يواصل محرر (الكلمة) قراءته التي بدأها في العدد الماضي لأحد الروايات المهمة التي صدرت مؤخرا، وهي قراءة يسعى فيها إلى جانب تحليل هذا النص المثير للاهتمام والتفكير، إلى التنظير للرواية المصرية الجديدة واستكشاف منطلقات نقدية مغايرة لقراءتها تستلهم أدواتها من إسهامات جرامشي ووالتر بنيامين وجيل ديلوز.

ترسبات عالم آيل للسقوط

قراءة تفكيكية في رواية «صخرة هليوبوليس»

صبري حافظ

 

8. أشراش تضرب في الزمن السرمدي
إذا ما انتقلنا إلى الكتاب الثالث، والذي يخبرنا مفتتحه المركّز القصير «سوف يبلغه صوت على التليفون، في منتصف ليلة من الليالي، أن آخر من كان يربطه بأرض الأم قد أسلم روحه إلى بارئها، فأدرك أنه انكشف». وتوشك الكلمة الأخيرة في هذا المفتتح الذي أوردته كاملا أن تكون كلمة مفتاحية: انكشف. لأن موت الخال محمد، الذي تمثل ذكرياته معه وعنه ما يربطه من أواصر أصلية بأرض الأم «ميت الشيوخ»، يعني قطع الجذور،rhizome أو بالتعبير الديلوزي الأشراس[i] التي تربطه بالقرية. فمهما كانت علاقة المصري بالمدينة تظل القرية هي السند والظهر وعنوان الصلة العضوية بالأرض/ الوطن، وهي التربة التي تمتد فيها الأشراش التي يستمد منها نسغ الصلة بالأرض والتراب، حيث تمتد أشراس المصري فيها لآلاف السنين. فالوجود في المدينة لايزال برغم امتداد الظاهرة الحضرية لمئات السنين، وجود عرضي، سيعود بعده من ارتحل إلى قريته، حتى يدفن في ترابها في نهاية المطاف. بينما الوجود الحقيقي الذي تمتد أشراسه في أرض مصر الخصبة، هو ذلك الذي يعود بنا للقرية. [ii]

ولذلك كان طبيعيا أن يكون القسم الوحيد الذي ينطوي عليه هذا الكتاب «الراجحي وزهور سورة الرحمن» من أكثر اقسام الرواية عذوبة، لأنه يشكل العودة إلى الجذور وإلى الزمن السرمدي messianic time الهادئ الرخي الذي لا يتغير، والذي يشي فيه الماضي بالمستقبل ويتحققان معا في الحاضر في نوع من الأبدية الهادئة. وهو بالقطع غير الزمن الفارغ المتجانس homogeneous empty time المتعاقب «الكرونومتري» الجالب لعوادي التردي والتغيير.[iii] وهو الزمن الذي ستطل علينا أجنته عندما يروي «الراجحي» قصة «البت تهادي» بعد قليل، والتي تبدو كمنغص يقطع عليه خلوته المسترخية والاستمتاع بالقرآن.

أقول أن هذا القسم من أكثر أقسام الرواية عذوبة، لأنه القسم الوحيد في الرواية الذي يردنا إلى ذلك الزمن السرمدي؛ دون أن تسقطه تلك العذوبة الشعرية في وهاد الحنين والنوستالجيا. وإنما تبقيه متوهجا، بقاء توهج القرية القديمة حيا في اللاوعي أو المخيال الجمعي. وهو القسم الذي نعرف فيه لأول مرة اسم الأم/ الرحم/ الشرش «شكرية»، برغم ظهورها من قبل في اقسام أخرى من الرواية دون أن نعرف اسمها. وتظهر معه بقية الأشراس الفاعلة في هذا المخيال، من قراءة القرآن الكريم، والتعود على ختمه كاملا أثناء شهر رمضان في بيوتات وجهاء القرية. وكيف أن الخال محمد وهو قارئ القرآن في القرية والمسحراتي فيها، له صوت عذب يقلد فيه قراءة الشيخ الشهير «مصطفي أسماعيل». وأن قراءته للقرآن في بيت «الراجحي صاحب بقالة التموين الوحيدة في ميت الشيوخ»(81) تجود «عليه بزجاجات من الزيت وأكياس من السكر تكفي لمدة طويلة، فضلا عن أجر التصحية التي يجزل فيها الراجحي له العطاء نقدا، في حين أنه يأخذ الأجر من معظم الناس أرزا، شعيرا، أو ذكر بط أو قُرصا باللبن».(82) فنحن لازلنا في زمن المقايضة السرمدي، وقد بدأت النقود بالكاد تدخله وعلى استحياء.

وتبلغ عذوبة هذا القسم ذروتها حينما تدخل الموسيقى إلى المشهد، وهي هنا موسيقى الثقافة العربية البدئية التي يشب عليها أهلها ويشيبون: موسيقى القرآن، وأنغامه الرخية التي تتردد فيها نغمة القرار الموسيقية الخالدة، لواحدة من أكثر السور شعرية «سورة الرحمن» ونغمة القرار المتكررة فيها: «فبأي آلاء ربكما تكذبان». لقد ردني هذا المشهد شخصيا إلى أيام طفولتي في القرية، وانتظاري بشغف لقارئ كان يجيء لبيتنا كل حين، ويقرأ «سورة الرحمن» دائما، حتى أصبح إيقاع نغمة القرار فيها أحد أعمق الإيقاعات في نفسي حتى اليوم. لذلك أدرك سر تصويره لما تتركه تلاوة هذه السورة في فضاء تعمره الصور، وفيوض التخيلات، ووجه الراجحي «مستسلم بسلام للنوم، بينما تغمره التلاوة بأزهار تتدلى من السقف». (86) هذه إذن هي أشراس الموسيقى البدئية/ الأولية التي تترسب فينا صورا وزهورا تتسامى بالروح.

ومع وفود تلك الموسيقى البدئية للمشهد، تأتي موسيقى أخرى لا تقل عنها تغلغلا في أعماق الذات المصرية، وهي موسيقى الطبلة: طبلة المسحراتي. فإلى جانب قراءة القرآن بعد صلاة التراويح – التي صحب الخال ابن اخته معه فيها – هناك من تلك الأشراس السرمدية عملية التسحير، وما كان يحيط بالسحور – في زمن القرية السرمدي القديم الذي يخيم فيه الظلام بعد العشاء، ولم تكن الكهرباء قد دخلته بعد – من طقوس. فمن سمات الزمن السرمدي، الذي يتجسد فيه الماضي في الحاضر ويشي كلاهما بالمستقبل، أن تبقى المهنة/ أو الدور الاجتماعي/ في الأسرة يتوارثها الإبن عن أبيه. فها هو خاله محمد الذي ورث المهنة عن أبيه، يمررها إلى ابنه شوقي الذي «يأخذ البازة بتاعة جدي ويقوم بتسحير جزء من البلد والعزبة»(82). ويحكي الخال له تلك الحكاية الساخرة التي تضيف لسحر طقس السحور من ناحية، وتبلور شعور المسحراتي بالمسؤولية عن إيقاظ أهل القرية من ناحية أخرى، دون أن تخلو من النزعة التهكمية التي تبقيها في الذاكرة. وهو يخبره عن تلك السنة التي جاء فيها رمضان في عزّ الشتاء حيث «كان الليل طويلا والمطر لا يكف عن السقوط ... بدا له يومها أن الناس لن تستيقظ، وأنه سيحمل وزرهم في رقبته فراح يجري بين الأزقة قارعا الطبلة والأبواب والنوافذ بشدة. لقد أغرقه المطر تماما حتى إن ملابسه الداخلية ابتلت بدورها. كان قلقا على ابنه شوقي في هذا الجو ... إلى أن فوجيء وهو يقرع الطبلة بابنه شوقي واقفا أمام أحد الأبواب، ممسكا بالطبلة، ويقطر منه المطر. قال: إيه دا يابا؟ بتطبّل في المطبّل!» (83)

وإذا كنا قد تعرفنا في هذا القسم على الأشراس التي تضرب بجذورها في الزمن السرمدي، فإنه لا يفوته أن يقدم لنا زحف الزمن المتجانس الفارغ عليه. فقد أخبر الخال ابن اخته - الذي يستمتع هو الآخر بجلسة الخال لدي الراجحي، وقد «أومأ الراجحي لابنه أن يمرر إليّ الجوزة بالحجر الثاني قبل أن يُمس»،(84) وتدخين «الجوزة» على أنغام تلاوة «سورة الرحمن» – أن الراجحي هو الوحيد الذي يدفع له أجر التسحير نقدا، بينما يلتزم بقية أهل القرية بالمقايضة بما لديهم. ودخول النقود إلى التعامل جاء مع النقلة الجذرية من الزمن السرمدي إلى الزمن المتجانس الفارغ المحسوب وفق الساعة والتاريخ، والمعدود أيضا بالنقود، حسب التعبير الأميركي الشائع «time is money».

ويفد هذا الزمن الجديد في حديث الراجحي عن «البت تهادي» وزعيقيها، وغضبها من أمها، لأن «الولية راسها وألف سيف لتبيع الكردان الدهب وتديه لابن عبدالصمد علشان يجيب عقد عمل في الكويت». (84) فها هو الزمن الجديد/ الرديء، زمن الخروج الى المنافي النفطية، ينقض على كنوز الزمن القديم، فتضطر «الولية» لبيع الكردان الدهب: كنز كل امرأة عقب زواجها، كي توفر لابنها أو حفيدها لا ندري ثمن فرصة السفر للعمل في البلدان النفطية. لكن هذا القسم الوحيد يأبى إلا أن ينتهي وقد ردنا مرة أخرى إلى ألق الزمن السرمدي، وإلى صوت الراوي السادر فيه: «كان صوت خالي المنخرط في التلاوة يسير على سقف الغرفة يزينها بعناقيد نباتية يانعة. هل سار معنا الراجحي إلى الباب مودعا، أم أن عليا أوصلنا إلى أول الزقاق؟ هل عدت يومها إلى دمياط؟ أم بت عند خالي على سرير جدي؟ هل كان خالي يحثني على السير بسرعة حتى يتمكن من النوم ولو لساعة حتى يستيقظ وشوقي للتصحية؟ هل وقفنا على كوبري البلد ليوقف لي عربة أجرة ويصر أن يعطي الأجرة للسائق؟» (85)

وهي أسئلة لا تريق الشك على ألق الذاكرة المستدعى برغم ما قد يبدو للقراءة العابرة. فهناك استراتيجيات التنصل التي يستخدمها النص في أكثر من موقع، والتي سنعود إليها عند الحديث عن التبئير في الرواية. ولكن ما نواجهه هنا ليس الاستفهام التنصلي الذي يريق الشك على ما استُدعي من الذاكرة، وهي بطبعها خؤون. وليس الاستفهام الاستنكاري الذي يغلف موضوعه بنزعة تهكمية، تدعو القارئ للتفكير فيه. ولكننا بإزاء غابة من الاستفهامات الرامية إلى ترسيخ الذكرى، وتأكيد تكرارها لعدد من المرات في الزمن السرمدي على مر سنوات، كانت تجري في كل منها واحدة من احتمالات المبيت في سرير الجد، أو المغادرة بأي من السبل الكثيرة التي ذكرها، لهذا العالم السحري الذي تتوغل أشراسه في اللاوعي.

أما الكتاب الرابع فإنه يعود بنا إلى بعض أمشاج هذا الزمن السرمدي القديم عندما يفرد مفتتحه لمقتطف طويل من كتاب نقولا يوسف (تاريخ دمياط منذ أقدم العصور) 1959. إذ يرتد بنا إلى شيء من تاريخ اليهود في دمياط، حينما كانت وكالات الزمن القديم وخاناته تسع الجميع، مهما اختلفت أصولهم أو أعراقهم أو حتى دياناتهم. وهي صفحة مطوية على دمل خبيث لايزال ينز سمومه في الواقع المصري تعود بنا لليهود وكيف بدأوا في الانقراض من المشهد. وتواريخ احتكارهم لاكتراء الجمارك من الحكّام، قبل العصر المملوكي، حتى وفد حنا فخر الدمياطي السوري الأصل وانتزع هذا الاحتكار منهم. وإلى ما كان لهم في دمياط من حضور ومعابد. وكيف تجمع عدد منهم مع مهاجرين آخرين – كاليونانية التي كانت تحنط الطيور – في وكالة الصابون التي يرتد بنا الحديث عنها إلى طوبوغرافيا الزمن السرمدي البعيد.

وفي عام 1915 شب حريق في أحد بيوت الوكالة، وكانت خلفه قاعة خالية خربة، «وانهار جدار القاعة، وكشف الحريق عن منظر عجيب؛ فقد كانت تلك الجدر المكسوة بالملاط الأبيض تحجب وراءها رفوفا من الخشب، صفّت عليها مكتبة من المجلدات الضخمة المطبوعة والمكتوبة بالحروف العبرية، لغة بني إسرائيل. ورفوفا أخرى جمعت أشياء كثيرة مختلفة كالبخور والشموع والأحجبة. وتخاطف الناس محتويات القاعة كلها. ولم تكن غير معبد أو كنيس يهودي. ويبدو أنهم عمدوا إلى إخفاء كتبهم ومحتويات معبدهم وراء تلك الجدران بسبب هجرة سريعة اقتضتها أحد الظروف السياسية.» (88)

9. عوادي الزمن الفارغ وأوهامه وتشوهاته:
ويضم الكتاب بعد هذا المفتتح التاريخي قسمين: أولهما «بيت واحد بمدخلين» يكشف لنا بحق عن عوادي الزمن الفارغ الرديء. زمن العولمة و«ظهور الكائنات الحديدية الضخمة المسماة "كونتينرات" داخلة وخارجة من وإلى الميناء».(90) وهو الزمن الذي «انتشرت فيه موضة الموت السريع، والحب السريع، والجنس السريع، والاستهلاك الجارف غير المسبوق. وانفجرت فيه مياه المجاري داخل مياه نهر النيل الذي يتقوس داخل المدينة على شكل هلال، ثم يواصل رحلته نحو المصب.» (90) وكيف أخذت كوابيسه تقتحم عالم الراوي في قلب بيت طفولته، وكيف أخذ إخوته يتفننون في طرده منه. مع أنه قد ألف تدهوره، وتعايش معه «رغم الشقوق العديدة بالسقف التي لا تكف عن إسقاط مياه المطر فوقي وأنا نائم. ورغم شبكة الانفاق تحت البلاط والتي استعمرتها جحافل الفئران». (89) لكن الإخوة جميعا «راضي» و«سعيد» والشقيقة الكبرى التي «ضغط عليها زوجها صبري لترفع قضية»، وفريدة التي كانت تابعة لزوجها، التابع بدوره لسعيد؛ كانوا راغبين في هدم البيت. لم يشذ عنهم سوى «زين» المشغول بنزواته وروحه الغجرية التي ارضعته إياها «سعدية الغجرية».

هكذا وبوهم احتمالات الثراء السريع، بعد زمن الانفتاح، وانقلاب سلم القيم الأخلاقية منها والاجتماعية، يرغب الجميع في هدم البيت بعد الارتفاع الجنوني لثمن الأراضي في المنطقة. وكان الراوي «الشريك النائم الذي يحتاج البيت للنوم، حتى ولو كان مع الفئران»(90) بينما كانوا جميعا قد سارت بهم دروب الحياة بعيدا عنه. لذلك «نجح سعيد في شحن الجميع ضدي، مصورا إيّاي كغاصب لحقوقهم، والواقف ضد ثرائهم المحتمل. كان غضبهم يتصاعد ضدي على أهون سبب، مهددا بالوصول إلى حد الفتك بي. لقد أُلقيت ملابسي وكتبي وأواني الطعام في الشارع مرارا، وكان الجيران من أصحاب الدكاكين يتدخلون للملمتها وإعادتي مؤقتا إلى حين البحث عن حل.» (90)

وها هو يُضطر للبحث عن حل، في هذا الزمن الذي لم يعد فيه للإخوة أي حرمة، وأخذت النقود تفتكك بأبسط القيم والمعايير الإنسانية. زمن يشعر فيه الراوي/ البطل أنه مطارد داخل بيت طفولته، أكثر الفضاءات حميمية بالنسبة لأي إنسان. فأي انقلاب هذا الذي يعيشه؟ بل يجبره على أن يبلغ «سيد السمسار» بأنه الزبون الذي يبحث عنه للشقة التي لديه. وينطلق معه في الشوارع الموحلة التي تميز أشهر الشتاء – لرؤية تلك الشقة التي لا تقل رحلة الوصول إليها، وما تتكشف عنها من آيات الغياب الكامل للدولة والقانون التي تميز بها العصر – غرابة عن إلقاء الإخوة لملابسه وكتبه في الشارع. فإسماعيل مالك العقار – وليس صاحب البيت، فهذا «مجرد جزء من أملاك عديدة متناثرة ما بين دمياط والقاهرة والإسكندرية، بخلاف الأراضي الزراعية»(91) – نموذج لنفس المرحلة لا يقل غرابة عن عقاره. لذلك كان طبيعيا أن يجده السمسار في شارع الشرباصي المزدحم بالمارة والدكاكين، بينما آثر الراوي الانتظار أمام الواجهة المطلة على جامع «المعيني» الأثري، وإن «كان باب الجامع المهيب قد تكوم أسفله الكثير من القمامة». (91) فنحن في زمن القبح وتكدس القمامة في كل مكان.

وبعد رحلة تشي كل خطوة فيها بشيء من علامات الزمن الرديء، من تصاعد رائحة البول من الممر المفضي لباب العقار، إلى تساقط قطع من السقف، وظهور حديد التسليح، واقتراح السمسار بإعادة صبّ السقف «على نفقتنا، على أن يحتسب ذلك من المقدم» (93) وامتداد حبل غسيل بين الشقة المجاورة وباب الشقة المبتغاة، وصولا إلى إعلان ساكن الشقة المواجهة «بحزم: الباب مش هينفتح! وأشار بإصبعه متآكل الأظافر إلى أسفل الباب. لقد كان الباب مسدودا بجدار أسمنتي قصير تم تعشيقه مع خشب الباب ذاته». (94) ويعترف ساكن الشقة المواجهة، إزاء استغراب مالك العقار مما فعل، بأنه اضطر إلى بناء هذا الجدار لما يأتيه من هذه الشقة: «فئران، ثعابين، أنواع من الأبراص والسحالي والعقارب والعناكب». (94) فنحن في زمن غاب عنه كل من العرف والقانون، وأخذ كل فرد يحل مشاكله بنفسه، دون أن يدرك ما قد يسببه ذلك للآخرين. فلم يعد لتلك الشقة المبتغاة من مدخل غير الدخول إليها «من حجرة الفئران تحت السلم».(94) وهكذا يحشر التسريد الراوي بين عداء أخوته له ورغبتهم في طرده من بيت طفولته، وبين تحولات واقع لا يطرح عليه سوى تلك الشقة المعمورة بالفئران والثعابين والعقارب والعناكب، والتي عليه الدخول إليها من حجرة الفئران تحت السلم.

وما أن ننتقل إلى القسم الثاني من هذا الكتاب «طارق بدوي» حتى نعرف أن هذا الزمن بلغ بحياة الراوي/ البطل – حتى بعدما تجاوز كل تلك الصعاب، ونجح في أن تكون له شقة وزوجة كبقية إخوته – ذروة أخرى من الغرابة «رجعت إلى البيت في ليلة شديدة البرودة لأجده خاليا من كل شيء، فيما عدا مشبكين على حبال الغسيل، نسيتهما ولاشك زوجتي السابقة. فكرت في كتابة تقرير عن شيء ما بعيدا عن حياتي الشخصية. تقرير يمكن نشره، ربما يفتح لي طريقا نحو حياة جديدة». (95) لكنه مشدود إلى حياته القديمة بأمراس من حديد، لا يستطيع الهرب منها. لذلك فإن ما يشف لنا من وراء بحثه الطويل عن سر علاقة دمياط بخشب الزان الروماني، هو أنه لايزال يتعثر في ميراث دمياط الثقيل، وهو يقيم بعد الطلاق بشقة مفروشة في الطابق الثالث في «عشة» لاتزال – تسمى بعشة بعد أن تحولت العشش القديمة الجميلة إلى مباني خرسانية من عدة طوابق، وبعد أن أصبح «حس المقاولات كاملة التشطيب، المسلمة "على المفتاح" يطغى على كل شيء.»(96) وأنه لم يشف بعد من الرغبة في السفر، ولا يزال «أبحث عن ذريعة ترضاها نفسي للسفر، أنا الذي لم أركب طائرة ولا باخرة ولم أغادر أبدا».(97)

ولا أظن أنه سيعرف أبدا «من أي غابة جاء الزان الذي اشتغلت عليه وأهلي جيلا بعد جيل: نجارين، أويمجية، أسترجية، مذهباتية، بائعي كرينة وعبك وجوت». (96) ولكن المؤكد أنه وهو يقوم بهذا كله يؤلف كتابا «عن شيء ما، ربما عن دمياط-رمانيا». (99) لكن ما يؤلفه في حقيقة الأمر، هو هذا النص الذي يكتب تحولات زمن دمياط وناسها، وعن مصر كلها من ورائها.

(10) العودة لترسبات التحولات الاجتماعية:
مع الكتابين الخامس والسادس، يعود بنا النص من جديد إلى بقايا ترسبات التحولات الاجتماعية التي كُرِس لها الكتاب الثاني. حيث يرتد بنا التسريد إلى أيقونة «أم السيد الكلب» في مفتتح الكتاب الخامس، وإلى الجانب الآخر في تجربة دمياط: الجانب البحري الذي يجلب إلى النص حيوات البحر والصيد وفضاءات الجربي ورأس البر في قسمه الوحيد «بلدة صغيرة على مصب النهر». لأن تجربة الحياة في دمياط التي تعرفنا على مدى تغلغل صناعة الأثاث في حياتها، وفي طوبوغرافياها بشكل متشعب حتى التهمت الكثير من القرى المجاورة لها؛ وبوّرت الكثير من الأراضي الزراعية، لا يكتمل تسريدها الديلوزي دون تناول ما تركته عملية أخرى صائغة لطبيعة الحياة في أي منطقة ساحلية من مصر، وهي صيد الأسماك من البحر الأبيض المتوسط. وهو الأمر الذي دفعته المدينة إلى آخر فرع دمياط من النهر، حيث كانت عليه في الزمن القديم قرية لها طبيعتها الخاصة هي قرية الجربي. تعيش حياة موسمية، كحياة قرى مصر المختلفة على موسم جني القطن كل عام، ولكن الموسم هناك كان موسم صيد «السردين» السنوي والذي كانت تهل أسرابه الضخمة على المنطقة ما أن يُفتح سد «فارسكور» وتتدفق مياه النيل الغنية بالطمي إلى البحر في موسم الفيضان.

ويبلور المفتتح لنا تلك الأيقونة التي عادة ما تواجهنا في كل قرية، تختلف غرابتها باختلاف القرى، قد تكون شخصا مبروكا مرة مثل «الزين» في (عرس الزين) للطيب صالح، أو امرأة مهمومة بإطعام الكلاب الضالة عادة في القرى، مثل «أم السيد» التي لا يذكرها أهل القرية «إلا والكلاب تحوطها، تتمسح بها، تنبح دفاعا عنها، أو منادية عليها. هكذا صارت علامة راسخة من علامات زمن هذه البلدة». (101) فنحن هنا بإزاء تسريد حاذق يمد أشراس القرية في الزمن السرمدي، وعلاقتها الراسخة مع الطبيعة والحيوان، قبل أن يواجهنا بما تتعرض له من ضربات على أيدي وحوش المؤسسة التي تنهش اللحم الحيّ. لذلك يجذّر المفتتح العلاقة بين "أم السيد" والكلاب في الوجدان الشعبي، وحتى في اسم ابنها الذي أصبح الكلب كنيته: "السيد الكلب". «بعد أن أنجبت أولادها الخمسة، من الصياد الذي صار عجوزا، وقد أخذ كنيتها، وصار أولاده الخمسة هم أيضا أولاد الكلب». (101)

وسوف يقدم لنا القسم الوحيد في هذا الكتاب، شذرات أخرى ترتد بالجربي، وهي آخر القرى الواقعة على مصب النهر، والذي بُني في الغرب منه مصيف رأس البر الشهير، إلى زمن سرمدي رخيّ، كان فيه الصيادون البسطاء، و«هم أول من استوطن هذه الأرض. يشهد بذلك مقام "سيدي الجربي" الذي تحاوطه مقابر أجيال عديدة من أهل البلدة»، (106) يمارسون عملهم الصعب بصبر، ويعيشون تناقضات حياتهم اليومية، قبل أن تهل عليهم ممارسات السلطة الغاشمة.

أما القسم الوحيد في هذا الكتاب «بلدة صغيرة على مصب النهر» فإنه يقدم لنا زحف الزمن الرديء على تلك القرية الساحلية الهادئة، والتي كانت في زمن فيضانات النيل الرخي، وقبل بناء السد العالي، تعيش على نهر يمتلئ بماء البحر المالح طوال العام، حينما يُغلَق سد «فارسكور» الترابي بعد الفيضان. ويتدفق فيه ماء النيل البني العذب المشبّع بالغِريَن طوال شهر الفيضان، عند فتح السد في أغسطس، والذي يظل محتفظا بلونه البنيّ المميز لمئات الأمتار وسط مياه البحر الأبيض المتوسط الزرقاء عند اللسان، الذي تمتد للغرب منه رأس البر. لكن الأمور تغيرت بعد بناء السد العالي وبعدما أصبح سد «فارسكور» سدا دائما، لا يزاح كل عام ليردم من جديد كما كان الحال في زمن الفيضان.

وأول ما يلاحظه قارئ هذا القسم هو، أنه على عكس أغلب الأقسام من قبل، مروي بضمير الغائب، ولذلك يُفتتح باسم الراوي «يوسف» الذي أصبح مرويا عنه لأول مرة. «أراد "يوسف" أن يبقى ساكنا في جلسته على سور حديقة 77، لا يقوى على السير.» (103) وكأننا بإزاء قرين الراوي المحبط الذي طالما تشوف للسفر في العالم، و«تمنى لو كان يمتلك باسبورا أسود مثل "وفيق" ابن عمه»، وحلم بالسفر دونما قدرة على مبارحة المكان فعليا ومعنويا. لذلك كان طبيعيا أن يعود بنا هذا الفصل إلى ماضيه، وإلى زمن حرب الاستنزاف، حينما أحبته زوجة "علي" النازح من مدن القنال. تلك الزوجة الجميلة التي نبهته أمه إلى «أنها تتكلم بالعين والحاجب، وأنها مش على بعضها.» (104)

وكأنها دون أن تدري تنبهه إلى تلك الكنوز الحسية التي سرعان ما استمتع بها، بـ«كل ما لم يكن يتصور وجوده. كانت تجذبه بعذوبة متناهية، آخذة يده إلى دفء ينسرب من مسام الجسم. ينزلق نهداها من بين يديه إلى وجهه، حمامتان ممتلئتان مكتنزتان، يدفن وجهه في منحنياتها وفجواتها تنتشر الرائحة الزكية المنبعثة من الدم واللحم.» (105) بينما يعاني زوجها "علي" الذي كان عليه أن يسرح لكسب قوته مع مراكب الجرّ، ويغيب لأيام في عرض البحر. «ليس بحر الكازينوهات التي تفرش الشماسي الملونة والمقاعد والموائد العامرة على الشاطئ {في رأس البر}. بحر آخر حيث الريح والملح والموت. بحر لا قرار له، حيث غرق المراكب بما عليها ومن عليها». (105)

وكأن المخاطر التي يتعرض لها الصيادون من أجل حصاد هزيل من السمك لا تكفي، فإن عليهم أن يتعرضوا أيضا لعوادي الزمن الجديد – الذي يطرحه هذا القسم في مواجهة زمن المفتتح السرمدي – من النصب والفساد والسلطة الفاقدة للشرعية، بدءا من «حرس الحدود على نقطة التفتيش، والنصيب المعلوم من الزَفَر عند التعليم في الدفتر، وإلا الويل للمركب ومن عليها»؛(105) وصولا إلى «السلطة الطامعة في الشريط الساحلي الضيق، لتحويله إلى كورنيش وإدخاله في استثمارات عقارية وسياحية. يستغل مجلس المدينة ووحدة المباحث مثل هذه الأخطاء لكسر الإرادة، للتشنيع، لتحرير محاضر تلو أخرى ضدهم، بزعم أنهم يستولون على أراضي الدولة، على الرغم من إيمانهم أن الإدارة المحلية، والقسم كيانات مستحدثة، وافدة عليهم، وأنهم قرية صغيرة للصيادين مكونة من عدة عائلات. هم أول من استوطن هذه الأرض. يشهد بذلك مقام "سيدي الجربي"». (106)

بل إن واحة اللذات الحسية الجميلة التي يستمتع بها يوسف في لحظات مسروقة مع زوجة "على المهاجر" لا تسلم هي الأخرى من أخطار خانقة تتهددها على الدوام. حينما تبلغه بأن «حسونة» صاحب المركب الذي يعمل عليه زوجها «بيهددني إنه يقعّد علي من السروح» فهو يشتهيها، ولكنها هي من يختار من يروق لها، وقد اختارت يوسف. عندها يشعر بأنه «ما عاد يطيق الهواء، يشعر أنه هواء خانق، مشبع بالسواد.» (105) لكن هذا التهديد يبلغ ذروته، «بعد افتضاح أمر "يوسف" وزوجة علي المهاجر في الزقاق ... في الشجارات المعتادة بين النساء يقلن كل شيء دون مواربة».(107) لذلك «يخالجه الشعور أنه إزاء حافة نهائية، بعدها السقوط، مثل أول مرة وهو صبي أخذه خاله في المركب إلى البحر. فاجأتهم الريح "اللبش" ... وكان يوسف يتقيأ كلما دخل جوفه شيء ... يومها شعر أن كل شيء انتهى، وأنه على وشك الموت.» (107)

لكن لا شيء ينتهي في هذا الواقع الغريب الذي يتنامى فيه التردي والهوان، فالجميع في الهم سواء. والمراكب تتجاور في مياه البوغاز الوسخة، مع بقع السولار الأسود طافية على وجه الماء، «ورائحة منتنة ممزوجة بالملح تأتي من ناحية المخازن. يذهب الواحد في مركب الجر، يغيب أسبوعين أو يزيد عاملا على "الكَوَارتة" ... يترك أمه وإخوته على البر، زوجته الشابة "المصيّغة" بالذهب الثقيل، بقميص بيتي مقور الصدر يظهر وفرة الثديين. تضيق البلدة، تتلاصق البيوت. تنفتح النوافذ على رؤية كاملة داخل بيت الجار. الأسرار مفضوحة دائما، حتى أسرار البنات اللائي يطلعن على شارع بورسعيد في عزّ الصيف، ينتظرن أن تلتفت السيارات الملاكي لجمالهن الغض، ولألوانهن المتقنة بفضل سلع بوتيك "سعيد". كل الأشياء تهبط في النهاية إلى أسفل، ليس إلى الرصيف، حتى إلى ما هو أدنى. إلى فقدان الواقع، وتحوله إلى هذيان.» (106) تتجاور فيه الفضائح والمهازل والمحرمات بلا روادع، والتي يحرص هذا القسم على إدخالنا في فيافيها.

فقد وضع الزمن المختل الذي تخلّق بعد آليات الانفتاح التي تركت تجليات ترسباتها في واقع المدينة، والجربي، وحتى رأس البر – التي فقدت عششها المميزة القديمة حينما كانت مصيفا فعليا، يغلق مع نهاية الصيف، وأصبحت مدينة دائمة – الأثرياء في مكان يتيح لهم فعل ما يريدون بلا روادع أخلاقية أو قانونية. فها هو "محروس" وهو صاحب مركب صيد محترمة، كما يعرف كل أهل البلدة «يمارس الجنس مع زوجته وشقيقتها، وأنه أنجب من زوجته وشقيقتها، ولم يكن للطفل ذيل»؛ (106) على العكس من روادع الأسطورة. لذلك يغبط "يوسف" "وفيق" ابن عمه لأنه يعمل على وابور سياحي ولديه جواز سفر أسود، جواز البحارة، «كل شهر يرسل الدولارات يبنون له مركبا. سريعا ويصبح ريسا عليها، يربي شاربه وكرشه ويتجشأ براحته، وسط زوجة مثقلة بالذهب، وأولاد موفوري الصحة.» (108)

(11) زحف تشوهات الزمن على مدينة الموتى
ومع الانتقال إلى الكتاب الأخير، والذي لا أقسام أو فصول فيه، نصل إلى نهاية الرحلة التي بدأها الراوي/ البطل من مصر الجديدة للتأكد مما جرى لمقبرة أمه في دمياط. ويتكون على عكس بقية الكتب من مفتتح طويل نسبيا، بل هو أطول المفتتحات في الرواية، دون أي أقسام كما هو الحال في الكتب التي سبقته. وهو بطبيعة الحال مكتوب، كالقسم الذي سبقه بضمير الغائب، وإن كان من النوع الذي يضمر ضمير المتكلم. فمنذ جملته الافتتاحية «وصل في الثامنة صباحا إلى المدينة، عبر طريق شطا/ ميدان الشهابية. تكاثرت المعارض والمخازن والعمارات على جانبي الطريق. كأنه كان يسير داخل ديكور ثقيل من مواد قابلة للتفكيك وإعادة التركيب.» (109) ندرك أنه ضمير الغائب الذي يضمر ضمير المتكلم. لأننا نرى المشهد من وجهة نظر الراوي مثقلا بمشاعره بالاغتراب عن المدينة التي نشأ فيها. وسوف يتأكد هذا الأمر في الجملة التالية، والتي ينتقل فيها التسريد الديلوزي إلى ضمير المخاطب: «هذه هي المدينة التي لم يكن والدك فيها غير بائع يبيع منسوجات المحلة الكبرى، فوطة، سليب، منديل، فانلات داخلية، قمصان حريمي، جوارب قطنية؛ بالإضافة إلى زجاجات العطر صغيرة الحجم، أصيلة المصدر، باقية الشذى». (109)

وما أن يتغير الضمير إلى ضمير المخاطب، حتى يفتح لديه بوابات الذكريات البعيدة عن الأب الذي غاب في شرخ الشباب، ويطلق معه حوارا داخليا مع هذا الأب الغائب: أكان باستطاعته لو امتد به العمر، وهو الذي لم يكن له محل يدير تجارته منه، أن «يخترق غابة استيراد خامات صناعة الأثاث، أو تجارة الموبيليات كطريق لتكوين الملايين؟» (109) ويرد على أسئلته الاستنكارية تلك باستدعاء أحلى الصور واللحظات الباقية في ذاكرته عنه. «الجلابيب البيضاء المكوية، نزهة رأس البر، زهرات الفل معقودة خلف أذنه، العطر النادر الذي يأسر قلوب النساء، جلب فطائر "دعدور" المحلاة بالعسل العامرة بالمكسرات والزبيب أيام الخميس، ليكون احتفالا في البيت. وشراء اللحم أسبوعيا من عند نصر الجمل بشارع فكري زاهر. اقتناء نظارات الشمس الفاخرة، أناقة الملبس بمقترحات واضحة من "فاروق صابون" صديقه الأثير ... الجرأة في أن يشتري جهاز تليفزيون سنة 1966». (109)

بهذه الصور الملخصة لحياة كاملة لأسرة مصرية بسيطة – لا ينغص هدوءها غير إشارة حيية إلى انتمائه لزمن «بطولات الكوتشينة على مقهى "عيش" بشارع الجلاء» والتي كانت خساراته فيها تنغص حياة الأسرة الهادئة – يكشف لنا النص عن زمن الأب البسيط والجميل، من خلال سرد رخي يتدفق بسلاسة مستدعيا ماضٍ جميل. قبل أن ينقلنا إلى نهايته المأساوية من دفنه في مقبرة لا تحمل اسمه – مقبرة أهل نادية زوجة أخيه خليل – إلى أيام المرض والحجز في مستشفى الحميات. (110) وإذا كانت ذكريات الحياة الرخية في كنف الأب تتسم بالسرد الواثق من إحالاته، فإن ذكريات المرض، والزيارة بالمستشفى تتلفع بسرد تتقدمه كلمة «يذكر» الشكية: «يذكر الحديقة المشمسة الواسعة .. ما يذكره من والده ينتمي جزء كبير منه إلى المستشفى. يذكر أنه كان يبتسم في صمت منطويا على سره» أو تؤطره كأن الاحتمالية: «كأنه كان يدرك أنه لن يعود إلى البيت، وأنه لن يرى زوجته تضع حملها، وأن "زين" سيولد حتما بعد رحيله». (110) وكأن الاحتمالية تلك تؤهلنا للاحتمال الأسواء، والذي سيتكشف عنه البحث، وهو اختفاء مقبرة الأب كلية.

فما أن وصل إلى المقابر حتى «لاحظ أن القليل من الأشياء قد بقي على حاله. أعيد ترميم جامع عمرو بن العاص، وازداد الشارع الضيق الفاصل بين مسجد ومقام سيدي "ابو المعاطي"، وجامع عمرو بن العاص ضيقا. كان واضحا أن أعمال التجديد قد تعدت على الشارع حتى صار ممرا ضيقا. حار في الوصول إلى مقبرة أبيه. يذكر أن المقبرة كانت تواجه مقام سيدي أبو المعاطي». (111) لكنها اختفت، لأنه يعود إلى المقابر في زمن زحف الإسلامجية والتدين الكاذب الذي يستولي فيه من يجددون المساجد، لا على الشارع الذي ضاق والأملاك العامة وحدها، وإنما على مقابر الناس أيضا. فها هو التُرَبي يوضح له «أن مكان المقبرة التي أشار إليها تحول إلى ميضة لخدمة الجامع الأثري». (112) وحينما يشاهد التُربي ذهوله لتلك السرقة العلنية لمقبرة أبيه، يقترح عليه حلا من حلول التدين الكاذب «أفضل شيء تعمله هو سبيل لمياه الشرب، صدقة جارية على روحة، جهاز "كولدير" وتضعه في أي جامع وتكتب عليه اسمه. لا يوجد أفضل من ذلك.»(112)

هكذا يفقد الراوي فور وصوله لمسقط رأسه مقبرة أبيه، مع أنه وقد كشفته لغة السرد وهو يلجأ من جديد لضمير المتكلم «كنت على يقين من أن الذاكرة الحيادية للأماكن تقدم الألفة للموجودين والنسيان للمغادرين.» (112) ولأنه في أشد الحاجة إلى تلك الألفة التي تقدمها الأماكن الحيادية، بعد أن كرست التغيرات المزلزلة غربته، يتمسك بمواصلة البحث عن مقبرة أمه التي أضحت آخر الرواسي المحايدة التي تربطه بالمكان القديم؛ كما أنها «المقبرة الوحيدة التي تحمل شاهدا عليه اسم أبيك الذي لم يدفن فيها. كانت ذهنية زوج أختك الذي كُلف بعمل الرخامة وتركيبها ترى أنه لا يجوز ذكر أسماء النساء. لذلك استنكف وضع اسم أمك على المقبرة التي دفنت فيها بعيدا عن أهلها في "ميت الشيوخ". وبعيدا عن زوجها الذي دفن في مقبرة لم يعد لها وجود أصلا». (112) وسرعان ما يكتشف أن الجبانة قد أصبحت مدينة هائلة للموتى. و«أن المقابر في تغير دائم، بسبب كثرة أعمال الهدم والبناء والتعلية، تغير المعالم يجعل الوصول مستحيل أحيانا ... يوجد هنا 35 ألف مقبرة، وقد ضاقت بالموتى. ووصل سعر المقبرة المكونة من عين واحدة إلى أرقام فلكية.» «كان التُربي خليطا من لص القبور على سمسار أراضٍ، قال لي إن من الصعب أن تصل إلى مقبرة أمك وحدك. إذا لم تكن تتردد على الجبانة دائما». (113)

لذلك كان عليه أن يتبع التربي - وقد ردته الصدمة إلى السرد بضمير المتكلم – فلم يعد المكان، وهو يفقد آخر الرواسي الذي تشده إليه، هو نفس المكان الذي كان مسقط رأسه وملاعب طفولته. وإنما أصبح صورة جديدة لما جرى للعالم من حوله من تشوهات. وأثناء رحلة البحث عن مقبرة الأم تلك، نعرف أن المقابر لم تسلم من عوادي تغيرات الزمن الرديء التي انتابت المدينة وناسها. وأن زلزال الحراك الاجتماعي الناجم عن الفساد والثراء السريع قد رقش تجلياته في مقبرة المدينة المفضلة، والتي أصبحت تتوسط المدينة بعد أن كانت بعيدة. فظهرت بها مقابر فارهة مطعّمة بالرخام والبورسلين لبعض مشاهير أثرياء المدينة من مستوردي الخشب والأبلكاج والقشرة. وأن هذا كله قد جرى بفضل لصوص المقابر وعصاباتها المحترفة. هكذا «كان الموتى القدامى يسجلون خسارات طبقية جديدة، رغم أنهم عاشوا زمنا قديما أقل توحشا. كان الأثرياء الجدد يقتحمون عالمهم بطرز جديدة، وباستعلاء واضح على مقابرهم القديمة ذات الشواهد الهشة التي لا تصمد أبدا لاختبار الزمن.»(113)

لكنه لحسن حظه – فليس في طاقته التعامل مع آليات هذا الزمن الجديد، لو كان قد ألم بالمقبرة شيء – يكتشف وقد تبع التُربي «كانت مقبرة أمي في مكانها. تطل على مقام سيدي "الكردي" وحيدة، تحمل اسم والدي، دون أي إشارة لصاحبتها. بدت صغيرة الحجم، تليق بأنثى لم تكن أبدا من هذه المدينة.»(114) إذن كان من حسن حظه أن وجد مقبرة أمة التي جاء للبحث عنها. فليس في طاقته التعامل مع ألاعيب لصوص المقابر الذين يسقطون سقوف مقبرة لم يعد يزرها أحد، وينتظرون. ثم يبيعونها ويساعدون المشتري في استخراج رخصة ترميم، لتسقط بين يدي أحد أثرياء المدينة الجدد، الذين لا يكتفون بما سرقوه من المدينة، ولكنهم يريدون أيضا – مواصلة للنهب – أن يدفنوا في مقبرتها المفضلة.

(12) إنكار .. بذاءات الواقع الجديد واستهجانها
بانتهاء الكتاب الأخير – وهو الكتاب السادس – تكون الرحلة التي بدأت مع مفتتح الكتاب الثاني قد اكتملت؛ وهو اكتمال يعزز وهمه تسمية الكتاب السادس بـ«كتاب أخير» سرعان ما سنكتشف أنه ليس كذلك. وإن هناك كتاب سابع لا يستخدم اسم كتاب، وإنما يطرح نفسه كإنكار. إنكار لماذا؟ يتخلق السؤال الذي سرعان ما يجيب عليه المفتتح، بأنه إنكار لأي علاقة بما دار من وسخ. لأننا هنا بإزاء قسم يتبع بنية أقسام النص شكليا، ويمكن اعتباره كتاب سابع، له مفتتح بخط المفتتحات، ويعقبه قسم بعنوان «مربع الدائرة» كما هو الحال في أغلب كتب الرواية. لكن الفرق أن هذا القسم سرعان ما يُقسم إلى ثمانية أقسام مرقمة. ومفتتح «إنكار» قصير. يعود بمكان الحدث مرة أخرى إلى القاهرة، ولكن ليس إلى مصر الجديدة، وإنما إلى دار السلام والعيساوية التي تعرفنا عليها في روايته الأولى (ورود سامة لصقر). ويأخذنا في الرحلة إليها في المترو المزدحم وهي مكتوبة بضمير المتكلم المحبط الذي يتابع اللافتات وكتل المباني الشائهة، ويتمنى لو أن إحداهن تذهب معه إلى حجرته، لكن لا أحد يأتي.

كل ما يحدث هو أنه ما أن تندفع الكتل البشرية مغادرة العربة في دار السلام، وتخلو العربة حتى يسمع «فجأة صرخة نسوية من امرأة ثلاثينية، تحمل كيسا ممتلئا بالخضروات. كانت ملابسها ملطخة بسائل أبيض لزج. كانت الصرخة إنكارا لأي صلة لها بهذا السائل المنوي، للعلاقة العابرة في الزحمة بين مجهولين.» (115) هذا الإنكار والصراخ تقززا من الوسخ الذي طالها، سرعان ما سيتكرر بأشكال مختلفة، ويصبح استهجانا مُرّا لعلاقات كثيرة راسخة تدور في حميمية البيوت أو تحت أضواء المكاتب الفخمة اللامعة – وكأنها شيء عادي كما سنرى في هذا الكتاب – لا تقل عما جرى في عربة المترو المزدحمة وسخا. وهو الأمر الذي أصبح – لمرارة المفارقة – من مألوف الحياة في القاهرة.

وما أن ندلف إلى القسم (1) في «مربع الدائرة» حتى نجد تكرارا من نوع ما لوسخ ما دار في عربة المترو في المفتتح. ليس في قصة الفأر الذي اكتشفه في الشقة والذي يمكن أن يحيل حكايته معه وتسميمه له، إلى حبكة متقنة كالمسلسلات. لأنه يتنصل من تلك الحبكة، بأن يعلن بعد أن يرويها على القارئ للترويح عنه ربما: «كل ذلك لم يحدث» (117) هذا التوكيد التقريري الصارم الذي يضع ما يكتب تحت الممحاة الديريدية باستمرار، سرعان ما سيعقبه توكيد استئنافي «بالرغم من ذلك يوجد فأر في الشقة».

لكن إنكار العنوان سيتجلى في ملاحقات طليقته المحجبة له بتلك المكالمات الملغزة الصامتة في منتصف الليل، والتي تستمتع فيها بإغلاق السماعة في وجهه؛ كما يستمع صاحب المني الوسخ بترك قذاراته على ملابس راكبة المترو. فهي «مازالت تعيش وهم أنني لا أعرف جميع الأرقام التي تتصل، حتى دون النظر للرقم على شاشة التليفون الأرضي ... تنتظر خروج الصوت من صندوق حنجرتي إلى فوهة الهاتف، ثم إلى أذنها الزوجية المغدورة التي يغطيها الحجاب، لتقتنص الصوت، لتراقبه، لتقيّم متانته، لتربطه بالحبكة الزوجية.» (118) ثم تغلق السماعة في وجهه، وكأنها لم تكتف بكل ما فعلت، في البيت، أو مع الإسلامجي شيخ الجمعية الشرعية، أو في أروقة المحكمة.

وما أن ننتقل إلى قسم (2) حتى يتجاوز الوسخ كل ما سبق. لهذا كان ضروريا أن يواجهنا النص لأول مرة بالأسماء كاملة، لأنها الدليل على الجريمة. حيث نلتقي لأول مرة في النص – رغم أننا اقتربنا من نهايته – باسم الراوي البطل كاملا فيه «يوسف العلمي»، وباسم «مازن مروان» خريج الجامعة الأمريكية، ابن أحد وزراء الصناعة السابقين. في بلد انهارت فيه كل صناعة، واستشرى فيه الفساد والعمولات المشبوهة. حيث يفتتحه بـ«راح يوسف العلمي، يفيق تدريجيا فيما يعد لنفسه فنجان قهوة، لا يتصور ما فعله مازن مروان.» وهل يمكن حقا أن يفيق من هذا الكابوس الذي لا ينفع الصراخ في مواجهته كما فعلت راكبة المترو، ولا إغلاق سماعة التليفون كما يفعل مع طليقته؟

لأن تفاصيل ما تكشف عنه موعده لتجديد التعاقد كمستشار قانوني للشركة، مع رئيس مجلس الإدارة الشاب أبشع من كل الكوابيس. فمع أن شركة السيارات الأجنبية تتحكم في طريقة عرض السيارات، ونوعية المكاتب اللامعة، وميوعة موظفي صالة العرض المدعمة بمفردات انجليزية كثيرة – فقد هانت اللغة القومية وأصبح لزاما على طبقة السماسرة الجديدة أن تستخدم لغة السادة الأجانب/ أم عليّ أن أقول لغة المستعمِر الجديد الذي تبدل دون أن تتغير اللغة - بل وحتى مقاييس رشاقة وملابس سكرتيرة رئيس مجلس الإدارة الجميلة، وهي تتحرك بجسدها الرشيق، وملابسها ذات الماركات النادرة، والتي طلبت منه الانتظار في الريسبشن، وليس في الصالة بالطبع، لأننا في زمن العجمة اللغوية والأخلاقية معا.

أقول مع أن الشركة الأجنبية تتحكم في كل شيء، فإن عبقرية التردي المصري والفساد لابد من أن تضيف لمستها القذرة لهذا كله. حين يطلب "مازن مروان" «عمولة نظير استمرار عمله. قال دون حياء: حقيقة لدى الشركة عروض أفضل. ثم أكمل، تنفيذ اتفاق الشركة المقترح معك سيدخل لك رقما مهما. ثم راح يدون على وورقة تحت بصر "يوسف" عدة أصفار. نظر إلى وجهه متأملا: أين التربية وقيم الإدارة الحديثة التي لم تكف قولا وفعلا عن إقناعي بها؟ ... قلت: أنا حريص على العمل مع الشركة. لعلها كانت العبارة التي عمل لأجلها طويلا، هو يريد ثلاثين في المائة من دخلي، وأنا وافقت. لا سند لي فهناك الكثيرون مستعدون لإنجاز عملي نظير ملاليم.» (119) هكذا يكتب النص استشراء الفساد الوسخ – والقهر الذي تجسده: "وأنا وافقت، لا سند لي!" – في شتى جنبات الحياة. هذا القهر الذي يفتّ في الروح، وتنزّ سمومه فيها.

فكل ما يستطيعه عندما يعود للبيت هو الارتماء في سريره وفقدان الوعي. لا يستيقظ إلا على كوابيس أكلة لحوم البشر! لأن عليه أن يعتاد – كما اعتاد على مشاهدة ما جرى لراكبة المترو وهو المشهد الوحيد الذي يتكرر في النص مرتين، برغم كتابة الحذف والتركيز – على أن يُؤكل لحمه كل شهر! دون حتى الصراخ كما تفعل امرأة المترو، أو المقاومة كما تفعل طفلة الكابوس: وهي «تقاوم بضربات طائشة من قدميها ورجليها.» (119) ولا أن يجد – في "إسماعيل" الذي زعم يوما أنه يقدر ما يكتبه – من يعرف «ماهية شعوري إزاء الأصفار التي وضعها مازن مروان على الورقة أمامي، والتي يعلم كلانا أنها ستتحول إلى أرصدة سهلة تجعل العالم بالفعل قرية سياحية صغيرة.»(129)

ثم يردنا القسم (3) إلى الفأر وطليقته معا، حيث يترافقان كثيرا في النص – وكأن كلا منهما معادل إليوت الموضوعي للآخر. «لسبب ما جاء الفأر إلى مقعدي وأنا أشاهد فيلما خليعا ... جاء الفأر وقرصني هكذا ببساطة، هل كان يناصر طليقتي التي أذاعت على الملأ أنني أستمني في البنطلون حتى لا أقرب جسمها؟» (120) والتي اشتكته للشيخ "خليل" رئيس الجمعية الشرعية، دون أن تتمكن من تقديم أي دليل على اتهامها، مثل الفستان الأزرق الذي قدمته "مونيكا" عشيقة "كلنتون" وعليه بقعة من السائل المنوي للرئيس الأمريكي. ومع ذلك ظلت الفضيحة تلاحقه، عبر عيني الشيخ "خليل" الدينيتين اللتين تعرفان الله، وتغسيل الميت، ووضع تابوته في سيارة تكريم الإنسان الخاصة بالجمعية الشرعية. «تخبرني عينا الشيخ "خليل" أنني واقع بين يديه مهما طال الزمن.» (121)

فنحن في زمن لا يتورع فيه الإسلامجية عن ابتزاز أي شخص بما يعرفون عنه من أسرار، حتى ولو كانت من ذلك النوع القذر الذي أشاعته عنه طليقته. لأن الوصف التهكمي الساخر للشيخ "خليل" في هذا القسم، وممارساته اليومية في الحي، وما يفعله في سبيل الكسب حتى من الموتى ونقل توابيتهم في سيارة الجمعية الشرعية، يربط التدني الأخلاقي إلى حضيض غير مسبوق بشكوى طليقته بما هو حميمي، بالتدين الشكلي الذي نشره الإسلامجية في الواقع المصري منذ زمن السادات الكئيب وحتى اليوم. ويصل الاستهجان في هذا القسم ذروته حينما يخبرنا النص: «كل ذلك عادي جدا، وغير قابل للتحول لحبكة، تخفف من وطأة الوقائع.» (121)

أما القسم (4) فإنه يعود بنا إلى أمشاج من أيام الطلب والسكن «العيساوية التي لم يدخلها الصرف الصحي ولا المياه» (124) فهي من العشوائيات المتاخمة لدار السلام، وبدايات التحقق الصغير في الكتابة، وفرحة الاعتراف حينما قال له "اسماعيل" أنه يتابع ما يكتب وأعطاه تليفونه وعرض عليه اللقاء. وهو اللقاء الذي قاد فيما قاد إلى الزواج، وإلى مواجهة كوابيس لا تنتهي، (123) كدوامة رهاب انقلاب السيارة في نفق الأزهر، أو انهيار عمارات العبور عليه فجأة. دوامة كابوس من نوع آخر نعرف فيه لأول مرة اسم زوجته/ طليقته: دينا.

ثم نعود بعدها في القسم (5) إلى الفأر ومحاولة اقتناصه بعدما أصبح يتحرك بحرية في أنحاء الشقة غير مبال بوجوده. ويخلص إلى أن أفضل طريقة لاقتناصه هي مربع ودائرة كما يقول عنوان قسم الكتاب السابع ذاك. المربع هو بلاطة سيراميك أما الدائرة فهي ما سيرسمه عليها بالصمغ الثقيل الذي سيثبت الفأر. وقد جلب له البواب "عيد" بلاطة السيراميك «بتواطؤ محير، أحضرها بحس من يحضر لي فتاة ليل. طبعا هو سرقها من أي شقة تحت التشطيب. مذكرا بحكاية المحامي الذي جاءت طليقته وجعلت منه عرضًا شاهدته العمارة كلها بالصوت والصورة لزواجه عرفيا من مراهقة.» (125) وسوف يتعرض الراوي/ البطل لمثلها من طليقته، ولكن ليس على سلم العمارة، وإنما في بهو المحكمة في القسم التالي.

ومع ذلك لا يأبه بها الراوي ويحبط بحياديته الأثر الذي يبتغيه عيد منها. لأن البطل/ الراوي يظن أنه مكلف من طليقته بمراقبته، لذلك يرد له الصاع صاعين، حينما يضبط "عيد" يعمل قوّادا لدي لاعب كرة الدرجة الثانية الوسيم الذي كان «يتلكأ في سيارته وإلى جواره طلقة أنثوية شديدة التفجير»، (126) في انتظار مكالمة الموبايل المنتطرة من "عيد"، حينما يغادر والده المذيع القديم الشقة. وما أن تلقى اللاعب مكالمة "عيد" حتى صعد للعمارة «متقدما الطلقة الأنثوية الطليقة ... لحظة الصعود المبارك هذه كُنت أحد شهودها إلى جوار "عيد"، قلت له: إيه ده يا عيد؟ وهو السؤال التاريخي الذي مازال يحكم موازين القوى ما بيني وبين "عيد"، وهو من نوع الأسئلة التي تكمن أهميتها في طرحها، بغض النظر عن الإجابة عليها. وبالتالي كان عليه أن يأتيني بصخرة سيزيف لأجل فأري العزيز.»(126)

مع القسم (6) تكون أدوات اقتناص الفأر اللعين – لا تنس الجدل بين الفأر والزوجة/ الطليقة فكثير من ذلك كان يدور في وجودها، وقبل إخلائها للشقة من كل مافيها – قد اكتملت، خاصة بعدما «انتقل من الحركات الأكروباتية الخرقاء ذات الطابع السلمي، إلى الهجوم العدواني المستفز. لقد استباح أوراقي وصعد إلى المكتب في حجرة الصالون، وقرض الورقة الأولى من نوتة التليفونات.» (128) وهو نظير ما كانت تقوم به طليقته وهي «تقارن سوءاتي بحسن أبطال المسلسلات، وأنا لا أجادل في ذلك شرط المعاملة بالمثل.» (128) بينما لا تفكر مرة واحدة فيما تسببه له من «كوابيس لا تنتهي.»(123)

المهم أن أدوات اقتناص الفأر قد اكتملت. فلديه أنبوب الصمغ الثقيل، وبلاطة السيراميك، فرسم دائرة سميكة من الصمغ الثقيل على مربع السيراميك، ووضع في وسطها شيئا مما يفضله الفأر من طعام. وما عليه الآن إلا أن يختار المكان الذي سيضعها فيه. لكنه يكتشف دوما وبعد فوات الأوان «أن خصومي يختارون ميدان المعركة تماما في المنطقة التي تُشل جميع قدراتي بها، حتى أنني أُذهل من معرفتهم بشخصي. وكنت أظن أنني كتاب مُغلق.» (128) وها هي طليقته تقتنصه وفي موقف تشل فيه قدراته كلها، قبل أن يقتنص الفأر. «أوقفتني في ردهة المحكمة شديدة الاتساع، تماما في المنطقة التي يوجد بها الموظفون والزملاء والجمهور، يعني زاوية منتقاة. .. وبدأت العرض الموثق حاليا بالقول الافتتاحي: إنت مفكر نفسك راجل يا شيوعي يا ابن الكلب. راح صوتها يطاردني وأنا أنسحب تدريجيا في صمت. تطل عليّ الرؤوس من خلف المكاتب والنوافذ.» (128)

وينتهي به قسم (6) وهو يتعثر في طرقات المحكمة، وقد فقد وسط ارتباكه خريطة المكان. لذلك يتحول القسم التالي (7) إلى المصارحة أو المواجهة المؤجلة مع "اسماعيل" من القسم (4)، ولكنه واتساقا مع طبيعة الراوي/ البطل تدور في داخله، بعيدا عن أي عنتريات للمواجهة المباشرة، حيث «يوجه في ضميره الخطاب لإسماعيل: ما ذنبي أنا ووضوحك المؤسس نظريا كان بالنسبة لي عماء، عدم قدرة على رؤية تجليات التشوه التي تتحور حالما تقبض عليها. تصبح شيئا آخر غير مسمى ... لم تكن متشككا بما فيه الكفاية يا صديقي، كان يلزمك أن تفقد الثقة ولو قليلا بقناعاتك، أن تجرب الخيانة ولو لمرة. لم تستطع إدراك شخصي المنقسم بين طبقات عديدة، لتعرف ماهية شعوري.» (129) ولا يستطيع أن يدرك عبء التجربة التي عاشها، والكوابيس التي تحولت معها إلى واقع عادي مألوف.

وما أن نصل إلى القسم الأخير (8) والذي يبدأ بـ«اخترت الانسحاب دون رد، ودون دراية إن كنت شيوعيا أم لا؟ وما أثر هذا الاتهام على المشاهد في زمن زالت فيه الدول الشيوعية وتحولت إلى الرأسمالية؟» (130) حتى ندرك مدى عمق الشروخ التي تركتها تجربة تلك التحولات الرهيبة وترسباتها المتراكمة على شخصية يوسف. صحيح أن إشارته إلى أن «الدولة عينت من عينت من الشيوعيين كرؤساء تحرير .. إلخ في إطار اللعب مع الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية.» (130) تحدث ارتباكا ما في ذاكرة النص الداخلية، لأنها ترتد بنا إلى السبعينيات وزمن السادات. بينما تنقلنا الجملة التالية إلى زمن مغاير حينما تتحدث عن «المُشاهد الذي تعاظم دوره، وصار يشاهد عمليات قتل واغتصاب على الهواء مباشرة، وانهيار دول وحروب كونية لحظة بلحظة عبر العديد من الوسائط.» إلى زمن يبعد عنه بعقدين أو أكثر من الزمان. ناهيك عن أن إشارته إلى مجلة (بلاي بوي) التي تنقلنا بالقطع إلى القرن الحادي والعشرين.

لكن المهم – بعيدا عن تشوش ذاكرة النص التاريخية في هذا المقطع – أنه ينهي هذا القسم والكتاب كله، بالإصرار على مواصلة المعركة مع الفأر: «الداهية الضئيل الذي يتلاعب بي، مقررا مواجهته مهما وسع ميدان الصراع، ومهما ضرب تحت الحزام، مستبيحا الأساليب غير الأخلاقية.» (131) ويبدأ معه المعركة بالفعل «وضعت بلاطة السيراميك على محور المطبخ/ غرفة النوم، وضخخت المزيد من الصمغ السميك، ووضعت في المنتصف قطعة دائرية من الجبن الرومي القديم، وبقيت أنتظر.» (131) ومع الانتظار المفتوح الذي ينتهي به النص، يذيل الكاتب نصه بتاريخ كتابته ومكانها: «مصر الجديدة 2007 – 2019». وهو تذييل لا يشير فقط إلى أمد الكتابة الذي امتد لإثنتي عشرة سنة، وإنما أيضا إلى أننا بإزاء كتابة التنقيح والحذف والانتقاء والتركيز. فما هي دلالات هذه النهاية المفتوحة؟ وكيف تتفاعل مع ما قدمه لنا النص من رؤى وترسبات في شخصيته الأساسية: الراوي/ البطل؟

هذا ما سنتعرف عليه في القسم الثالث والأخير من هذه الدراسة في العدد القادم.

 

[i] مفهوم ديلوز المهم Rhizome الذي طوره مع زميله فيليكس جوتاري في سفرهما الضخم (الرأسمالية والشيزوفرينيا) والذي أحب ترجمته بالتشريش. لأن الترجمة المقترحة كالمفهوم نفسه مستقاة من الثقافة الزراعية، في مصر خاصة، تصف تمدد أشراش أو جذور النباتات الزاحفة في أكثر من مكان، ومن أبرز أمثلتها نبات النعناع. لأن الشرش غير الجذر بمعناه التقليدي لا يعد مصدر حياة النبات الوحيد، وإنما واحد من عشرات المصادر/ الأشراس. بحيث أن جذور النبات في زحفها المستمر تحت سطح الأرض تخرج كل حين براعم ونباتات تضرب أشراسها في التربة، بحيث إذا ما قطعت النبات في أي مكان، فإن القسم الأول منه يظل يتمدد وحده، بينما يضرب القسم الثاني بجدوره في التربة ويواصل النمو هو الآخر. ومصطلح Rhizome استقاه ديلوز وجوتاري من المفردات الزراعية التي تصف تعدد الجذور/ المصادر، في مواجهة مصطلح زراعي آخر هو Arborescent الذي يصف النبات الذي يمد جذرا أساسيا عميقا في الأرض، كما هو الحال مع الأشجار، أو أغلب النباتات كالذرة أو القمح، قد تكون له تفرعاته، يعتمد عليه النبات كلية، والذي استخدمه ديلوز أيضا في وصف النقيض السائد لمفهوم التشريش. ويطرح ديلوز مفهوم التشريش الذي يقوم على التعدد وعدم التراتبية كمفهوم لعمل الفكر في الخطاب المعاصر. مفهوم ينهض في تعارض واضح مع مفاهيم الازدواج والتزاوج وتبسيط الثنائيات المتضادة. فهو مفهوم عابر للأجناس والتعالقات. ولا يعتمد على العلاقات الرأسية أو التطور الخطي ومنطقه التعاقبي. مفهوم يقاوم البنى النسقية التي تنفصل فيها الظواهر والأشياء عن جذورها، والتي تعتمد على السببية والعلاقات التعاقبية. فهو مفهوم يهتم باستمرار بالبحث عن العلاقات بين السلاسل الإشارية semiotic chains وعلاقات القوى، والسياقات الخاصة بالفنون والعلوم والصراعات الاجتماعية. وبدلا من سرد التاريخ أو الثقافة أو تحويلهما إلى سردية خطية، فإنه يسعى لرسم خريطة مليئة بنقاط الاهتمام والنفوذ ولا تهتم بالأصول أو عمليات التكوين. فليس لها بداية ولا نهاية، وإنما هي دوما وسط الأشياء وفي قلب معمعتها ومتشابكة بعملية وجودها البيني interbeing في قلب الظواهر. لذلك فإن هذا المفهوم يفضل نمط الارتحال الدائم nomadic system في النمو وإعادة الإنتاج.

[ii] من المألوف حتى اليوم أنك لو سألت شخصا في مصر: من أين أنت، وأجابك من القاهرة، فإن السائل لا يقتنع بهذه الإجابة، ويسأل من جديد، ولكن الأصل من أين؟ على افتراض أن كل مصري جاء من قرية أو حتى مدينة صغيرة إلى العاصمة.

[iii] للتميز بين الزمن السرمدي Messianic وهو الزمن الذي يتزامن فيه الماضي والمستقبل في الحاضر، والزمن المتجانس الفارغ Homogeneous empty time الذي يعتمد على التسلسل والتعاقب المقاس بالساعة والرزنامة، راجع كتاب والتر بينامين: إضاءات Walter Benjamin, Illuminations, trans. Harry Zohn, edit with and introduction by Hannah Arendt (London, Verso, 1968).