التحية وليست أي تحية وداع لراحل ولكن إلى لقاء. تحية هي بنت صداقة عمر خلفت في النفس الكثير، صداقة بدأت وكان الشاعر المغربي لايزال طالبا، إذ ناداه الأستاذ ليفتح أمامه آفاقا من المعرفة امتدت بامتداد العمر وشغف البحث المستمر عن الجديد والأصيل، لذلك فهي تحية وإضاءة.

التّحية لعَبْدالكبير الخَطيبي

محمد بنيس

فقدت الثقافة العربية عبد الكبير الخطيبي، أحد أكبر أعلام حداثتها في القرن العشرين. في منتصف هذا الشهر آذار (مارس)، غادرنا. علمت بذلك وأنا في نيويورك. ألمي كان شديدا فيما الخبر كان مفاجئاً وصادماً. كنت زرته قبل سفري وهو في المستشفى. تحدثنا قبل أن تدخل طبيبته وتطمئنه. كان يقلل من شأن الإصابة بالقلب، رغم التعب البادي على وجهه وتثاقل رنة كلماته. أخبرته بأني مسافر، وبأني سأزوره فور عودتي. لكنه غادرنا قبل أن أعود من السفر.

عبد الكبير الخطيبي من الكتاب الذين عاشوا حياة عريضة في الكتابة والإبداع والبحث. على عادة الكبار كان، في مرحلة طويلة من حياته. وها هي الأيام الأولى من الوفاة تفتح لي دروباً لم أكن أنتبه إليها. ارتبطت حياة تكوينه بثقافة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبالعهد الاستعماري في المغرب، أو السنوات الأخيرة من الاستعمار. فيها كانت للمقاومة كلمتها. وفيها أيضا كان التحرر من الاستعمار عنوان زمن بلدان العالم الثالث. وفيها كان المثقفون لصيقين بالماركسية. كل ذلك كان له أثره في تكوين عبد الكبير الخطيبي وفي توجيه كتاباته.

غريباً كان التعارف الشخصي بيننا. في 1970 كان بعث أحد أصدقائه إلى فاس يبحث عني. وفي الشارع المحاذي لمكتبه في إدارة البحث العلمي بالرباط، وتحت أشجار الجكرندا، قطعنا وقتا طويلا في حوار عن فلسطين والشعر والثقافة. تلك كانت بداية علاقة استمرت على نحو مباشر لسنوات طويلة. وبذلك كان أستاذي الكبير. تعلمت منه دروس التكوين الجديد في حياتي الشعرية والثقافية. كان المشرف على رسالتي عن "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب". وباقتراح منه ـ وتعاون معه ـ عملت على ترجمة كتابه (الاسم العربي الجريح). وعلى مقربة منه أعدت اكتشاف جمالية الخط المغربي، كما تعرفت على معنى السؤال المعرفي. ولم يكن ذلك كله منفصلا عن الشعر، في أي لحظة من صداقتنا.

أعده أحد أعلام الثقافة العربية في القرن العشرين لأنه كان أول عربي يعنى بالجسد وبالدليل وثقافة الدليل، التي كان بها يعرّف الثقافة العربية. ما أكثر ما ننسى هذه الفتوحات، ونحن نستسلم للإعلامي في حياتنا الثقافية. (الاسم العربي الجريح) أو (فن الخط العربي) أو (النقد المزدوج) أو (كتاب الدم) نماذج أولى دالة على إنجازه المتفرد. وهي كلها تعود إلى مسألة التحرر، التي تلازم فيها تكوينه الثقافي بانتمائه لفكرة التحرر. ما زلت أذكر كيف أن دور النشر الفرنسية امتنعت عن إعادة نشر كتابه (الحمى الصفراء) في نقد الصهيونية، وكيف أن مؤتمرا عن اللغة والثقافة في باريس امتنع عن طبع وتوزيع محاضرة له، ينتقد فيها التوجه الاستعماري لفرنسا، في تناول موضوع اللغة الفرنسية. فهو كان نقديا تجاه ما يعوق التحرر في العالم العربي، بقدر ما كان نقديا تجاه ما يعوق التحرر في الغرب. إنه (النقد المزدوج)، الذي أبدع فيه الخطيبي، على غرار إبداعه في حقول استكشفها، وفي مقدمتها ثقافة الجسد العربي.

في البدء، كان الخطيبي اختار التخصص في علم الاجتماع. تخصص يشير إلى رغبته الصريحة في ممارسة قراءة نقدية للمجتمع وبنياته التقليدية. علم اجتماع نقدي. ومنذ كتاباته الأولى عن الأدب ـ كتابه عن (الرواية المغربية) ـ أو عن المغرب، كان تركيزه على البعد الاجتماعي في القراءة واضحاً. كذلك كانت روايته الأولى (الذاكرة الموشومة) مكتوبة في شكل سيرة ذاتية. رواية يعيد من خلالها الاقتراب من حياة شخصية داخل مجتمع يسعى إلى التخلص من العبء الاستعماري، ويخط أبجدية الحلم بالاستقلال، ويعاني من الخيبات التي واجهت هذا الحلم الجماعي في السنوات الأولى من الاستقلال.

لكن الخطيبي سرعان ما انخرط في أكبر حركات التحديث في فرنسا وفي الغرب عموماً. وكان من أقرب المثقفين إلى كل من رولان بارط وجاك دريدا، على الخصوص. ثقافة أصبحت من سمات أعماله اللاحقة. وسيكون من الصعب علي تلخيص مدى التأثيرات التي تركتها هذه الأعمال في الثقافة المغربية، ثم في الثقافة العربية. تيار فكري وإبداعي بأكمله ولد على يد الخطيبي في هذه الثقافة دون أن يكون هناك ما يحتفل بها على الدوام. ويكفي أن أشير هنا إلى عنايته بالثقافة الشعبية، على نحو جديد، ينطلق من الجسد الحي، ومن نقد ثقافة السلطة، التي تمجد الجسد المفهومي، أو بفكرة الاختلاف والتعدد، الذي كان أول من وضع أسسها الفكرية في الثقافة العربية، في زمن أزمة الوحدة. أو بثقافة الدليل، التي يمثلها الخط. حقول لم يكن أحد من قبل انتبه إليها أو لم تكن خضعت من قبل لمثل الرؤية التي جاءت بها في كتاباته. لكنه، إضافة إلى ذلك، كان شديد الاهتمام بالثقافة اليابانية، وبثقافة أمريكا اللاتينية، وصاحب معرفة واسعة بالتصوف العربي ـ الإسلامي.

كنت دائما أتعلم منه، من كتبه أو من حواراتي معه. فهو كان موسوعة ثقافية حقيقة، تعتمد الأصول. كان كل مرة يدهشني بالقدرة على تناول موضوع ضيق جدا من زوايا لا تتوقف عن الاتساع. أو كان في تناوله لبعض الكتب الأوروبية أو العربية يثير ما لم أتعود عليه. كنت أرى بدقة كيف أن تكوين الخطيبي في باريس كان أعمق بما لا يقاس من تكوين المغاربة الذين تابعوا دراستهم في مصر أو سورية. باريس، في زمن الخطيبي، كانت مركز الثقافة العالمية. والمفكرون والكتاب الذين لازمهم أصبحوا من المرجعيات الفكرية والأدبية في العالم. وكانت علاقة أصدقائه الفرنسيين به مطبوعة بالتقدير. ما كتبه عنه رولان بارط، أو الطريقة التي كان يتكلم بها عنه جاك دريدا، مثالان على مكانته في نفوس عديد من الكتاب والأدباء والفنانين الذين عرفني عليهم، أو وقفت على حبهم له ولكتاباته.

أتأمله وهو ينظر بعينين زائغتين. ينظر إلى حيث لا أدري. يكلمني كما لو كان يكلم نفسه. ينتقي كلماته، ويبطئ في تركيب العبارة تلو العبارة. وأنا في كل ما كنت أتعلم أزداد خجلا مما لا أعلم، وأزداد احتراماً لإنسان نادى علي، وأنا لا أزال طالبا في الجامعة. في المستشفى عانقته. وباختصار قلنا لبعضنا: سنلتقي.