هنا قراءة نقدية لكتاب «فلسفة كارل بوبر السياسية من الإبستمولوجيا إلى الآيديولوجيا»، وفيها يشدد الباحث على أن العقلانية لم تكن نتيجة توصل إليها بوبر في أبحاثه، بل كانت مقدمة بدأ منها تفلسفه، بحيث أن تصوره للعقلانية ليس مرضياً بالكامل، لأننا لا نستطيع أن نجعل العقل أو العاطفة جزءاً عضوياً، أو ملكة في الإنسان مثل القدرة على الكلام.

نقد جديد لفلسفة كارل بوبر السياسية

خالد أبو الروس

 

«فلسفة كارل بوبر السياسية من الإبستمولوجيا إلى الآيديولوجيا»، دراسة حديثة صدرت للباحث الدكتور أحمد فاروق، وهي دراسة تحليلية-نقدية للفلسفة السياسية للمفكر الأوروبي كارل بوبر. اعتبرت الدراسة أنّه من الأخطاء التي يقع فيها المشتغلون بالدراسات الفلسفية أنهم يتجاهلون –في دراساتهم للمذاهب الفلسفية والمدارس الفكرية المختلفة– السياق التاريخي لظهور هذه الفلسفات وفروعها، ومن ثمّ يسقطون من اعتباراتهم الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة وقتئذ، والتي يحتمل أن يكون لها أثر كبير في الأفكار والمذاهب والآيديولوجيات التي كانت تشيع في تلك الأزمنة.

كما ساعد ذلك من ناحية أخرى على ذيوع الكثير من الأحكام والدعاوى التي تؤخذ الآن على أنها مسلمات يؤمن بصحتها الجميع، باعتبارها مبادئ وأسسا جوهرية لا تقبل الشك ولا المنافسة، كما هو الحال مثلا بالنسبة للوضعية المنطقية التي قدمتها حركة «فينا». وقد عُرفت وجهات النظر الفلسفية لها باسم التجريبية المنطقية في النصف الأول من القرن العشرين أو الفلسفة البرغماتية الأميركية أو غير ذلك من المذاهب والآيديولوجيات التي يمتلئ بها تاريخ الفكر الإنساني.

وتجيب الدراسة عن سؤال في سياق الرؤية لحياة وأعمال كارل بوبر، لماذا كان عقلانيّا؟ لتؤكد أنّ العقلانية أو وجهة النظر التي تقول إن العقل بمقدوره –بل ويجب عليه– أن يتحكم في الإرادة، ولم تكن نتيجة توصل إليها في أبحاثه، بل كانت مقدمة بدأ منها تفلسفه، لمعرفة لماذا أخذ العقلانية كنقطة بداية له في تفلسفه ومبدأ منظما في كل تفكيره، ومن هنا يجب النظر للمناخ الحضاري والفكري لأوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، ففي هذه الفترة سادت المذاهب السياسية والفلسفية «اللاعقلانية» التي حاولت أن تفرض أشكالا جديدة للمجتمع والفكر، مما أدى إلى حدوث انقسامات وصراعات اجتماعية وسياسية دفعت إلى الحرب الكبرى في نهاية المطاف.

ونتيجة لذلك كان بوبر على وعي دائم بالمخاطر التي يواجهها المجتمع من قبل اللاعقلانية المقحمة في كل مجالات الحياة والتفكير، وساعده هذا الانشغال الدائم بالعقلانية منذ بداياته على صياغة أعماله الفلسفية الكبرى.

وتقول الدراسة إن كارل بوبر لا يقدم في أعماله «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، و«فقر المذهب التاريخي»، وبعض المقالات والمحاضرات التي أعاد فيها إنتاح أفكاره الأساسية، أي تصور للنظام السياسي الأسمى أو الأفضل «المدينة الفاضلة إذا ما استخدمنا لغة فلاسفة الإسلام»، وإنما يقدم نقدا لفلسفات السياسة والتاريخ التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وسادت في النصف الأول من القرن العشرين، وهي فلسفات سياسية وتاريخية «معادية» للفلسفة السياسية الليبرالية، وانطلاقا من نقده للأسس والمسلمات والفرضيات التي ترتكز عليها الفلسفات المضادة للفلسفة السياسية الليبرالية يقدم لنا بوير تصوره عما سماه «المجتمع المفتوح»، حيث تلعب بداياته كفيلسوف علم وعالم إبستمولوجيا دورا كبيرا في تدعيم انتقاداته للفلسفات المضادة للفلسفة الليبرالية، إذ إن دحض أو تفنيد بوبر لمفهوم العلم الذي ترتكز عليه الأسس النظرية والفلسفية لهذه المذاهب المادية لليبرالية –دحضه لمفهوم العلم الذي ترتكز عليه النظرية المادية التاريخية الماركسية مثلاً- هو نقطة الانطلاق والخلفية الأساسية التي يرتكز عليها هذا النقد، وهذه الحركة أو عملية الانتقال داخل فلسفة كارل بوبر ككل هي التي تفسر العنوان الذي اختاره الباحث لهذه الدراسة.

واعتبرت الدراسة أن هناك ثمة انتقال في فكر بوبر وحتى في أعماله ذاتها من الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة العلمية إلى الآيديولوجيا أو نظرية الأفكار، والرابطة التي تعمل كجسر من خلاله عملية الانتقال هي مفهوم العلم أو المنهج العلمي، في نفس الوقت هو لا يزعم بشكل صريح أن المفهوم الذي يقدمه للعلم وللمنهج العلمي هو المفهوم الصحيح، لكن كل فلسفة بوبر ترتكز على هذا الزعم، إذ إن اكتشاف عدم صحة مفهومه للعلم سوف تكون سببا في تداعي عمارة هذه الفلسفة بشقيها الإبستمولوجي والسياسي، وبالتالي توجهاتها وأهدافها، وهذا هو بالضبط موقف بوبر من الفلسفات والمذاهب السياسية المعارضة للفلسفة الليبرالية.

وكشفت الدراسة رفض بوبر للفكرة التي تزعم أن المعرفة الإنسانية يقينية أو مطلقة، أي أنه بإمكان المعرفة الإنسانية أن تكون نهائية، وكذلك رفضه لفكرة وجود مصادر للمعرفة بما في ذلك فكرة أن الخبرة يمكن أن تصبح مصدرا للسلطة، أو الدعم الإيجابي للمعرفة الإنسانية، مع توضيح الجدل البوبري ضد مزاعم الفلسفة التي تقول: «إننا قادرون على تقديم تبرير لمعرفتنا عن طريق تقديم حجج حقيقية أو ذات طابع كيفي»، وكل هذه المفاهيم هي صور لرفض بوبر للنزعة الماهوية مع ملاحظة صعوبة جمعها في مفهوم واحد.

وأكدت الدراسة على أن بوبر قد وجد في فلسفة كانط، الفيلسوف الألماني من القرن الثامن عشر، المفاهيم النقدية والموضوعية الأساسية في فهم العلم، ولذلك أصبح في حاجة لإطار مرجعي جديد يدخل فيه هذه المفاهيم، لكي تؤتي ثمارها. ولم يجد بوبر أمامه غير فكرة «اللامعصومية» بعد أن رفض تقريبا كل تاريخ الفلسفة وفقا لقراءته الخاصة لهذا التاريخ. ويرى أن عمارة العلم ليست قائمة على أساس صلب إذ إن جذوره تمتد في أساس رخو مثل المستنقع، فليس في الأسس للعلم الموضوعي أي شيء «مطلق» فالعلم لا ينبني على التجريبية كأساس من الصخر، وإنما –إن صح التعبير– على أرض موحلة يقيم عليها نظرياته الجسورة.

وتستطرد الدراسة أن السمة الرئيسية في فلسفة كارل بوبر –المدخل لفهم أفكاره عن الموضوعية والعقلانية بالإضافة لأفكاره عن سياسة المجتمع– هي قوله «إن المعرفة ليست مبررا –لقد نظر غالبية الفلاسفة للمعرفة الإنسانية على هذا النحو دائما، إنها في رأيهم اعتقاد مبرر- وتصبح هذه المعرفة موضوعية وعقلانية عندما تبور.

وكشفت الدراسة عن قيام بوبر خلال سبعة عقود من التأمل الفلسفي بعرض مذهب يرى الصراع المستمر مع المشكلات معنى وهدف الحياة الإنسانية، وهو مذهب متماسك وغير ثابت في الوقت نفسه. وتقدم فلسفته طريقا وسطا بين طريقتين متعارضتين وسلطويتين في رؤيتهما للعلم والمجتمع، ويقصد بذلك المذهب الدوغماطيقي والمذهب النسبي.

كما تقدم فلسفة بوبر مقاربة بين العلمية عقلانية وموضوعية ليست في حاجة لليقين، ومن دون اللجوء أو الاعتماد على الاستقراء، أو رأي الخبراء أو الإجماع أو أي نوع من أنواع السلطة أو المرجعية، وإن العقل في عيون بوبر هو الملكة أو القدرة السلبية للنقد الصارم، والنقد والحرية والعقلانية أيضا نواة رؤية بوبر للسياسة والمجتمع المفتوح، إذ إن أفعالنا قد يكون لها عواقب غير مقصودة، ويكشف ذلك من رفضه لكل أنواع التبرير، وعلى محاولات التغيير السياسي واسع المدى – الثوري، ولذلك يجب أن لا تقوم بمخاطر تؤدي لارتكاب أخطاء لا يمكن إصلاحها أو لا يمكن التحكم فيها.

وتقول الدراسة إنه بعد أن قدم بوبر عرضا وافيا «لتدمير العقل» من قبل المؤمنين به، مثل أفلاطون، وهيغل، وماركس، يؤكد أن «الصراع بين العقلانية واللاعقلانية أصبح أهم القضايا الفكرية وربما الأخلاقية في زماننا»، وما يقصده بهذا الكلام هو «المقاربة أو النهج العقلاني»، وليس المشكلة الإبستمولوجية للعقلانية في مواجهة التجريبية، إذ إنه لا يرى في الاستعمال التقليدي لمفهوم «العقل» في مقابل «التجربة» أهم مشكلات الفلسفة، فمفهومه للعقلانية يتضمن التجريبية، والعلم النقدي، والملاحظة، والمنهج التجريبي، حيث تتضمن العقلانية في رأيه أيضا ميلا أو اتجاها لحل مشكلات كثيرة بقدر الإمكان عن طريق الاحتكار للنقل، بمعنى يتضمن التفكير والتعبير الواضح أكثر من العواطف والانفعالات.

في نفس الوقت فإن بوبر على وعي بطبيعة الحال بأن تصوره للعقلانية ليس مرضيا بالكامل، لأننا لا نستطيع أن نجعل العقل أو العاطفة جزءا عضويا، أو ملكة في الإنسان مثل القدرة على الكلام، ولهذا السبب يعتقد أن بإمكاننا وصف العقلانية باستخدام «الحدود أو المصطلحات المستخدمة في الحياة العملية وفي السلوك الإنساني».

* * *

كارل ريموند كارل بوبر (28 يوليو/ تموز 1902 في فينا-17 سبتمبر/ أيلول 1994 في لندن) فيلسوف نمساوي-إنجليزي متخصص في فلسفة العلوم.

عمل بوبر مدرساً في كلية لندن للاقتصاد. ويعتبر الفيلسوف الراحل أحد أهم وأغزر المؤلفين في فلسفة العلم في القرن العشرين كما كتب بشكل موسع عن الفلسفة الاجتماعية والسياسية.

درس بوبر الرياضيات، والتاريخ، وعلم النفس، والفيزياء، والموسيقى، والفلسفة، وعلوم التربية. عام 1928 حصل على درجة الدكتوراة في مجال مناهج علم النفس الإدراكي. وتزوج عام 1930. وبدأ كتابة أول أعماله، الذي نُشر في صورة مختصرة بعنوان «منطق البحث» 1934 وفي طبعة كاملة عام 1979 بعنوان «المشكلتان الرئيسيتان في النظرية المعرفية»

وفي عام 1937 هاجر إلى نيوزيلندا حيث قام بالتدريس في عدة جامعات هناك، وألف كتاب «المجتمع المفتوح وأعداؤه» 1945، والذي اكتسب من خلاله شهرة عالمية ككاتب سياسي. أهم سمة تميز أعماله الفلسفية هي البحث عن معيار صادق للعقلانية العلمية. بين عامي 1949 و1969 عمل أستاذا للمنطق والمناهج العلمية بجامعة لندن. في عام 1965 حصل على لقب «سير».