تمثل هذه المجموعة من النصوص القصصية الواقعة في أسر الحرب وظلالها ومفرداتها وطقوسها المعلنة من خلال السرد، وتأثيراتها، ورموزها الدالة عليها، ما يشبه المنظومة/ المتوالية/ السلسلة السردية المنتظمة على وحدة النسيج، وربما وحدة الموضوع/ الهدف. وانسجام طرق المعالجة التي أتى بها السرد بتنوعاته عبر تلك النصوص وتنقلاته الحيوية التي ميزتها، ولونتها بلون الحرب القاتم.

ظلال تجربة الحرب في قصص السيد نجم

محمد عطية محمود

 

(الحرب هي مرض "الإعداد" لحالة الحداد)

فرانكو فورناري[i]

ثمة نماذج قصصية في كتابات السيد نجم، تبدو فيها ومن خلالها ملامح، وظلال (ما بعد الحرب) بامتياز واضح يتجلى أثره الانفعالي المصاحب للتوتر النفسي، الدال على المتغير المجتمعي والنفسي الضارب في أغوار تلك النماذج الإنسانية التي عانقت مفهوم الحرب سلبا وإيجابا من خلال صورة البطل المنسحق على أعقاب حياة مثل الحرب، وحرب هي الحياة..

تلك هي إشكالية الولوج إلى هذه النصوص التي تمتح من فترة زمنية مخاتلة، ربما أعادت تأريخ حالة الحرب/ الملتبسة هنا في السياق مع حالة اللا حرب، والتكريس لها على نحو مفهوم قد يبدو مغايرا سواء من الناحية النفسية أو الجسمانية أو المعنوية الملتفة حول آثار الحرب، وما تنتجه من طبقة/ شريحة عانت ويلاتها، ومن ثم تداعيات تلك الإشكالية الإنسانية، بصورة عامة، والتي تتغور في الذات/ الذوات؛ لتصنع منها هذه الحالات الغارقة في المفارقة التي ربما تحولت بفعل استمرارها وتكرارها، كحالات ملازمة، إلى تكريس نوع من الاعتياد والتشرب بهذا الحس المراوغ فيما بين بقايا الأمل والرجاء، وبين حس اليأس المتغلغل على أعقاب ذكرى/ شاردة/ واردة، قد تحاول تحريك بحيرة الصمت/ الحزن الراكدة، لتشعل حربا أخرى موازية على المستوى النفسي الداخلي للذات/ الذوات وما يحيط بها من علائق الحياة التي تتأثر شكلا وموضوعا، سواء من حيث المعالجة الإنسانية لتلك الحالات، أو معالجتها سرديا على نحو من التعانق والتشابك بينهما، ذلك الذي يفرض هذا الإطار الذي يعتمده الكاتب في قصص كتبت خصيصا على أعتاب ذكرى الحرب، مؤرخا لنوع من تأثير الحرب الوجداني والذي تطبعه الحرب على النفس، وما ينتج عنه من تأثير انفعالي تظهر سماته ودلالات وجوده على سطح السرد/ الواقع والمتخيل، على حد السواء والاشتباك..

ففي نص "شريط ستان أسود"[ii] كنموذج لحالة من حالات التأثير الذي تطبعه ظلال الحرب، من خلال علاقة الأرملة بصورة زوجها الشهيد في حرب العبور، وأزمتها القائمة من خلال وحدتها وفراغها، وهو ما يقدمه الاستهلال الأول للنص الذي يجسد لتلك الحالة من الافتقاد والوحدة:

".. اقتحمت باب غرفة النوم للمرة الأولى.. قررت أن ترقد فوق سريرها، سريرهما، هي وزوجها الشهيد، بعد أن نصبوا أمام عينيها مقولات، ليس لها إلا أن توافقهم عليها: "مات رجلك من أجلك وأجلنا" ص63

ومن خلال بداهات عدم الاقتناع بماهية التضحية في مقابل أي شيء، والتي تلوح في ثنايا السرد لتشير ضمنا إلى حالة الرفض لذلك المبدأ، لتكشف عن حال المسرود عنها، ومن خلال التأثر الانفعالي الذي تحدثه العلاقة الجديدة الناشئة بصورة الشهيد/ أثره المتبقي/ ذكراه الماثلة أمام عينيها، والتي ربما نزعت عنها شريط الحداد الذي عنون به الكاتب نصه إيغالا في حصر هذه العلاقة بين المرأة والحياة في ذاك الرمز، بعدما طبعت الحب آثارها على الحالة الجديدة من الحزن والوحدة، لتدخل في حيز الانفعال تجاه الأثر/ الصورة:

"أكثر ما كان يؤلمها فور أن نزعت الشريط الأسود الستان اللامع من فوق زاوية برواز الصورة الكبير ذي الطلاء الذهبي البارز، أن راودها خاطر مجيئه يقض مضجعها، ويقلق نومها متهما إياها بأنها تخلت عن دورها، لكنها تظن أنها نزعته بصدق ولا تعرف بماذا تفسر أسباب تلك الانفعالية الشرسة؟!" ص63

ليؤكد السرد على حصر العلاقة نهاية ً، بين هذه الأرملة والصورة على النحو الذي يمثل نوعا من الاتكاء على مشاعرها وأزمتها التي ربما لخصها السرد في حياة تخلو من أثر الامتداد الباقي الحي الذي يؤنس وحدتها ويشعل الحياة من حولها، وهي الأزمة التي يختزلها السارد في أنها: "لم تنجب ولدا ولا بنتا، فلم تسقط السرة"..

ليتحول المشهد السردي دوما إلى الصورة/ الأثر الذي يشعل دلالات وجوده الصامت:

"... لولا أنها رمقته في الصورة على الحائط الأمامي، ما كانت تذكرت وداعها الأخير له. كان مهموما صامتا، تدللت، حاولت أن تتدلل مبتسمة:

ـ لأول مرة ألمح فيك وكأني أراك بعد عشر سنين؟! ص64

هنا تسير الشخصية المأزومة مع الأثر المتخيل الذي تثيره هذه الصورة من كوامن الأرملة التي تهرع إلى الماضي/ ظلال تفاصيله، كعلاقة موازية متخيلة على أرض واقع جديد/ قديم، يأتيها عبر عملية الاستدعاء الحسي، لذلك الظل الذي تمثله العلاقة الماضية، على خلفية حرب، والتي تنتهي بالفقد، إلا أنها الآن تتعامل مع طيفه/ ذكراه:

".. كان ضوء المصباح الجانبي للغرفة يبدو شاحبا، لكنه كشف عن كل تفاصيل وجهه هناك.. تناهى إلى مسامعها صوت زاعق غليظ لصفارة القطار الحربي المسرع بجوار منزلها في طريقه من القاهرة إلى مدينة السويس.. فارتعدت بسببه، ربما لأنه يذكرها بصفارات الإنذار من الغارات الجوية، فنهضت.. فضلت أن تبقى بقية الليل إلى جوار زوجها.. اقتربت من ابتسامته الغامضة الشاردة ( في صورة ليلة زفافهما).." ص65

هنا تأتي المعادلات التأثيرية للحرب من خلال ( القطار الحربي/ طريق القاهرة السويس/ صفارات الإنذار/ الغارات الجوية)، لتثير الكوامن، وتبين مدى الانفعال الذي يحدثه كل مكنها في نفس الأرملة، كعوامل أساسية ومفردات من سمات الحرب وأجوائها، وكاستدعاء على خلفية حالة من حالات الانفصال عن الواقع الآني للشخصية المأزومة، وكظلال تستدعيها الذكرى المواكبة للأثر الانفعالي الذي تحدثه على أعقاب أثر مطبوع بالذاكرة، والتي تتداخل مع الأثر الحسي الذي تحدثه ـ هنا ـ صورة الزفاف، والتي تدفعها حثيثا نحو العودة إلى تضاريس جسمها التي تنقل حركة السرد في النص، إليها الحرب من خلال إحساس الأرملة بذاتها المادية، لتقترب حسيا من عملية التحقق من العملية الجنسية المشتهاة والمضمرة في ذات الأرملة، التي يحسمها النص بنهايته المفارقة للعملية الحسية، الكاسرة لحدة الإغراق في الإيهام بالعلاقة الناشئة المرتجاة إمعانا في حالة اليأس/ يأس الحالة، وقبوع الأرملة في ذاتها مرة أخرى وتوحدها مع الصورة وشريطها الحدادي كأثر لا يريم من آثار الحرب المشتعلة على المستويين المادي (كظلال) والحس كملازم لها بتأثيرها..

" لكنها وقبل أن يصلا إلى سريرهما عادت وتقهقرت لخطوتين، ثم نزعت الشريط الستان الأسود متمتمة: هذا يكفيني؟!!".. ص66

ليرتد السرد المتخيل، الشخصية إلى أرض واقعها مرة أخرى، توحدا مع حس الهزيمة التي ترضيها كنهاية صادمة ولكنها متوقعة، ومن ثم تقنع بها..

***

تداعيات البقعة السوداء

كذلك يقفز ظل الحرب ليهيمن على العلاقة بين الرسام ـ الذي عانق أجواء الحرب الحقيقية ـ وبين ما يرسم/ يضع الأثر الذي طبعته الحرب على مخيلته، والذي حوله بتأثره الانفعالي إلى إبداع/ فن / رسم من جهة، وبين علاقته بالحبيبة من جهة أخرى، في نص "محاولة للارتقاء"[iii] الذي تنحصر فيه العلاقة بينهما في حيز ذكرياته/ الرسام، والتعبير عن تلك التجربة/ تجربة الحرب، من خلال ما ترمز إليه خبطات فرشاته على اللوحة/ ساحة التجربة الجديدة الموازية، أو محاولة إعادة تجسيدها مرة أخرى، إمعانا في الوقوع في أسرها:

"انتظرت طويلا حتى عاود الانتباه، سألته عما دفعه لأن يفعل فعلته وقد جعل البقعة السوداء غير محددة، وغير محدودة. لكنها شعرت بالملل وهي ملقاة إلى جواره، انتظرت طويلا حتى عاود الانتباه إليها. بدلا من أن تسمع إجابة على سؤالها، سمعت سؤاله: "ما رأيك الآن؟".. وجدت في الإجابة إثارة لموضوع زهقت منه، فقالت:

  • تجربة الحرب ثرية بحيث جعلتك لا ترى غيرها.. ألا تعلم أن تجربة للحب تربة أخرى؟!!.. فهم مقصدها، اكتفى بالابتسام.. "ص69

هنا يبدو الاقتران بين شبح الحرب القائم في النفس، وبين البقعة السوداء التي احتلت لوحة الرسام على نحو من التشابك مع تجربة الحرب المؤلمة، التي تمحو آثارها، ما عداها،وتهيمن على المحارب القديم وتؤرق صفو/ وجود العلاقة مع الحبيبة التي تشتهي تجربة أخرى هي تجربة الحب، وتلك البرودة والسأم التي تميز العلاقة المتوترة بين الطرفين، بتلك الإشارة الوامضة التي تبثها في فضاء معتم لا يرى شيئا آخر غير الحرب وظلالها الجاثمة؛ فتمثل بالضرورة تلك البقعة ذلك المعادل الموضوعي لمأساوية الحرب واستغراق أثرها الانفعالي في النفس، في الوقت الذي تشيع فيه انفصالا/ اغترابا عن كل ما يدور ويحيط بالشخصية المأزومة المتوحدة دوما مع لوحتها/ أزمتها الآنية البديلة:

"لما وصل الحوار إلى طريق مسدود، أيقنت أن إصراري على رسم لوحة الحرب التي خضتها صعب المنال" ص70

بحيث يتحول ضمير السرد هنا إلى ضمير المتكلم/ ضمير البوح الذي يعتمل في النفس ليميط اللثام عن حقيقة فشل إعادة تجسيد هذه الحرب التي أصبحت خاسرة في مواجهة قضية الحب التي تحولت إلى حرب نفسية خاسرة أيضا، تخوضها الحبيبة لإخراج الذات الساردة عن نفسها من نطاق حصار الحرب لها.. ذلك مما يدفع السارد لتحوله من صيغة المسرود عنه، إلى ضمير البوح/ المتكلم؛ ليعلن رغبته في رسم لوحة أخرى، ربما كانت مغايرة، وربما كانت إعادة لذات اللوحة برؤية جديدة، وربما خلت من البقعة السوداء المهيمنة على نفسية الرسام/ المحارب، والتي ترفضها الحبيبة، والتي تمثلت في قول السارد من لا وعيه المدرك: "أريد أن أرسم لوحة أخرى" (ص71)؛ لتكتمل للعنوان شرعيته كـ "محاولة فعلية للاكتمال"، ولكنها موسومة بالفشل أكثر منه إلى النجاح.

 

وهي نفس التيمة الرئيسية التي يلعب عليها سارد نص "الروح وما شجاها"[iv] ـ وهو النص الذي تحول فيا بعد إلى نص روائي للكاتب ـ يمتح من نفس التجربة، التي استمرت في هذا النص وتشعبت كحالة أخرى من حالات التوحد مع حكايات الحرب والتفنن في إعادة سردها وصياغتها من منظور نوستالجي/ استدعائي، يفرض سطوته على جُل السرد/ حياة السارد، أو المسرود عنه، والذي ربما امتد بنفس روح النص السابق ليبوح هنا بمدلول آخر من مدلولات الحرب وتفاصيل أخرى لها، ربما ابتعدت شيئا ما عن الرمزية التي اكتنفت النص السابق إلى حيز فضاء الحكي المفتوح، بقول السارد بداية ً، وبصوته الخاص:

".. كانت روحي معلقة في بقايا الحكايات التي سردتها شفتيّ حتى جعلت من زوجتي أذنين كبيرتين، تتحركان في اتجاه شفتيّ، وأنا أقص عن زملاء الكتيبة ونحن نعبر ما بين شطي القناة لنعتلي الساتر الترابي ثم انقضاضنا على أحد المواقع الحصينة للعدو.. "ص72

ذلك الحكي الذي يقطع فعاليات العلاقة (الحميمة) بين الزوجين التي يبرع النص في طرحها على نحو هامشي، مضاد لذلك الخيال السارح الشارد في تفاصيل/ ظلال الحرب، بتحويله للزوجة إلى مجرد أذنين كبيرتين تتحملان عبء انسيال الحديث وانسيابيته الثرثارة الفضفاضة التي لم يعد يملك سواها: "فتعمدت أن أقص ما أنجزته مع أفراد كتيبة المشاة، ورشق العلم فوق أعلى نقطة هناك" ص72

وهكذا في سياق يحمل سمات الهاجس الذي يحتوي شخصية المحارب الخارج لتوه من الحرب المادية بقسوتها إلى غمار الحرب النفسية مع آثارها المنطبعة بذاته، برغم تلك المحاولات المستميتة من الزوجة للدخول في غمار الواقع الخاص بهما، ليتحول ضمير السرد، على نفس منوال اعتماد الكاتب لتقنية التنقل بين الضمائر ببراعة، فيما بعد إلى الضمير الخارجي/ الغائب الذي يسرد أحوالهما معا، ليكشف جانبا مهما من جوانب حياتهما الممتزجة بالألم المادي والمعنوي، على نحو ما يقول السارد العليم:

"... وكان عدم الإنجاب، وإن لم يربط بينهما بولد أو بنت، حرضهما غي عقد خفي أن يندغم جسداهما معا كلما سعتهما الأيام والليالي... كانت واثقة من نفسها ومن زوجها، تعلقت برقبته والتصقت الشفاه طويلا هذه المرة، ناسية أو متناسية "الآه" التي سمعتها، ثم نصحته أن يجلس فوق ظهر السرير، فضلت أن تخلع عنه ملابسه العسكرية، لعلها تزيح عن منخاريها رائحة العرق من بين ثناياه، و......" ص73/74

تلوح هنا سمة المقاومة التي يواجه بها الزوجان الحياة بقوة البقاء فيها برغم الخلل الذي يعتري حياتهما بسبب عدم الإنجاب، تلك الإشكالية/ الأزمة التي يطرحها هنا النص، والتي لاحت من خلال نص "شريط أسود ستان" مع اختلاف زاوية التناول واختلاف الحالة، فحالة عدم الإنجاب في حياة الأرملة في نص "شريط أسود.. " صاحبها حالة غياب مادي كامل عن الحياة/ استشهاد الزوج المحارب، مع انتفاء مسببات حدوث الإنجاب مرة أخرى.. في حين ظلت علاقة الزوجين بالأمل هنا موجودة، وربما مفتوحة إلى حد ما، ولكنها تمثل علاقة غياب معنوي، في ظل علاقة مبتسرة، في هذا النص الذي يزيح مسببات هذا التوتر في العلاقة على أثر نفسي حاد، قد يتجلى من خلال الإحالة إلى علامة أخرى من العلامات الدالة والمؤثرة في النص هي "البقعة السوداء"، والتي ربما تماهت مع البقعة السوداء الأخرى في لوحة الرسام التي لعبت دورا رمزيا مؤثرا في نص "محاولة للاكتمال":

"... توقفت فجأة انشغلت بالسؤال عن تلك البقعة السوداء التي لا تعرفها في جسده، ابتسم قائلا: ـ الحكاية أن رصاصة طائشة أصابتني، لكن أنا تمام.. مثل الحصان" ص74

لتصير تلك البقعة السوداء علامة/ دال/ معادل موضوعي لذلك العيب المتوغل في الذات/ الجسد، والذي يطرحه النص/ النصوص، بوعي، على نحو من إذكاء قيمة العجز الذي يتوغل في النفس كأثر مطبوع فيها، وكعامل من عوامل النقصان الشديد المترتبة على حالات التوغل في تجربة الحرب ذاتها.. تلك التي تدفع في نفس الزوجة بهذا الإحساس المغاير والمقبض، والذي يطبعها بإحداثيات جديدة لوجود زوجها معها على النحو الذي يقره السرد، بتحولاته المادية والمعنوية لديها: ص76

"... ذاك الجسد الذي تظن أنها تعرفه جيدا، يبدو لها الآن، وكأنها تراه للمرة الأولى.. الجلد الأسمر اللامع فقد بريقه، جزء منه مكرمش مقبض الطالع، وفي موضع آخر بقع اختراق رصاصة دملت.. غائرة مشقوقة، وكرش مترهل، فسخرت منه وعليه كثيرا وهي تضحك"

ليبرز السرد في جملة توجهه وتفاصيله الدالة على تلك الحالة من الاغتراب عن الآخر من كل من الزوجة/ الزوج المحارب، والتي تترك أثرها، كعتمة موغلة في صيرورة علاقتهما الأزلية المرتجاة، على نحو ما يهرب به المحارب المخذول، من كل تلك الآثار المترتبة على تجربته مع الحرب:

"... ثم أدار وجهه واندفع نحو الوسادتين رشق رأسه فيما بينهما وقد عاهد نفسه، أنه فيما بعد لن يمارس معها الحب إلا في الظلمة!" ص77

لترتبط نهاية النص ببدايته ارتباطا بينيا دالا على وقوع البطل المأزوم في فخ الحكايات التي تمتح من روح مشنوقة بغياب سطوة حضورها الفاعل، إلى حضور منقوص متأثر إلى حد بعيد بتلك العلاقة الشبحية المرتبطة بالحرب وظلالها القاتمة على النفس والمكان في ذات الآن.

***

لعنة الأسر

يتوغل المد النفسي في ذات الشخصية/ شخصية المحارب العائد من الحرب، ليطبع فيها أثرا متوغلا للانهزام والوقوع في براثن الحيرة والشك والانفعال المتأثر بالعقم الحسي الذي تشعله علاقة ذلك المحارب/ الأسير، بزوجته في فضاء معتم آخر، يمتد نفسيا وماديا من النص السابق "الروح وما شجاها"، ويفرض وجوده بصورة أكثر اقترابا من الحس الكابوسي الذي يشعل هاجس الخيانة وعدم الثقة وتلك العلاقة المبتسرة مع الزوجة نظرا لطول الغياب؛ فالعودة من (الحرب) هناك، استبدلت بالعودة من (الأسر) هنا، كأحد الأنماط/ الصور المنبثة من معنى أكبر وأشمل هو الحرب، التي تحتمل نتائجها الظفر، وتحتمل الأسر، كما تحتمل الغياب ـ كما في نص "شريط ستان أسود" ـ كما تحتمل صورا أخرى من الانهزام والانكسار والتوحد المذموم مع العلل النفسية والعاهات المتعددة التي تستمر بها الحياة فيما بعد الحرب أو العودة من الأسر.. كما نجد في نص "طرح ما"[v]، الذي يتمثل فيها الجانب الانفعالي من خلال عملية الشك في خيانة الزوجة، وما يترتب عليها من تصرفات تجاهها:

" كانت تخلع ملابسها في سكون، أمام زوجها العائد حالا من الأسر.........

انتابته مشاعر لم يكن يدريها، ممزوجة بفكرة الخيانة التي تلبسته عنوة فور ملاقاة زوجته الصغيرة.. يظن أنه خاطر، بلا مبرر حقيقي، فلم يش واش عمدا أو عفوا، ولم يجد زوجته إلا أكثر منه لهفة وشوقا ورغبة!... " ص78

يدفع النص هنا بشخوصه، ليتمثلا حالة من حالات الانكشاف البريء الذي يعقد طقوس الحياة المعتادة، أملا في معاودة ممارستها بعد الغياب الطويل، لكن تأثيره الانفعالي على الأسير لا يبدو بذات البراءة التي تتعامل بها الزوجة مع زوجها العائد من الأسر، ليلقي بالأسر هنا كمعادل للحرب وكمفردة من مفرداته المعتمة الدالة على نوع جديد من التعامل مع النفسية المشوهة للمحارب الذي عانق حياة الأسر بكل ما تتميز به من قهر وامتهان وذل وانكسار حسي ومادي، في تصاعد ملحوظ لوطأة أثر الحرب، وكمرحلة من كمراحلها تقبض الذات وتحولها إلى انهزامها، بغض النظر عن نتيجة تلك الحرب سواء كانت بالسلب أم بالإيجاب.

وهو ما يعكس هذا الهاجس الذي يتملك النفس بافتعال جريمة الخيانة والرغبة القاتلة في إلباسها ـ كثوب دامغ ـ لتلك الزوجة/ الآخر الذي يزاحم المشهد السردي/ الحياتي باعتلاج أناته وشجونه وحرمانه العاطفي والجنسي كأثر آخر من آثار وظلال الحرب والأسر على الجانب الاجتماعي الذي تمثله هذه المرأة بوقوع الضرر عليها من جراء تلك الحرب وذاك الأسر

"بقي الأسير العائد منثني الرقبة، مفتوح العينين، ناظرا إلى كفيها الصغيرتين، تعملان في أشيائه بسكينة غريبة. لم ير سوى أشباح الليالي السوداء مع وخزات الصقيع داخل "الهنجر" المصنوع من الصاج المجعد والأرحم منه النوم في الفضاء الحالي.. هناك مع زملاء الأسر، كل ينحت أنثاه في الظلمة، ولم يتردد في أن يهمس لها عما فعله في الأسر...." ص79

يفرض جو الأسر هنا معطياته الدالة عليها، ومفردات وجوده كمكان، وعلى تلك الحالة المفارقة، التي اجتازت وارتقت لتشكل ضغطا نفسيا وماديا يتجاوز كل الضغوط التي عرضتها النماذج السابقة من النصوص التي تعرضنا لها.

وهو ما ينتقل إلى ساحة العلاقة بين الزوجين، من خلال المزاحمة أيضا على وعي الأسير الذي لا يني يواصل العزف على وتر حكاية تفاصيل الأسر، كما ورد من النماذج المشابهة له في النصوص السابقة، لتفرض تلك الأجواء مسحتها القاتمة على العلاقة بين الزوجين، بالإضافة إلى الحس الأكثر إيغالا بالخيانة.

في حين يُبرز السرد، دفاع الزوجة ـ كحل للأزمة، ومحاولة احتوائها نصيا ـ والذي لا يفلح في الغالب، في إثناء الشخصية المأزومة/ الأسير عما يساوره من شكوك/ انطباعات شبحية أملاها عليه حسه المتواطيء مع تحريضات زملائه وإملاءاتهم الكاذبة عليه بحس الهزيمة الجماعية، برغم ما قالته الزوجة المأزومة أيضا بإشكالية اتهام زوجها المضمر لها والذي يلوح من خلال تصرفاته وردود أفعاله وأسئلته، دفاعا عن نفسها أمام شكوكه:

".. تستطيع أن تبرر سلوكي هذا بأنني أستغل وجودك معي هذه الليلة لصالح جسدي المهمل منذ فترة!!" ص82

يُغلِّب السرد هنا طعم الهزيمة المرتبط بهاجس الشعور بالخيانة ذاتها التي جسدتها أوهام الأسير/ شعوره بالانتقاص والمهانة كاصطباغ/ تلون لمشاعره التي ما عادت طبيعية، ولكنها صارت تنتهبها الندوب بفعل الانكسار والأسر، وكرد فعل/ انطباع من انطباعات ظلال الحرب/ الأسر، على الذات الكسيرة.

لتمثل هذه المجموعة من النصوص القصصية الواقعة في أسر الحرب وظلالها ومفرداتها وطقوسها المعلنة من خلال السرد، وتأثيراتها، ورموزها الدالة عليها، ما يشبه المنظومة/ المتوالية/ السلسلة السردية المنتظمة على وحدة النسيج، وربما وحدة الموضوع/ الهدف. وانسجام طرق المعالجة التي أتى بها السرد بتنوعاته عبر تلك النصوص وتنقلاته الحيوية التي ميزتها، ولونتها بلون الحرب القاتم، ومن خلال استخدام الضمائر السردية الدالة على الحالة والمعبرة في ذات الآن عن فكر الأزمة/ الحالة الملازمة أو حالة الالتباس بين ما هو مادي وما هو حسي في متون تلك النصوص التي عانقت معنى الارتباط بالظلال والتأثيرات، وأتت الحرب على خلفيتها، وإن لاحت من خلال الدوال عليها..

الإسكندرية

Mohamadattia_2003@yahoo.com

 

[i] فرانكو فورناري : عالم نفس إيطالي ، يعتقد أن الحرب والعنف تأتي من وضع "الحاجة إلى الحب"؛ حيث رغبتنا في الحفاظ والدفاع عن الكائن المقدس المرتبط بنا، والتي تسمى بالأم في السن المبكر حيث ننصهر معها. أما بالنسبة للبالغين، فإن الدول هي الأشياء المقدسة التي تولد الحروب. ركز فورناري على أن التضحية هي جوهر الحرب : حيث استعداد مذهل من البشر للموت في سبيل وطنهم، لإعطاء أكثر من أجسادهم لأمتهم. ( ويكيبديا الموسوعة الحرة)

[ii] ـ مجموعة "عودة العجوز إلى البحر" ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشرـ 2000

[iii] المرجع السابق

[iv] المرجع السابق

[v] المرجع السابق