رسالة السودان: عن مهرجان أيام البقعة المسرحية

في التاسع، قيل: إستقام!

عصام أبوالقاسم

مما يمكن لنا ان نلاحظه في مشروع أيام البقعة المسرحية ـ هذا الذي أشرف علي عقد من الزمان ـ ان صاحبه، اللافت للنظر، ظلّ، وفي أوقاتٍ ليست بالقليلة، وفياً لفكرته الرامية إلي جعل بيته: (المسرح الوطني ـ مسرح البقعة) كما يحب هو تسميته، جامعاً واسعا للمشتغلين بالمسرح ـ بعبارة الراحل احمد الطيب ـ يلتقون فيه نهايات شهر مارس بأحوال شتى، فكراً وفناً، إقبالاً وإعراضاً، للاستئناس بالمسرح أو لاستقباحه، للإفادة والاستفادة، و.. لكل حال! وهو أمرٌ جديرٌ بالملاحظةِ في سياق الحركة المسرحية السودانية لاعتباراتٍ عدة، منها: ان الساحة المسرحيّة ظلّت، علي الأقلّ طيلة العقد الماضي، عاجزة عن طرح مشروعات فنية أو فكرية تتوافر علي هذه القدرة في الاستمرارية، وقد تقطّعت السبل أمام العديد من المبادرات دون أن تقطع نصف الطريق، هو حالٌ لا يجهد المرء كثيراً في تبيان تجلياته، فنظرة عابرة يمكن أن تكشف لنا ان المسرح القومي ـ مثلاً ـ بتاريخه المؤسساتي العريق، وبإمكانياته التقنية المتعددة، وبذاكرته الواسعة المترعة بالأنشطة المسرحية، لم يستطع، طيلة العقد الماضي، ان يقدم مشروعاً مسرحياً يمكن ان يُشار إليه.. مشروعاً يمكننا مقابلته أو موازته بما أُحدث ويحدث في مسرح البقعة!

لا يتوقف الأمر علي مهرجان مسرحي عابر، ينقضي بمرور أيامه ولكن جدلاً وجلبة أيضا، فما أثير ويُثار حول مؤسسة البقعة هو بلا شك الأكثر تجلياً في المنابر المختلفة، وفي ذلك بالطبع قيمة إعلامية وحضور! ونشير هنا إلي تلك الندوات والإصدارات وورش العمل بكوادرها الخبيرة! ونرى في هذا الإطار أن وفاء صاحب مشروع البقعة لتجربته ما كان له ان يثمر لولا قابلية الفعاليات المسرحية في الخرطوم للاستجابة أو التجاوب، صحيح ان ثمة من لا زال يقف بعيداً مقاطعاً ومعترضاً علي ان الأكثرية من المسرحيين ـ بينها دكاترة ـ شاركت في الدورات المختلفة للمهرجان ولا شك انها أسهمت بالكثير مما أعانه علي قطع هذا الطريق الطويل!.

وعلي سبيل الاستطراد: عندما أُطلقت الدورة الأولي من هذا المهرجان في العام 2000م حينها كانت الساحة المسرحية طالعة من تسعينات القرن الماضي، وقد أقعدتها "المؤسسة السياسية الإنقاذية" بالعطل والعطب والتهجير، ويسعفنا الناقد السر السيد، في استعادة الصورة القاتمة لتلك الفترة قائلاً: «بكلمة واحدة لقد تراجع المسرح في عهد "الإنقاذ "تراجعاً كبيراً، بل هو الآن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ففي عهد الإنقاذ لم يقدم المسرح القومي منذ العام 91 ـ 94 ولا مسرحية واحدة. وبعد ذلك تحول إلى دكان لا يبيع فيه ولا يشتري إلا من استطاع إليه سبيلا».

في عهد الإنقاذ تحول مسرح قصر الشباب والأطفال ومسرح أم درمان الأهلي إلى مكان لعرض الأفلام الهندية وأفلام الكاراتيه، في عهد الإنقاذ مات مسرح الولايات. في عهد الإنقاذ اختفت العبارة الشهيرة ـ أعطني مسرحاً أعطك أمة لحين إشعار آخر، ولا غرابة فحتى المسرح المدرسي مات في عهد الإنقاذ) ـ ( السر السيد، دوائر لم تكتمل/ القاهرة) وكما هو واضح فان عبارة السر السيد لا تشير الي أمر أكثر فداحةً لحق بالساحة المسرحية حينها وهو إغلاق المعهد العالي للموسيقي والمسرح في ذات الفترة وهو ما يتنّبه إليه الناقد اليسع حسن احمد في رسالته للماجستير (النقد الدرامي في الصحافة السودانية ـ جامعة السودان 2003) وإغلاق هذه المؤسسة يمثل تجلياً ساطعاً لما واجهه المسرح حينها من عسف وعداء!.

وصورة الحال تتعين فداحتها أكثر حينما نشير إلي تلك الأكثرية من المسرحيين الفاعلين التي هاجرت وقتها ضيقاً أو فرارا أو سعيا..هجرة قاسية كلفت المجال المسرحي اسماء عديدة فاعلة..والحال اننا عندما ننظر نجد ان جماعة (السديم) ـ مثلا ـ التي تأسست، فيما يقول احد أعضائها، أواخر السبعينيات وقدمت العديد من الأعمال الباذخة مثل (السديم) للشاعر المعروف ادونيس و(مطر الليل) لمحمد محي الدين و(ضو البيت) للطيب صالح. الخ... هذه الجماعة التي استطاعت ان تنقش اسمها ببريق خاص في مجالس الأنس المسرحي الشفهية و "القعدات" إلى جانب بعض الزوايا الصحفية بل ببعض البحوث والدراسات التي أنجزها طلاب كلية الدراما والموسيقى. الخ...

نجد عندما ننظر إلى هذه الجماعة التي توقف نشاطها منتصف التسعينيات ان ابرز الفاعلين فهيا هاجروا ولنذكر هنا تمثيلاً (يحيى فضل الله، عادل السعيد، والسماني لوال، و جمال محمد أحمد (سوزي) وعبد الجبار عبد الله، عبد الحافظ محمد خير) كذلك فرقة (شوف) فقدت مؤسسها عبد المنعم إبراهيم "منعم شوف" وثمة فرقة (النفير) التي أفقدتها الهجرة عبد الباقي مختار، عاطف خيري، حتى فرقة (الأصدقاء) يقال انها فقدت السني دفع الله، بدر الدين شيبة، ولا شك ان هناك العديد من المجاميع والفرق المسرحية تأثرت بقطار الهجرة هذا ونعتقد ان في ما ذكرنا ما يكفي تعبيراً عن الأثر السالب الذي خلفته هجرة هؤلاء. خاصة إذا عرفنا ان هذه الفرق والجماعات التي ذكرنا متوقفة عن النشاط تماماً في الوقت الراهن، بل يمكن القول انها لا توجد! ولا نستطيع عزل هجرة هؤلاء المسرحيين عن أسباب تدهور حال هذه الفرق والمبادرات، فمن بين الأسماء المهاجرة التي عددناها من كان مؤسساً لبعض هذه الفرق، وان من بينهم من ارتبطت قدرات التفعيل والحراك الايجابي لدى هذه الفرق على وجوده، لذلك ـ كما أسلفنا ـ تردت الأحوال بهذه الفرق وأدى ذلك ضمن ما أدى إلى أن يتوقف عطاء هذه الجماعات والفرق.

علي هذه الخلفية، التي حاولنا ضغطها ضغطاً جاء مهرجان أيام البقعة المسرحية، بمبادرة من المسرحي علي مهدى، ومن موقع أهلي لكن ربما بخبرة سابقة إذ ان للرجل مشاركاته في مهرجانات "رسمية" محدودة الأثر شهدتها فترة ما بعد منتصف التسعينات خاصة..ثمة مهرجان الفرق والجماعات ومهرجان نمارق ربما والمسرح التجريبي! ويمكن القول ان هذه الخلفية خدمت مهرجان البقعة ـ في رواية ألهمت به ـ حيث وفرت له أكثرية من المسرحيين الراغبين في العمل، كما دعمت حظوظ أدارته في علاقاتها بالمؤسسات الداعمة رسمية كانت أو أهلية، كذلك المؤسسات الإعلامية المختلفة، وبنظرة عامة يمكن القول ان مهرجان البقعة إن كان مثّل، في دورته الأولي، نافذة أمل لقلة من هواة المسرح ولقلة أقلّ من محترفيه، فانه ما لبث أن كسب أغلبيّة لافتة من الهواة والمحترفين في دورته الثالثة، وبالتقادم صار مثالاً نموذجيا علي مسرح السودان في الفترة بين 2000/2009، يُستدل به علي اتجاهات الإخراج وتيارات التمثيل والتأليف والنقد!

لكن بالمقابل مثلما خُدِم المهرجان بتلك الخلفية فانه تضرر كثيرا منها علي صعيده الفني علي الأقل، فعندما نقرأ اللوحة بعمق نجد في مطالعة ذاكرة المهرجان المتمثلة في كتاب " النصوص المسرحية " علي سبيل المثال، والذي يمكن اعتباره مؤشراً قوياً علي ما قُدم في المهرجان خاصة علي صعيد (التأليف ) نكتشف ضعفاً بائناً في اغلب النصوص، في صياغتها الفنية وفي رؤيتها الفكرية، بل يمكن القول عن بعضها أنها لا ترقي للنشر، وللحق يزيد الأمر عن كونها صالحة للعرض لا القراءة، فاحتمالاتها الفنية، في كل حال/ علي درجة مريعة من الضعف، وهو ما سنعرض له في مناسبة أخري!

وكنت في وقت سابق أخذت علي المهرجان انه قصر فنيا وثقافيا حينما دمج الهواة والمحترفين، في مسابقة فنية واحدة، ثمة فروق فنية، كما هو معروف، ما بين شخص تعاطي مع فن المسرح، بانصرافٍ واضحٍ، اكسبه دربة ووعياً بأغلب ما يتصل به من معارف وأدوات وخبرات، بشهادة الرأي الفني العام للسياق، وشخص آخر مارس، في نطاق محدود، وبقليل من الخبرة، فن المسرح، فالمسرح ليس موهبة صرفة بل هو صنعة لها أصولها ومدارسها وحرفيوها (لوحة المسرح الناقصة ـ وليد اخلاصي)! دمج الهواة والمحترفين في مسابقة يحمل علي السؤال: كيف يجرى التمييز، وفق أية كيفية؟ بالنظر إلى التراث العريض للمسابقات، من هذا النوع، في مختلف جهات العالم، لا يبدو لنا الأمر مستقيماً، إذ ثمة معايير وشروط، تضبط كفاية المتسابقين على سؤال المسابقة، علاقتهم الثقافية والفنية به، أمكانهم في التباري، على النحو الذي يعطي المسابقة: دينامكيتها وحيويتها! ومن بين ما أثرته كذلك افتقار المهرجان للثيمة أو السؤال لقد قلت في هذا الباب ان مهرجان أيام البقعة المسرحية لا يقول لنا ان كان هو مهرجان لـ معاينة:

أ/ عرض أدائي استوفى الشروط (العامة) ـ وهذا لا يعفي من تحديدها بالطبع ـ للعرض المسرحي؟

أم لمعاينة: بـ/ عرض توفر على الحد الأدنى من شروط (العرض المسرحي)؟

أم لمعاينة: ج/ عرض (مسرحي) قيمته الفنية أعلى قياساً على عرض أو عروض أخرى ضمن المسابقة.

ولعلنا لسنا بحاجة لان نقول بان حيثيات المسابقة بسماحها لنا بمواجهتها بهذه الأسئلة تدلل على الثقوب العديدة التي ينطوي عليها ثوبها ­إن استجاب المجاز ـ كما رأينا ان من الصعوبة بمكان ان تستطيع اللجنة المحكمة الفرز والاستقدام بين العروض وقد طُبع كل واحدٍ منها بطابع فني/ أسلوب يخصه؟! وذلك يستتبع ان يُحاكم على ضوء طموحه الفني، واقعياً كان أو برشتياً، حداثياً، الخ؟ وان ذلك يغالط حساب المقارنة والمفاضلة؟ فكيف يقدم العرض (س) على العرض (ص)، والحال كذلك؟ هل سيقال، في تقرير اللجنة، ان العرض( س) كان واقعياً أكثر مما كان العرض (ص) برشتياً؟ ومن أين يستمد مثل هذا القول معرفيته؟

وطرحنا العديد من الأسئلة حول علاقة المهرجان بالنشر والمقاربات الفكرية وطريقة الانفتاح علي الأقاليم، ونري ألان ان المهرجان حقق في دورتيه الماضيتين مكسباً في حقل النشر المسرحي حينما قدم كتاب (مجدي النور: رؤى من مسافات أقرب) وكذلك كتاب (مكي سنادة: شهادات وقراءات) أيضا مجموعة من الإصدارات الاخري لا شك أنها ستقدم الكثير من المعلومات حول هذه المرحلة للأجيال المسرحية اللاحقة! كما ان مسألة الهواية والاحتراف بين المتسابقين في المهرجان روعيت في استمارة المشاركة منذ الدورة الماضية تقريبا، هذا إلي جانب ان الأغلبية التي قدمها المهرجان من الهواة صارت من كثرة مشاركاتها بالمهرجان، وعلي الرغم من انه سنوي، أقرب إلي الدربة والاحتراف! كما ان اختيار "ثيمة" للمهرجان في دورته الماثلة لا بد انه ساعد كثيراً اللجنة المحكمة في المسابقة التمهيدية للمهرجان، ونتوقع معاينة أقل مخاطرة للجنة التحكيم في المسابقة الرسمية، وربما كان وجه التوفيق العام في طرح المهرجان لسؤال: المسرح وثقافة السلام، ان السؤال يُطرح في وقت أشد ما نكون فيه للمعرفة بهذه القيمة الحياتية الحيوية: السلام، وحينما يقارب المسرح هذا السؤال، إبداعا، علي الخشبة، حيث حلول الأداء الجسدي والتلاوين البصرية ومسامع الموسيقي والمؤثرات أكثر قدرة علي خلق استعارة وجودنا السلمي فانه ـ المسرح ـ بذلك يتخلل العصب الحي لحياتنا العامة، يقف في صدر الزمان والمكان ويحققنا بالقلق الخلاّق والحساسية الحاذقة المنتبهة..والتطّهر القدسي، بكلمة واحدة: يثرينا! وهو الحال، عندما يقارب "تنظير" المسرح ذات السؤال.. يطرح إمكانيات التعايش السلمي تحليلاً، تذكيراً، نقداً وبناءً! لكن لا بد من حدوث ذلك بإحكام أكثر، بمسؤولية اعلي و.. سلام!

وننهى هذا المقال بالقول انه لا يبدو مؤشرا جيداً بالطبع ان المهرجان وبالرغم من انه استقطب العديد من خبراء المسرح وتوسط بهم في إقامة ورش عمل حول فنون الأداء المسرحي، إضافة إلي مؤسسات مسرحية دولية.. لا يبدو مؤشرا جيدا انه لم يستطع لغاية الان، ان يغير (كثيرا) في صورة المشهد العامة، بل ربما كان سبباً في تعقيد بعض ملامحها.. ولعل السبب في ذلك ان إدارته ظلت ملحة علي صيغته "الاحتفالية" و "الموسمية" أكثر من انشغالها بتقعيد وتكريس الممارسة المسرحية ـ بالعمل طيلة الوقت ـ في علاقاتها المتعددة بالمؤسسات والكوادر والمجتمع بتكويناته المختلفة، أكثر من انشغالها بإرساء التقاليد المؤسسية التي تدفع بالفعل المسرحي إلي ان يكون ملمحاً أصيلا في حياتنا اليومية، ويمكن ملاحظة ان الفعاليات المسرحية المختلفة لم تُلهم ـ بفضل مهرجان البقعة ـ إلا بانتظار نهايات مارس للعمل، وحينما حاول "المسرح القومي" لمرتين أو أكثر قليلاً إقامة فعالية مماثلة عجز سريعاً عن مواصلتها! صحيح ان تلك يمكن عدّها مشكلة تتعلق بطبيعته كمؤسسة رسمية.. معقدة بالكثير من الإجراءات البيروقراطية وما إلي ذلك، إلا اننا نري في الأمر ما يربطه بالساحة المسرحية العامة وأطروحاتها تقدماً وتراجعاً.. حياة و موت، فالكثير مما يجري في "المسرح القومي" للساحة المسرحية العامة دورها في صناعته كما لإدارته(!) وهذه الساحة العامة في الفترة 2000/2009 هي، بامتياز، صنيعة مهرجان البقعة في أغلبيتها!

ولعل مما يلفت أكثر في هذا المشهد الذي لم تستطع دورات المهرجان المتعددة تغيير ملامحه، علي الأقل، بالصفة التي يمكننا ملاحظتها، هذه الإشكالات المتصلة بالمشاركات الخارجية واتحاد الدراميين والبعثات التدريبية.. إلي نهاية هذا الخيط الطويل! كل هذا لم يتأثر، بصورة ايجابية، من حضور مهرجان البقعة في المشهد بل ان بعضه تفاقم وزاد تعقيداً! نظن ان فعالية المهرجان وحيويته، وقد بلغ هذا الطور في الاستمرارية، تُقاس بما يرفد به الساحة تحديثاً وتغييرا في القيم الفنية والأخلاقية، في الحلول التخطيطية التي يستحدثها، في المسارات التي يفتح الواقع المغلق عليها، في تغييره للمعني السالب لمؤسسات مثل الهيئة الدولية للمسرح واتحاد الدراميين وفي إسباغه لدلالة جديدة تعبر عن حظوظ مختلفة في المشاركات الخارجية وفي تبديده للفكرة "الشللية " التي تطبع الساكن والمتحرك في راهن المسرح السوداني الذي طوته البقعة طي السحاب في "النوبة والطار، الدكيتال والانترنت والجينز" وما لا يعلمون!

ختاماً: قد يقول قائل انه ليس مطلوباً من مهرجان البقعة، بحكم انتسابه لمؤسسة أهلية ان يفعل أكثر مما فعل، وذلك هو الصواب، لكن "عينه" في الملاحظات، أو كما قيل، انه في التاسع: استقام!.