درس في محبة الشعر، هذا ما يقترحه علينا الشاعر الكولومبي الكبير، في شهادة مؤثرة وبالغة نقلها الى اللغة العربية، أحد الشعراء والمترجمين المغاربة، والذي راكم عبر مساره الطويل تجربة متميزة في تقديم جغرافيات شعرية من أمريكا اللاتينية ومن دول ايبيرية قريبة، هذا الشاعر الكبير وهو يخط كلمة بيت الشعر في المغرب هذه السنة، كان ينصت لنبض الشعر في زمن استثنائي، عبر التقاط قدرة الشعر والشاعر على النفاذ في كينونة وردهات المعرفة والتفكير في الإنسان.

في مديح الشعر

خوان مانويل روكا

ترجمة: خالد الريسوني

 

«اللغة ليست حصان الفكر بل فارسه» خوسيه مارتي

 

يتحركُ الشّعر في أراضي الريبة، وهو يطوّقُ جميع الأجناس الفنية حدَّ إمكان الإشارة إلى أنه في حال عدم وجود الشعر، من الصعب أن يكون ثمة وجود للفن، بدءً من التشكيل والفن السينمائي وحتى السرد وفنون الدراما. والواقع أن هذه الطريقة الشاذة في التفكير، والتي لم يكن ينبغي أبدا أن تنفصل بشكل جذري عن الفلسفة، يبدو أنها تحدث أكثر مما تُكتب.

إيمي سيزار، الشاعر الذي كان يشعر بأنه يُعذّب ويُهان مع كل رجلٍ أو امرأة تتعرّض للتعذيب أو الإهانة، كان يتحمّلُ ذاته كضحية وهو يُفكّر في أننا نشكّل جزءً من بعضنا البعض، وأننا لا نعيش في عالم مجرّد، معزول عن الواقع. ومن غير المحتمل أنْ يكون ثمة فكر فلسفي لا يتساءلُ عما يحدثُ لنا عبر الآخرين، في فرحهم وقلقهِم. والشيء ذاته ينطبِقُ على الشّعر الأرقى.

إن التفكير في أن هنالك آلافًا من النجوم الميتة في السماء لا تزال تضيئنا يقودنا إلى التفكير في مئات الشعراء الذين ماتوا والذين ما زالوا يتابعوننا، بالطريقة ذاتها، وهم يضيئوننا.

الخيال الوحيد هدّامٌ ويكاد يتحوّلُ، بدون سبق إصرار، إلى نوعٍ من المقاومة الروحية. الآن، من المعروف جيدًا، ومثلما يقول ثيسار فرنانديث مورينو، أنه إذْ لم يكُنْ من الممكن شعْرنة السّياسة، فقد تمّ تسْييسُ الشّعر. وهناك أمثلة لشُعراء كبار يُعبّرون عن أنفسهم سياسيًا في أبياتهم دون أن يبْتعدوا عن صرامة الجمالية العالية، مثل ناظم حكمت، ورونيه شار، وسيزار باييخو، ويانيس ريتسوس، ونزار قباني، وكارل ساندبيرغ، و سيب مانديلستام، وبرتولد بريشت، وبول سيلان، والكثير من الشعراء الآخرين الذين لا يتّسع لهم المجال في هذه الصفحات. وإذا قمت بإعداد هذه القائمة الموجزة، فلأنه عموما، وبقصدٍ سيء من المتصنّعين، لا يتم تذكر إلا الشّعراء السياسيين الرديئين، الذين هم أيضا فيلقٌ، وبذلك الشكل ينهون ويتجنبون مسألة اللانقاء الغنائي الضروري الذي هو أيضًا جزءٌ من الحياة.
أما بالنسبة للقوة التحويلية للكلمة، فقد وجدت أفضلَ مثال لها في سجْنٍ قمت بزيارته في الشيلي، حيث عبر لي سجينٌ عن المديح الأعلى للشعر الذي كنت قد سمعته. هنالك، في مكان يبدو أنه ينفي الحرية منذ البداية، حكى لي أنه في كل ليلة كان يهربُ من زنزانته ويقفز فوق جُدران الجهات الأربع بينما كان يقرأ قصائد سان خوان دي لا كروث الصوفية.

ربما كان من الأفضل أن يكون هناك شاعر آخر هو الذي يقرأ، لكن تأثير تبدّل المزاج والواقع، كان يمكن أن يكون هو ذاته. لقد جعلني المتهم الشيلي أرتاب في أنّ محاولة تغيير الواقع عبر الشعر هو أشبه بمحاولة إْخراج قطارٍ عن سكّته عبر جعل وردة تقطع معبر العجلات. إدانة بالإخفاق. الرجل المحبوس في القفص كان يحلّق فوق الأسوار دون أن يُطبَّقَ عليه قانون الهروب، وذلك بفضل صوت شاعرٍ قديم.
وأعود إلى أرض الريبة. في الشعر، الحقيقة التي يتم التلفظ بها بشكل سيئ تصير بسهولة أكذوبةً، في حين أنّ متخيلا يُصاغ بشكلٍ جيدٍ يمكن أن يصيرَ وإلى الأبد حقيقيًا، مثل هاملت، أو شهرزاد، أو موبي ديك، وجديرًا بالاحترام مثل تلك الشخصية في «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» والذي لم تكن لديه قبعة حتى لا يكون مُضطرا لخلعِها أمام أيّ كان، حسب الرواية الرائعة التي كتبها غارسيا ماركيز. ذلك لم يكن كافياً بالنسبة إليه مع الحقائق التي تكون ساطعة وقابلة للمشاطرة بسهولة، ولأنه مثل الفلسفة، فأرض الاستكشاف الطبيعي له تكمنُ في الريبة. يتساءل الشعر عن كيفية السّير في الآن نفسه على ضفتي الواقع، في منتصف ما يسمّيه سيمون ويل «مجتمعا أعمى»، مجتمعا منذهِلاً موزَّعًا بين الواقع والرغبة.
في كلِّ حينٍ، عندما يتم الحديث عن فائدة الشعر في وسط طبيعيٍّ عنيفٍ مثل الوسط الذي أنتمي إليه، يتم مرارًا وتكرارًا اللجوءُ إلى طرْح سُؤال من الرومانسية الألمانية: «لماذا الشعر في زمن الحاجة؟». أظن أنه من الأفضل أن نغير، وأن نعكِسَ السؤال، وأن نقول: لماذا الشعر في زمن ليس زمن حاجة؟ كحلية للزينة فقط؟ كتكلُّفٍ؟ كمجرد جمالية؟ إذا كان صحيحًا أن الشّعر لا معنى له في وقت الحاجة، فسوف لن يكون قط مكتوبًا، لأن جميع أزمنة الإنسان كانت أزمنة حاجة.

إنّ العائق الظاهر أمام الشعر يرتبط بأزمة الكلمة، على الأخص بسبب التلف الناتج عن الملامسة المستمرة. الكلمة هي الخسارة الأولى في أي أزمة اجتماعية: لماذا كلمة خبز إن لم تعوِّضِ الخبز، ولماذا كلمة حرية إن كانت تتردد مرات عديدة على شفاه السجانين؟ ومع هذا، فإن ذلك، وقبل أن يخلق الإحباط، يجبر الشاعر على البحث عن الكلمة الدقيقة في كومة القشّ الكثيفة للغة والإقامة من جديد في الكلمات التي صارت، بسبب سوء الاستعمال، جوفاء وكلسية. إنه لأمرٌ مفارِقٌ، فحتى الحرية في القصيدة في كثير من الأحيان تصير متناقضة حين نسعى إلى تثبيتها في كلمات. مثلما أنه من المفارقات أن ينبنيَ الشعر بألفاظ فيما هو يروم الصمت.

إنّ الشعر، وأتخذ هنا اسمه بشكل عام من أجل كلّ إبداعٍ فنِّيٍّ، باعتباره مركزًا للفنون كلها، يبدو أنه يذكرنا بأن ما يسمّى بالواقع صار متهافتا جدًّا وتافها جدًّا (و«الواقع» كلمة إذا قلنا إنها لفلاديمير نابوكوف يجب أن توضع دائمًا بين مزدوجتين) ينبغي أن نبتدعها في كل لحظة. وهذا يجعل الشّعرَ غير بعيدٍ عن العلم، ومع ذلك فإنَّ بحوثه تُقدَّمُ في مراحل مختلفة من التفكير، في مختبرات مختلفة للتخييل. (ألدو بيليغريني، ديكسيت).
ما يجعل الشعر المكتوب أكثر غنىً وتنوعًا هو أن الحقائق الجمالية التي تتزاحم في تأويل الشعرية الغنائية لم تكن أبدًا قادرة، رغم الأسس والمظاهر المغلقة، ورغم الطوفان التأويلي، على فرض إحساس وحيد في التعبير الإبداعي. إنه لا يملك أبداً مرتبة الصيغة الرياضية، بل إن هذا الإحساس باللاّشخصي وبالمنفتح يزورانه، وهو ما يجعل الشعر يقيم فيما هو أبعد من القصيدة، وهو لا يزال بعدُ في تخوم اللغة، وفي حوافي الكلمة التي تصمتُ.

ورغم أن الشاعر يعلم أنه، عاجلاً وليس آجلاً، سوف يكون مثل كل البشر ضحية الواقع، فهو يعترض عليه بالكلمة بذكره، وله إدراك واضح بأن رعاية الواقعي، وترويض الواقعي من أجل الغوص في مناطق ذات معنى أسطوري، هي مهمة مفترسة. ذلك «التغيير للحياة»، عُملة رامبو القديمة، يبدو أنها لا تُسعفه في كل حينٍ إلا قليلا. لكن مطمحه هو اللقاء بالجوهر، البحث عن أخلاقيات مرتبطة بالجمال الأسمى وهو ما يجعله في اتصال بالزوال الأبدي، الذي يهرب معه، حاملا في ذاته مِزَقاً من حقائق أخرى أكثر تعقيدًا. حقائق، مع التغيير الشرس للأيام وحتى للألفيات، تستوجبُ على الأخص أشكالَ تعاملٍ جديدة مع اللغة.
يشبِهُ الشّعر، بصفته الكاسحة، العنكبوت الذي يتسلق المكنسة التي تكنسه: إنه يضع نقطة معاكسة للعقل. وفي تلك الشيْطنة للشعري في سبيل الواقع الذي تُعلنه الأزمنة وتعلنه المجتمعات المُنَوَّمَةُ بالخوف من التفكير، حيث -مرّةً أخرى يتسلق العنكبوت المكنسة- يتبقى للشعر شرطه القديم والمتجددُ، شرط المقاومة. من هذا المركز ينبُع الإنسان الممتنع عن الاستنساخ أو التوحد، الإنسانُ المتمرد.
لم يحدث من قبل أن كان للشعر وللشاعر – وأنا لا أتحدث من منطلق الإيديولوجيا – محفزات كبرى للاختلاف الذاتي عن عالم ليس يرغبُ فيه لذاته. الكينونة ليست واجبا، ليست شيئًا برمجيًا، لكن من العدل تأكيد المسافة تجاه الجريمة، ليس بسبب شعورنا بأننا طيّبون وإنما بسبب شعورنا بالبُعد عن المعابر المنوّمة للموت الروحي والقطيعية القبلية تجاه العدم.

الحرية والشعر هما كلمتان سياميتان: الأولى تقود إلى الأخرى، ومن الصّعب الفصلُ بينهما حتى تكون لهما حياتان منفصلتان. ما لم يكن الأمر يتعلق، عند الإعلان عنها، بحرية زائفة، مثل تلك التي تكاد تكون دائمًا على شِفاه السجّانين من جهة، ومن تثبيت شعري من جهة أخرى.
يبدو لي أن هاتين الكلمتين، هذين المفهومين اللذين من أجلهما سالت بحار حقيقية من الحِبْرِ، قد تم تحديدهما جيدًا من قبل كاتبين من ذوي الموهبة والتصورات القريبة من الفوضوية هما: ألبير كامو، الذي كان يقول إن الحرية هي الحق في عدم اقتراف الأكاذيب، وهنري ديفيد ثورو، الذي كان يؤكد أن الشعر هو صحة اللغة.

وعلى العكس من ذلك، فإن العبودية الفكرية للشاعر والانقياد الطيّع للمواطن، ليست سوى ممارسة لالتهام ذاتي شره، وشكل من أشكال التهام المرء لذاته. إنه موت المنشق أو إبعاد الغريب أو منفى الخارج عن المكان أو غير الراضي الأبدي. في الواقع، أكثر من أن يكون في منفى، يعيش الغريب الآن في محيطه، ويصير أجنبيًا في أرضه، في الغالب، إلى الحد الأقصى الذي يصير معه محاصرا في حدود اللغة. كل هذا بسبب معرفة أن الشعر من الممكن أن يبلغ حدود أن يتحول إلى منطقة حكم ذاتي، مثل الشريط الصوتي للعصيان. بطبيعة الحال، فإن ممارسة ذلك الحق في عدم اقتراف الكذب يُعاقب بألف طريقة وطريقة على أيدي حُجَّابٍ ومفوضين.

عندما يؤكد جون دان أنه لا يمكن لأحد أن ينام في العربة التي تقوده من السجن إلى المشنقة، يمكن أن يكون بصدد الحديث أيضًا عن الشاعر. الشاعر هو الذي يغني وسط مفترقات الطرق، والمُسهَدُ إزاء المصير الجماعي الذي يجعل مع ذلك من الحلم غذاءه الذي لا يستغني عنه. والذي يمارس حريته واستقلاله. ويعلم أنه رمل وليس زيتًا في آلات القمع.


Juan Manuel Roca