هنا استعادة لحوار مع الشاعر المرموق الذي فارق دنيانا مؤخراً. وفيه إضاءة على صلته مع منجز أدونيس؛ ورأيه في لغة الشعر؛ وطبيعة العلاقة بين الشعر والفلسفة في التعبير عن جوهر الوجود؛ وتواشج الشكل مع المضمون، ذلك أن المعنى يبني المبنى، والمبنى يسمح للمعنى أن يتضح.

أنا شاعر باحث عن المعنى

حوار مع الشاعر صلاح استيتية

علي إبراهيم

 

لا معنى لهويتي الشعرية إلاّ بسعيها عبر الممر الضيّق الذي هو الحياة للوصول إلى فسحة المعنى؛ هكذا تحدث الشاعر العربي الكبير صلاح استيتية في كتابه ليل المعنى عن رؤيته للشعر ودوره في الحياة كذلك هو دائما شاعر خلاق قاس على نفسه وقاس على قارئه يتجنب المعنى القريب، يبحث في اللغة والخطاب ويدافع عن ثقافة المنشئ، وهي ثقافة عربية إسلامية بلسان فرنسي. عاد في السنوات الأخيرة إلى دراسة الأدب العربي القديم وهو مبحر اليوم في شعر أبي نواس. هو شاعر ومفكر له في رصيده ما يربو عن 60 كتابا وضعها باللغة الفرنسية. فهو ممن يحترفون فن الحديث وشاعر يرفض الحدود ويكره التصنيفات، فرنسي اللسان على الرغم من استماتته في الدفاع عن الثقافة العربية الإسلامية بشراسة.

* الشاعر العربي الكبير صلاح استيتية، أهلا بك.

** أهلا، ليس بشراسة.

* اختلفنا منذ البداية؟

** (يضحك) لا أظن بشراسة بل بقناعة وإيمان عقلاني، لأنني أعتبر أن الحضارة العربية الإسلامية لها وجه ساطع في تاريخ الإنسانية، وأن ما يشوّه اليوم هذا الوجه غير صحيح وغير مقبول وأنا ميداني اللغة الفرنسية، وحياتي في فرنسا وأوروبا إجمالا، أظن أنه من واجبي أن أوضح للفرنسيين والأوروبيين حقيقة الأبعاد الفكرية والروحانية في الإسلام وفي إلتصاق تلك الأبعاد بالعالم العربي وبتاريخه وبرؤية عربية إن كانت في الأمس أو اليوم وإنشاء الله في المستقبل.

* ويبرز هذا عند كتابتك للسيرة النبوية، وكتاب محمد الذي جمعت فيه بين أجناس أدبية مختلفة له مقاصد فكرية عميقة منها تطهير الذاكرة العربية الإسلامية من خلال استعادة السيرة النبوية عبر البعد الجمالي وكذلك الدعوة إلى المثاقفة على قاعدة التكافؤ والتعامل الموضوعي العقلاني مع الموروث، أرجو أن أكون قد أحطت بأبرز القضايا التي يطرحها الكتاب؟

** نعم، وأظن أيضا أن غاية الكتاب توضح شخصية رسول الإسلام لأنه هناك شيء من الغموض الذي يكتنف هذه الشخصية سواء كان ذلك آت من رغبة المسلمين ليعطوا لرسولهم الحجم الهائل وهذا صحيح في التاريخ والحضارة، أو من قبل الأجانب رغبة منهم في تشويه صورة الرسول لأسباب مرتبطة بحاضرنا السياسي والتطرف المعروف، فأحببت العودة من ينابيع جديدة لتبيان حقيقة الرسول محمّد (ص) وأن أعطيه النور الكافي، لكي يرى هذا الرجل العظيم في نوره الحقيقي، لا في نور التشويه الغربي له.

* كيف استقبل أهل الفكر في أروبا ممن يختلفون معك ايديولوجيا وفكريا وسياسيا هذا الكتاب؟

** أنا شخصيا كتبت كتابي بضمير وقناعة، وبشيء من النقد الذاتي والمرتبط بالسيرة كما وردت من القدماء، أظن أن للكتاب قرّاء عديدين نظرا للوضع الراهن عالميا، حيث هناك تعطش لمعرفة الإسلام على حقيقته وكان لهذا الكتاب أن تطلب إعادة طبعه وتوزيعه دور نشر عديدة في عشرات الآلاف من النسخ، وقد نفدت كلها بسرعة. وهنالك من لا يرتاح لهذا الوضع، وواجهنا عديد الانتقادات من قبل بعض المتطرفين الغربيين (وما أكثرهم في عالمنا الحاضر)، وأيضا من قبل بعض المراجع الإسلامية التي تعتبر بأنها لها الأحقية لوحدها بأن تعبر عمّا يجب أن يقال عن الإسلام أو عن الرسول وهذا أمر مرفوض.

* لذلك تشارك بإستمرار في منتديات الحوار، إسمك يتكرر في أكثر من منبر في هذا المجال على الرغم تعالي أصوات الصدام التي من أبرزها أطروحة صامويل هنتنغتون التي تقوم على مبدأ الصدام بين الحضارات؟

** أطروحة صامويل ليست هي موقفي، لكن هنالك اليوم شيء من الإصطدام بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية يجب أن نقرّ به، هنالك مايزيد عن 300 ألف جندي أجنبي على أرض العراق أو أكثر بعد حرب عنيفة، وما يجري يوميا في فلسطين... هنالك تطويق للعالم العربي من قبل الولايات المتحدة وأنجلترا، هنالك دم... لذلك لابد أن نسعى إلى الحوار ونطوره إلى حوار أعمق يؤدي إلى شيء من التفجير الأكبر في علاقتنا مع الغرب، وأنا لي الحظ أن أكون ملمّا إلى حد ما بحضارتين وثقافتين: الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الأجنبية. فأنا كاتب باللغة الفرنسية وأظن وجودي في فرنسا له شأن. لذلك أجنّد كل طاقاتي الفكرية وكل علاقاتي الثقافية لكي أكون أحد العاملين في ميدان الحوار لأنه ليس من مستقبل لحضارتنا، وهي حضارة مهمة جدّا وحضارة حوار في تاريخها، ليس لنا من مستقبل إلاّ إذا قبلنا أن نحاور الآخر وأن نحاور أنفسنا في البداية، فأنا أعتقد أنه من واجب الإنسان العربي أن يبدأ بالحوار مع نفسه ومع العربي الآخر وبصورة خاصة بالحوار مع المرأة العربية الذي يعاني من عدم التوازن الكافي، فالمستقبل يبدأ بالحوار مع زوجاتنا وبناتنا، ثم ننتقل إلى باقي مكونات العالم العربي من المشرق إلى المغرب ثم مع الآخر، وإذا لم نقم بهذه المهمة التاريخية لدخلنا سجنا من شأنه أن يفصلنا عن حركة العالم بكاملها عن هذا القطار، قطار الحضارات الذاهب إلى المستقبل.

* لكن هذا يتطلب منّا وعيا بالزمن وبأهميته، باعتقادك هل هنالك في ثقافتنا وتاريخنا وحضارتنا العربية ذلك الوعي القوي بالزمن حتى نتمكن من تجاوز العقبات واختصار المسافات واختزالها حتى نلحق بالآخر ويكون لنا شأن في هذا العالم؟

** تأخرنا على القطار، لكنه مازال ينتظر، ويجب علينا أن نسرع الخطى حتى نلحق به، لكن لابد من أن نترك الحقيبة التي بها أشياء ثقيلة ولم تفدنا.

* أن نتخلص من الإرث؟

** لا، أن نتخلص مما هو ميّت فيه، أي ذلك الذي لم يحمل تلك الخفة الروحية والثقافية التي من شأنها أن تأخذنا إلى المستقبل، نعم إرثنا عظيم نعلم ذلك ونفتخر به، لكن لو فتحت باب خزانة بيتك ترى فيها ملابس لم تعد تستعملها هذا الذي لابد أن نتخلص منه، يجب أن نتخلص من التقاليد الميّتة لكي لا نفضل الحقيبة على القطار. وتاريخنا في الأندلس لم يكن مهما بالنسبة إلينا كعرب فقط بل لكل الإنسانية، حيث تحاورنا مع الآخر من خلال البعد الفكري والثقافي وابن رشد أحد هذه الأمثلة.

* وكذلك الإعتراف بالآخر ممن يملك موهبة ودور فعال، لكن بعد سقوط الأندلس من بقي منهم تمت معاملته بقسوة؟

** التاريخ ليس مؤسسة خيرية، فهو قاس وظالم وعلى الإنسان أن يدافع على نفسه، بل أن يكون في التاريخ عامل أساسي لكي لا يسمح للآخر أن يسيطر عليه وعلى تاريخه كما يجري اليوم في العالم العربي. وللوصول إلى هذا المأرب علينا أن نكون مجندين لا عسكريا بل فكريا وعلميا واقتصاديا وإنسانيا وهي مهمة الأنظمة العربية اليوم، ففي كثير من الأوقات أنظر إلى الأنظمة العربية وأرى مع الأسف أنها ليست دائما على مستوى المسؤولية المناطة بعهدتها. نعم أقرّ بأن هنالك صعوبات تاريخية أثرت في عالمنا: الاستعمار القديم التركي ثم الفرنسي والانجليزي والإيطالي واليوم الإستعمار الأمريكي، أو إرادة أمريكا في إستعمار العالم العربي، كل ذلك كوّن خطرا علينا ولكن على الأنظمة أن تكون واعية لكي تسعى بالسرعة الممكنة لتجاوز هذه المرحلة الصعبة بالتجنيد المعنوي للشعوب العربية بحوار فعلي داخل الجامعة العربية بين الدول العربية للتعاون العربي الثقافي والاقتصادي. هنالك دول عربية غنيّة جدّا ودول عربية فقيرة جدّا ولا نرى بأن الدول العربية الغنيّة جدّا تساعد الدول العربية الفقيرة جدّا بينما الجامعة العربية أقدم مؤسسة إقليمية سياسية بعد الحرب العالمية الثانية وإذ بنا لم نقف على تحقيق وحدة إلى الأمام والجامعة عمرها اليوم فوق الخمسين سنة، وفي المقابل لذلك أوروبا التي عمرها حوالي ثلاثين سنة لديها اليوم عملة موحدة وتضم 25 دولة لها لغات ومصالح مختلفة ونحن العرب لنا لغة واحدة وتاريخ موحد.

* ولدينا أقليات؟

** ويجب أن نحترم هذه الأقليات في عالمنا العربي، وأظن أن هذا مرتبط بالرغبة في الحوار الذي سبق أن أشرنا إليه. ولابد على الأنظمة العربية أن تتبنى هذه الحلول وأن تدفع بها إلى الأمام مع شعوبها.

* ليس غريبا أن نخوض معك في الشأن السياسي وأنت الديبلوماسي السابق، فقد مثلت لبنان في أكثر من عاصمة في السنوات السابقة، سؤالي كيف التقى عندك الأدب بالسياسة؟

** أنا جئت من بيئة أدبية فوالدي أديب وشاعر له كتب منشورة، فبيئتي ثقافية حيث تشربت الأدب وحب اللغة وحب العالم الخيالي (وهو العالم الحقيقي) والحوار بين المخيال والواقع، تشرّبت تذوق الأدب في طفولتي ثم بعد فترة الدراسة الطويلة، قسم من دراستي العليا في لبنان ثم انتقلت إلى فرنسا ودرست أشياء مرتبطة بالأدب طبعا والأدب الفرنسي وعلم الاجتماع على يدي المستشرق الفرنسي الكبير لوي ماسينون، كنت تلميذا له ثم دخلت عالم الصحافة فكنت رئيس تحرير جريدة ثقافية كبيرة باللغة الفرنسية Lrsquo;orient Litteacute;raire وبعد ذلك دخلت عالم الديبلوماسية من لبنان وكنت سفيرا في عدد من الدول: فنلندا، المغرب، اليونسكو لمدة 17 سنة... وربّما هذا الذي جعلني أنتبه إلى أهمية حوار الحضارات قبل غيري لأن اليونسكو كانت منذ البداية ملتقى الحضارات والمجسمة لمثل هذا الحوار الذي نتكلم عنه، لأن اليونسكو مؤسسة فكرية. فرغبتي الفكرية وعملي الديبلوماسي والمصادفات في حياتي جعلتني في النهاية كاتبا وشاعرا بالفرنسية.

* لماذا باللغة الفرنسية فقط؟

** لأنني لمّا ولدت في بداية الثلاثينات كانت فرنسا موجودة في لبنان عن طريق الإنتداب في مهمة من قبل جمعية الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى لمساعدة لبنان للوصول للحداثة مثلما كانت لأنجلترا مهمة مماثلة في العراق وفلسطين مع الأسف. لأن الانتداب الفرنسي كان أعمق وأقرب من حيث فهمه للإنسان العربي وتعرفون ذلك في تونس، فكل الدول التي كان لأنجلترا مهمة دولية فيها أصبحت دول متفجرة اليوم: قبرص، فلسطين، العراق... فأنا تشربت اللغة الفرنسية عن طريق التواجد الفرنسي بلبنان منذ طفولتي.

* ودخلت المدرسة في سنّ الثالثة، بشكل مبكر جدّا.

** نعم، ولذلك حتى اللغة العربية لم أكتبها إلا صدفة ولم أتفهمها وأتذوقها إلاّ عندما كبرت حيث بدأت أكتب وأعود للكتب العربية في سن الثلاثين وقبل ذلك كانت ثقافتي فرنسية وغربية مائة بالمائة.

* لذلك تحدثت عن هذا التمزّق الذي تعيشه إلى اليوم، بما أنك مفكر وكاتب مسلم إلاّ أنك تتقن الفرنسية أكثر؟

** نعم، لكن يمكن أن تتخطى فكرة التمزق حيث يأتي التوحد داخل الإنسان أقوى مما كان عليه، ولو لم يكن هنالك هذا التمزق أعتبر أنه عندي شيء وأنا في آخر عمري.

* (مقاطعا) أطال الله في عمرك

** (تسلم) عندي شيء من الوحدة الداخلية تسمح لي أن أحاور نفسي كما قلنا بين الحضارتين المتواجدتين في أعماقي وأن أبني جسور ثقافية عبر عملي الديبلوماسي لعشرات السنين وعبر كتبي.

* الوفيرة العدد؟

** يعني، عندي حوالي 60 كتابا أو أكثر بالفرنسية وترجمت إلى أكثر من لغة وخاصة الانجليزية.

* ولذلك رشحت لجائزة نوبل؟

** نعم رشحت لجائزة نوبل للآداب وسنرى المستقبل.

* هل تهمك هذه الجائزة مثلما احتفيت بجائزة الفرنكفونية الكبرى عن مجمل أعمالك سنة 1995 التي منحتها لك الأكاديمية الفرنسية؟

** كنت أحد الكتاب القلائل الذين يكتبون بالفرنسية، وحصلوا على هذه الجائزة لذلك أستقبلها بفرح، مثلما أستقبل كل ما يساعدني على إبراز الصورة المشرقة لديننا وحضارتنا وثقافتنا وجائزة نوبل هي نافذة من النوافذ المؤثرة جدا.

* تحدثت عن نفسك مرّة فقلت أنا كشاعر مازلت ساعيا لبلوغ المعنى، هل مازلت في رحلة البحث هذه؟

** وهل هنالك شيء أهم من المعنى، نحن محاطون بأسرار كثيرة و كبيرة، وكتبت كتابا حول هذا الموضوع بعنوان: ليل المعنى. نحن في ليل ولابد أن نتساءل: لماذا نحن هنا؟ ماهو المطلوب منّا؟ إلى أين سنذهب؟ هذه الأسئلة ومثلها هي جوهر الدين. فالدين يقول بأجوبة تقبل بها أو لا تقبل، الفلسفة تأتي بأجوبة. وعمل الفكر الإسلامي لفترة طويلة كانت مهمته الربط بين ما يأتي به العقل وما يأتي به الدين. فإن تحررت من سيطرة الدين عليك أن لا تتحرر من سيطرة العقل والروح. فأنا في حوار دائم مع العقل والروح، في حوار دائم مع العقائد والاختبار الشخصي. كل هذه الإشكاليات تغذّي كتبي.

* اسمح لي بأن نعود إلى بعض الإشارات التي وردت في كتاب: ليل المعنى هذه المحاورة المطوّلة التي جمعتك بجواد صيداوي (وأغبطه عليها) التي أثرتم فيها عديد القضايا المتصلة بالفكر والأدب والحياة. ومما إستوقفني قولك: سرّ الشعر وسرّ الشاعر يكمنان في الطفولة. ترى كيف طبعت طفولتك المتجاذبة بين الثقافة العربية الإسلامية وهي ثقافة المنشئ والثقافة الغربية التي هي ثقافة المستعمر الجديد، كيف عشت هذا التمزّق؟ وكيف طبع مسارك الشعري؟

طفولتي كانت سعيدة ولم أعش تمزقا، وإنما نشأت في بيئة عربية إسلامية وتشرّبت من الكتاب الفرنسي الذي كان متوفرا وبه صور تشجع على القراءة. لكن الطفولة ليست بالكتب بل بالإعجاب. تنظر إلى الأشياء في طفولتك وكأنك أول من نظر إليها وكأنها أول الأشياء التي وصلت إلى الوجود فتلك الدهشة قبالة الأشياء والجمال في لبنان الذي كان أيام طفولتي من أجمل الأمكنة في العالم هذا ماجعل مني أحسّ بالشعر، أضف إلى ذلك أن بيئتي العائلية كانت بيئة شعرية.

* الغرب هو أول من إنتبه إلى الطفولة بإعتبارها عنصرا أساسيا في تحديد منطلقات الشاعر فعادوا لدراسة الكتابات الأولى لشعرائهم؟

** أولا في تاريخ العرب لم تكن للطفل أهمية، كان عنصرا من مكونات العائلة ولم تكن له أهمية شخصية، كان مشروعا مؤجلا. لكن اليوم انتبهنا إلى أهمية الطفل والطفولة. لكن ما أريد قوله رغبة التعبير وطهارة الإختبار يؤثران إلى حد بعيد في تكوين الطفل وفي تكوين مخياله وفي تهيئته لكي يصبح شاعرا، وكثير من الشعراء الأوروبيين ومنهم بصفة خاصة الشاعر الكبير جيرار دي نارفال أكد على أن سرّ الشعرية تكمن في الطفولة وأنا إختباري ينص على ذلك.

* لكنك غادرت كتابة الشعر عندما تحولت إلى فرنسا واشتغلت بالنثر أساسا، لماذا هذا الابتعاد؟ هل هو اختيار لتحسس المشهد الثقافي الجديد؟

** شايف إنت الفراشة، لها فترة من تكوينها تبقى دودة ثم يرقة ثم تتحول إلى فراشة. فأظن تكوين الإنسان إجمالا وبصفة خاصة الإنسان الدقيق الإحساس الذي هو الشاعر هو كتلك الفراشة التي نتكلم عنها. ففي فترة من حياتي ابتعدت تماما عن الشعر. قرأت كثيرا من الشعر في حياتي: شعر فرنسي وأروبي ثم في فترة لاحقة واليوم بصفة خاصة الشعر العربي القديم. كما أنني قرأت الشعر العربي الحديث وكنت أحد الذين اكتشفوا أدونيس، بل كنت أوّل من كتب عنه ولم يكن معروفا قبل ذلك.

* وكتاب حملة النار خصصته للشعر العربي الحديث؟

** نعم، إنما اليوم رغبتي بالشعر العربي القديم أراها غريبة بعض الشيء، وهي بمثابة عودة إلى الجذور التي أصبحت أهم شيء في ارتباطي بالشعر. وأعتبر أن الشعراء القدماء في عالمنا كشعراء المعلقات وغيرهم من أهم الشعراء العالميين والعالم العربي عالم شعري، ومع الأسف لأن النظرة إلى الشعر من شأنها أن تبعدنا عن المطلوب العلمي للوصول إلى المستقبل الذي يرتبط بالعلم إلى حد بعيد.

* لذلك لك اهتمام خاص بشعر المتنبي؟

** المتنبي من أكبر شعراء الإنسانية، لكن اليوم أصبح عندي شيء من الرغبة في قراءة شعر أبي نواس وترجمته، فهو من اكبر الشعراء وله قصائد بموسيقاها وبمواضيعها وبنغمها قريبة بشكل كبير من حداثتنا لا العربية فقط بل الإنسانية.

* لديك موقف أريد أن أتبيّنه أكثر مادمت معنا اليوم، أنت تعتبر أن الشعر في مرتبة متقدمة عن الأدب، أو أن آلة الشعر تشتغل عندما تتوقف آلة الأدب عاجزة عن مواصلة الحركة، هل مازلت على هذا الرأي؟

** الأدب إجمالا هو مرتبط بالقصة إلى حدّ بعيد، وهناك أيضا أدب فلسفي وفكري مرتبط بالتحليل النفساني أو الوجودي. وإذا نظرنا إلى عالم القصة أو إلى عالم الفكر نرى بأن هذين العالمين يسعيان للوصول إلى التعبير عن شفافية الأشياء أو عن وضوحها، بينما الشعر يسعى إلى التعبير عن غموض الأشياء في شفافيتها. يعني توجه الشعر وتوجه النثر لم يكونا متلاقيان إلى حدّ ما. نعم يلتقيان لذلك نجد الشعر النثري وهناك نثر شعري. أنا مثلا كتبت رواية عنوانها: قراءة امرأة بين الشعر والنثر هذا معقول. إنما إجمالا من الممكن القول بأن النثر يسعى إلى توضيح الأمور والشعر إلى التعبير عن غموض الأشياء وغموض الوجود وغموض الإنسان داخل هذا الوجود الغامض. فاستعمال الكلام بالشعر غير استعماله بالنثر.

* هنا يصدق قول جواد صيداوي في كتاب ليل المعنى: أنت شاعر خلاق قاس على نفسك وقاس على قارئك بتجنب المعنى القريب. تركب الصعاب دائما هل هذا لطبيعة فيك؟

** لا طبعا هذه أشياء تطورت فيّ، إنما منذ الصغر شعرت بالأسرار التي أتى بعد ذلك شعري لكي يوضحها. وأظن بأن الشعر إن كان له من غموض ساطع يتوفر على شفافية ونور لأن الحياة كما قلنا مليئة بأشياء غامضة وعلى الشعر أن يصبح لغة الحياة، اللغة المعبرة عن الحياة بأسرارها بغموضها بصدق العلاقة بين اللغة والحياة.

* وأنت تقول لا معنى لهويتي الشعرية إلاّ بسعيها عبر الممر الضيّق للحياة للوصول إلى فسحة المعنى؟

** هذا شيء قلته وأقوله اليوم.

* أنت تكره التصنيفات، مثلا تعتبر الشعر القديم صالحا لكل الأزمنة، هل معنى هذا أننا عندما نتعاطى مع الشعر لابد أن نلغي عنصر الزمن؟

** الشعر إن كان موجودا في أي لغة وفي أي زمان، وكتبت عن ذلك أيضا، فعند تحديد معنى الشعر استعملت عبارة استعملت من قبل الفلاسفة العرب القدماء: الفلسفة جوهر الوجود. أظن أن جوهر الوجود اليوم ليس الفلسفة وإنما هو الشعر.

* وكيف تنظر إلى شعر القضية وشعراء القضية اليوم، هل تتفق معهم؟

** إذا كان شاعرا وأخذ بقضية سياسية يأخذ القضية ويجعل منها لا قضية فقط بل قضية شعرية، هذا ما فعله عزيزي محمود درويش أو سميح القاسم أو فدوى طوقان (الله يرحمها) في علاقتهم بالقضية الفلسطينية. يصبح موضوع الشعر موضوع هذه الثورة الداخلية التي تؤدي إلى الشعر موضوع هذا الكلام المتألق في مخيّلة الشاعر ينير قضيته.

* معنى هذا أن يكون الإلتزام وسيلة الشعر لا الشعر وسيلة للتعبير على الإلتزام أو الدفاع عن القضية؟

** لا، الإلتزام هو شيء مرتبط بتواجد الإنسان في وضع ما يرفضه إنما الشعر طريقة في التعبير وفي معالجة القضية. فإن كانت القضية غرامية أو جدلية مع الإله أو مع العالم أو قضية سياسية، فالشاعر يستعمل كل القضايا كالنار التي تستعمل كل ما تصل إليه. فالشاعر يستعمل كل ما يأتي بقربه ويدخل أعماقه لكي يجعل منه هذه النار التي تكلمنا عنها.

* والمبنى سابق للمعنى، اللغة في المقام الأوّل؟

** اللغة مؤسسة للإنسان، نحن اليوم نعتبر مع علماء اللغة بأن الإنسان خلق اللغة واللغة خلقت الإنسان، هناك إذا حوار بين الإنسان واللغة، لذلك ترى أيضا أن اللغة تتطور بتطور الإنسان وبتطور اللغة يتطور الإنسان. فأنا أعتبر بأن إشكالية المعنى والمبنى هي أيضا غير صحيحة. المعنى يبني المبنى والمبنى يسمح للمعنى أن يتضح. يعني الشاعر الخلاق أو الكاتب الخلاق يخلق لغته بإرتباط مع ما يريد أن يعبر عنه، وهنا جسر بين المبنى والمعنى.

* وكيف يختار صلاح استيتية المواضيع التي يكتب فيها شعره اليوم؟

** في بعض الأوقات يأتي موضوع عن طريق طلب وإن كان لطلب خارجي مرتبط بأشياء تهمني أنا أجيب على ذلك بكتابة نص شعري أو نثري. إنما إجمالا المواضيع تفرض نفسها عليّ شعرا، يعني يأتي إختلاج إثر حادث ما خارجي أو داخلي وهذا الإختلاج يؤدي إلى تعاطف مع لغتي يؤدي إلى النص الشعري. ربما الناثر مخير لكن الشاعر مسيّر بكثير من مراحل شعره.

* هل تشترط ظرفا خاصا للكتابة؟

** لكل كاتب طقوسه، أنا مثلا أحب أن يكون حولي صمت كبير، وراحة زمنية أي أريد أن يكون عندي وقت كاف للكتابة، وأريد أن تكون قططي حولي وأريد موسيقى.

* أي موسيقى؟

** إجمالا كلاسيكية فرنسية ألمانية أو موسيقى صوفية. فأنا أميل كثيرا إلى التعابير الصوفية حتى بشعري وقراءاتي في جانب منها صوفية. أحب القرآن وأحب قراءته والإستماع إلى قراءته. ففي القرآن لغة وإمكانيات شعرية ليس لها من مثيل في اللغة. وفي كثير من المرّات أعلق على نص عربي أعجبني فأقول: هو فوق اللغة ودون القرآن. لكن في نفس الوقت أحب كثيرا قراءة جلال الدين الرومي وابن عربي الذي أثر فيّ كثيرا لأنه شاعر ومفكر كبير. وأحب عمر ابن الفارض وقد ترجمت الخمرية إلى اللغة الفرنسية وهي أشهر قصائده. هذا فيما يتعلق بالعالم العربي الإسلامي وغيرهم طبعا. أمّا في العالم الأوروبي اقرأ باسكال والفلسفة المرتبطة بالمخيلة الروحية كشوبنهاور وكركي غارد ونيتشه.

 

(نقلا عن إيلاف)