأسه ثم سأل بيأس:

  • ألا يمكنني أن أدرس في بيتي؟
  • فكرة لا بأس بها.. وأنا سأعيرك بعض الكتب الدينية أيضاً.
  • حمداً لله.. ليس هناك مشكلة إذن.. كما إني أمتلك بضعة أشرطة صوتية للشيخ عبد الحميد المهاجر، سأتعلم منها الكثير من العبارات القوية.
  • ها.. تذكرت شيئاً، يستحسن أن لا يراك أهالي الحي وأنت تدفع عربة الخضار كل يوم في ذهابك وعودتك من العمل.
  • وهذه أيضاً ليست مشكلة، بإمكاني أن أترك العربة في مخازن خضار بيع الجملة.

عكف ناصر في بيته، لا يبارحه إلا لعمله، يستمع إلى ما لديه من أشرطة صوتية ويقرأ بعض الكتيبات الدينية المبسطة التي غزت رفوف المكتبات بعد سقوط بغداد مباشرة وبطبعات من الواضح أنها أعدت على عجل.. كان صوت الشيخ عبد الحميد المهاجر يخترق مخيلته ويطير بها نحو فضاءات لم تطرأ يوماً على باله، أيقظت فيه أحلام كللت عزلته بالزهو والبهاء، أحلام اختزل اللسان مكانها وزمانها وتنقلت به بين منابر القول المخملية الدافئة.

"بضعة أسابيع من العزلة ليست كافية" قال العقيد أبي ورقة في آخر زيارة له.

ملأ الغيظ قلبه وساورته الشكوك بأن جاره لا يريد له الخير، وأنه يختلق الصعوبات ليعيق مشروعه الذي سار لتحقيقه بهمة ودأب.

  • لقد حفظت خمس محاضرات للشيخ المهاجر عن ظهر قلب.. ماذا تريد أكثر من ذلك؟
  • سيسخر منك بقية رجال الدين، وسيسألونك عن أساتذتك الذين تلقيت الدرس على أيديهم. ماذا ستقول لهم؟ إنك ستمنحهم فرصة للتندر تلاحقك طوال حياتك إذا أخبرتهم بحفظك لمحاضرات الشيخ المهاجر.
  • ما الذي عليّ فعله؟ "قال ناصر بنفاذ صبر".
  • عليك أن تتلمذ على أيدي مشايخ لهم صيتهم وشهرتهم.
  • وأين أجد هؤلاء المشايخ؟.
  • النجف مثلاً، هي قبلة الدارسين في هذا المجال من كل أنحاء العالم.

نهض الشيخ ناصر من مكانه على سور الحديقة الواطئ، سار بضع خطوات بلا هدي، وجد نفسه أمام باب بيته، فتحه بهدوء، وقف على عتبته، تأمل سكون الشارع، ليس سوى مجموعة قطط تمرح في الظلام قرب نقطة الحراسة في رأس الشارع.. ساوره خاطر طارئ، بأن لا أحد يشعر بالأمان سوى القطط السائبة.

* * *

(3)

صباحات مدينة النجف تختلف عما سواها من المدن.. الشارع المؤدي إلى ضريح الأمام علي بن أبي طالب يبدو نديا قبيل صلاة الفجر، يعبق بعطر العود الذي كثيراً ما يتعطر به الزائرون القادمون من بلدان بعيدة. رجال يعتمرون عمائم بيضاء وأخرى سوداء يحثون الخطى باتجاهات مختلفة. صوت شجي قادم من مكان ما يتلو دعاء الصباح. شبان معممون يتجاذبون الحديث على أبواب مساجدهم في انتظار بدء دروسهم الصباحية. مسلحون يرتدون السواد يحرسون زقاقاً ضيقا.

لم ير ناصر ملامح النجف من قبل كما رآها في زيارته هذه.. في زياراته الماضية كان الزحام يلفه دون أن يترك له فرصة لتأمل شوارع المدينة، فضلاً على أن زياراته السابقة كانت من أجل زيارة الضريح على نحو تقليدي، وأحيانا زيارة قبور ذويه، أما هذه الزيارة فهي رحلة لطلب العلم، عليه أن يكتشف المكان بجميع حالاته، أن يكتشف مكنوناته، تفاصيله، عليه أن يدخل عوالم جديدة لطالما كانت بعيدة عن ذهنه.

السيارة التي أقلته من بغداد إلى النجف أوصلته إلى أقرب نقطة تقود إلى الضريح.. حمل حقيبته الصغيرة وسار بخطوات بطيئة، عليه أن يمضي ساعات الفجر في مكان ما، ريثما يتدبر أمر مسكنه نهاراً، لكن في مدينة مثل النجف لا يواجه المرء مشكلة المنام لساعات، فبإمكانه النوم في أي مكان يشاء، كما هو حال الزوار القادمين من مدن بعيدة.

توجه صوب ضريح الإمام علي بن أبي طالب، كانت بوابات الضريح لم تفتح بعد، لكن الباحة الخارجية تتسع لمنام آلاف الزوار، اتخذ له مكاناً قرب السور وتوسد حقيبته وراح يتأمل المصابيح المتراصة التي بدت له وكأنها سلاسل مضاءة تشق عتمة السماء، ممتدة بين قبة الضريح والمنائر المجاورة، بينما بدأ الصوت الشجي الذي يتلو دعاء الصباح يختلط مع أصوات حركة المارة وأحاديثهم التي بدأت تعلو شيئاً فشيئاً.

مع ساعات الضحى الأولى حمل حقيبته وتوجه للبحث عن فندق رخيص، في منتصف الطريق قرر أن يستريح قليلاً عند بائع للشاي، اتخذ من الرصيف مكاناً مؤقتاً لعدته. عرف ناصر فيما بعد أن محمود بائع الشاي ينهي عمله قبل وقت ذروة السوق، خشية لفت أنظار موظفي إدارة البلدية، فهو يكتفي بالعمل لساعات الصباح الأولى ويعود بعدها إلى صومعته في طرف المقبرة.

مع قدح الشاي المهيّل وابتسامة بائعه التي تكشف عن أسنان نصفها مهدم والنصف المتبقي نخره السوس، أحسّ ناصر بشيء من الطمأنينة، إنزاح عن كاهله بعض الاضطراب الذي رافق يومه الأول في هذه المدينة المهيبة. ارتاح لهيأته، لرأسه الأصلع الصغير، للحيته غير المشذبة، لمهارته في نقل الشاي من الإبريق الكبير إلى الأباريق الأقل حجماً، وفق ما تقتضيه أصول المهنة.

إنجذاب غريزي جعل "ناصر" يفكر بأن الله أرسل له بائع الشاي هذا ليساعده، على الأقل، في تخطي بعض صعوبات يوم كهذا، كأن يدلّه على فندق رخيص لا يستنزف ما بحوزته من مال، وقد يكون بوسعه إرشاده إلى إحدى المدارس الدينية التي تقبل طلبة بأعمار متقدمة، إلا أنه لم يفصح له عن نية الإلتحاق بالدراسة الدينية.

أحاديث بسيطة ودردشات سريعة وعابرة أنبتت بينهما حالة من الاستئناس، ما جعل محمود يعده بالمساعدة في تدبير السكن.

إنتهت ساعات عمل بائع الشاي، لملم أغراضه ووضعها في صندوقه الكبير وحمله إلى فرن الصمون القريب، يبدو أنه قد أبرم اتفاقاً مسبقاً مع صاحب المحل ليستودعه صندوق العدة لليوم التالي.

توجها سوية إلى فندق مناسب وغير مكلف مالياً، كما وصفه محمود وهو يقود صاحبه إلى الشارع الموازي للسوق الكبير "هذا الشارع الوحيد الذي يجنبنا الزحام في هذا الوقت" قال محمود بنبرة من يستعرض فطنته ومعرفته بكل دروب المدينة، مع تزايد إيماءات ناصر الدالة على الإعجاب بتلك الخبرة.

  • أن يصلا الفندق المقصود، اقترح على ضيفه أن يوفر تكاليف الفندق ويذهب معه إلى مكان سكنه، ريثما يفرجها الله عليه ويجد سكناً ملائماً.. وافق ناصر بسرعة لم يتخيلها محمود.

لم يتفاجأ ناصر كثيراً حين وجد مضيّفه يسكن أحد سراديب المقبرة المترامية الأطراف.. هنا، بعيداً عن صراع الأحياء ومكائدهم، قرب التسليم الأبدي والسكون المطلق، حيث لا حواس ولا نبض ولا حراك ولا دهشة.. على حصيرة تقابل فراش، ما إن تراه حتى تدرك مدى فوضوية صاحبه، جلس ناصر متربعاً، منتصب الظهر، بطريقة تنمّ عن إحساس بأنه ضيف مرحب به.

انشغل محمود بإيقاد السراج المعلق في السقف المقوّس المبني بطريقة الطابوق المتداخل. انتشر الضوء، وبانت ملامح المكان، بينما اكتفى ناصر بمراقبة محمود وهو يخرج مستلزمات إعداد وجبة طعام خفيفة من أحد اللحود غير المأهولة، المحفورة عميقا على جدار السرداب.

بادر محمود للتخفيف من وساوس صاحبه:

  • أسكن هنا منذ أربع سنوات، إنه المكان الأكثر أماناً في هذا البلد.
  • الحمد لله على كل حال، المهم راحة البال.
  • أما عن راحة البال، فهي الشيء المتوفر الوحيد هنا.
  • وماذا عن.. أقصد.. الليل ووحشة المقبرة والـ...؟

قاطعه محمود بقهقهة:

  • لا تقلق، حين يأتي الليل ستجد هنا أصدقاء ظرفاء يطردون الوحشة.

مد ناصر يده في جوف حقيبته واستخرج فوطة صغيرة، شمّر أكمام دشداشته استعداداً لصلاة الظهر، أشار إليه محمود على مكان إبريق الماء خارج السرداب، وهناك سحره منظر القبور المتراصة الممتدة عميقاً في وادي السلام، أحس وكأنه يراها للمرة الأولى.

كثيراً ما سمع بأنها المقبرة الأكبر في العالم والأقدم التي ما زالت تستقبل الموتى، أبهرته مساحات الموت الشاسعة، السكون الذي يختزل صخب حرب الطوائف والسيارات المفخخة التي تداهم الشوارع والبيوت والأسواق.

مرّ بقربه سرب من سيدات العزاء، يلطمن صدورهن على إيقاع متوارث، يناجين الموت بنديّة فاضحة "محيّلة وكذابة.. ما تموتش روحي".. خطفته مهابة المشهد إلى تفاصيل الحزن الذي تكلّس على شواهد القبور، تلك التي خطّت على صفحاتها ذكريات لحقب من عمر المغامرات والحروب والثورات والإحتلالات.. قبور بأقفاص مزخرفة لشهداء الحرب مع إيران، قبور مازالت تحت الإنشاء لشهداء انتفاضة 91، بعد نقل رفاتهم من مقابر جماعية عثر عليها في أماكن متفرقة من وسط وجنوب العراق، قبور قديمة مهدمة نسيها أهلها، أو عبرت عليها الأجيال.

تسلق أحد القبور الواطئة وراح يتأمل التقاء خط الأفق بنهايات المقبرة، لاحت له من بعيد قبة خضراء منفردة نائية، عرف لاحقاً إنه مرقد الصحابي كميل بن زياد، لم يكن يعرف عنه حينها سوى أنه صاحب الدعاء المعروف، المسمّى باسمه الأول "دعاء كميل" الذي يسمعه غالباً خلال ليالي شهر رمضان من مكبرات الصوت في المساجد والحسينيات منغماً بلكنة فارسية.. كما عرف في وقت لاحق انه حامل سرّ الإمام علي بن أبي طالب ورافقه كظلّه لزمن طويل، وله معه أحاديث وحوارات كتب لها البقاء كأثر بلاغي وروحاني حتى يومنا هذا، ولعلّ أكثرها انتشاراً ما عرف بـ"حديث الحقيقة" الذي حاول ناصر، بعد سنوات، أن يحفظه عن ظهر قلب ولم يفلح، لصعوبة التركيبة اللغوية التي كانت عصية على كميل بن زياد نفسه، وكان الأخير سأل الإمام أثناء إحدى خلواتهم التأملية الليلية:

  • ما الحقيقة يا أمير المؤمنين؟

فجاءه جواب الإمام بما لا يخلو من الشفقة، لإدراكه ثقل الإجابة:

  • ما لك والحقيقة؟
  • أولست صاحب سرّك؟
  • بلى، ولكن يرشح عليك ما يطفح مني.
  • أومثلك يخبّب سائلاً؟

حينها لم يجد الإمام بداً من الإجابة على الرغم من إدراكه ثقلها على محدثه:

  • الحقيقة، كشف سبحات الجلال من غير إشارة.
  • زدني بياناً؟
  • هي محو الموهوم وصحو المعلوم.
  • زدني بياناً؟
  • هتك الستر في غلبة السر.
  • زدني بياناً؟
  • جذب الأحدية لصفة التوحيد.
  • زدني بياناً؟
  • نور يشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التوحيد.
  • زدني بياناً؟
  • أطفئ السراج يا كميل، فقد طلع الصباح؟

 

جاءه صوت من داخل السرداب "أينك يا ناصر، أكلّ هذا الوقت من أجل الوضوء؟".

هبط من أعلى القبر، ثم هبط إلى السرداب وهو يمسح على ذراعيه، بعد أن أتمّ وضوءه، تبسّم بوجه مضيفه مبرراً تأخره "يا أخي هذه المقبرة تجعل الإنسان ينسى نفسه".

فترة الظهيرة كانت كافية لمعرفة أحدهما الآخر، بحدود التفاصيل التي يمكن البوح بها، لم يظهر محمود تعجلاً على معرفة كل ما يتعلق بحياة صاحبه، لقد أكسبته مهنة بيع الشاي إعداد كل شيء على نار هادئة.

بدأ ناصر يتعامل بأريحية في مسكنه الجديد، حمل حقيبته ودسها في أحد اللحود الفارغة، كان السرداب يحوي عشرة لحود، توزعت على شكل صفين، أحدهما فوق الآخر في جدار واحد، ثلاثة منها مغلقة، لكنه لاحظ أن أحد اللحود الثلاثة المغلقة بلا شاهدة، على خلاف اللحدين الآخرين، تساءل بحركة من يده، فتنحنح محمود إيذاناً بسرد الحكاية، بينما راحت عيناه تتابعان دوائر الدخان المتصاعد من سيجارته:

  • تلك حكاية من أغرب ما ستراه وتسمعه في هذه المقبرة، إنه لحد قبر لرجل لم يزل على قيد الحياة، هذا الرجل بترت ساقه خلال الحرب مع إيران. أصابته شظية صاروخ كاتيوشا في أعلى الساق وقطعتها، من حسن حظه كانت الحكومة تهتم كثيراً بجرحى الحرب خلال تلك الفترة، فحاول فريق من الأطباء إعادة الساق بعملية جراحية ليفاخروا العالم بقدراتهم الطبية التي اكتسبوها من كثرة أنواع حالات المصابين التي واجهوها خلال حرب دامت لثماني سنوات، لكنهم فشلوا بسبب تفتت أجزاء كبيرة من عظم الساق، فقرروا بترها وتركيب ساق بلاستيكية له.. لكنه طلب من إدارة المستشفى أن يأخذ ساقه ليدفنها بمعرفته، وضعوا الساق في كيس من النايلون وقدموها له.. جاء مع بعض أقاربه ودفنوها في سرداب العائلة هذا. وبعد أن استعاد عافيته حرص على التردد بين فترة وأخرى لزيارة قبره الذي سبقته ساقه للمكوث فيه. وقرر أن يدفن -بعد عمر طويل- في اللحد نفسه الذي يحوي ساقه".

تجمدت ملامح ناصر منصتاً لمحدثه وكأنه لا يريد للحكاية أن تنتهي.. بدا الفضول واضحاً على ملامحه، محمود أدرك ذلك، فبدأ يقصّ عليه ما يخطر في ذاكرته عن صاحب الساق المدفونة:

  • يأتي كل شهر تقريباً، في الغالب يجلب معه باقة ورد، ورد طبيعي وليس بلاستيك كالذي رأيته على بعض القبور.
  • ورد؟
  • وشموع، وأغصان آس، وأعواد البخور، وطعام نأكله سوية هنا، الولد رومانسي كلش.

تساءل ناصر بابتسامة ماكرة:

  • وهل يحتضن اللحد ويبكي؟
  • ليس بكاءً، لكنه يحكي معها، أحيانا يطلب مني مغادرة السرداب لبعض الوقت، إنه صاحب الملك كما تعرف، ليس أمامي إلا تلبية رغبته، لكني ذات مرة عدت إلى السرداب بهدوء تام، رأيته جالساً أمام صينية الشموع والبخور وقد خلع ساقه الإصطناعية، وكان يتحدث كمن يواسي نفسه، ويردد أشعاراً ومواويل.

طفرت منه ضحكة خفيضة:

  • أشعار؟ يقرأ لساقه المدفونة أشعاراً ومواويل؟
  • قلت لك انه ولد رومانسي كلش، مو من ذوله اللي تعرفهم.
  • أكيد تعرض إلى موقف محرج حين دخلت عليه وهو في تلك الحالة.
  • لا ابداً، بل استمر موجها حديثه نحوي، أخبرني حينها أن ساقه البلاستيك بلغت التاسعة عشرة من العمر، هو ذات عمر الساق المدفونة، قال انه يحبهما بالقدر ذاته.

ازدحمت في رأسه ظنون غامضة وتهزهزت في داخله نمطية سنينه الخالية من أي خصوصية تذكر. الآن وأكثر من أي وقت مضى، وجد ناصر نفسه في مواجهة سريّة مع خواء حياته السابقة، أيامه المتشابهة والمشابهة لأيام سواه، رتابة القطيع التي تسللت إلى روحه وجعلتها نسخة شاحبة من محيطه الملغوم بالحروب والحصار والخوف.. أساءه أنه لم يجلب يوماً باقة ورد لزوجته، أو لأي من معارفه، لم يشتر وردة طوال حياته، فكّر ساخراً من نفسه: "يا لها من خيبة؟! أنا لم أنتبه حتى لأماكن محلات بيع الزهور". خامره تساؤل مشوب بالتهكم "من أقنع جورج بوش بأن العراقيين سيستقبلون جنوده بالورود؟".

* * *

(4)

بين صخور بحيرة الرزازة، اتخذ رحمان المصوّر مكانه المعتاد، أعدّ لنفسه كأساً من العرق قبل أن يشرع بتجهيز عدّة الصيد، هو على موعده الأسبوعي مع صديقه محسن المالح، شريكه في الخمر وصيد السمك، وتاريخ مدينة هجراها لأسباب مختلفة.

كان يعمل طوال حياته مصوراً شمسياً، تخطاه زمن التصوير الرقمي وهمشته ذاكرة الهواتف الذكية، ما حدا به إلى ركن كاميرته الخشبية في دكان أحد تجار المدينة. لم يتمكن من ملاحقة التكنولوجيا وعالم الكومبيوتر، كان لابد وأن يتخلى عن مهنة التصوير.. تلطلط بين المدن، وعلى تخومها، من البصرة إلى بابل إلى بغداد وختمها في النجف، كانت محطته قبل الأخيرة دامت لخمس سنوات من العمل مع الناشطة الحقوقية والمديرة الإقليمية لمنظمة "كير" الإنسانية السيدة مارغريت حسن، وقد شهد لحظة اختطافها من قبل مسلحين ملثمين، وقد نفذ رحمان بجلده بإعجوبة من تلك العملية وتمكن من الهرب من موقع العملية التي أدّت بعد أيام إلى مقتل السيدة التي أفنت عقوداً من حياتها في العمل الإنساني في العراق.. بعدها تشرّد رحمان كبقية العاملين معه حين أغلقت المنظمة أبوابها.. ولا يدري لماذا قادته قدماه إلى النجف، لكنه اليوم يعيش في بحبوحة من الدعة والاكتفاء المادي، بعد أن اشتغل في الكتابة على الأكفان، خطه الجميل أعانه على المضي بنجاح في هذه المهنة، يخط سوراً قرآنية وأدعية يؤطرها بزخرفات تتخللها اسماء الأئمة آل بيت الرسول، مستخدماً الحبر الصيني المخلوط بالزعفران، حتى صارت محلات بيع الأكفان تحبذ التعامل معه، لأن القطع التي ينجزها تجد طريقها للبيع أسرع من سواها.. وعلى الرغم من تركه لمهنة التصوير إلا أنه بقي أسيراً لأسرار صندوق كاميرته الخشبي، كان يتساءل عما إذا كانت الصورة المقلوبة التي بالكاد يرى ملامحها من خلال ناظور صندوقه المعتم، هي حقيقة الدنيا؟.. لم يستطع التخلص من هاجس المقارنة بين دنيا الصندوق المقلوبة وصندوق دنياه التي يعيشها بالخارج..

لم يتأخر محسن المالح طويلاً، جاء بحقيبته التي ترافقه دائما لمثل مشوار كهذا، أفرغها على عجل من عدة الصيد وعدة السكر، ثم تفحص قنينة العرق الخاصة برحمان:

  • بدأت تشرب قبل مجيئي مثل كل مرّة.. إشلون ينام المعيدي ويم راسه حلاوة.
  • هو كأس واحد، لم أكمله بعد. سأنتظرك حتى تشرب المقدار نفسه، لكي نبدأ سوية، لا تزعل.

احتلّ مكانه بجانب رحمان وقبل أن يشرع في تجهيز كأسه، أخبره بصوت واهن:

  • الدنيا مقلوبة في بغداد، انفجار أربع سيارات مفخخة بالتزامن.
  • هي مقلوبة من زمان.. تدري محسن، إني توصلت إلى قناعة بأن صورتنا التي نحياها ونراها هي الحقيقة، وليس الصورة المقلوبة داخل صندوق الكاميرا، والدليل هو إني كنت أتقاضى أجر التصوير من الشخص الذي خارج الصندوق.
  • هاي إيشبيك رحمان، آنه وين أسولف وانت وين تسولف، بعدنه ما وصلنا نصف البطل؟
  • النصف الفارغ لو المليان؟
  • أهوووو.. سكر الزمال.
  • لك يا بابا، هو السكر أي واحد يعرفه؟ لك بابا هذا السكر مثل أي حالة روحانية مقدسة، طرق الوصول إليها بعدد أنفاس الخلائق.. قابل ياهو اليجي يعرف يسكر؟
  • إي.. السكر هم ينراد له دراسة؟.. بلاوي.
  • إي طبعا، شعوب العالم المتحضر تلتحق بدورات تثقيفية للطرق الصحيحة في تناول الكحول، ويدفعون مقابلها فلوس.
  • إذا أنت معجب بشعوب العالم المتحضر، ليش ما تروح تعيش معهم، شكو باقي يمي، تشرب عرق والمزّة ثريد كلام؟
  • باقي حتى أزخرف لك كفنك بأفضل أنواع الزعفران، وأزفك بيدي لقبرك.
  • هاااااه هاه.. أميت عشرة مثلك ولا أموت.
  • لك بابا، أنا كل ليلة أسكر في حضن الموت مع محمود أبو الشاي وبقية الشلة، يعني مسوي طريق الموت خرّي مرّي.
  • إي، بس خلي بالك لا يطلع لك الثعبان الأقرع ويأكلك أنت وصديقك بائع الشاي.
  • الفرق بيننا هو إنك هارب من الموت، أما أنا فهارب إليه.

أطرق محسن المالح رأسه لبرهة، واضعاً ذراعيه بكسل على ركبتيه، تمتم بصوت منكسر:

  • أنا لم أهرب من الموت يا رحمان، بل هربت من الخيبة، من مواجهة فشل التجربة، خوف من أن يستأسد عليّ من أفنيت حياتي في خدمتهم.
  • لا تروح زايد، أنت كنت في خدمة نفسك، مثلك مثل كل البعثيين.
  • أنت تدرك جيداً إني لست كبقية البعثيين أو "أيتام" النظام، كما تصفونهم، حاولت أن أخدم شعبي بإخلاص من خلال حزب البعث، فكرة عقائدية فشلت كما فشل غيرها وكما سيفشل القادمون بعقائدهم الخرافية، لم أكن يوما مؤذياً لأحد، وإلا لما قبلتني صديقاً.
  • .... وكل غريب للغريب نسيب.
  • أفهم من ذلك إنك ما زلت تشكّ في براءتي؟
  • يا عمي انسى، هاي إشبيك، نحن أبناء اليوم.

بهذه المناكفات يمضي رحمان كل يوم جمعة مع صديقه محسن المالح، يشربان العرق بعيداً عن العيون، أما بقية أيام الأسبوع فيبتلعها العمل نهاراً، والسهر ليلاً في سرداب محمود أو ما يحلو له أن يسميه "حضن الموت".

إنها مناكفات بريئة، كبراءة صاحبه التي يدركها جيداً، بل أن كل أبناء مدينته يعلمون حكاية محسن المالح مع الحزب.. يعلم الجميع أنه لم يرتش يوماً، ولم يستغل نفوذه الحزبي في الإثراء غير المشروع، كل أهل المدينة يعرفون نزاهته وصدق نواياه، حتى أن البعض يشبّه وجوده في الحزب كوجود درّة في مؤخرة خنزير.

يتذكرون جيداً ما حضي به من أمان واحترام خلال إنتفاضة 91 على الرغم من مجانية الموت التي لحقت بأعضاء حزب البعث، بينما بقي هو في بيته آمناً، دون أن يتعرض له أحد.. كان قد تحدث مع رحمان بإسهاب وصراحة عن تلك المرحلة وما تبعها من أحداث، عن معاناته في اختلاق أعذار مناسبة للإنسحاب تدريجياً من الحزب، حين قرر أن يترك العمل الحزبي نهائياً، شكلت له إنتفاضة 91 مفصلاً حياتياً مهماً.. بقي في حالة عزلة لسنوات، حتى نسيه رفاقه ولم يبق من وجوده سوى اسم مهمل في قوائم الحزب.

كان له قراءته الخاصة لأحداث العام 2003 وإسقاط نظام صدام حسين من قبل جيوش التحالف بقيادة أميركا، ذكر لرحمان ذات لحظة صفاء وصراحة:

  • كنت ومازلت فرحاً في تخلّص البلاد من النظام إياه، لكني فهمت مبكراً طبيعة المرحلة القادمة، حدست حجم ونوع العنف القادم، عرفت أن الناس العزّل والأكثر سلميّة سيكونون وقوداً مجانياً لهذه الحرب اللعينة، لذلك قررت ألا أكون هدفاً ساكناً لمراهق أخرق في زمن يكون فيه الإنفلات سيد المشهد.. أحداث الـ 91 كانت انتفاضة تتسم في بعض جوانبها بالنبل والبطولة، أما ما حدث في 2003 فهي فوضى تتسم بالخسة، ذلك ما دفعني إلى هجر المدينة والقدوم مع عائلتي إلى هنا، حيث لا يعرفني أحد.

حينها اقترح عليه رحمان العمل في زخرفة الأكفان، قال له إنه عمل لا يحتاج فيه إلى الخروج كثيراً، وبوسعه أن ينجزه في بيته، لكنه رفض العرض، وفضل البقاء كمعقّب دعاوى في محكمة خان النص.

* * *

(5)

ما إن حلّ الظلام حتى هبط أول ضيوف محمود، وأكثرهم مرحاً، هو مفيد عباس، دلف بقامته القصيرة باب السرداب الواطئ، ودون مقدمات راح يهزج ملوّحاً بكيس يحوي قنينة ويسكي "بعد ماكو قواطي، رجعت بطالة" بينما قابله محمود رافعاً يداه برقصة تناسب إيقاع الإهزوجة.. انتبه مفيد لوجود ناصر، توقف مزاحه فجأة مبدياً إحتراماً جماً وهو يصافح ناصر:

  • آسف جداً، إعتدنا على الصخب في حضرة مولانا محمود.
  • ولا يهمك، محمود أخبرني عن ظرافة شلتكم، أنت أكيد مفيد عباس؟
  • راح أصير نجم بسبب الدعاية التي يروجها محمود عني.

أجابه محمود بمجاملة بدت تقليدية:

  • أنت ألمع من أي نجم، بس الهوى ضدك أبو الفوائد. المهم، هذا الأخ ناصر صديق جديد، جاء من العاصمة، سيسكن هنا مؤقتاً، ريثما يجد سكناً مناسباً.

تربع مفيد عباس على الأرض، انشغل بإعداد طبق السلطة، وراح يردد نسخة من لازمته اليومية التي ينتظرها عادة كل أفراد الشلة:

  • آخ لو الله خالقني ايطالي، كان هسه اسمي روبرتو سميوني، وحبيبتي اسمها كلوديا كالديني.. وعندي محل مال أحذية، وهي صيدلانية تعمل في الصيدلية المقابلة لمحلي.. يومية رايح جاي من أمام الصيدلية، حتى خطوط العبور انمسحت من دوس رجلية، وهي ولا يمها، لكن مرة من المرات نظرت لي وأنا أعبر الشارع، وصارت عيني بعينها، رأيت بعيونها كلام: تعال وفضها ياروبرتو، يا ابن ام روبرتو، دتعال وصارحني ياعيني من فدوة لطولك، طبعا اني ايطالي أصلي، يعني طولي 185 والبدلة 50 كروب 8. وقفت في منتصف الشارع، لعلّ سيارة ما تصدمني، حتى أسمعها تقول "اسم الله" وهي تركض لإنقاذي.. وكلكم عيوني.

انطلقت ضحكة خافتة من محمود وهو يلتقط قناني الخمر من اللحد المخصص لها "يلعن سوالفك"، بينما تجمدت ابتسامة بليدة على ملامح ناصر المندهش من هذا العالم الغريب الذي ولجه بلا تخطيط، كانت عيناه تتنقلان بين هذا الكائن الحكواتي العجيب وزاوية اللحد الذي يفرخ أقداحاً وملاعق وقناني خمر مختلفة الأشكال والأنواع، خامره قلق خفي، خشية التوغل أكثر في عوالم يجهلها، ولا يجد في نفسه القدرة على ترويض دهشاتها المتلاحقة.

أيقظه صوت محمود وهو يحرك يديه أمامه:

  • لا تدوخ ناصر، هسا يجي رحمان المصور وفاضل الدنماركي ويكتمل النصاب، راح تعيش ليلة ممتعة.

دقائق، وأعلنت خطوات رحمان وفاضل على دكات سلّم السرداب حضورهما، وبذلك اكتمل النصاب، كما وعد محمود.

عمرت المائدة بالمكسرات والسلطات وأطباق الليمون، رفعوا الأنخاب سوية، إلا ناصر، إعتذر بأدب، مبدياً اعتزازه بمجالستهم، قال لهم أنه لم يشرب الخمر قط، وأنها المرة الأولى التي يحضر فيها جلسة شرب.

رد رحمان مبتسماً:

  • ها قد حققت الشق الثاني من الممنوع وحضرت جلسة شرب، لم يبق أمامك إلا تحقيق الشق الأول.
  • لا يا أخوي، هذا حدّي. "ثم أردف بلهجة مزاح" أعتقد إني لو شربت كأساً واحدة سأتقيأ مصاريني.
  • كل الذين لم يجربوا الشرب يعتقدون ذلك.

أربكه تعليق رحمان غير المتوقع، لم يجد ما يقوله، اكتفى بفرك يديه، راسماً ابتسامة تعثرت على ملامحه.. أنقذه تدخل فاضل الدنماركي في الحديث، نافثاً دخان سيجارته في فضاء السرداب:

  • ستحتاج إلى تمارين روحية مرهقة لتصل مرحلة السكر بالماء، هل جرّب أحدكم أن يحكي مع الماء، يقبله، يسكبه على وجهه بنعومة، يبتلعه بتلذذ، يتفرسه إلى الدرجة التي ينتزع سكرته من بين جزيئاته؟

انحنى مفيد عباس مرسلاً إبتسامة نزقة تنم عن نفاذ صبر، تلقفها محمود بسرعة، قال بتهكم واضح:

  • يا معوّد، لا يسمعونك عناصر جيش الإمام ويروحون يهاجمون باعة الماء المساكين، على اعتبارهم يبيعون مسكرات.

ضجّ المكان بالضحك، وصلت القهقهات إلى سابع قبر من كل الإتجاهات، لكن رد فاضل الدنماركي جاء أكثر وقعاً:

  • مخيلتك الضيقة لا تسع هذه الفلسفة اللاهوتية العميقة ولا تسمح لك بالخروج من بحبوحة السائد.

قاطعه رحمان المصوّر بجملة طائشة:

  • أي خروج عن سائد تتحدث عنه يا عمّي ونحن كمن يعيش في حقل من مادة السيكوتين؟
  • أنت أيضا تحتاج إلى تمارين روحية طويلة يا رحمان.
  • إذا انت تمتلك كل هذه القدرات الروحية، لماذا تستعين بهذا الويسكي المغشوش الذي لا نعلم أين يصنعونه ومن أي زفت كيميائي؟
  • إي، أنا حاولت أن أسكر في الماء وفشلت.. أين المشكلة؟ ربما ستنجح أنت إذا حاولت، إنها تمارين يا عزيزي لا تكلف شيئاً، بل إنها ستضيف لك شيئاً بكل تأكيد.

مال مفيد عباس بجذعه إلى الخلف متكئاً على يديه، انعكس ضوء السراج على صلعته، وأطلق آهة طويلة، أعقبها بنسخة جديدة من لازمته في سرد حلم قصير:

  • آآآآآآه، لو الله خالقني دنماركي، كان ممكن يكون اسمي فون لينيك فوتنبيرك وحبيبتي اسمها انيتا هنري كوتنبيرغ، ويجوز عندي مزرعة مال أبقار من هاي أم التراجي، ومزرعة مال أغنام بيض ومدنفشة، وبجانب المزرعة معمل مال ألبان، وأول كلاص قيمر، كل صباح يروح لأنيتا هنري كوتنبيرغ، وثاني كلاص لأم أنيتا هنري كوتنبيرغ، وثالث كلاص مو لأبوها بالتأكيد، لأن أبوها معقّد ويدور فلسفة وروحانيات، وأنا ما أرتاح له.. وكلكم عيوني.
  • الله الله.. الله عليك يا صائد الأحلام الماهر.

صفّق الجميع بمرح، بمن فيهم ناصر الذي تجاوز مرحلة الخجل والإرتباك، أبهجهم الحلم الذي جادت فيه قريحة مفيد عباس، أو "صائد الأحلام" كما يحلو لفاضل الدنماركي أن يلقبه.. الحلم الدنماركي جعل فاضل يستل آلة الناي من جيبه ليهديهم مقطوعة موسيقية تتناغم مع أجواء المكان.

كان فاضل يعيش لسنوات طويلة في الدنمارك، ومن هنا جاءه لقب الدنماركي، والحقيقة هي أنه وخلال تلك السنوات جاب بلداناً كثيرة وبعيدة.. هو شاعر ومغامر ومتسول، يحب السفر حد الولع، يقول أن السفر ترياق الحياة، حتى عودته إلى وطنه بعد سقوط نظام صدام حسين، يعتبرها جزءاً من تلك الرحلات..

أحد المثقفين المرموقين وصفه ذات مرة، في شهادة له، خلال ندوة حول شعراء التسعينيات، بأنه: شاعر في كل حالاته، شاعر حتى في طريقته بتناول ورقة الخس، شاعر يخاطب العالم عبر آلة الناي "آلهته المجوفة"، شاعر يحضر بين أصدقائه بروح عارية، كما روضها وروضته.. يتقبلونه بكل جنون المغامرة الذي يتلبسه، معظم الأصدقاء شعروا بإرتياح حين غادر فاضل طبيعته كـ"بكّاء" وكثير الشكوى والقلق، تلاشت طبيعته تلك مع دخوله تجربة "التسوّل" مرحلة التحول إلى شحاذ عالمي، حين حمل ناياته وسافر إلى الصين والتبت والهند وأستراليا ودول جنوب شرق آسيا، ليتسول في شوارع العالم.. التسول هنا، يحمل مدلولاً مغايراً عن الفهم العام للتسول، له معنى بعيداً عن سلوك الشحاذة العادية المبتذلة، هو يمنح زبائنه موسيقى، يمنحهم نغم، صوت يخرج من روحه ويدخل آذانهم نظير ما يمنحونه من مال قليل.. التسول بالنسبة لفاضل هو تداول شفاف مع العالم، يعتبر نفسه ابن العالم، ابن الوجود الذي يجمعه مع البشر بحميمية عالية وليس هناك لغة أكثر عالمية من الموسيقى.

غرائبية فاضل الدنماركي لم تتوقف عند حدود التنقل كمتسول عالمي، بل إنه يتعامل مع كل حالة تصادفه على نحو غير مألوف، إستعداده بلا حدود للتحول إلى حقل تجارب..

في اليوم التالي غادر محمود باكراً إلى عمله، قبل أن يستيقظ ضيفاه، ناصر وفاضل اللذان أمضيا نهارهما يتحدثان في خمول لا يتوافر سوى في سرداب موتى.

إرتاح فاضل الدنماركي إلى التلقائية والبساطة التي يتحدث بها ناصر، كان ينصت له ويحاكيه بجدية تامة.

  • إستاذ فاضل، بما أنك مثقف ودنماركي، كيف ترى نهاية هذا الحال، إحتلال وتفجيرات ومليشيات وخطف وجثث مجهولة؟
  • النهاية تحددها المسارات، يعني إذا تتجه الآن سيراً نحو الغرب ستصل إلى ضريح الإمام حتماً، وإذا سرت باتجاه الشرق ستجد نفسك في بحر النجف.
  • لم أفهم قصدك.
  • يعني، بما أنه أكو مشاكل، لازم نبحث عن حلول.
  • إي هاي ندري بيها، بس إشلون؟
  • نحن إزاء علّة بحاجة إلى وجود خيارات للعلاج.. يعني العراق أمام خيارين، إما جراحة، بثورة عارمة على كل شيء، أو الإكتفاء بالمضادات الحيوية، وهي الصبر على المسارات الطبيعية لنمو النظام الديمقراطي وتحمل تبعات التلكؤ للوصول إلى حياة مستقرة.
  • هاااا.. إي هسه عرفت المغزى. أنا أعتقد أن الثورة العارمة أفضل.

ابتسامة عريضة جداً شقّت طريقها إلى وجه فاضل الدنماركي، حتى بانت فتحة ناجذه المقلوع.. ذلك النهار كان كافياً لخلق علاقة ودودة بينهما، لم يصمد أمامها ناصر طويلاً، فكشف لصاحبه عن نيته للدراسة في إحدى الحوزات الدينية، فشجعه بحماس ووعده بمساعدته في إيجاد مدرسة مناسبة من بين عشرات المدارس الدينية المنتشرة في مدينة النجف.. بعد أيام قليلة، نفذ فاضل وعده.

عند باب الحوزة الغروية المزخرف الجميل تصاعد خفقان قلب ناصر، اصطحبه فاضل الدنماركي بحكم علاقته بأحد العاملين بإنشاء مكتبة رقمية للحوزة، أبلغه بأن مقابلة المسؤول عن قبول طلب الالتحاق للدراسة ستكون سهلة، ما هي إلا بضعة أسئلة تقليدية وسيتم قبوله.

داخل المكتب الصغير جلس منكمشاً أمام مسؤول الحوزة بهيأته الرسمية الجادة وزيّه الديني المهيب، بعد بضع دقائق من الحديث كانت كافية لتعبئة روحه بالطمأنينة، حيث دفع له بورقة مدون بها جدول الدروس وأخبره بإمكانية المباشرة في اليوم التالي، مع توفر سكن مجاني ووجبتي طعام، ووعده براتب شهري بعد مرور ستة أشهر على التزامه بالدراسة.

خرج من باب المدرسة بخطى بطيئة ونبض قلب سريع، استقبله فاضل الدنماركي الذي بقي ينتظره في الخارج، ودون كلام عرف أن كل شيء على ما يرام.. منذ ذلك الحين قلّص ناصر زياراته لأصدقاء السرداب. في آخر لقاء له مع محمود، برر غيابه بإنهماكه في الدراسة وشكى له صعوبتها وتعقيداتها.

* * *

(6)

على يمين طاولة منخفضة في دكان منزو عند نهاية زقاق ضيق متفرع من شارع الطوسي، المؤدي إلى ضريح الإمام، تراكمت نضدة أكفان، في إنتظار زخرفتها وتزيينها بالآيات القرآنية والأوراد والأدعية.. كلما يشتد خطاب العنف وتتصاعد التفجيرات ويرتفع عدد الجثث مجهولة الهوية، يزداد ضغط العمل على رحمان المصور.

حثه صاحب المحل على سرعة الإنجاز، قال له أن موعد نهاية الدوام سيكون الساعة الثالثة مساءً، لأجل غير مسمى، لم يعد الوضع آمناً بعد هذا الوقت، لم يجد بأساً في ذلك، هي فرصة مبهجة للإلتحاق المبكر بشلّة السرداب، التي عبر عنها في آخر رحلة صيد في بحيرة الرزازة بأنها "الجماعة الكونية الأكثر انسجاماً" الوصف الذي أثار محسن المالح واتهمه بالمبالغة المجانية:

  • شنو السالفة، الكونية الأكثر إنسجاماً؟ ما هم إلا واحد بياع شاي وواحد بياع ملابس وواحد متسول مجنون.

أجابه بثقة تامة:

  • أما بائع الشاي فقد تعلمت منه الصدق وبراءة التعامل، وبائع الملابس ما زلت أتعلم من ذائقته الجمالية بتناسق الألوان وأناقة التصاميم، وهذا ما لم يدعك اللون الزيتوني معرفته، أما المتسوّل، فهذا جعلني أحترم كل حماقات حياتي وخياراتي التي اختلط فيها الخطأ بالصواب، فقد جعلني أرضى بالخسارة بمقدار تقبلي للفوز.
  • حكي مال شعراء، لا دليل عليه، هل يساهمون في تنظيم حياة الناس؟ قطعاً لا.
  • يصعب عليك فهم ذلك يا عزيزي، ولهذا السبب تمكن ميشيل عفلق من لحس عقولكم.

من خلال زجاج واجهة المحل المغبرة، لمح رحمان عددا من الرجال الملتحين يقطعون الزقاق بسراويلهم السود وقمصانهم الفضفاضة النازلة حد الركبة، مدّ رأسه بحذر خارج المحل لإستطلاع الأمر، شاهدهم يتهامسون أمام بيت يعود إلى مهندس شاب يعمل في دائرة البلدية، وما أن فتح الباب حتى عاجله أحدهم بثلاث إطلاقات في الرأس، تراجع رحمان مرتعداً، تكوّم على نضدة الأكفان، سمع وقع خطوات هاربة، شاهدهم يركضون نحو سيارة كانت تنتظرهم عند رأس الزقاق، لاحت له ملامح أحدهم، وكان يعرفه.

  • إنه ناصر بشحمه ولحمه. أنا على يقين من أنه هو.

أراد أن يؤكد لرفاق السرداب أن ناصراً كان أحد أفراد المجموعة التي قتلت المهندس الشاب، أعاد رواية الحادث لأكثر من مرة بكل تفاصيله، على الرغم من معرفتهم بأنه ليس من البشر الذين يستسهلون إلقاء الإتهامات على الناس، لكن الشك روادهم لأسابيع بعد الحادث، حتى جاء فاضل الدنماركي بالخبر اليقين.

كان قد ذهب لزيارة الحوزة الغروية لتفقد صديقه ناصر، أبلغوه أنه ترك الدراسة بعد أقل من أسبوع، سأل عما إذا يعرفون مكانه الجديد دون أن يحصل على إجابة، لكن أحد الطلبة سحبه إلى خلوة وأخبره أن صاحبه انتقل إلى حوزة أخرى، عرف لاحقاً أنها مدرسة مغمورة وغير جادة، من تلك المدارس التي تأسست بعد سقوط النظام، لكنها تمنح الحق في تقلّد العمامة بزمن قياسي ولا تشترط دراسة ألفية بن مالك أو حاشية الإجرومية ومفتاح العلوم وغيرها من الكتب التي تحرص الحوزات الكلاسيكية على تدريسها.

المعلومة التي نقلها فاضل الدنماركي كانت كافية لمعرفة التفاصيل، قال محمود بائع الشاي:

  • القضية واضحة، ناصر يريد يصير معمم بأي ثمن، وعثر على من يلبي له رغبته.

عقب مفيد عباس وهو يعدل ياقة قميصه.

  • مدارس دينية وهمية تستخدم كواجهة لمليشيات وعصابات، لك يا بابا حتى رزاق طلايب ورافد قنبورة وطالب كبسلة صاروا معهم، هذوله مستعدين لإرتكاب أي جريمة.. إشلون نصيب، هسا لو ألله خالقني انكليزي, كان هسا اسمي ديفيد كوبرفيلد, من مواليد مانشستر, وجان هسا داعيكم ابيض وشعري أحمر واشتغل مدرب ناشئين في نادي مانشستر ستي لكرة القدم, والحبيبة اسمها ديانا مكارثي, صيدلانية ويومية كلما يخلص التمرين أطلع اني والفريق من الملعب وآخذهم مشياً على الأقدام للصيدلية, وأخليهم يدخلون على الصيدلية بالدور, كل واحد يشتري منها علبة براسيتول, واللي ما يشتري أخليه على مسطبة الاحتياط لحد ما يطلع تقاعد.. وكلكم عيوني.

ضحك رحمان وهو يملأ كأسه منتشياً:

  • أجمل ما في أحلامك أنها بلا حدود، لا تخضع لمنطق الحكمة القائلة "إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع" أحلام باذخة كذائقتك.
  • هو حلم، ليش أخليه متواضع، ثم إني لا أريد أن أكلف الله بأمور متواضعة.

نطق فاضل الدنماركي بعد صمت دام طوال الجلسة، بسبب الألم الذي لازم إلتهاب أحد أصبع يده منذ أسبوع:

  • عندك حق، لا ينبغي تكليف الله بمهام تافهة.
  • أنت تحديدا يا فاضل بحاجة إلى تكليف طبيب يعالج اظفرك قبل أن تصاب بالغانغرينا.
  • أنا لا أراجع الطبيب إلا للأمور التافهة، أما اظفري المدوحس فهو من الأمور العظيمة التي لا أكلف بها سوى الله.
  • وما هي الأمور التافهة التي تلقيها على عاتق الطبيب إذاً؟
  • تشريح الجثة بعد الموت، وإصدار شهادة وفاة، مثلاً.

انقلب حال المدينة، بما لا يختلف عن المدن الأخرى، الأيام بدت أعمارها قصيرة، لا تعبر الساعة الثالثة مساءً، بعدها تخلو الشوارع وتغلق الأسواق وتختفي الحياة، لتبدأ حركة المسلحين الملثمين، يجوبون الشوارع بسيارات شحن، يلوحون بسلطان الموت وينفثون الرعب في الطرقات.

لم تعد السيارات المفخخة وحدها وسيلة لخنق بحبوحة العيش الضيقة التي لا تتعدى ساعات الصباح، ولم يعد الإنتحاريون وحدهم من ينسف الأسواق لتختلط أشلاء الناس بطشار الخضار وحطام الجدران، لقد تناسل العنف بشكل سريع، فرّخ جيش الإمام ميليشيات وعصائب ومجاميع جديدة ظهرت على السطح.......

أطفأ مفيد عباس مولدة الكهرباء الصغيرة المركونة أمام محله في شارع الطوسي "لا داعي لإستهلاك البانزين دون وجود زبائن، البضاعة كثيرة وما من مشتري"، كان يتحدث بشيء من الأسى، كان صوته مشوباً بحشرجة لم يسمعها منه فاضل الدنماركي من قبل:

  • إذا بقي الحال على ما هو عليه سوف لن أتمكن من توفير ثمن إيجار المحل والبيت.. خلال الأشهر الماضية كان العمل وفير والناس تشتري بلا تردد، لأن قوات الإحتلال قامت بضخ أموال هائلة في البلد، بعد عقد من الحصار والفقر. يبدو إننا في عودة لزمن الحصار.. أنت لم تعش زمن الحصار يا فاضل، كانت الحياة محشوة ومغلفة بأبشع أنواع الذل، ترعبني فكرة عودة ذلك الزمن.
  • إننا شهود لمراحل قاسية، هي في الحقيقة نتاج ثقافي لإيماننا المطلق بقناعاتنا المسبقة، نعيش حالة اصطدام عنيف مع بنيتنا الفكرية والموروث الأخلاقي واللغة....
  • يا أخي أنا ما أريد أصير شاهد.. أريد أصير "ما شافش حاجة" بس، أريد أسافر إلى إسطنبول كل شهرين لجلب بضاعة للمحل، وأيضاً لأرفه عن نفسي وعن ابنتي وأمها، حشاشتا قلبي، هسا لو الله خالقني نيكاراغوي، كان هسا عندي........
  • لا أرجوك.. أجّل هذا الحلم النيكاراغوي إلى جلسة المساء هناك، أحب أن أعيش أحلامك مع فضاءات الكأس الثالثة.
  • وهذه شهادة على مرحلة أيضاً، مرحلة تأجيل الأحلام وتوفيرها لزمن السكر.

خطف أمامهما رتل مسرع من سيارات محملة بشبان مسلحين، بعضهم ملثم وبعضهم حاسر الوجه، تاركاً خلفه كتلة غبار غطت كل شيء في شارع الطوسي، لاحقته عيون المارة بإرتياب، بينما حافظت سيارة الشرطة على موقعها، كامنة في زقاق ضيّق غير بعيد عن ضريح الإمام علي.. قد لا تكون تلك الأرتال ذاهبة إلى مهمة حقيقية، إنما الهدف منها في الغالب هو الإستعراض وحسب، وقد يكون هذا الإستعراض النهاري علامة ظاهرة لممارسات ليلية خفية، إغتيالات، تعذيب، خطف، تهجير، مساومات بين عصابات منظمة تابعة لأحزاب، وأخرى صغيرة مأجورة.. إستعراضات لإثبات الوجود في ساحة العنف، صراعات جانبية تغذيها أحزاب وتيارات بعناوين عقائدية تدغدغ هواجس شبان مكبوتين، حرمتهم سنوات الحصار من ممارسة الحياة بمسارات طبيعية، إجتماعات سرية لفرق موت في أوكار معتمة.. حرث لئيم في حقل الشرّ ونفخ في موقد الجحيم العراقي.. جحيم يهربون من لظاه إلى سرداب محمود.

وصل رحمان المصور باكراً، ليس ثمة أحد في السرداب، أعد كأساً وشربه على عجل، عبثت أصابعه بعتلة موجات جهاز مذياع صغير جلبه معه خصيصاً لمتابعة تفاصيل خبر أصابه بحالة توتّر منذ الصباح، جاء الخبر على إحدى الإذاعات المحليّة بصوت مذيعة بدا عليه الكسل: إلقاء القبض على مجموعة مسلحة متورطة بخطف وقتل الناشطة الحقوقية مارغريت حسن من قبل قوات عراقية بمشاركة قوات أمريكية.

وضع الراديو على أذنه وراح يذرع السرداب ذهاباً وإياباً، لعله يسمع سبباً منطقياً لإستهداف هذه السيدة.. بعد أكثر من ساعة، وكان قد أتمّ كأسه الثاني، دخل عليه مفيد عباس وفاضل الدنماركي فجأة، وجداه يحدث نفسه بحزن عميق:

  • كانت صاحبة معروف على العراقيين، على ملايين الأطفال، يا له من عار، يا لها من خيبة! أهكذا يكافأ الإنسان الذي يمد يده لمساعدتنا في زمن الضيق والعزلة؟ أية أخلاق هذه التي نحن عليها؟ أي بؤس قادتنا إليه حماقاتنا؟ أي كابوس هذا الذي لا ينتهي؟
  • ها خير، شنو صاير؟
  • تم إلقاء القبض على من ذبحوا مارغريت حسن.. السيدة التي أخذت على عاتقها بناء عشرات المستشفيات على طول هذا الوطن، عاشت معنا الحصار والجوع، أمضت حياتها في ترميم حياتنا، النهاية يقتلها ناكر جميل حقير.

طأطأ مفيد عباس رأسه، مبدياً تأثره بما حدث، إختار له متكأ بجانب فاضل الدنماركي الذي إعتصرته نوبة ألم حاد هاجم اصبعه الملتهب، حيث بلغ التورم فيه حدا جعله لا يحتمل حتى النظر إليه.

نزل محمود درجات سلم السرداب مثقلاً بأكياس معبأة باحتياجات المعيشة، ساعدوه على وضعها في أماكنها المخصصة، بينما شرع مفيد عباس على نحو السرعة بإعداد الجاجيك وأطباق الحمص المؤطرة بشرائح الليمون، خلع محمود سترته بجزع وعلقها في مسمار على الحائط قبل أن ينقل لهم خبراً زاد الجلسة حزناً.

  • أوقفوا حافلة نقل على طريق الحلّة وقتلوا كل ركابها، جلبوا أربعين جثة مقطوعة الرأس بشاحنات مكشوفة إلى مركز الطب العدلي.
  • أين نهرب أبعد من هذا السرداب لنتخلص من أخبار الموت التي تلاحقنا بلا كلل؟ "قال رحمان المصور وهو يطلق زفرة"
  • لو كان ناصر معنا الآن لأجابك على سؤالك المحيّر هذا. "قال فاضل الدنماركي لامّاً ذراعيه على صدره"
  • ناصر لا يعرف الإجابة حتماً، لأنه هارب إلى الموت وليس منه.. إلى الطريق الذي وضعته أنت عليه.
  • أنا هديته إلى طريق المعرفة، هو غيّر طريقه إلى ما لا علم لي به.
  • ليش تهديه إلى طريق قابل للإنحراف إذاً؟
  • ليس هناك طريق غير قابل للإنحراف.. لو لم يكن الأمر كذلك لما اضطربت الحياة على هذا النحو.
  • ما خرّب الدنيا غير فلسفاتكم القاتلة هذه.
  • بل عمّرناها، لولا تلك الفلسفات التي تثير سخريتك، لكنا الآن جميعاً نسخة من ناصر.
  • مشكلتك يا أيها الدنماركي هي إنك تفترض السوء كحالة أصيلة للحياة، ولهذا فكل نتائج تأملاتك واستغراقك تكون مشبعة بالسوء.
  • هذا إذا كنت قد توصلت إلى نتائج أصلاً، كل ما توصلت إليه خلال ترحالي لم يزل في خانة المقدمات، لا أظنني سأصل يوماً إلى نتيجة! أما السوء، كهاجس إنساني، فأنا أتعامل معه كأحد أوجه الحياة، لا حالتها الأصيلة، كما تظن.. كل ما أفعله هو التفرّس بتفاعلات الحياة الكيميائية.
  • هه، ونحن نتحمل طفّار تفاعلاتك الكيميائية تلك!
  • ليس تفاعلاتي يا أخي، أنا أتفرّس بس.. التفاعلات ديدن الحياة، هي أمامك، إطفئها إن استطعت؟
  • يعني هذا التفرّس كلّه ولم تجد طريقة لإطفائه؟
  • ولا حتى طريقة لإطفاء هذا الألم الذي يستعر بإصبعي.

اعتدل مفيد عباس في جلسته وقال بلهجة حاسمة:

  • غداً سأخذك مخفوراً إلى عيادة الطبيب، وعلى حسابي الخاص، طالما الشغل ميت والدنيا صايرة طين.. خلي نشوف إشلون نهايتها مع التفاعلات الكيميائية، هسا لو الله خالقني بيلاروسي.. كان هسا اسمي ليونيد بالتسيف, وحبيبتي اسمها ناتاشا مياسينكوفيتش، كان هسا آني ضابط بحماية الريس الكسندر لوكاشينكو, وكلما يفوت الموكب مالته من يم جامعة مينسك اللي تداوم بيها ناتاشا معيدة بكلية الصيدلة, أطفر من السيارة وأمر عليها وبحوزتي ثلاث وردات حمر وأدخل على قاعة الدرس, وهي تخجل وتصير خدودها وردية، وطالباتها يتنادسن ويضحكن.. وكلكم عيوني.غطون عليه جماعتي , بس هالمرة لكَفني الريس نفسه , وشافني من الجامة الجانبية لمن فتحت باب السيارة وطفرت , جان يدز عليه ثاني يوم ويذبني سجن ست اشهر , وكل اسبوع تمر عليه ناتاشا سودة عليه , جايبة بيدها خبز وحلا

في صباح اليوم التالي لم يذهب مفيد عباس إلى العمل، توجه في ساعة مبكرة نحو مكان سكن فاضل الدنماركي، أيقظه بمرحه المعتاد، دفعه لإرتداء ملابسه ومصاحبته إلى العيادة الطبية، قال له بلهجة تشجيعية "تحمّل يوم ولا وجع دوم".

في منتصف الطريق توقف فاضل الدنماركي، غيّر رأيه، رفض التحرك خطوة واحدة إلى الأمام، قال بوجه معتصر:

  • لن أذهب إلى الطبيب.
  • ليش؟
  • لأنه سيضطر لإجراء جراحة.
  • أفضل من الألم الذي تعانيه.
  • هذه مفاضلتك أنت.. لست معنيا بها.
  • .......
  • شوف عيني مفيد، أدري أن اصبعي مصاب بإلتهاب حاد، وتقيح تحت الإظفر يصاحبه ألم يصعب إحتماله، وأدري أيضا حجم الخطر المحدق نتيجة إهماله، لكني قررت أن أدخل جسدي في معركة ضد المرض دون جراحة، سأكتفي بالمراهم الدوائية والمضادات الحيوية.. سأحاور الألم، أعانده أحياناً، أتعايش معه حتى يفقد فاعليته، أخاصمه حد انقطاع التواصل معه، سأتحدى الألم حتى أفرغه من كينونته كإحساس موجع، حتى أجعل جسدي يتغلب على المرض ويهزمه.
  • لكن، لماذا كل هذا؟
  • إنه أحد خيارين، لا ضرورة لإيجاد مبرر، هل بوسعنا أن نجد مبررا واحداً لخيارنا العراقي؟

* * *

(7)

طرق الحنين أبواب قلب رحمان المصور، راوده الشوق إلى مدينته التي لم يرها منذ سنوات، أحسّ بحاجة إلى الإسترخاء في أفيائها الندية، إلى شوارعها المترعة بالذكريات، رنّ في رأسه جرس يدعوه إلى تفقد كاميرته الشمسية والصلاة في حضرة ذكريات صندوقها الخشبي، كان يقول دائماً إن عتمة ذلك الصندوق هي مزيج مجموع ألوان الطيف الشمسي.. انحرفت خطواته عن طريق محل عمله، وجد نفسه في محطة الحافلات الذاهبة إلى الناصرية.

عند حدود قلعة سكر، قبل نهر الغراف، سبحت نظراته عبر نافذة الـ"جي أم سي" في الأفق الشاحب، الامتدادات اليابسة التي كانت حقولا خضراء ذات زمن لم تعد استعادته ممكنة.. اندفاع السيارة على طريق موطن السر، أتاح له فسحة لتأمل حكاية هذه الأرض، البقعة السهلية الخضراء التي تترصدها عيون الجبل شرقاً وعطش الصحراء غرباً.. سمع أنين الأرض ولهاث خيول غزاة تناوبوا على اغتصابها وتقطيع أوصالها. لا يؤمن كثيراً بالقضايا القدرية، ولا يؤمن بدعوة وليّ صالح على أهلها بالخراب الأبدي أطلقها لحظة يأس في سالف الأزمان، لكنه يتوقف عند سرّ الإصرار على الحياة والإصرار أيضاً على التعاطي العبثي مع تقلبات أحداثها.

دخل المدينة منتصف النهار، شاهد آلاف البشر يرتدون الأكفان ويقيمون الصلاة على مساحة واسعة من أحد الشوارع الرئيسية، كان إمامهم يصرخ بأعلى صوته متوعداً الخونة والمرتدين، يتوعد بسيف الله وجنوده الذين لا يخشون لومة لائم.. تلبسته وحشة الطرقات وخنقه الغبار العالق بوجوه الناس، كانت مدينة بلا ألوان، تشبه تلك الصور المقلوبة التي كان يثبتها على ذراع كاميرته الشمسية.

لم يجد غير أيقونة المدينة وسكّيرها، شريّف جرّي، لينتبذ معه مكاناً نائياً على ضفاف الفرات، كرعا كؤوساً وانتشيا بشدو، أشبه بنغم قادم من حلم سومري جليل.. حكى له شريّف ما حلّ بالمدينة.. قال له:

"ما عادت المدينة كما كانت يا رحمان، كل شيء تغيّر نحو الأسوأ.. إننا نعيش على حافة مقلاة موضوعة بإهمال على نار هادئة، ليس أمامنا سوى تحمّل سعيرها.. الحياة في المدينة أضحت رهينة رغبات طائشة لشبّان مخدّرين بزهو موجة التديّن الجديدة.. نعيش تجربة كشفت أن الناس لدينا أكثر تطرفاً من حكامنا الظالمين.. إننا نعيش حالة فريدة، أشبه بسماع أغنية بواسطة شريط مقلوب، لا تفهم منها شيئاً سوى إنك تستمع إلى أغنية تعرفها ولا تستطيع أن تدندن معها".

لم تستغرق زيارته سوى أربعة أيام، عاد هارباً كنبي الله لوط، عاد مكسوراً من مدينة لم تعد بيته، حزيناً على ذكريات فتّتها الزمن كقمصان ضحايا المقابر الجماعية، عاد حاملاً في قلبه جثة لا تسعها مقبرة.. عاد وفي انتظاره نضدة أكفان متراكمة، عليه أن يخط عليها رسائله إلى العالم الآخر.

أخبر صاحبه محسن المالح أن جيش الإمام يشن حملة اغتيالات تستهدف باعة الخمور والحلاقين والنساء المتبرجات والشبان الذين يرتدون أنواعاً معينة من بناطيل الجينز، لا أحد يهتم بشأن البعثيين، بوسعك أن تزور المدينة في أي وقت وأنت مطمئن.

أصدقاء السرداب كانوا على علم بعودته، أعدوا مائدة عامرة بكل ما يطيب مع ارتشاف كؤوس العرق، إحتفاءً بعودته.. محمود كان يتوقع حجم الحزن الذي يتلبّس الإنسان بعد زيارة من هذا النوع، إقترح عدم إخبار رحمان بما لديهم من أنباء بشأن ناصر وما آلت إليه الأمور معه، ذلك قد يزعجه ويعكر صفو جلسة كلفتهم كثيراً من المال. فقد أحضر مفيد عباس معه كمية كافية من اللحم المتبّل والمجهز للشوي، وكمية من المكسرات والموالح، قال لهم ضاحكاً "اليوم ستكون الجلسة خاصة جداً، رحمان يستاهل الإحتفاء به.. إنفق ما في الجيب، يأتيك ما في الغيب" هذا غير أنواع الخضار والأجبان التي جلبها فاضل الدنماركي.

لكن الإتفاق لم يصمد طويلاً أمام تصاعد عدد الكؤوس وحلول مشيئة السكر، وكان محمود نفسه أول من خرقه:

  • لك رحمن، تدري، هذا ناصر الناقص صار عصابجي، رأيته بعيني وهو يتصدر مجموعة مسلحة، متشحة بالسواد، هاجمت عيادة طبية واقتادت صاحبها بعد أن وضعوه في صندوق سيارتهم البطّة، وطاروا إلى جهة مجهولة.. ليس هذا فحسب، فقد شاهده مفيد عباس أيضاً، شاهده بين عدد من المسلحين على ظهر شاحنة، يرتدي جبة وعمامة بيضاء ويلوّح ببندقية كلاشينكوف، ويهتف: كلا كلا أمريكا.
  • شيء متوقع.. سنرى ما هو أتعس، نحن نشهد مرحلة يستوي فيها الواقع والخيال.. رأيت هناك أئمة مساجد، أتقياء في نظر الناس، إلتحقوا بمجاميع مسلحة.

قاطعه مفيد عباس مازحاً:

  • طبعا.. يعني قابل تريدهم يلتحقون بالفرقة السمفونية العراقية مثلاً؟

أيام المدينة، أضحت تهرول على إيقاع متسارع لأحداث، في أغلبها، تزيد الأهالي رعباً وتوجساً، إلا اللهم خبراً واحداً جعل الناس ترقص في الشوارع حتى الصباح، يوم تلقى العالم نبأ القبض على صدام حسين، وأظهرت شاشات التلفزة تسجيلاً مصورا للحظة إخراجه من حفرة في إحدى قرى مدينة تكريت.. حينها قال فاضل الدنماركي "شكراً صدام، لأنك منحتنا فرصة هائلة للتشفي".

تصاعد السواد في نسغ الحياة بشكل لافت، شبان بوجوه صارمة وعيون تترصد ما حولها بريبة وحذر، يطوفون الشوارع بمسيرات مسلحة، يغلب عليها الطابع الجنائزي، كأنهم يرددون نشيداً كونياً يقودهم إلى قيامة.

وقف محسن المالح بقامته الفارعة في باب المحل، بينما كان رحمان منشغلاً في زخرفة كفن تبعثرت أطرافه تحت يديه، كانت زيارة مفاجئة جفل لها قلبه، رحب بصديقه بكلمات غير مترابطة، سحب كرسياً ودعاه إلى الجلوس.. عرف لاحقاً أن المالح جاءه لاجئاً.

  • لقد كشفوا مكاني في خان النص، وصلني تحذير من أحد مقربيهم.
  • بيتي مفتوح لك ولعائلتك.. لا تقلق.
  • سنكون في ضيافتك لفترة محددة، سأدبر أمر السكن بأسرع وقت.
  • لا تهتم، ليس ثمة ما يضايقني، سنعمل معا ونسكر معاً.
  • هل تعتقد إني سأفلح بعمل الأكفان هذا.
  • ستفلح حتماً، ستخط حروفك على الأكفان مثلما كنت تخطها على تقاريرك الحزبية.

ارتعد كيانه تحسباً لأذن تتنصت، أدار وجهه ممتعضاً من مزحة صاحبه الثقيلة.

في اليوم التالي اتصل بزوجته وأبلغها بالمجيء برفقة ابنتها وجلب ما خف حمله وزادت أهميته.. أبلغته زوجته لاحقاً بأن أحدهم لمّح لها بأنهم سيغضون الطرف عنه لقاء مبلغ مالي لم يحدده، لكنه لم يستجب لتلك المساومة وفضل البقاء في مدينة النجف.

صار للسرداب صديق جديد.. إرتاح له محمود بسهولة، بينما تردد فاضل الدنماركي في مجاملته خلال اللقاء الأول، وكذلك على نحو مشابه تحاشى مفيد عباس حتى النظر إلى عينيه أثناء الحديث، خصوصاً بعد إعتراف رحمان بحقيقة محسن المالح وخلفيته البعثية، لكنه أدلى بتزكيته أمامهم وأعلن مسؤوليته عن تلك الكفالة، فتقبلوه واحداً منهم.

لسوء حظه كان خلال زيارته الثانية سبباً لنوبة من الضحك داهمت المكان على نحو مفاجئ، لم يرتكب حماقة، كل ما حصل هو أنه أخرج من جيبه علبة دومينو، عارضاً عليهم وقتاً للعب.. تواصل الضحك طوال الجلسة.. كانت عيون فاضل الدنماركي تدمع وهو يتحدث بكلمات يقطعها ضحكه المتواصل وهو يميل على مفيد عباس:

"لك شوف هذا، ختم سيرته الحزبية والروحية والوجدانية بعلبة دومينو.. يا لها من سيرة عجيبة، ويا لها من خاتمة مدهشة".

تنتابه ذبحة من سعال، يحمرّ وجهه ويتعرّق، يأخذ شهيقاً عميقاً ثم يواصل ما يحاول قوله لمفيد عباس، الغارق هو الآخر في نوبة ضحك لم تزره منذ سنوات طويلة، على الرغم من طبيعته الضحوكة والمرحة:

"تخيّل أن كائناً يعيش على كوكب الأرض، التابع إلى المجرة الشمسية، السابح في كون لا متناه، تتقاذف في عتمته أجرام ونيازك، وتتحطم في أحشائه كواكب ونجوم.. تخيّل أن ينهي هذا الكائن رحلته مع كل ذلك التيه بعلبة دومينو!"..

لم يصدر من محسن المالح أي إنفعال ظاهري، نجح في إخفاء شعوره بالضيق مما اعتبره وقاحة لا ينبغي أن ترتكب بحضوره، لكنه غادر السرداب في نهاية الجلسة ممتلئاً بالرضا، خصوصاً وأن فاضل ختمها بإعتذار لطيف وقبلة على الخد وعناق كان كافياً لمحو كل درن محتمل مما حصل.

الأيام اللاحقة لواقعة الدومينو تلك، أعادت إليه هيبة حضوره، صار يطرح آراءه بشفافية ووضوح، حتى إختلافات الرؤى لم تأخذ شكلاً غير تبادل الإحترام.. بعض آرائه تثير موجة من الخلاف الذي قد يمتد لعدة أيام.

قال لهم خلال إحدى الجلسات أن "البعث هو الحل".. كان من شأن هذا القول أن يشكل صدمة للجميع، سيما وأنهم يعتقدون بأنه "بعثي تائب" أو هكذا يهجسون دون الحاجة إلى إتفاق، على اعتباره ترك الحزب قبل سقوط النظام بسنوات، فهو غير مشمول بصفة "الأيتام" التي أطلقت على البعثيين الذين التصقوا بنظام صدام حتى إنهياره.. كانت حجته أن العقل العربي تائه في تحديد هويته، بين انتمائه اللغوي العربي، وإنتمائه الديني الأممي، المشروع القومي، والبعث ضمناً، إختار اللغة كمظلة أو كحزام يشد أزر الناطقين بالعربية، وهم عبارة عن شعوب تعيش في دول غنية في معظمها، البعث اشتغل على الإنتماء القومي وترك حيزاً يسيراً للدين كإنتماء روحي لا علاقة له بصيغ الحكم وإدارات الدول، أراد أن يقيم نموذج العلماني الملتزم دينياً، كنموذج وسط بين العلمانية الملحدة والتيارات الدينية المتشددة".

أوقفه مفيد عباس بتعليق تهكمي:

  • لو جايب الدومينو معك مو أحسن؟

فيما وجه رحمان سؤاله بجدية:

  • وهل نجح؟
  • لا، لم يحالفه النجاح.
  • كيف إذاً يكون حلّا وقد فشل في تجربة حكم أكبر البلدان النفطية؟
  • لا يجب أن تنسى حجم التآمر على البلد؟
  • محسن، اكل تبن.

* * *

(8)

"أي مكيدة هذه التي أعددتها لنفسي!.. وأي غواية شيطانية تلك التي قلبت كيان كل شيء!" هذا ما تردد في دواخل الشيخ ناصر وهو يمد عنقه تحت الحنفية تاركاً الماء يغمر رأسه، علّه يخفت شيئاً من الصخب الدائر هناك، أو علّه يتخلّص من تفاصيل تجربة محشوة بفزع متواصل.

باغته صوت إنفجار بعيد، خمّن موقعه، يبعد أكثر من كيلومتر واحد، رفع قامته من حوض المغسلة، سار بخطوات بطيئة نحو باب البيت، متلذذاً بالماء النازل من شعره الأشيب القصير، راقب السكون في الشارع، توقف عند يافطة "الدار معروضة للإيجار" كتبت على جدار بيت العقيد أبو ورقة، تذكّر الحماقة التي إرتكبها بعض أتباعه حين أوصلوا له رسالة تهديد بالقتل ما لم يغادر المنطقة، وكانت إستجابته سريعة جداً، وقد اختفى تماماً هو وعائلته منذ ذلك الحين.

أطال النظر متفقداً وجود عناصر نقطة الحراسة في أماكنهم عند رأس الشارع..

"كل شيء على ما يرام.. لا، ليس كل شيء على ما يرام، ربما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة". عادت به خطواته باتجاه باحة بيته الخافتة الإضاءة، متحاشياً النظر في زاوية السلّم، حيث يقبع رأس التمثال.

فرش سجادته بجانب سياج حديقته الصغيرة، قبالة غرفة النوم، حيث ترقد زوجته، تربّع على سجادة الصلاة، راحت أصابعه تسحب حبات مسبحته على وقع دعاء يخرج من بين شفتيه بكسل، إلا أنه لم يقم صلاته، شعر بحاجز خفي حال دون ذلك، إنها المرة الأولى التي يجد نفسه بلا رغبة لأداء الصلاة، على مدى السنوات الماضية كان يؤديها بإقبال ونشاط، وفي أي مكان بلا حرج، في حديقة عامة، في سوق مزدحم بالمتبضعين، بل أنه فرش ذات مرّة، صفحة جريدة في ممر المستشفى وراح يصلي.

تذكّر كلمات تلك الجنيّة الساحرة، المرأة التي ارتبط بها من خلف حجاب، خلال فترة وجوده في النجف، قبل أن يتلقى أمراً بالعودة إلى العاصمة. كان اسمها جلّشان، قالت له إنها لا تستطيع الصلاة، ما لم تكن مشتاقة لها..

عادت به الذاكرة إلى البداية.. الذي حدث معه، وهذا ما خفي على فاضل الدنماركي، هو أنه بعد أن باشر يومه الأول في الحوزة الغروية أصيب بما يشبه الصداع، دارت به الأرض واختلّت قدرته على تمييز الأحجام وتعطل لديه إحساسه بالزمن، تحجّر أمام مشهد مئات الدارسين يصغون لشيخ يلقي محاضرة بصوت خافت، لم يفهم من كلامه شيئاً، لكنه قرأ على السبورة عنوان الدرس "البيع 116" عرف لاحقاً أن الرقم يعني عدد حلقات الدرس المخصص لأحكام البيع الشرعية، أرعبته فكرة دراسة مائة وستة عشر محاضرة عن أحكام البيع فقط، سخر مما هو فيه، فكر في أنه بحاجة إلى خمسين عاماً ليلمّ بكل علوم الحوزة إذا كانت الأمور تسير على هذا النحو.

في سكن الطلاب، كان شريكه في الغرفة شاب حبشي يدرس مرحلة متقدمة "السطوح" ويذهب ليوم واحد من كل أسبوع لحضور درس مسائي في العرفان والتصوف عند أحد المشايخ، طلب منه مرافقته، فلم يمانع.. هناك وجد لذة في المكان، جدران مغلفة بقماش أسود تتخلله ألوان أخرى، كانت قاعة الدرس مقطوعة بحاجز من قماش الكتان، يفصل بين النساء والرجال، أخذ مكانه بين المريدين، سرعان ما تآلف معهم.. وجدهم يشبهونه، يحملون سحنته ذاتها، نمت فيه طمأنينة للمكان وروّاده، تطورت تلك الألفة بعد فترة وجيزة، حد توحّد نبض القلب.

عرف من خلال بعض المريدين إنهم يدرسون في حوزة ليس فيها تعقيد أحكام البيع وغيرها، دلّه أحدهم على الطريق، أفرج عما في داخله من كلام حبيس، قال له إنه لا يحتاج لدراسة أحكام البيع، لأنه مارسه على مدى عشرين عاماً، ضحك صاحبه، ورافقه حتى وضعه بين يدي صاحب الحوزة، لم يشعر برهبة على الرغم من كثرة صور رجال الدين المعلقة على الحائط، خلف المكتب، في اليوم التالي إلتحق بالدرس، وما هي إلا أسابيع حتى أرتدى الجبة والعمامة وأخذ مكانة بين آلاف العمائم.

كانت حوزته الجديدة تابعة بشكل علني إلى جماعة مسلحة، وجد نفسه أمام عالم يخوض حرباً أخرى، غير تلك المرئية في الشوارع، لكنه لم ينقطع عن درس العرفان.

لم يكن تجنيده عصيّاً على الشيخ مهند، مسؤوله في الحوزة، فهو لم يبد أي نوع من الممانعة حال تكليفه بمهمة سرية لصالح الجماعة، صحيح إنها مهمة لا تتعدى مراقبة منزل أحدهم وتحديد أوقات خروج قاطنيه ودخولهم وعدد أفراد العائلة ومستوى حركة المارة في المنطقة ليلاً، إلا أن مسؤوله الذي يصغره بالعمر بعشر سنوات تقريباً، أبدى أهتماماً كبيراً بالمعلومات التي جلبها، حتى أنه اصطحبه معه في زيارة ودية إلى المسؤول الأعلى للجماعة.. بدى الشيخ ناصر متوازناً ومهيباً بهيأة رجل الدين، مدّ الشيخ مهند كلتا يديه وساعده في تعديل عمامته، دفعها الى الخلف قليلاً، ليترك خصلة من شعره تخرج من مقدمتها.

بعد مشاركته الفعالة بعمليتين، أحدهما كانت اغتيال الشاب المهندس الموظف في قسم العقود بدائرة البلدية، تلك العملية التي لمحه خلالها رحمان المصور، كلفوه بقيادة مجموعة تتألف من ستة مسلحين، وقد أثبت لهم مهارات لا تقل شأنا عن تلك التي يمتلكها الشبان المتحمسون الذين تلقوا تدريبات عالية المستوى في معسكرات متخصصة بأساليب حرب الشوارع وطرق الخطف والإغتيالات التي لا تترك أثراً..

تلك الرحلة الصاروخية في تدرّج الشيخ ناصر، جعلته بمقام مسؤوله الشيخ مهند، بل ارتبط معه بصداقة متينة ذابت فيها الفوارق بينهما، حتى نمت مساحة للحديث عن الأمور الشخصية والبوح بما ليس مسموحاً به.. روى له قصة الحب التي يعيشها مع جلّشان من خلف حجاب، شكى له معاناته مع عام كامل دون أن يرى وجهها.

بدأت حكايته معها في قاعة محاضرات شيخ العرفان والتصوف، منذ تلك اللحظة التي أحسّ فيها بورقة تمتد من تحت قماش الحاجز الفاصل بين الرجال والنساء، إلتقطتها أصابعه على عجل، خبأها في طيات عباءته، قرأ فيها "سلام أيها العالق" شمّ رائحة إمرأة تفوح أنوثة، لكنه لم يفهم العبارة. كتب على الورقة ذاتها "وعليكم السلام، العالق أين؟".

لم يخطر على باله أن جلّشان تتوقع مثل هذا الجواب الساذج، لكنها سارعت بكتابة جملة ودستها تحت الستار، نزّ العرق من تحت عمامته نازلاً على لحيته الخفيفة، حيّره تفسير ما جاء في الورقة "العالق في جوف العشق، كسيدنا يونس".. غلبته الغفلة مجدداً، لم تسعفه نباهته المتواضعة، كل ما تفتقت به ذهنيته هو أنه أمسك بالقلم وكتب بخط مضطرب "لكن سيدنا يونس نبي، ولم يكن عاشقاً".

وغاب عنه أنها لم تتوقف طويلاً عند سذاجة الجواب، فقد إستهوتها اللعبة وتلبسها التحدي، عدلت من جلستها على نحو يمكنها من كتابة رسائلها دون لفت إنتباه النسوة اللواتي يحطن بها، منصتات لمحاضرة الشيخ، كتبت على الورقة "سوف لن تكون شيئاً، ما لم تكن عاشقاً" وأعادتها بالطريقة نفسها.. انتابته رعشة وهو يقرأ المكتوب، أذهله ربط العشق في قضية مقدسة مثل قصة نبي.

إنتهت محاضرة الشيخ، نهض الجميع مغادرين المكان، تصنّع الإنشغال بكراريسه ليتأخر قليلاً، كانت لحظات مضطربة، لم يكن عارفاً ما يتوجب عليه فعله، تصارعت في رأسه أفكار خاطفة، هل يحدثها من خلف الستار؟ هل يعيد إليها الورقة بعد أن يحدد زمان ومكان لموعد لقاء وجهاً لوجه؟ هل يتوجب عليه أن يقول شيئاً؟ أن يعقد أي إتفاق، كإن يجلسان في المكان ذاته كل يوم؟ لكنه لم يفعل كل ذلك، إكتفى بالاحتفاظ بالورقة وغادر القاعة عائداً إلى مسكنه القريب من مكتب الجماعة.

عاش تلك الليلة في أجواء مراهقة لم يحيها من قبل، أعاد قراءة ما موجود بالورقة مرات عديدة، علّه يعثر على شيء فاته، أو علّه يفك سراً أو يكشف لغزاً.. إستيقظ حسّه الأمني، فكّر بإمكانية أن تكون جهة حزبية منافسة قد أرسلتها للتجسس عليه، أو لإيقاعه في كمين، أو حياكة مؤامرة تستهدفه.. "لا، لا أظن ذلك" طرد وساوسه، مفترضاً أن المصادفة وحدها يمكنها أن تجعل جلوسهما في مكان مجاور على جانبي الحاجز.. فكر:"ثم، لا أعتقد إني أمثل هدفاً يستحق كل تلك الترتيبات"..

دقق نظره في حروفها وطريقة رسمها المميزة، إنسياب الكلمات الرشيق، أناقة الخط، عاودته رائحة الأنثى الساحرة، طوى الرسالة ووضعها تحت وسادته وأغمض عينيه محاولاً استدراج النوم.

إستيقظ قبل صلاة الفجر مفعماً بالصحو والشبع من النوم، مدّ يده المزينة بخاتمي عقيق، تحت الوسادة، سحب الرسالة وراح يشمّها بعمق، تفجّر في داخله شوق لم تعهده أيام حياته، إشتاق إليها، إلى تلك الأنثى الغامضة، التي عرف لاحقاً ان اسمها "جلّشان".. أمامه ساعات طويلة من الشوق، وخفقان القلب المباغت، والرغبة بطي الزمن بيد جليلة تقول للشيء كن فيكون، أمامه زمن ثقيل حتى يحلّ المساء، موعد محاضرة شيخ العرفان والتصوف.

الشوق، أكثر دروس الحياة بهاءً وبذخاً، وأعظم الحالات قداسة، تجعل الكائن يشرع في العبث، بلا وجل، مع المطلق، محاولة لإعادة تفكيك الزمن، وإعادة تركيبه وفق أولويات مستحدثة، أولويات لحظة اللهفة وشوق الوصول.. الشوق، محاولة ممعنة بالعناد لإستعادة زمن محبوس في حالة أخرى.. ذلك ما كان عليه الشيخ ناصر.

ودون إتفاق معلن، إختارا المكان ذاته، ومع بدء المحاضرة، برزت له ورقة من تحت الستار، سحبها بهدوء، قرأ فيها:"ها أنت عالق في المكان".. داهمه شيء من دهشة الليلة الماضية، توقدت فيه جذوة الفضول.

أعاد الورقة بيد مرتجفة، بعد أن كتب عليها جملة تشكلت في ذهنه كيفما إتفق:"إقتفيت أثر عطر سكنني منذ أمس".

وسرعان ما جاءه الرد: "مسكون بالعطر وإقتفاء الأثر! يا لبهائك؟". خيّل إليه انفراجة شفتيها الناعمتين بإبتسامة وهي تكتب كلماتها بأصابع بيضاء دقيقة.

إختضّت روحه بشغب، وإستيقظت في صدره أحلام غافية لم يقترب منها يوماً قط.. ترك القلم في حضن الورقة، عيناه شاخصتان باتجاه الشيخ المحاضر، بينما تبعثرت أفكاره في متاهة القول، يحاول ترتيب كلماته، تحفيز دماغه ليقول شيئاً ذا قيمة تضاهي لغة وبلاغة ومنطوق ما كتبته هذه الجنيّة التي هبطت عليه بغتة.. إنها المرّة الأولى في حياته يشعر بأهمية القول، وأن يكون مطالباً بقول شيء، لابدّ أن يكتب على الورقة المدفونة في كفّه المتعرقة، شيئاً يتمخض من لحظة الضياع التي تجتاح كيانه.

أخيراً وقبل أن تنتهي المحاضرة بقليل، كتب على الورقة "كلنا مسكونون بملاحقة ما لا نفهم، كما هو حالي الآن وأنا أنصت لهذا الشيخ" وأعادها لها، إلتقطتها على عجل، قرأتها بشغف، ارتسمت على وجهها الأبيض المستدير إبتسامة زهو، فهمت الجملة المكتوبة على نحو لم يكن في ذهنه، فهمتها بعقلها هي، أدخلتها آفاقها الباطنية، نفخت فيها معنى لا ينتجه سوى مخيلتها، إستبشرت أنها نقطة الصفر ولحظة إنطلاق نحو سفر جديد.

إنها مغامرات بريئة، أو هكذا تعتبرها جلشان، تتسلى بها كتمرينات روحية، قالت له في إحدى رسائلها، إنها تعتبر تبادل الكلام هذا كزوادة سفر.. كتبت له: "ملاحقة ما لا يفهم، كينونة وصيرورة معاً، إنها هدف بذاته، لا وسيلة لبلوغه فقط، لماذا تريد فهم ما يقوله الشيخ إذاً؟".

سقط في هاوية لا قرار لها، لولا الشق الثاني من رسالتها القصيرة، والذي جاء على شكل سؤال، لما تمكن من كتابة كلمة واحدة.. أي كينونة وصيرورة يتحدث عنهما هذا الكائن العجيب، هذه الأنثى الغامضة، المفعمة بالحكمة، وأي لغة مشبعة بالبلاغة هذه، وأي عمق تدركه جلّشان؟

أدرك إنه أمام ورطة، بل في جوف ورطة بتعبير أدّق، طاف في أخاديد دماغه، حلّق حول خلايا الدفتريا، سكر في ثنايا الجمجمة، إنتزع جواباً طافياً عند شواطئ الذاكرة، سكبه على الورقة، دون أن يحترّز من جواب متوقع، كتب: "وكيف لي بلوغ الحقيقة دون فهم ما يقال؟".

جاءه الجواب بأسرع ما كان يتوقع، كتبت له:"وماذا بعد؟ ما الذي ستفعله بالحقيقة لو بلغتها؟".

تعالت أصوات الدارسين في القاعة، إنتهت المحاضرة وكل مضى إلى سبيله.

مدّ الورقة أمامه على طاولة صغيرة في غرفته الضيقة، تفرّس في كل كلمة مكتوبة عليها، كان يستشعر الغنج المخبوء خلف كلماتها البليغة وعباراتها التي تطوّح به إلى مساحات بعيدة في عمق المجهول، تلقيه في تيه هائل، عليه أن يكتشف بعض لذائذه ويتذوّق بعضا من رحيقه.. غنج خفي لا يمنح تفاصيله بيسر، متحصن بمتراس لغة متدفقة كنهر وديع.

كاشف رفيقه الشيخ مهند بعجزه في مسايرة ما تلقيه عليه صاحبته، لم يطق كتمان السر، أطلعه على آخر رسالة، كان يتوقع تفاعلاً حميمياً واقتراباً يزيح عن كاهله هماً لا يعرفه سواه، لكن الشيخ مهند اختزل الموضوع كله بأنه هراء مثقفين لا معنى له، قال له:

  • لا تغريك هذه الفذلكات الخاوية، نحن من يقبض على اللحظة، نحن جنود الإمام، نحن المعنى.

ثم أردف، لكسر الصمت الذي إكتسح وجه الشيخ ناصر:

  • لديك مهام جسيمة، أمامك عمليات تحتاج إلى أعصاب قوية، يقظة، إستعداد، إحذر أن تغرقك هذه المرأة في بحر السهو والذبول والانشغال في تأملات طويلة في أمور تافهة.

أعاد له كلام الشيخ مهند شيئاً من صورته الأولى، خفف من شعلة منطاده ليعود بسلام إلى أرض الواقع. إعتدل في وقفته وأعاد كتف عباءته إلى مكانها، قال بصوت خفيض:

  • لم أرفض أي مهمة كلفتموني بها.. هل ظهر مني أي تقصير؟
  • لا، ليس هناك أي تقصير، والقيادة راضية عنك تمام الرضا، لكننا في طريق لا يحتمل التقصير، التقصير يعني الخطأ، والخطأ لدينا يقع مرة واحدة.. أو هو غير موجود أصلاً، لأنك ما إن ترتكبه حتى ستكون هناك، في أطراف مقبرة وادي السلام.
  • لا، لا تقلق، أنا على إستعداد دائم وهمتي عالية كما عهدتني، أرجو تكليفي بأقرب مهمة.

توالت الأيام مع دروس تأتي من تحت الحاجز، لا من منبر الشيخ المحاضر، تعرفا على حياة كلّ منهما، بيد أنه لم يخبرها عن تفاصيل العمليات السرية التي يشترك فيها أو التي يقودها أحياناً، إكتفى بإبلاغها أنه أحد جنود الإمام ويشترك في مهام جهادية.. لم تجد جلشان ضيراً من هويته، واصلت لعبة الرسائل بنشوة تتصاعد كلما غمرتهما الأحلام الشفيفة وغاص بهما الكلام في متاهات الضياع.

مدّته بعناوين كتب قرأتها سابقاً ورأت فيها قيماً رفيعة ومعارف عميقة، أرشدته إلى مكتبات تضم كتباً تناسب فئة الخواص من الناس، لا يدخلها العوام، تبادلت معه رؤى فلسفية تحتكّ بحذر في ثوابت شرعية لم يكن ليقبلها لو لم تخرج من جلّشان.

كانت ترعبه بعض الآراء التي تطرحها، لتعارضها الفاضح مع ثوابت مقدسة، هي خطوط حمر بالنسبة له، لكنه يزداد إلتصاقاً بها كلما خرقت له حجاباً، قالت له في رسالة طويلة: "أنا لا اؤمن بناسوت الإمام المنتظر، لا اؤمن بأنه سيظهر على هيأة إنسان، بل هو مرحلة زمنية وحالة متقدمة من النمو والنضج الفكري ومصالحة شفافة مع الزمن تمر بها الأمة، إنه صحبة الزمان والتماهي معه، هذا هو مفهوم المنقذ المنتظر بالنسبة لي".. أرعبه ما جاء في الرسالة إلى حد عزوفه عن الرد عليها، وتحاشي قراءتها ثانية، خبأها بعيداً، في بطانة حقيبته.. لم يكن مستعداً للاصطدام بفكرة ثقيلة من هذا النوع، كما لم يكن قادراً على الفكاك من أسر أنثى بكل هذا السحر.

استفحل عليه الشوق لرؤية وجهها، صار يشعر بنقص ما في المشهد، الكلام وحده لا يشبع رغبة بدأت تعشوشب في ضميره، إبتكر وسيلة فريدة أضحكت جلشان كثيراً، إستعان بمرآة مستطيلة، أكبر من الكف بقليل، دسها تحت قماشة التشادر الفاصلة بينهما، وترك فتحة كافية ليتسنى لهما أن يريا بعضهما، جاء ذلك بعد ممانعة مضنية من طرفها، لكنها خضعت لإلحاحه بطلب اللقاء، أو رؤية الوجه عبر صورة على الأقل، شعرت أنه استنفد كل صبره، تحسست ارتجافة صوته وهو يدعوها إلى رفع حافة الكالوس الملامسة لسجاد أرضية القاعة ليدفع بمرآته في تلك الفتحة التي بوسعه إخفاءها بعباءته الفضفاضة، وما إن تبدأ المحاضرة حتى يبدآن بإنتهاز أوقات مناسبة للتلصص على بعضهما، كانت تعرف اللحظة التي يريد بها وصالاً، تزيح عباءتها عن مكان المرآة كلما سمعته يطلق نحنحة صغيرة.. تمتدّ يده من تحت عباءته، لتحرّك المرآة يمينا ويساراً، حتى تستقر عند وجهها القمري وهي ترسل له ابتسامة خجولة بين حين وآخر، فصار بوسعه تفحّص تقاسيم وجهها وهي تكتب له رسائلها، كذلك يفعل هو الشيء ذاته.

* * *

(9)

وقف محمود بائع الشاي منتصباً بإحترام، مستقبلاً صاحب المكان، أمير الرومانسي الذي جاء بعد إنقطاع دام بضعة أشهر عن زيارة ساقه المدفونة في أحد لحود السرداب.. وكما هي عادته في كل مرّة، جلب معه مستلزمات طقوسه، شموع، أعواد بخور، أغصان آس، قنية من ماء الورد، بالإضافة إلى بعض المعجنات والمأكولات المعمولة منزلياً.

إنسحب محمود إلى خارج السرداب بحجة قضاء حاجة في المدينة، فاسحاً المجال أمام أمير الرومانسي لأداء طقوسه الخاصة مع ساقه وحيداً كما يحب.. وزع أعواد البخور في ثنايا السرداب وأوقد الشموع ورشّ ماء الورد على واجهة اللحود الثلاثة المغلقة.. ثم تقدم بثقة بإتجاه اللحد الفارغ المجاور إلى لحد ساقه، سحب قرميدة يعرف طريقها جيداً في الجدار الفاصل بين اللحدين، كان قد خلعها في وقت سابق وجعل منها باباً سرياً، مدّ يدّه داخل اللحد حتى استقرت عند ملامسة أصابع قدمه، تحسس عظامها التي إلتصقت بقماشة الكفن المتهرئة، تحرّكت أصابعه تمسّد على منطقة الساق، مروراً بالركبة وصولاً إلى عظام الفخذ المتهشمة، انتفضت في داخله رعدة أعادته إلى اللحظة الجحيمية التي دافته بغبار الإنفجار وتركته مرمياً في العراء.. كانت تلك الملامسة المباشرة تعزز شعوره بالبقاء، بمقاومة التلاشي، تشعره بأن ساقه لم تزل على قيد الوجود، يوهم نفسه بأنها لم تزل نضرة تستحق انتظار ساعة الإلتحاق بها.

إنتهت مراسيم الملامسة المقدسة مع إغلاق فتحة العالم الآخر، عاد وجلس على حصيرة جلبها معه في زيارته السابقة، بدأ يناجي ساقة بمواويل موغلة باللوعة، اعتذر لها عن انقطاعه خلال الشهور الماضية، شكى لها ضيق الحال بسبب توقف راتبه التقاعدي، قال لها بصوت منكسر بأن تلك الحرب لم تعد مشرّفة ولم يعد لضحاياها مكان يركنون إليه.. تلك الحرب التي عضّته ورمته مثلما يفعل متخم بحبة فاكهة، بدت وكأنها ولد لقيط، لا أحد يعترف بأبوته، أضحت مرحلة موبوءة يخشى الجميع الإقتراب منها، لا أحد يرغب بإثارة تفاصيلها، الكل يعتبرها لطخة سوداء، وكأن صفحاتنا الأخرى ناصعة البياض!.

عاد محمود في وقت انتهاء أمير الرومانسي من طقوسه، جالباً معه ما يكفي لترتيب جلسة تليق برومانسي مثل أمير، أقنعه بالمبيت عنده، قال له أن الطريق لمدينته لم يعد آمنا بعد الساعة الرابعة مساءً، ويفضل له السفر في صباح اليوم التالي.

عند حلول المساء تجمعت شلّة السرداب، حضروا مبكراً، فالرومانسي يحضى بمنزلة رفيعة بينهم، فقد وصفه مفيد عباس في واحدة من تجلياته التي لم يختمها في فقرة "وكلكم عيوني" حفاظاً على جدّية رأيه: "هذا أمير الرومانسي، خامة آدمية فريدة، هو كائن يروّض الوحشة، يقطن سكينة لا يشاركه فيها أحد، يغطس في أعماق من النقاء إلى الحد الذي يعجز معه كل المحيطين به في مرافقته بنزهة تأملية، من الصعب مشاركته روحياً، لكن ليس أمامك إلا أن تحبه".

حضروا جميعاً هاربين من زحام مدينة كل أيامها مواسم للزوار والوافدين من نهايات الأرض وبداياتها لطلب الشفاعة، زحام كوني مرّكب تدور في أفلاكه ملايين الأرواح المثقلة بالأحلام والهواجس والمستحيلات والخيبات، زحام تتفجر في جوفه قيامات وغاشيات وآزفات لا حصر لها، وتنضغط فيه زحامات صغيرة، بحجم قنابل ذريّة.

كان فاضل الدنماركي أول الحاضرين، جلب معه كيساً من العدس، قال مستبشراً وهو يهبط سلّم السرداب:

  • لابدّ أن نتناول حساء ما يرقّق القلب بحضور الكتلة الرومانسية الأكبر.

عانقا بعضهما بحميمية وتبادلا كلمات الشوق، كان فاضل الدنماركي قد تعرّف إليه مسبقاً وتعلّم منه ما يفتح أمامه آفاقاً للتأمل، وهذا ما دونه في دفتر مذكراته الأنيق، وتحت عنوان "تأملات الرومانسي" كتب فاضل في إحدى الصفحات بخط ناعم: "أثارني هذا الرومانسي في واحدة من همساته، باح لي بأنه يعيش تحديات عظيمة من أجل أن يحيا عالماً رومانسياً متخيّلاً، قال إن بوسعه أن يحجب الرؤية عن الخراب وتحيله مخيّلته إلى حقول غناء من الورد والنرجس.. قال أنه جرّب مقاومة الجوع، خلال سنوات الحصار، بقي على معدة خاوية ليومين متواصلين، لم يجد ما يأكله، اشتغلت مخيلته مع إشتداد الجوع وفرشت له سفرة طعام عامرة بكل ما هو شهي، ثم نام عميقا وهو يشعر بالشبع.. كما بوسعه أن يبتكر حاجزاً زجاجياً كاتماً للصوت، يحول دون سماع التعليقات الحقيرة التي كان يطلقها الرفيق الحزبي كريم مبارك (نصبناها.. نصبناها هناك، على تخوم المدينة) يقصد أنهم نصبوا أعمدة الإعدام لكل من لا يوالي النظام، إلا أن الرومانسي قد أعرب عن عجزه عن إحالة تلك التعليقات إلى موسيقى، أو قصائد يتداولها العشاق".

وفي صفحة أخرى من مذكراته كتب فاضل الدنماركي: "هو كائن قادر على خلق عالم بديل يرمم خيباته وخراب الدنيا من حوله، كل ما يأمله هو أن ينتهي ما تبقى من العمر ليلتحق بساقه، لكنه على الرغم من ذلك، كان مصمماً على أن يكون إنتظاره وادعا بلا قلق".

إكتملت مستلزمات الجلسة وامتدت السفرة مزينة بما هو فوق العادة، مع قدوم رحمان المصور ومحسن المالح الذي لم يكن يعرف أمير الرومانسي، لكنه ما إن عرف بحكايته حتى فاجأ الجميع بنوبة بكاء طويلة لم تكن مبررة بما يكفي، ثم ربّت على كتف أمير الرومانسي مواسياً بصوت خفيض:

  • انت بطل، انت ذكرى نادرة من زمن البطولة والصمود.
  • أنا لست بطلاً، إنما ضحية ليس إلّا، شيء من مخلفات ذلك الزمن الذي تقصده، مخلفات وحسب.

أخفض محسن المالح رأسه صامتاً، تكهن بأن الحديث قد يفتح عليه باباً لا يسرّه، حاول محمود أبو الشاي لملمة الحديث والإنتقال إلى أحاديث تجنّب الجلسة أي توتر محتمل:

  • الماضي ولّى بلا رجعة، نحن أبناء اليوم.

إعترض رحمان المصور بصوت يشوبه الأسى:

  • أنت كمن يستجير من الرمضاء بالنار، يومنا الذي تستنجد به لا يقل مرارة من ماضينا يا عزيزي.. كل أيامنا تحمل الضياع ذاته.
  • أنا أقصد أن نتمتع بجلسة شرب رائقة، بلا تقليب المواجع.
  • مشكلتنا كلها بسبب هذا الهروب من تقليب المواجع، أعتقد اننا بحاجة إلى نبش المواجع، لا تقليبها فقط، بحاجة إلى التفرّس الطويل في أوجاعنا بعين محايدة.

قال مفيد عباس وهو يقشّر حبة فستق بين أصابعه:

  • لو كانت لدينا القدرة على النظر بعين محايدة، لما وصلنا إلى كل هذه الأوجاع.
  • الحاجة أم الإختراع.. حاجتنا إلى الحياة تجعلنا نخترع النظرة الحيادية، غصباً عن خشم اللي خلفونا.

هزّ أمير الرومانسي رأسه تأييداً لرأي رحمان المصور:

  • أتفق مع رحمان تماماً، الحاجة تجعلنا نتعلم ما لا نعلم.. أنا مثلاً، لم أكن أقدم على تصنيع ساق من أنبوب بلاستيكي لو لم أكن بحاجة إليها.

رد مفيد عباس بنبرة مبطنة بالتحدي:

  • دعونا نبتكر أولاً وسيلة تدفع هذا الدنماركي العنيد إلى الموافقة على زيارة الطبيب لإجراء جراحة لإصبعه، تخلصه من نوبات الألم التي يعانيها.
  • الدنماركي ليس بحاجة إلى وسيلة، فهو ممسك بكل الوسائل، ويمارس العناد البايولوجي مع جسده.

قطع حديثهم صوت انفجار جاء من جهة وسط المدينة، قال رحمان المصور متهكماً:

  • أها.. هذا هو يومنا الذي يحتمي به محمود من الماضي المؤلم.. لك بابا، نحن أمة نتحرك في الزمان لا في المكان، نعيش التاريخ لا الحاضر، ونقدّس الزمان ونحتقر المكان، حتى صار الزمان يبتلع المكان، وإن لم يستطع، فيحيله إلى هياكل محروقة، وإن لم يستطع فيبقى متربصاً الفرصة التي يتسلل بها إلى أقرب مكان في روح مستعدة للخراب.

تململ محسن المالح وعدّل من جلسته مطلقا تنهيدة:

  • الجهاديون يستهدفون الناس العزّل، تاركين قوات الإحتلال تجوب البلاد بأرتال تتهادى بأمان، إلى متى يبقى هذا الجهاد يحصد الأبرياء؟

ردّ رحمان المصوّر كما لو أنه يتحدث مع كائن مجهول:

  • الخراب أكبر من الإحتلال وأكبر من جرائم الجماعات الدينية، هو بحجم تقبلنا الباطني لفكرة القتال من أجل نشر قناعاتنا، نحن نرفض فكرة الجهاد حين نكون ضحاياها فقط.

مسح محمود شاربيه بعد أن شرب ما تبقى من كأسه، تشدّه رغبة بالمشاركة في الحديث:

  • وضعيتنا مليوصة وما لها حلّ، هم زين عندنا شفيع في يوم القيامة، على الأقل ما راح نخسر الدنيا والآخرة.
  • لو كنت أؤمن بربّ يحتاج إلى شفيع، فسأطلب الشفاعة من وليّ صالح معاصر أعرفه، سأطلب الشفاعة من مارغريت حسن مثلاً.

إستلّ فاضل الدنماركي آلة الناي من جيبه وراح يعزف بأصابع أحدها ملفوفاً بضماد، بينما رقص أمير الرومانسي بساقه الوحيدة على أنغام بدت له وكأنها قادمة من العالم الآخر.. لم تدم البهجة طويلاً، قاطعهم صوت رصاص قريب، أدركوا غريزياً إنه إشتباك مسلّح بين رجال الشرطة ومجاميع من جيش الإمام.

* * *

(10)

زحف الظلام متراجعاً، وبان شيء من زرقة السماء يتفتح مع اقتراب الفجر.. نهض الشيخ ناصر من على سجادته تاركاً عليها مسبحته وتربته، توجه مباشرة نحو زاوية السلّم، حيث رأس التمثال، جلس قبالته، تأمل ملامحه من جديد، رأى تشابها كبيرا بينها وملامح الآخرين، تساءل عن سرّ الكراهية المركّبة في تلك التقاسيم، وعن جدوى الاحتفاظ بمثل هكذا كابوس؟

قفزت إلى رأسه فكرة لم تراوده من قبل، رغم تقليديتها وشيوعها، الدفن، أن يقوم بطمر رأس التمثال في حديقة المنزل.. نهض مسرعاً وأحضر مجرفة وبدأ بشق حفرة كادت أن تلتهم كل مساحة الحديقة، توغل في الحفر بهمة عالية، حتى تأكد أن الحفرة باتت تكفي لطمر الرأس، ثم عاد ليدحرج الرأس حتى أودعه في ملاذه الأخير.. أهال التراب عليه، وعبأ ما فضل من التراب في كيس من الخيش وركنه جانباً. أغرق الحديقة بالماء لإخفاء آثار الحفر.

إنتهى من دفن العلّة والنتيجة، ماجت في رأسه الذكريات، تلك التي لا يمكن طمرها، حدّق في السماء المطرزة بالنجوم، خطف نيزك سريع وتلاشى في عمق الكون، انبثق معه وجه فاضل الدنماركي وهو يصوب نحوه نظرة إحتقار واشمئزاز.

كان الشيخ ناصر قد وجد نفسه في الصدارة، خلال محاصرة معظم قادة جيش الإمام مع العشرات من اتباعهم في ضريح الإمام علي بن أبي طالب، بعد أن اشتعلت المواجهات بين جيش الإمام والقوات الحكومية المدعومة من الجيش الأمريكي، وعلى الرغم من أن الشيخ ناصر ساهم في قيادة مجاميع قاتلت بشراسة، متحصنة بتضاريس المقبرة التي لا يعرفها أعداؤهم، إلا أن تلك السطوة سرعان ما تلاشت بعد انتهاء الحصار بساعات. قيل أن أحدهم وشى به بما يفيد بأنه تدخل في إطلاق سراح بعض الأسرى، حاول أن يدافع عن نفسه أمام لجنة تحقيقية شكلتها قيادة التنظيم، قال إنه أطلق سراح بائع شاي مسكين، وآخر خطاط أكفان، يعلم براءتهما جيداً، وأكد في إفادته إلى اللجنة التحقيقية بأنه امتنع عن التدخل بشأن أربعة آخرين كان يعرفهم أيضاً، لكنه يشك في ولائهم، حاول بكل ما منحته التجربة من قدرة على الإقناع أن يثبت ولاءه، إلّا أن اللجنة قررت إبعاده عن صفوف جيش الإمام والإكتفاء بإعادته إلى مدينته في العاصمة لممارسة العمل الدعوي للتنظيم. تقبّل الحكم دون أن يبدي علامة إمتعاض، لكنه شعر بعزلة مقصودة لم يتمكن من معرفة أسبابها الحقيقية.

تذكر موقفه المحرج في مواجهة أصدقاء السرداب حين جلبوهم مقيدين تتبعهم تهمة التجسس ضد جيش الإمام، بدا عليه الإضطراب وهو يأمر مقاتليه بإلحاقهم بمتهمين آخرين تم إعتقالهم قبل بدء الإشتباكات.. كانت الدهشة قد جمّدت ملامح فاضل الدنماركي، لم يخطر بباله أن تتحول تلك الجلسة الإحتفائية بأمير الرومانسي إلى زمن مفزع، إعتقال من قبل مليشيات مسلحة في حالة قتال، وتهمة لا تقود إلّا لطلقة في الرأس.. اختضّ فيه الرعب، يداهمه بين خطوة وأخرى خلال الطريق إلى أحد السراديب الواقعة ضمن مقر قيادة المعركة.

دفعهم الحراس بعجالة داخل السرداب وأغلقوا الباب بإحكام وغابت أصواتهم بين دوي الإنفجارات وزخات الرصاص المتواصلة، ثمة معتقلين آخرين سبقوهم إلى السرداب، حالت العتمة دون تحديد عددهم، لكن محمود أبو الشاي خمّن إنهم حوالي عشرة أشخاص، ضاق المكان بهم، كلّ منهم وقف صامتاً كأنه لا يرى الآخر، كلّ منهم ينتظر كلمة طائشة تنطلق في الفضاء المظلم، علّها تخفف من جحيم اللحظة القادمة، وذلك ما حققه فاضل الدنماركي حين قال بصوت مرتجف:

  • إننا في ورطة مكتملة النصاب.
  • ........
  • نحن رهائن لا يعبأ بنا أحد.. رهائن بلا ثمن.

انطلقت جملة مخنوقة من زاوية السرداب، كان أحد المعتقلين السابقين:

  • لكننا أبرياء؟ الله وكيلك نركض على عيشتنا!
  • المشكلة هي إننا أبرياء، ثمة من يستفيد من اختطافنا وبوسعه تنفيذ ذلك بسهولة، وما من مستفيد يتحمس لتحريرنا.

قال محسن المالح، بنبرة تحمل شيئاً من الشماتة:

  • هذه عطايا الديموقراطية الأمريكية.

تلك النبرة دفعت أمير الرومانسي لكبح جماح صاحبه:

  • أسوأ ما فينا هو إننا لا نتهم من يعتدي علينا، بل نحرص على إتهام طرف ثالث ليس له علاقة مباشرة بالموضوع، لاحظ إنك تتهم أمريكا، بينما الذي يعتقلك هو جيش الإمام.
  • أقصد، أن أمريكا هي من جاءت بهذه المليشيات. "ردّ محسن المالح متلعثماً"
  • إذا كان قولك صائباً، فنحن من علّم الأمريكان على إمكانية إنشاء المليشيات بسهولة، لا ينبغي أن نكون شهود زور ضد أنفسنا يا أخي.
  • المهم هو أن نتخلّص من هذه المحنة، بصرف النظر عن هوية المعتدي.

همس محمود أبو الشاي:

  • لا أظن أن الشيخ ناصر سيتخلى عنّا، هو يدرك براءتنا أكثر من غيره، أما إذا كانت القضية تتعلق بشرب الخمر، فسنتقبل عدد الجلدات التي تقررها المحكمة الشرعية.

ردّ رحمان المصور متهكماً:

  • ليته يستطيع إعادة قناني الخمر التي صادرها جنوده، لنكمل جلستنا هنا، طالما عقوبة الجلد مضمونة.

ندّت ضحكة خفيضة من مفيد عباس:

  • لا تنسى أطباق الزيتون والجاجيك، ويا حبذا لو أعاد الناي أيضاً حتى تكمل سهرتنا، مو تروح تسميه الإله المجوّف، وبعدين نروح بيها ويصير إعدامنا سحل.. هسا لو الله خالقني جندي بجيش الإمام، كان هسه بيدي بندقية وأكون حارس عليكم، وأطلق سراحكم جميعا بإستثناء فاضل الدنماركي وأربط اصبعه الملتهب بخيط حتى أسحبه كل ربع ساعة وأحرمه من النوم، ليكون عبرة لكل من يترك الدنمارك ويعود إلى العراق.. وكلكم عيوني.

قطع حديثهم صوت شخص يحاول أن يتقيأ من معدة خاوية، تبيّن أن المعتقلين القدماء بلا طعام منذ يومين، قالوا أنهم طالبوا احد الحراس بشيء يسد رمقهم، لكنه ردّ بحقد "أعطيكم طويحيل يا جواسيس يا خونة!".

في اليوم التالي حاول رحمان المصوّر إستكشاف المكان، صعد درجات سلّم سرداب السجن، ومن خلال فتحة التهوية أعلى الباب، جال بنظره حول ما يمكنه رؤيته، كان الحارس الشاب جالساً على الأرض يحتضن بندقيته بكسل، بجانبه قصعة فيها بقايا زر ومرق. في فناء ليس ببعيد شاهد عدداً من الشبان يعملون بدأب، بعضهم يعبئ شواجير البنادق بالرصاص، البعض الآخر يعدون طعاماً في قدور كبيرة، بينما انشغلت مجموعة بفك صناديق قذائف الهاون وتوزيعها على عناصرهم، وثمة مسلحون يراقبون كل شيء بحذر، يقفون أمام باب يدخله ويخرج منه رجال بزي ديني يحملون على أكتافهم بنادق مختلفة الأنواع.

حاول فتح حديث مع الحارس الكسول:

  • أخي، نريد ماء؟
  • ماكو.
  • راح نموت من العطش؟
  • موتة الكلاب السود.
  • زين، ممكن أقابل الشيخ ناصر؟
  • اكل تبن.

"هو وين التبن؟" ردد مع نفسه بيأس، تأكد له أن هذا الحارس لم يتوان عن إطلاق أي شتيمة تأتي على لسانه، كما يبدو أنه لا يدرك أهمية الطعام طالما بطنه منفوخة بالرز والمرق.

مع حلول المساء تذكرهم الشيخ ناصر، أمر لهم بطعام وشراب، حضر بنفسه إلى السرداب، نادى على رحمان المصوّر ومحمود أبو الشاي، اصطحبهما معه بطريقة تفيد بأنه قرر أطلاق سراحهما، نادى عليه فاضل الدنماركي "شيخ ناصر، لا تنسانا يا شيخ ناصر" لكنه مضى وكأنه لم يسمع النداء.

طافت على وجوه السجناء أسئلة مضطربة، حيرة مريرة زاحمت مكانهم الضيق، محنة إنتظار قرار يصعب التكهن به، امتدّ الوجوم إلى منتصف الليل، حين بدأت أصوات الاشتباكات في الخارج تخفت شيئاً فشيئاً، كان الشيخ ناصر تلك اللحظة ينصت بإهتمام إلى إذاعة مونتي كارلو وهي تعلن وقف إطلاق النار والسماح للمعتصمين بمغادرة الضريح دون التعرّض لهم، نطّ من مكانه فرحاً، أطلق زخة رصاص من بندقيته احتفالاً بالنصر.

استبشر السجناء بقرب الخلاص، محسن المالح توقع انتهاء الأزمة، قال "لم يعد لهم حاجة للرهائن" بينما خالفه أمير الرومانسي الرأي، حيث ذهب إلى أن جيش الإمام سينشغل بهم بعد أن انتهى إنشغاله بالمعركة.. أما مفيد عباس فقد أمضى الأيام الثلاثة الأولى يدوّن أمنياته في دفتر مذكرات فاضل الدنماركي.

قسم الدفتر إلى نصفين بورقة معقوفة، تمنى لو أن الله خلقه في زمن الجاهلية، تحولت فيما بعد إلى سلسلة من الأماني، وضع لها عنوان "جرهم بن كليب الخزاعي".. أشار في الصفحة الأولى إلى أن "جرهم بن كليب الخزاعي, شخصية افتراضية عاشت في العصر الجاهلي, كان لديه دكان يبيع فيه الآلهة, وبعد مجيء الإسلام, غيّر مهنته تماشيا مع رياح التغيير.. عاش قصة حب مع حنتمة بنت عياض المخزومية قبل الاسلام, وجمانة الدئلية بعده", وللقصة أحداث بدأها: "لو الله خالقني بزمن الجاهلية، كان هسا اسمي جرهم بن كُليب الخزاعي، والحبيبة اسمها حنتمة بنت عياض المخزومية، وكان هسا عندي دكان مال آلهة، وكاتب على كل إله سعره، حسب اسم الاله وحجمه: هبل (دبل)، دينار ونصف. هبل (عادي)، دينار واحد. هبل (تعليق) نصف دينار. هبل (عالتلفزيون) نصف دينار. العزى وبناتها (اللات ومناة) 3 دنانير ونصف الدينار. العزى (دبل) ديناران. اللات ومناة (سيت) دينار ونصف.. وحبيبتي حنتمة عندها بسطية مقابلة لمحلي، تبيع كفشة الذرة، وقرص القمر، وحبة سودة وورد لسان الثور وجوزة بوّا، يعني صيدلانية.. وبعد أن جاء الإسلام إنتهى سوق الآلهة ووصلت مبيعاته إلى الصفر. بينما ارتفت مبيعات الأدوية والأعشاب عند حنتمة بنت عياض المخزومية، وصار شغلها ممتاز, لأن جماعة قريش اوضاعهم الصحية تخربطت بعد التغيير اللي صار بمكة, وصاروا يقفون بالدور على بسطيتها، وحنتمة سودة عليّ تعبت كولّش، رحتلها, قلت لها: شنو رأيج نتشارك, اني بالمحل وانت بالبضاعة؟ فأجابتني بصلافة:

- لا عيني جرهم، لا.. خلّي يفيدك هُبل.. لا حاجة لي بدكانك، أنا أوصيت عكرمة النجار يصنع لي بسطية كبيرة وفوقها شمسية .

حتى حنتمة تغيّرت عليّ، والمسلمون راح يوصلون لمكة, يعني شغلتي خربانة, لأن بس يدخلون مكة سيعتبروني من أزلام العهد البائد.. قلت أذهب إلى عمار الخطاط, مع حزمة من الجلود ليخط عليها آية الكرسي, وعبَسَ وتولى, أعلّقها بالمحل, ريثما يكتمل التنزيل، وأصير أبيع مصاحف.. وكلكم عيوني".

* * *

(11)

لمن وصلوا المسلمين على حدود مكة، اني عمري صار ثمنطعش سنة، شلت الالهة اللي بالمحل كلها، وحطيتهم بگونية وشمرتهم بالبيتونة، ما كسرتهم، خاف كلشي يصير ونرجع، وخليت بالمحل آيات، والستلايت دايره على قناة القرآن الكريم، وكلساع يطلع بيان يگولون بي وصلنا .
وصلوا، وگالوا عفا الله عما سلف، وحنتمة ورا ما الامور مشت بيديها، تحجبت وعافتني، راحت على أريقد المضمد، لان چان يبوگ سبيرتو ولفافات من المستشفى العسكري ويجيبلها، ونست من چنا نلعب ختيلان ببيت خالتها ام حنظلة .. #‏وكلكم_عيوني لمن وصلوا المسلمين على حدود مكة، اني عمري صار ثمنطعش سنة، شلت الالهة اللي بالمحل كلها، وحطيتهم بگونية وشمرتهم بالبيتونة، ما كسرتهم، خاف كلشي يصير ونرجع، وخليت بالمحل آيات، والستلايت دايره على قناة القرآن الكريم، وكلساع يطلع بيان يگولون بي وصلنا.
وصلوا، وگالوا عفا الله عما سلف، وحنتمة ورا ما الامور مشت بيديها، تحجبت وعافتني، راحت على أريقد المضمد، لان چان يبوگ سبيرتو ولفافات من المستشفى العسكري ويجيبلها، ونست من چنا نلعب ختيلان ببيت خالتها ام حنظلة .. #‏وكلكم_عيونيحتى حنتمة بدلت عليه , وذولة المسلمين راح يوصلون لمكة , يعني شغلتي بايكَة هوا , لان بس يطبون راح يعتبروني من ازلام الخلي اروح لعمار الخطاط , اوديلة جم جلداية , يخطلي عليهن آية الكرسي , و عبَسَ وتولى , احطهن بالمحل , ولمن يكمل القرآن , اكَوم ابيع قراعين #‏وكلكم_عيوني

بعد أن انتهى الشيخ ناصر من دفن رأس التمثال في حديقة بيته القديم، في العاصمة، تجدد في ذاكرته السؤال الذي غابت عنه إجابته، لماذا تم إبعاده من صفوف جيش الإمام؟ هو يعلم وهم يعلمون كذلك عدم أهليته للعمل الدعوي الذي أقحموه به، هو يعلم قبل غيره أنه لم يتلق التعليم الكافي ليكون داعية في ساحة مليئة بدعاة مفوهين، قادرين على الاسترسال بكلام مبهر يجعل أتباعهم يتحولون إلى كتلة واحدة تتحرك على إيقاع نوايا وخطط مسبقة.. أما هو فلا يجيد سوى كليشة واحدة تعلمها من رجل دين دعي لا يتورع عن الكذب مهما كان مكشوفاً، الكليشة التي كررها مرارا على مدى شهور بعد عودته من مدينة النجف، كانت تتعلق بتفسير البسملة "الباء، حسب ما قبلها، والـ (سم) سمة الخالق. والله، لفظ الجلالة والرحمن صفة الرفعة، والرحيم، عطوف بالعباد" ثم يبدأ الحديث بملل عن المجلدات الستة عشر التي تتحدث عن الحرف الأول من حروف البسملة.. وعلى الرغم من إنجذاب رواد المسجد الذي يأمّه إلى الاستماع مجدداً إلى كليشته المفبركة، إلا أن سرّ إبعاده عن العمل المليشيوي بقي سؤالاً محيراً.. لم يكن يعلم أن الشيخ مهند كان ينقل لمسؤوله في جيش الإمام كل ما يبوح به بشأن علاقته مع جلشان.. لكنه علم من مصادره الخاصة أن عناصر من جيش الإمام يتزعمهم صديقه الشيخ مهند، هاجموا مدرسة شيخ العرفان، خلال أيام الإشتباكات واعتقلوا جلشان، كانت تهمتها إحباط معنويات المجاهدين.. كما علم إنها اعترفت في التحقيق بأنها ترتبط بعلاقة بريئة مع عدد من عناصر جيش الإمام، وليس الشيخ ناصر وحسب، قالت للمحقق بلهجة تنمّ عن ثقة وتمسك بما أقدمت عليه، إنها تروم المساهمة في تشذيب جيش الإمام وتهذيب عناصره بشيء من البعد الروحي والفلسفي، تحدثت بلسان بليغ أطاح بكيان المحقق الذي لم يستطع اخفاء ذهوله، بدا ضئيلاً متلعثماً أمامها وهي تشهر سبابتها متحدثة بشأن قناعتها بأهمية كسر حدة الإندفاع الذي قد يسقطهم في اقتراف المظالم.

مع مواصلة الحوار زادت من جرعة المواجهة مع المحقق "أنت تعلم كل ما يرتكبه عناصرك من جرائم وسحل جثث ضحاياهم، هذا ما يتوجب عليك، كمحارب عقائدي، أن تقف ضده.. حين تكون منتصراً، فتلك فرصة هائلة لاستعراض عدالتك ونبلك وفروسيتك، لا تقتل قيمة انتصارك بهمجيتك تجاه جثة العدو، فلا تمثل بها ولا تعبث.. الإنتصار فرصة نادرة، إستثمرها بما هو نادر".

عدّل المحقق عمامته قبل أن يبلغها بقراره، قال لها بصوت واهن "سنطلق سراحك، شريطة التعهد بعدم إقامة أي علاقة بعناصر جيش الإمام".. إلا أنها سرعان ما رفضت العرض:

  • لا يحق لك منعي من أداء واجبي المقدس تجاه جيش الإمام.
  • لا وقت لدينا لمناقشة هذه الأمور، إما أن تتعهدي أو تكون كلمة الفصل لهذه. "وأشار إلى بندقيته"
  • لا تدع بندقيتك تغلبك وتحيلك إلى كائن يقضي على كل من يخالفه الرأي، لا تدع فوهتها باباً للدخول في وهم الإيمان المطلق، المحارب الذي لا يحافظ على آدميته، محض قاتل مأجور، حتى لو لم يتقاض أموالاً نظير جرائمه، فهناك أجر آخر، قد يكون معنوياً، يسعى إلى كسبه.

لملم أوراقه بصمت وغادر غرفة التحقيق، تاركاً جلشان وحيدة لا تعرف ما يتوجب عليها فعله.. عاد بعد ساعة أو أكثر بقليل، يرافقه ثلاثة من المعممين المسلحين، طلبوا منها مغادرة المكان بشكل مباشر ومختصر "تستطيعين الذهاب لحال سبيلك".. وجاء قرارهم هذا بعد أن توصلوا إلى حلّ يقضي بإبعاد كل الذين ارتبطوا بعلاقة معها، فضلاً عن وضعها تحت المراقبة.

بعد يومين من تلك الواقعة، كان كابوس الخذلان يبتلع الشيخ ناصر ويفترس روحه، أبلغوه بأن المسؤول البديل سيصل إلى مقرّه صباحاً، رزم حقيبته بيدين واهنتين، إستعدادا للعودة إلى بغداد.

قبل أن يغادر المكان توجّه نحو سرداب السجن، أمر الحارس بفتح الباب، نادى على فاضل الدنماركي ومفيد عباس وأمير الرومانسي ومحسن المالح، طلب منهم اللحاق به إلى مكتبه، الذي هو عبارة عن سرداب ليس فيه متسع للجلوس، تحدث معهم بينما كانوا جميعاً في وضع الوقوف:

  • أنا كنت أتمنى أن أخلصّكم من هذه المحنة، لكن، للأسف، ما باليد حيلة، لدينا سلسلة مراجع وقيادات لا يمكن تخطيها، لكني أبلغتهم ببراءتكم من تهمة التجسس، أتمنى أن يطلقوا سراحكم.. في الصباح سأغادر إلى بغداد، سأستأنف مهامي هناك.. أريدكم تبرئوني الذمّة من أي مظلمة قد تسببتها لكم.

كانت عيونهم ترقبه بذهول، لم يكن الكلام ذا جدوى، امتدّت لحظات الصمت طويلاً، قطعها فاضل الدنماركي بصوت متهدج يائس، كما لو أنه تساوت لديه الحياة مع الموت:

  • شخصياً، لا أبرؤك الذمة، إلا إذا تستعيد آدميتك الأصيلة الآن؟

صوّب نظرة إزدراء إلى فاضل، متسائلاً باستخفاف:

  • وكيف أستعيد آدميتي يا حضرة المثقف؟
  • أن تتخلى عن دينك الذي أنت عليه.

احتقن وجه الشيخ ناصر، المفاجأة لم تترك له فرصة لرد يحافظ على شعرة معاوية، من أجل الحصول على براءة الذمة الشرعية على الأقل:

  • لو لم أدرك إنك مجنون وسفيه لأطلقت عليك النار بسبب كلامك هذا.
  • وهل تعتقد أنت ومن معك أسوياء؟ نعم، ربما أسوياء في محيطكم فقط، لأنكم تعيشون الخلل ذاته بشكل جماعي، لكنك ما أن تخرج من هذا المستنقع البشري حتى تجد نفسك غريباً، منبوذاً، تعيش على هامش يحيلك إلى صورة بليدة، ستعيش طويلاً بهذه الصورة، إذ يصعب عليك أن تردم الهوة الشاسعة بينك ومشاعرك.
  • ضعنا بشرفي! "همس مفيد عباس باذن أمير الرومانسي"

لم يتوقف الشيخ ناصر عند همسة مفيد عباس، وعاد موجهاً كلامه إلى فاضل:

  • ولماذا تركت الحرية هناك وعدت إلى مستنقعنا البشري إذاً؟
  • لم أترك الحرية، لأني لم أمتلكها يوماً. الوثائق التي أمامك تثبت حملي للجنسية الدنماركية فقط، لا تعني إمتلاكي الحرية.. قد يبدو اختيار طريق الهجرة إنحيازاً للحرية، لكنه في الحقيقة سعي للخلاص وحسب، لا علاقة له بفكرة تبني الحرية كمفهوم يستحق النضال من أجله.. ثمة فرق غير واضح بين طلب الخلاص كهاجس شخصي، وفكرة الحرية كإندفاع عام يشمل الحياة بكل تفاصيلها وفضيلة تستهدف كل الناس.
  • كملت، اشتغل التجحبن! "أطلق مفيد عباس همسة مسموعة جديدة، كذلك لم يتوقف عندها الشيخ"
  • أنت تعترف إذاً بعدم امتلاكك للحرية على الرغم من جنسيتك الدنماركية؟ "قال الشيخ مستبشراً بعدم وجود للحرية في أي مكان"
  • أنا لا أخاف مشاعري ولا أخفيها، أنت تنظر لمواقفي بريبة، لأنها غريبة عليك، وليس بوسعك تفسيرها خارج إطار كونها ضرباً من السذاجة.. بينما الشجاعة والهمة والإقدام أن تتمكن من استعادة آدميتك وأنت هنا، في هذا الخراب الهائل الذي لا تراه.
  • أنت تسحبنا إلى أحاديث لا طائل منها.. احسم أمرك، هل ستبرئني الذمة أم لا؟
  • وهذا ما أشترطه عليك، مقابل الغفران وبراءة الذمة.. أن تترك هذه النسخة الدينية التي أنت عليها.
  • وأنتم؟ "وجه سؤاله إلى الثلاثة الآخرين"

لم يجبه أحد، جميعهم التزموا الصمت كما لو أن اتفاقاً سرياً تم بينهم، لم يحتمل موقفهم، كيف يتجرأون على رفض طلبه وهم تحت سطوته؟! ركض واضعا يده على فمه نحو الفناء المقابل للسجن وراح يتقيأ ما في أمعائه بصوت عال وهو يشير بيده إلى الحارس بأن يعيدهم إلى السجن.

كان ذلك اللقاء الأخير الذي جمعهم بالشيخ ناصر الذي لاحقتهم شتائمه بعد أن أحكم الحارس إغلاق باب السرداب.. تساءل محسن المالح على استحياء عن جدوى الإمتناع عن منحه براءة الذمة، مبدياً توجسه من أن ذلك الامتناع قد يعقّد الأمور أكثر، إلا أن أمير الرومانسي دافع عن موقفهم الجماعي، قال إنه موقف شجاع إلى درجة جعلته يتقيأ.. بينما رأى مفيد عباس أنه ليس هناك تعقيد أكثر مما هم فيه، اختصر كلامه بسخرية أضحكتهم على الرغم من سوء مصيرهم: "إي، تعقيد، على أساس راح يطفّون علينا التبريد ويحرمونا من السنيكرز!"

تراجع محسن المالح عن اعتراضه، غيّر تساؤله بطريقة تكتيكية:

  • أنا لا أعترض على موقفنا، إنما كنت أتساءل عن جدوى سعي الشيخ ناصر للحصول على براءة الذمة وهو يعلم إنه منخرط في عمليات إجرامية؟
  • لو لم يكن آثماً لما طلب براءة الذمة. "قال فاضل بثقة"
  • كل الناس تطلب براءة الذمة، أيعقل كلهم آثمون؟
  • إما أن يكونوا آثمين، أو أنهم يطلبون شيئاً لا حاجة لهم به.
  • أنت تتحدث كما لو أنك وحدك على صواب، والناس كلها على خطأ.
  • لا يعنيني إذا كان كل الناس أو أغلبهم أو بعضهم، أنا أتحدث عن ظاهرة نحن ضحاياها، مشكلتك يا محسن هي إنك لا تستطيع أن تتخيّل أن تكون الناس جميعها على خطأ عام أو على اثم جمعي مباح.. مخيلتك أضيق من هذا السجن.
  • أنا أتبع الواقع، لا أعتمد على الأوهام.
  • لاحظ، أنت لا تميّز بين المخيّلة والوهم.. أنت بحاجة إلى هدم الفاونديشن.. يا عزيزي، المخيلة شيء والوهم شيء آخر، مختلف تماماً.. الإنسان ينتج المخيلة، بينما الوهم ينتج إنساناً واهماً.
  • الحديث معك أصعب من الحديث مع الشيخ ناصر.. شغّل لنا مخيلتك بدلاً من هذا الهراء لنرى ما إذا كان بوسع رحمان المصور ومحمود أبو الشاي أن يفعلا شيئاً لخلاصنا؟
  • لا أحد يستطيع فعل شيء، الجماعة في حالة هيجان عنيف، كل حواسهم تحوّلت إلى فوهة بندقية.

عدّل محسن المالح من جلسته وبدت على ملامحه علامات الإقتناع بكلام فاضل، وتلاشت نبرة السخرية في صوته:

  • هذا يعني إننا في مواجهة مصير مأساوي؟
  • إننا في مواجهة مصير مأساوي منذ زمن طويل، دون أن نشعر.. في مواجهة مأساوية مع قناعاتنا، أخلاقنا، ثقافتنا وكل ما له علاقة بالضمير "نا"
  • وماذا علينا أن نفعل؟
  • كل ما علينا فعله هو ألا نفعل شيئا.
  • استسلام تام يعني؟
  • هل لديك حلّ آخر؟
  • لكن الاستسلام ليس حلّاً.
  • قد لا يخلو من حلّ.. نحن سجناء مهملون، لا أحد يهتم بشأننا، أملنا الوحيد بحدوث تفاهمات سياسية تكون نجاتنا شيئاً جانبياً منها بلا قصد، يحدث أحياناً أن يستفيد الهامشيون من بعض المتغيرات التي يتفق عليها المتصارعون.
  • الفرج يا صاحب الفرج. "قال أحد السجناء القدامى مع تنهيدة يائسة"

عم الصمت على أجواء السرداب، هاجس واحد يسيطر على جميع السجناء، تساؤل مرير حول ما إذا كان مسؤول السجن الجديد أفضل من الشيخ ناصر، أم أسوأ؟.. انتظار الصباح ليكشف عن وجه المسؤول الجديد، علّه يكون على قدر من العقلانية ويتفهّم حالهم؟

* * *

(12)

الأيام الأولى من عودته إلى بغداد كانت الأكثر شقاءً.. عاش الشيخ ناصر تحت سطوة الإحساس بالفضيحة، والشعور بأن الجميع يتهامسون بشأنه، لكنه إكتشف لاحقاً أن الناس تنظر له على أنه صاحب تاريخ جهادي يستحق الإجلال. تعايش مع الشخصية التي أقحم بها، مرتكباً الكثير من الأخطاء التي ندم عليها، من بينها ابتعاده عن العقيد أبو ورقة، حتى طار إلى مكان مجهول في لحظة غباء من بعض أتباعه، كثيراً ما خطر بباله أن يحاول العثور عليه والإستفادة من قدرته على ابتكار الأفكار غير التقليدية، بيد أن مكانته لا تتيح له فرصة التحرك لمثل هذه المهمة، كما انه لا يريد المغامرة بتكليف أحد أتباعه بالبحث عن أبي ورقة، لئلا يقع في دائرة الشك مجدداً.

أدرك بحكم التجربة أن مكانه في العمل الدعوي يمثل الخاصرة الرخوة في واقعه الذي يعيش، وفي عالمه الذي قد يحيله بسهولة إلى ضحية رخيصة في حال إشتداد الصراع بين الفصائل المسلحة، في الغالب يبدأ الصراع بالضرب تحت الحزام، كل منهما يستهدف العزّل من الطرف الآخر، تلك قواعد الإشتباك التي تديم الصراع لأطول فترة ممكنة.. المسلحون يتحاربون بلا خسائر مباشرة، لأنهم لا يقتلون بعضهم.. أدرك إنه معرض للخطر أكثر من أي وقت مضى، لأنه لم يعد مسلحاً كما كان هناك.

في تلك الفترة انشقت عن جيش الإمام فصائل مسلحة فرعية، اتخذت لها أسماء جديدة وقيادات منفصلة، الطريقة المثالية لتثبيت أقدامها في الساحة هي تنفيذ سلسلة من العمليات المرعبة وإعلان تبنيها، يبزغ حينها الاسم الجديد مع جيل من وجوه القادة الجدد تتلاقفهم وسائل الإعلام بشراهة، كانوا يتشابهون في كل شيء، في الهندام وشكل اللحية ومستوى طولها، يتشابهون حتى في الكلمات التي يستخدمونها.

ومع أول انشقاق وجد الشيخ ناصر نفسه في مقر أحد الفصائل المنشقة، أسعدهم وجوده بينهم، فهم يعرفونه مسبقاً، لا يحتاج وقتاً طويلاً للإنسجام، وجد مكانه الأكثر ملائمة، تحريك عناصر في عمليات خاصة، تخطيط لعمليات خطف، مداهمات، اغتيالات، فرض اتاوات، وهذه الأخيرة لها أساليبها التي تعلّمها الشيخ ناصر بمهارة، طريقة ناعمة لانتزاع المال، زيارة ودية لأي صاحب مصنع او متجر او مقاول كبير، قول محدد وبنبرة تضمر شيئاً من التهديد "المجاهدون بحاجة إلى دعم، إنهم يحاربون دفاعاً عنا جميعا، ونحن بحاجة إلى بعض المال لإطعامهم" أمام هذه الجملة لا يستطيع أي منهم غير أن يدفع له برزمة أوراق مالية وهو يرسم على ملامحه ابتسامة خائفة.

وهكذا اشتغل الشيخ ناصر، متوخياً السرية الكاملة والحذر من ترك أي دليل على تورطه في العمليات التي يخطط لها أو يكلّف إحدى مجاميعه بتنفيذها.. أيام قليلة وصار عنده ثلاث مجاميع مسلحة، واحدة منها عقائدية، والإثنتان الأخريان تعملان بأجر، فضلاً عن عدد من الأفراد المتحمسين عقائدياً، مستعدين لتنفيذ أي عملية بلا مقابل.

نجاح العملية الأولى التي طلب منه تنفيذها، فتحت عليه عيون فصائل مسلحة أخرى، فأصبح الشيخ ناصر عملة نادرة، وسيلة ناجعة لحسم الخلافات.. جلّ ما علمته التجربة هو إنه يعيش زمناً يسعى فيه الجميع لإمتلاك أدوات الموت، إمتلاك القرار الأخير.

العملية كانت تتعلق بخطف رجل أعمال وصاحب شركة لتنفيذ مشاريع حكومية.. الشيخ ناصر لم يسأل عن سبب الخطف، أو طبيعة الخلاف مع الرجل، ابتكر خطته على عجل، اتصل هاتفياً بالهدف، تقمص شخصية مدير دائرة العقود في إحدى الوزارات، أبلغه بضرورة حضوره لمراجعة تفاصيل مشروع تجاري كان قد رسى عليه في وقت قريب، أعطاه عنوان المكان وحدد معه موعداً.. هذا كل ما فعله الشيخ، وما تبقى من الخطة نفذه ثلاثة من أتباعه، إنتظروا الرجل في الطريق المؤدية إلى المكان المتفق عليه، أوقفوا سيارته بهدوء وطلبوا منه الترجل ومرافقتهم، أذعن وفي داخله شيء من التردد، إقتادوه إلى بيت كان وكراً للجهة التي كلفت الشيخ ناصر، وبذلك نفذ العملية وتسلّم الأجر، دون أن يرى من المختطف سوى صورته التي زودوه بها.

كل عملية يكلّف بها الشيخ ناصر وينفذها بإتقان، تكسبه خبرة جديدة وصيتاً يزيد من شهرته بين الكيانات الحزبية والجماعات المسلحة الأخرى. خبرة تتراكم ومشاهدات بدأت تستوقفه، ماكان يعيرها اهتماماً فيما مضى.. في العملية الأخيرة لاحظ علامات الرعب على وجه أحد الثلاثة الذين نفذوها، اسمه عباس، شاب لم يتعد العشرين من عمره، كان يرتعد من الخوف طوال فترة الإعداد للعملية، على الرغم من انه قد خاض عمليات مشابهة في وقت سابق، حاول الشيخ أن يهوّن عليه، إنها عملية بسيطة يتعيّن تنفيذها باسترخاء، ليس ثمة اشتباكات متوقعة، ونجاحها مضمون ونسبة الخسائر صفر.. بعد تنفيذ العملية حاول الشيخ أن ينفرد به ليفهم سرّ الخوف الذي يلازمه مع كل عملية، دون أن يتردد في تنفيذها:

  • لقد أبليت بلاءً حسناً في المهمة الأخيرة يا عباس.
  • شكرا يا شيخ، اتمنى أن يقدرني الله على تقديم ما هو أكثر.
  • لكني لمحت خوفاً يرتسم على ملامحك لأكثر من مرّة..
  • أعترف لك يا شيخ بأن الخوف يباغتني فجأة عند كل عملية، حاولت كثيراً التخلص منه بلا طائل، أشعر أن الرعب ينبع من الداخل، لا أدري كيف أتغلب عليه!
  • عليك أن تعلم أن عملنا الجهادي لا يستقيم مع الخوف.. يمكنني أن أوقف تكليفك بأي مهمة في المستقبل إذا ترغب؟

أفزعه تنويه الشيخ، حاول عباس بكل جهده أن ينفي تهمة غير مقصودة:

  • لا يا شيخ، أنا أريد الاشتراك في أي عمل جهادي.. فأنا لم أتردد في تنفيذ أي عملية، ولم أرفض أي واجب كلفتني به؟
  • وهذا ما يثير عجبي، فأنت تنفذ ما عليك على أكمل وجه، على الرغم من حالة الخوف التي تبدو عليها.
  • وهل الخوف يحبط ثواب الجهاد يا شيخ؟

احتار الشيخ ناصر بهذا السؤال المفاجئ، لكنه سارع لاستحضار إجابة ارتجالية بنبرة الواثق من نفسه:

  • لا، الخوف لا يحبط الثواب، لكنه قد يحبط العملية الجهادية نفسها.
  • ماذا بوسعي أن أفعل يا شيخ للتخلص من هذا الخوف اللعين؟ أنا أتعذب!
  • لابدّ أن تميت قلبك.
  • كيف؟
  • عليك أن تقتل أحداً.. كل مهامك السابقة كانت عبارة عن مداهمات وخطف فقط.
  • أنا مستعد. "قال ذلك بصوت مرتجف"
  • حسناً إذاً، سأكلفك بأقرب عملية.
  • وهل سأشفى من الخوف؟
  • بإذن الله.. مع التكرار سيذوب كل شيء على أية حال.

كانت تلك المرّة الأولى التي يتوقف فيها الشيخ ناصر لتأمل إنسان آخر، كما تأمل هواجس عباس وذلك التناقض الواضح بين شخصية الخائف وشخصية المؤمن بفكرة الجهاد، لم يكن موقنا في بادئ الأمر من أن عباس إنسان عقائدي صادق في إيمانه ولم يهدف إلى فائدة دنيوية غير ثواب الجهاد، لكنه تنبّه إلى أنه لم يطلب يوماً مساعدة مالية أو أي نظير لمشاركاته في العمليات التي ينفذونها، على عكس أقرانه الذين يطالبون بأتعابهم على نحو مباشر، وأحيانا بنبرة لا تخلو من الوقاحة.. كان الشيخ ناصر يعلم جيداً أن حتى أولئك الذين يتمتعون بشيء من الحس العقائدي كانوا يستفيدون من بعض الامتيازات سواء كانت مادية أو معنوية، لكن عباس مخلوق من طينة مغايرة.. شعر بالشفقة تجاهه، كيف لمخلوق يغيبه الإيمان إلى هذه الدرجة التي تجعله يخوض حروب قذرة بمبدأ إيماني نظيف؟

تجربته أضافت له الكثير من خبرة الحياة، حتى أصبح قادراً على التخلص من أكثر المواقف إحراجاً وخطورة، كان آخرها عندما زاره أربعة أشخاص معممين يتبعون لمجموعة مسلحة كبيرة، طلبوا منه تخزين بعض الأسلحة والذخيرة في بيته، كان مثل هذا الموقف قد يشكل تهديداً جدياً لو أنه رفض مطلبهم، لكنه تمكن من رفض الأمر بحكمة جعلتهم يغادرونه دون غضب ودون أي تلميح بعدم الرضا.. قال لهم بصوت مفعم بالثقة:

  • بيتي، كما ترونه، صغير جدا وليس فيه أماكن خفية تنفع لمثل هذا الأمر.

أجابه أحدهم بلهجة رجاء:

  • نحن نريد تخزينها لأيام معدودة فقط، وليس هناك أكثر من بيتك حصانة.
  • نحن جميعا نعلم أن لا حصانة دائمة لأي مكان في هذا البلد، مهما علا شأن صاحبه.

قال له آخر:

  • معك حق يا شيخ ناصر، لكننا نعمل وفق معايير اللحظة، ولحظتك، ماشاء الله، كتلة من الحصانة.
  • مهما تبدو لك هذه الحصانة راسخة ومتجذرة، إلا أن بوسع أي موجة مهما كانت واهنة، أن تمحوها من الوجود وتنساها بعد ثوان قليلة.
  • نقدّر الظروف يا شيخ، ونتفهّم موقفك، ولكننا نتمنى أن تجد لنا مكاناً بديلاً لكي نواصل العمل معك.

شعر الشيخ ناصر بتهديد مبطّن يشي بقطع العلاقة معه، وهذا سيغلق باباً للكسب المالي الوفير، فخطرت له فكرة ارتجلها في حينها، فقال لهم:

  • زيارتكم عزيزة على قلبي ولا أرغب في ردكم بلا نتيجة، لذا فأنا أقترح عليكم مكاناً بديلاً، لديّ مخزن صغير في المسجد الذي أئمه، بوسعكم استخدامه لتخزين ما لديكم.

الحفاظ على شعرة معاوية مع جماعات مسلحة تحتاج إلى نباهة حادة ومهارات استثنائية، فتلك علاقات تثبتها الصفقات الكبيرة المضمخة بالدماء، وتفتتها المكائد وفوهات البنادق.. ومع كل الخبرة التي اكتسبها، إلا أنه ما زال يفتقد العقيد أبو ورقة ويتمنى العثور عليه مجدداً، ما زال يعتقد أنه الشخصية الأكثر قدرة على ابتكار أفكار لا تخطر على بال، يشعر أنه يحتاج إلى استشارته في كثير من الأمور، يرى فيه شخصية فذّة ليس من السهل العثور على مثلها.. ما زال انبهاره بذهنية أبي ورقة يدور في ذاكرته.. حاول كثيراً أن يعثر عليه، سأل كل من يعرفه بلا جدوى، نصحه أحدهم بأن يبحث عنه عبر شبكة الانترنت، كان ما يزال يجهل تفاصيل هذه التقنية الجديدة، لكنه سمع في وقت سابق بأن بعض أقرانه من رجال الدين يتعاملون بهذه الوسيلة، وبعضهم أنشأ صفحات خاصة ليتسنى لهم كسب أتباع عن بعد.. لم يكن طموحه تسويق نفسه كداعية عابر للقارات، لكنه أراد أن يطلّ برأسه من نافذة هذا العالم الغامض..

* * *

(13)

عدّل من جلسته، واضعاً كوعه على حافة سياج الحديقة الواطئ.. ارتسمت على ملامحه ابتسامة كسولة وهو يتأمل مكان دفن رأس التمثال الذي ساوى عليه التراب وأغرقه بالماء قبل حين.. سخر في سرّه من اصراره السابق على الإحتفاظ بمثل هذا الرأس!.. فكّر في تلك القرارات الإرتجالية التي تغيّر مسارات حياة الكائن برمتها.. خطوة بسيطة، قد لا يتذكرها المرء، من الممكن أن تغيّر حياته كلها، ربّ كلمة واحدة تخلّف ردة فعل تأخذك إلى دروب ترسم حياة غير مخطط لها، حياة تهندسها المصادفات وتفتتها المصادفات أيضاً.. تلك هي الطريقة التي يعيشها غالبية الناس، وهي حياة غير قابلة للتوريث قطعاً، أو بتعبير أكثر دقّة، حياة ليس من الحكمة توريثها، لأنها رهينة مصادفات ليس إلا.

صحيح أن كلمات العقيد أبي ورقة قد وضعت الشيخ ناصر على سكّة معاكسة لحياته السابقة، لكن لفاضل الدنماركي تأثير كبير أيضاً إلى ما أضحت عليه.. وها هو يدخل مجدداً في عالم مبهر غريب عليه، عالم الإنترنت الذي من الممكن أن يكون التيه فيه عزلة لها لذائذها ومغرياتها.. فوهة للذهول وخرطوم كوني عملاق لسلسلة كشوفات متلاحقة، دخله هذه المرّة بمساعدة تابعه عباس الذي يجيد شيئاً يسيراً من هذا العالم الهائل، بحكم امتلاكه جهاز حاسوب محمول أرسله له أباه الذي يعيش الشتات في بلدان الغرب..

علاقته بعالم الإنترنت جاءت بفعل مصادفة محضة، كان عباس قد عثر على مقال منشور في أحد المواقع الإلكترونية أمعن كاتبه بالهجوم على الشيخ ناصر وكشف تفاصيلاً عن "علاقاته المشبوهة" ببعض العصابات المأجورة، مما أثار الغضب في روح عباس واعتبره تطاولاً سافراً بحق شيخه، وبعد تردد، حمل جهاز اللابتوب وأطلع الشيخ ناصر على المقال.. قرأ الشيخ ما جاء في المقال دون أن يفصح عن ردة فعل واضحة، لم يقل شيئاً عن تلك الاتهامات، إنما فاجأ عباس بسؤال لم يخطر على باله:

  • من أين لك هذا؟ "وأشار باصبعه نحو جهاز اللابتوب"

تلعثم عباس في اجابته:

  • أرسله لي والدي الذي يعيش في الخارج.

أردف الشيخ ناصر بلهفة طفل:

  • أريد واحدا مثله، هل تعلم أين يبيعونه؟
  • نعم، هناك محلات كثيرة منتشرة في العاصمة تبيع هذه الأجهزة.

وهكذا حصل الشيخ ناصر على جهاز لابتوب حديث، وتعلّم تشغيله وربطه على شبكة الإنترنت، وقد أمضى ساعات طويلة، نسي خلالها حاجته إلى النوم، وهو يتصفّح مواقع الإنترنت، يدخل في موقع ليجد نفسه أمام عشرات الخيارات لتصفح مواقع أخرى، فيتيه متنقلاً في بطون هذا العالم الهائل.. خيّل إليه أن حياته السابقة كانت عدماً، لما عثر عليه من جدال بعضه مكتوب وبعضه مسموع ومرئي.. كان الوقت يمضي عليه كما لو أنه يحلّق في فضاء خرافي لا نهاية له.

شعر أن عالم الإنترنت سلب إرادته، لكنه بات مستسلما بشكل كامل، لم يراوده أي شعور بتبديد الوقت، وكلما شعر بتقادم الساعات على انحناءة ظهره تاركاً لعينيه تجوسان تفاصيل شاشة الحاسوب الذي أمامه، يجد نداءً داخلياً يبرر له: كل شيء له ثمن.

على مدى أيام متوالية اكتسحه سيل من المفاجآت، من بينها عثر على مقال لفاضل الدنماركي، يقول في آخر فقراته:

"الفائدة الوحيدة من الأحزاب والجيوش الدينية، الصانعة لكل هذا الخراب، إنها جعلت الناس تشكك بجدوى الديانات وقدرتها على إنتاج الفضيلة.. الدين لا يوصلك إلّا إلى الدين نفسه..وكل ما نراه من خراب وفساد في المزاج العام، ما هو إلا تأثير الأحزاب الدينية على الناس.. انهم مكبلون بالآيديولوجيا ومخدّرون بالإيمان المطلق الذي لا يتزعزع".

عرف حينها أن فاضل ما زال على قيد الحياة، وعلى الرغم من امتعاضه مما جاء في مقالته، إلا أن الفضول دفعه لمعرفة المزيد من تفاصيل ما حدث له ولمجموعته بعد أن تركهم في سجن السرداب وعاد إلى بغداد.. فكر أن يكتب له رسالة ويبعثها عبر البريد الالكتروني الذي وجده في ذيل المقالة.. كتب رسالة على عجل، لكنه تردد في إرسالها، رأى إنها رسالة متشنجة ومحمّلة بترسبات تلك الواقعة التي حدثت في المقبرة، فكّر بإعداد رسالة أخرى يكتبها برويّة وتأن لتكون فاتحة لتجدد العلاقة على نحو يتسم بشيء من المرونة.. أحد دوافع هذا الحرص الذي بدا مبالغاً به هو الشعور بأن السنوات القليلة التي باعدت بينهما قد غيرته كثيراً، وأنه لم يعد ساذجاً، كما كان يبدو لفاضل الدنماركي.

عكف ليلة كاملة على ترتيب رسالته، كتب ومحى واستبدل وأضاف، حتى استقر على الصيغة النهائية التي قال فيها:

"أخي فاضل، قرأت مقالتك الأخيرة، التي أستطيع أن أخمّن من خلالها أنك عدت إلى الدنمارك، الوطن الذي يتيح لك حرية الكتابة بهذه الجرأة، وعلى الرغم من عدم اتفاقي مع ما جاء بها، إلا أني فرحت بسلامتك وخلاصك. أرجو أن يكون قلبك خالياً من أية ضغينة بسبب ذلك الامتحان الصعب الذي ابتلانا به الله سبحانه. أتمنى معرفة أخبارك وأخبار الجماعة".

ضغط على زرّ الإرسال وسحب نفساً عميقاً كما لو أنه أنجز عملاً عضلياً شاقّاً.. الأصعب من كتابة الرسالة وارسالها هو انتظار الردّ، فقد تناهبته الهواجس والظنون حول نوعية الرسالة الجوابية التي سيتلقاها من فاضل الدنماركي، ربما ستكون عبارة عن سيل من الشتائم، أو سيكتفي بعتاب بسيط من الممكن أن تمحوه بعض الكلمات المعسولة؟.. حالة اضطراب رافقته لساعات طوال، هي مزيج من مرارة الانتظار والشعور بالضآلة الذي يتصاعد كلما تأخر الردّ.. تذكّر وهو يجلس وحيداً في مكتبه الصغير الملحق بالمسجد، أنه لم يضطرب على هذا النحو خلال أصعب عمليات الخطف التي نفذها، تلك مفارقة عكّرت مزاجه وجعلته يطلق شتائمه بصوت مسموع دون وعي منه، حتى إنها وصلت إلى أسماع تابعه عباس المنشغل في تنظيف بندقيته خارج المكتب:

"من هو فاضل الخرا هذا الذي يشغلني كل هذا الوقت؟! حتى لو كانت جنسيته دنماركية، فهو ليس سوى شحاذ تافه! عشرين واحد مثله أدوسهم تحت حذائي! واحد ما يسوى فلسين ماخذ بنفسه مقلب لأن قاريله كتابين! شخص نكرة، يظن أن المفهومية لا تأتي إلا عن طريق الكتب!".

دخل عليه عباس دون استئذان، بطريقة أشعرته أنه تعرض إلى مداهمة، بادر باندفاع وحماس ليهدئ من روع شيخه ويذهب عنه الغمة التي جعلته يشتم ويتوعد شخصاً مجهولاً:

  • أول مرّة أسمعك تشتم بكل هذا الانفعال يا شيخ.. منو هذا فاضل؟ دلّني عليه وأنا أقتص منه.

بقي الشيخ ناصر ساكنا لبعض الوقت أمام ملامح عباس المستنفرة وهو ينطق كلمة "أقتص"، تساءل خلال لحظات الصمت تلك عن سرّ استعداد عباس لفعل أي شيء من أجله؟ ما الذي يدفعه لكل هذا التفاني، وأي تعلق هذا الذي يجعله مطيعاً إلى هذا الحد؟.. طمأنه وهو يرسم ابتسامة مصطنعة:

  • لا تقلق، إنه شخص تافه، بوسعي أن أسحقه بقدمي في أي وقت أشاء، وسأفعل حين أظفر به.. إنها قضية بسيطة لا تشغل نفسك بها، أدّخرك للمهام الجهادية الصعبة.
  • أنا من هاي إيدك إلى هاي إيدك.. أي شي تأمرني به أنا بخدمتك يا شيخ.

كان لهذا التضامن أثر كبير في كسر حدة اضطرابه الذي تلاشى تماماً عند حلول المساء، حين تسلّم الردّ من فاضل، إلا أنه لم يتمكن من قراءة الرسالة، لأنها جاءت بصيغة رسالة مرفقة "إتاتشمنت"، لم يرتق بعد لمعرفه هذا المستوى من المراسلات الإلكترونية.. نادى على عباس ليساعده على فك هذا اللغز، دخل عليه يملأه الحماس، جلس بمواجهة جهاز الحاسوب مبتهجاً وهو يستعرض مهاراته، أجرى تطبيقات سريعة فتحت على إثرها الرسالة، لكنها أغلقت باب البهجة المشاغبة في قلبة.. تجمدت الدماء في أوردته وهو يحدّق في صورة أبيه التي تعتلي صفحة المرسل. ترك المكان إلى الشيخ ناصر ليبدأ بقراءة رسالته المنتظرة، دون أن ينتبه لملامح عباس التي غزاها الاحتقان.

خرج عباس من غرفة المكتب، تفترسه المفاجأة بأن يكون كل ذلك الحنق الذي أبداه الشيخ موجهاً لأبيه، فاضل، لم يكن حينها يعلم أن أباه قد اكتسب لقب "الدنماركي".. تحرّك في داخله مؤشر المشاعر، مشاعره تجاه الشيخ، تلك لحظة فاصلة أحالت مشاعر عباس من محبّ تابع إلى مبغض حاقد على الشيخ ناصر.

دار عباس في أرجاء المسجد، كان يدور بلا هدف محدد، كما لو أنه يهرب من لحظة مواجهة مع خيبة كبرى.. تذكّر أن حياته كانت نتيجة جانبية لمغامرة طائشة خاضها فاضل "الخياط" قبل أن يصير دنماركياً، وكما سمعها من أمّه إذ أخبرته ذات يوم:

"جاء قرار زواجنا في أكثر الأيام ارتباكاً، خلال أيام إنتفاضة آذار 1991 التي أعقبت غزو الكويت، في وقت كانت فيه الناس تهرب في اتجاهات مختلفة، تقدم أباك لطلب يدي، وبحكم القرابة التي تربط عائلتينا، تم كل شيء خلال أيام قليلة، وتزوجنا، بعد شهر واحد بانت علامات حملي بك، وما إن وصل موعد الولادة حتى تلبست فاضل حالة من الاضطراب، كما لو أن جنياً تلبسه، وقرر الهجرة وحيداً، وفعلها دون أن يفكّر في ما سيكون عليه مصيري"

مأساوية الحكاية التي سردتها عليه أمّه لم تثنه عن التواصل مع أبيه كلما أتيحت له الفرصة، تذكّر إنه كاشف أمه ذات مرة: "إنه أبي، لن أكرهه مهما حصل" حينها لم تجبه بكلمة، إنما أشاحت بوجهها بعيداً عنه.

توقف عن الدوران في باحة المسجد، خطى نحو بندقيته المركونة خلف درفة الباب، حملها وغادر على عجل يلفّه هاجس اللاعودة.. في اللحظة ذاتها كان الشيخ ناصر منهمكاً في قراءة رسالة فاضل الجوابية التي لم يجد فيها ما يخصّه تحديداً، إنما كانت عبارة عن هموم مبثوثة كتلك التي يكتبها في مقالاته عادة، إذ قال فيها:

"الشيخ ناصر.. طابت أوقاتك.. لا تهتم لما حصل، لم يبق من تلك التجربة في ذاكرتي سوى صورة ضبابية مبهمة.. إنها تجربة لا تعدو عن كونها جزءاً من واقع متعفن تساوت فيه المواقف الخسيسة والمواقف النبيلة.. أما أنت فلست سوى حكاية من بين ملايين الحكايات وملايين البشر الذين يشبهونك.. ما عاد في ذاكرتي ما يجعلني حانقاً عليك.. كن بخير".

لم تكن الرسالة مسيئة بالقدر الذي توقعه الشيخ ناصر، لكنها في الوقت ذاته لم تكن مبهجة، لما حملته من إشارات تضعه في إطار الواقع المتعفن.. لم يعد ساذجاً.. فهم ما بين السطور بسهولة، لكن رغبة خفية دفعته لمواصلة تبادل الرسائل مع فاضل.

عاد وكتب رسالة جديدة مختصرة، جاء فيها:

"كنت أتوقع سعة صدرك وتفهمك للموقف الذي كنا فيه، وراهنت على انحيازك للتسامح والخيارات السلمية.. كما أودّ أن أخبرك بأن أشياء كثيرة قد تغيّرت لدي، ربما كنت أنت أحد أسباب هذا التغيير.. لكنك لم تخبرني أي شيء عن أخبارك وعن مصير الأخوة الآخرين.. والسلام ختام".

هذه المرّة لم ينتابه أي اضطراب، وكان على يقين بأن جواب رسالته سيأتي بعد حين.. ساعات قليلة وجاءه الرد:

"الخيار السلمي أصعب من سواه، وأكثر تضحية، لكنه الخيار الصائب، أما طريق العنف؟ فمن السهولة أن تشهر سلاحك في ظل واقع فاسد، وستنتصر طبعاً لأنك ستكون في حالة ثورة، لكنها (أعني الثورة) ستتلبسك لوقت طويل وستجعلك تتعامل مع خصومك بروح تلك الثورة لتكون شبيهاً لمن ثرت عليه.. إنها إشكالية الواقع وطرق التعامل معه".

أدرك الشيخ ناصر ان عليه أن يطيل الصبر مع مراوغات فاضل المجنونة، لينتزع منه إجابات مباشرة، لا ما يعتبره تنظيراً فارغاً لا طائل منه.. لكن، لا بأس بالمضي بتلك اللعبة ومدّ حبل الصبر إلى أقصاه، ما الذي يمنع؟

أعاد عليه السؤال مع تقليص مساحة المراوغة.. لخّص رسالته بسؤال مجرّد من أي مقدمة قد يتخذها فاضل كمحور لرسالته ويهمل السؤال الجوهري:

".. ولكنك لم تجبني عن مصير الجماعة هناك، ما هي أخبارهم وأخبارك أيضاً؟"

فهم فاضل مدى الجزع الذي وصله الشيخ ناصر، فحاول التخفيف من حدّة الاحتقان، قرر أن يمنحه فسحة من الاسترخاء، كتب له ردّاً يحمل بعض التفاصيل:

"أخي الشيخ ناصر.. بعد إبعادك إلى بغداد بيوم واحد، انسحب أفراد جيش الإمام وتركونا في السرداب وهو مغلق من الخارج، كنا في حالة مزرية وعلى درجة كبير من الإعياء والجوع والعطش، وحين تقدمت القوات الأمنية لتمشيط المقبرة بدأنا بالإستغاثة بأقصى ما بقي لنا من طاقة، ما حدا بالجنود إلى كسر الباب وإخراجنا ونحن على حافة الموت.. حين تموت في سرداب مقبرة فإنك تمارس موتاً مكتمل الأركان (تحمّل هذا الشطح) وبعد أن قدموا لنا الطعام والشراب والتأكد من شخصياتنا أطلقوا سراحنا.. ومنذ تلك اللحظة تفرقنا وكل منا ذهب في طريق دون أن نلتقي مرّة أخرى.. أما أنا فعدت إلى الدنمارك بعد تلك التجربة مباشرة، أعيش الآن تجربة جديدة مع التسوّل في مدينة لاهاسا، عاصمة التبت، أو ما يطلق عليها (سقف العالم) هذه كل التفاصيل، أرجو أن تبعث في نفسك الراحة".

كانت الرسالة مبعثاً للراحة فعلاً، كما توقع فاضل، حتى أن الشيخ ناصر لم يتوقف كثيراً عند كلمة "إبعادك" التي جاءت في بداية الرسالة، أو إنه "طنّش" عنها من أجل سواد حروف المعلومات التي تمنى معرفتها لزمن طويل مضى.. بيد أن امتلاكه تلك المعلومات أعاده إلى ساحة المراوغة مجدداً.. لم يعد هناك ما يدعو إلى التوقف، الدردشة مع فاضل مفيدة على أي حال، فيها الكثير من الشطحات التي تروق له، بل وتبهره في واقع الأمر.. لطالما رسخت في ذاكرة الشيخ ناصر حالات الخروج عن المألوف تلك.. لم يتوقف عند كلمة "إبعادك" التي بدت وكأنها مبطّنة بالنكاية، لكنه لم يكن قادرا على تخطي كلمة "التسوّل" لتكون مدخلاً لردّ الاعتبار:

"حمداً لله على سلامتك وسلامة الجماعة.. شكراً لك لأنك بعثت في نفسي الطمأنينة.. يؤسفني إنك ما زلت تمارس التسوّل، أتمنى أن يرزقك الله بعمل شريف.. أما أنا، وعلى الرغم من يسر الحال والمكانة المتميزة بين رجالات الدين ودعاته، فما زلت في بيتي القديم، قريباً من أبناء جلدتي الفقراء.. هذا هو حال الدنيا، كل يأخذ نصيبه ويمضي في حال سبيله.. والسلام ختام".

ابتسم فاضل وهو يقرأ الرسالة، ثم ضحك بملئ شدقيه من غفلة الشيخ ناصر عن حقيقة كان عليه إدراكها، وهي عدم وجود شيء من الممكن أن يستفزّ فاضل الدنماركي، غير حيرته مع ذاته وتوهانه في أسئلة الوجود واستغراقه في البحث عن صوت الله في آلة الناي.. حاول أن يبث شيئاً يسيراً من بوحه في رسالة، علّه يصل إلى عقل الشيخ ناصر، فكتب ردّه على عجل، قال فيه:

"لست على يقين من شيء، سوى ان الموسيقى هي روح الوجود، أما التسوّل من خلالها فهو إحساس دفين بأنك ابن العالم وجزء منه، هاجس نبيل يجعلك متماهياً مع الخلق، كما لو إنك شجرة أو فراشة أو نهر.. التسوّل عبر الموسيقى رسالة إنسانية لا تبتغي مقابلاً، أما القطع النقدية التي يلقيها المارة في قبعتي فهي ليست سوى تجسيد مادي للتواصل.. إنه إحساس عميق بجمال الوجود، رغبة في الهروب من قبضة أي عائق يحول بينك وبقية المخلوقات.. إحساس لا أظنك ستفهمه يوماً".

وعلى هذا النحو من الشدّ والجذب، والبوح والتجليات كانت المراسلات بينهما، بينما يعيش كلّ منهما في كينونته الخاصة واتجاهه المغاير.

بعد ثلاثة أيام من الغياب أمضاها في عزلة تامة، عاد عباس إلى المسجد وقد هرسه الشعور بأنه تعرض إلى مكيدة قاسية، طعنة جرحت قلبه وفتت كرامته.. ثلاثة أيام من الإحساس بأسوء أنواع الخطايا، تلك التي يرتكبها الإنسان إزاء نفسه.. "ماذا فعلت بنفسك أيها الأحمق؟" ذلك السؤال المغرق في تأنيب الضمير كان كافياً لتسرّب طعم المرارة إلى روحه، وكافيا لجعل ذاكرته لا تكفّ عن بثّ حواره السابق مع شيخه المحتال: "ماذا بوسعي أن أفعل يا شيخ للتخلص من هذا الخوف اللعين؟ أنا أتعذب!. لابدّ أن تميت قلبك. كيف؟ عليك أن تقتل أحداً، كل مهامك السابقة عبارة عن مداهمات وخطف فقط. أنا مستعد. حسناً إذاً، سأكلفك بأقرب عملية. وهل سأشفى من الخوف؟ بإذن الله، مع التكرار سيذوب كل شيء على أية حال"..

كانت خطواته تتسارع مع تصاعد هواجس الخيبة، وقبل أن يصل إلى باب المسجد ببضعة أمتار، انزل بندقيته من على كتفه وسحب عتلة الأقسام ليلقم حجرتها اطلاقة ثم أعادها إلى كتفة مرة أخرى.

 

ديسمبر 2015