خلصت هذه الندوة المركزية، والتي نظمتها دار الشعر بمراكش ضمن سلسلة ندواتها، الى ضرورة إرساء خطاب جديد يستقصي الظاهرة الشعرية في المغرب، في استحضار لمختلف التجارب والرؤى. الندوة التي شهدت مشاركة نقاد وأكاديميين مغاربة، قاربوا من خلال أربعة محاور تهم أسئلة النقد الشعري: المنجز ورهانات التأويل، في محاولة لاستبصار مختلف القراءات والخطابات التي حاولت أن تقدم سمات محددة للنقد الشعري في المغرب.

ترسيخ وعي نقدي جديد بالظاهرة الشعرية في المغرب

 

سلسلة ندوات دار الشعر بمراكش

خلص المشاركون في ندوة دار الشعر بمراكش، "أسئلة النقد الشعري في المغرب: المنجز ورهانات التأويل"، الى ضرورة ترسيخ وعي نقدي جديد بالظاهرة الشعرية في المغرب، على ضوء ما تراكم من تجارب وحساسيات ورؤى وأنماط الكتابة. كما دعا النقاد الى تمثل الظاهرة الشعرية في المغرب، من أجل إرساء مشروع نقدي شعري يواكب هذا الغنى بانفتاح بليغ على مختلف التجارب الشعرية اليوم. وقد واصلت دار الشعر بمراكش من خلال برمجتها الخاصة بالطور الثالث (2019/2020)، فتح منافذ جديدة لتداول الشعر بين جمهوره، من خلال إطلاق منصاتها الرقمية من أجل تجسير التباعد الاجتماعي شعريا. وضمن سلسلة ندواتها، التي تستقصي الخطاب الشعري، نظمت الدار ندوة نقدية، الأربعاء 10 يونيو الماضي، حول موضوع مركزي، يقع في صلب اهتمام الخطاب النقدي الشعري، موسوم ب:"أسئلة النقد الشعري في المغرب: المنجز ورهانات التأويل"، وشهدت الندوة مشاركة النقاد: الناقد والمترجم الدكتور عبدالجليل الأزدي، والناقد والأكاديمي عادل عبداللطيف، والشاعرة الأستاذة رشيدة الشانك، للحوار والنقاش واستقصاء أسئلة النقد الشعري في المغرب اليوم، وتقصي ومقاربة هذا المنجز.

وتواصل دار الشعر بمراكش، من خلال هذه الندوة، استقصاء الخطاب الشعري استكمالا لسلسلة الندوات التي فتحتها الدار خلال موسمها الثالث. وقد توقف المتدخلون، عبر محاور ثلاثة، عند تحديد سمات عامة للنقد الشعري في المغرب، مساراته واتجاهاته، ابتداء من عشرينيات القرن الماضي، حيث تعود الارهاصات الأولى بدء من مسامرات الشعر والشعراء، وضمن ما تبلور من وعي نقدي حديث في المغرب الى اليوم. كما سعى المشاركون الى تقصي ظاهرة الشعر في المغرب، من خلال أنماط وتجليات الكتابة الشعرية، على مختلف حساسياتها وتجاربها ورؤاها وأجيالها. وتوقفوا، في محور ثالث، على المرجعيات المنهجية التي تتحكم في مقاربات النص الشعري، مع تحديد ملامح النقد المغربي المعاصر، ضمن صيرورة التشكل العام.

ويطرح السؤال اليوم، على المنجز الشعري في المغرب، في تعدد روافده ومرجعياته، فالى أي حد يمكن الحديث عن تجديد، الخطاب النقدي الشعري لخياراته ورؤاه؟ وهل يمكن الحديث عن حساسية نقدية جديدة استطاعت أن تتجاوب مع هذا الحراك النصي اللافت اليوم في القصيدة المغربية الحديثة، بمختلف أنماط ما تقترحه من تجارب وكتابات، مع الوعي بمقولتي الهوية والتلقي؟ ضمن مسارات نقد النقد، الى أي حد يمكن بلورة مشروع رؤية جديدة للنقد الشعري في المغرب، بأسئلة تعي لحظتها التاريخية، وتعدد النصوص الشعرية وتجاربها اليوم؟

"أسئلة النقد الشعري في المغرب: المنجز و رهانات التأويل"

أكد مدير دار الشعر بمراكش، الشاعر عبدالحق ميفراني في مستهل الندوة، أن اختيار موضوع "أسئلة النقد الشعري في المغرب: المنجز ورهانات التأويل"، يأتي في سياق سلسلة الندوات والأسئلة التي أطلقتها دار الشعر بمراكش، ضمن برنامج موسمها الثالث، ابتداء من الشعر والمشترك الإنساني، الدرس الافتتاحي للموسم، وامتدادا بندوات تقصت أسئلة الترجمة والهوية والحداثة والتلقي والتحولات والرقمنة والأرشفة.. وتأتي هذه الندوة لمواصلة الإنصات للمشهد الشعري في المغرب، ضمن ما يعرفه السنوات الأخيرة من حراك لافت، كما اختارت الدار، يؤكد ميفراني، فتح منافذ جديدة لتداول الشعر من خلال منصاتها الاجتماعية، توظيفا للفضاء الرقمي في مواكبة الشعر والشعراء وأيضا تجسير التباعد الاجتماعي شعريا".

وهكذا أشارت الشاعرة والباحثة رشيدة الشانك، الى أن النقد الشعري في المغرب عرف تراكما مهما، مع حضور لافت لنقاد زاوجوا بين الكتابة النقدية والكتابة الإبداعية، نقاد شعراء رسخوا أفق هذا النقد وأسئلته. غير أن الشاعرة الشانك تسجل انشغال بعض الدراسات بتجارب معينة، وبتجارب قصيدة النثر خصوصا، دون الوعي بأنماط الكتابة الشعرية المتنوعة في المغرب. كما توقفت الشانك عند تجربة النقدية لمحمد مفتاح، والتي حققت وبلورت مشروعا نقديا مهما، بامتلاك عدة معرفية متنوعة ومرجعيات فكرية وفلسفية مكنته للدخول في ثنايا النصوص الشعرية. وبحكم أن النص الابداعي، الشعري خصوصا، هو مجموعة أنساق يحتاج لعدة معارف، فقراءة مفتاح، ابتداء من تحقيقه لديوان لسان الدين بن الخطيب وانتهاء باشتغاله على العديد من المفاهيم والمرجعيات النظرية المؤسسة، قد انطلق من مرجعيات فلسفية وفكرية، هذا التراكم الذي تحقق، كان هدفه الأساسي خدمة النص الابداعي الشعري ومشروع النقد الشعري في المغرب.

وذهب الناقد والمترجم عبدالجليل الأزدي، والذي تمن في البداية إطلاق دار الشعر بمراكش هذه المنصات الاجتماعية للتفكير والنظر في أسئلة خطاب النقد الأدبي حول الخطاب الشعري، الى التفاوت الحاصل بين التراكم الشعري الكمي والنوعي الذي أنجزه الشعراء المغاربة، بمختلف لغاتهم وألسنهم. أما خطاب النقد فقد تخلف عن مواكبة كل هذا التراكم، على تعدده. ورصدا لهذا الخطاب الذي تشكل حول الشعر المغربي، يحدد الناقد الأزدي بعض السمات العامة والجوهرية، أبرزها تتمثل في أن معظم نقاد الشعر بالمغرب شعراء، وهي مسألة ليست حديثة بل هي قديمة ضاربة في عمق تراثنا العربي القديم (المتنبي أبو تمام والبحثري..). ليعرج الناقد الأزدي على إبراز أهم المحطات التاريخية المؤسسة للنقد الشعري في المغرب، أسماء ساهمت في تأسيس ملامح الظاهرة الثقافية في المغرب، مع بداية الستينيات ومع كتابات عبدالكريم غلاب وفي حقول جامعية أكاديمية، الى جانب النقد الأكاديمي المبني نظريا ومذهبيا، كأطروحتي محمد بنيس (1و2)، وكذلك أطروحة الشاعر عبدالله راجع، وأحمد المجاطي.. لتظل تجربة الناقد محمد مفتاح، استثناء لافتا، بحكم أنها انفتحت على سيميائية الشعر ومفاهيم مؤسسة (التناص..).

وبموازاة ذلك، هناك مجهودات فردية، مثقفون يهتمون بالشعر المغربي، يكتبون مقالات ودراسات وينشرونها في منابر ثقافية ك (الشاوي، عقار، العوفي، الطبال، مجدولين..)، مع ملاحظة مركزية تتمثل في طبيعة وشكل الممارسة النقدية، والتي تكون مبنية على التخفيف دون انضباط لقواعد البحث العلمي كما هو الأمر بالنسبة للأطاريح. سمة ثالثة، يحددها الباحث في "النقد المناسباتي"، ويقصد به شكل من "الممارسة النقدية" التي تواكب المشهد الشعري، بما هي خطاب نثري فوقي، وهي أقرب الى التغطية الصحفية في ارتباط وثيق بصدر ديوان، وتحمل بذور انطفائها في ذاتها. عندما قراءة هذه الخريطة، يمكن الحديث عن نقاد للشعر في المغرب، ولا يمكن الحديث عن مدرسة نقدية للشعر، قائمة الذات. فكل ما راكمناه في مرحلة 60 و70، يشكل أرخبيلات، كل مجهود ينطلق كبداية أولى، بمعنى أن اللاحق لا يؤسس على مرحلة السابق.

يؤكد الناقد الأزدي، بعدم وجود مدرسة نقدية في نقد الشعر، فالتراكم النقدي الذي تحقق، في هذا السياق، هو بمثابة محاولات فردية، كل ناقد يرى نفسه بداية مطلقة، وهي مسألة متجذرة في الثقافة العربية الاسلامية. انطلاقا من فكرة الأول (أول من أسس النحو، العروض..)، في حين أن جميع أشكال المعرفة، هي مجالات لا تعترف بالفرد أو الأول، لأنها ممارسة علمية ترتبط بشروط تاريخية معينية تستلهم تراثا ثقافيا برمته، كل خطاب يكون مصقولا بأصوات وتجارب سابقة. فحينما نرغب اليوم، في قراءة تجربة شعرية معينة (العطار أو جميل عبدالعاطي..) فالخطاب الذي ينتجه الناقد، هو خطاب مسكون بأصوات سابقة، خطاب مسكوك بكل ما أنتج في الخطاب العربي منذ ابن جني انتهاء بالمجاطي وغيرهم من نقادنا.

واتجه، في نفس السياق، الناقد عادل عبداللطيف، في تحديد خريطة النقد الشعري في المغرب، في ارتباط بالمراحل التاريخية الذي أفضت الى تشكل هذا الخطاب. وأيضا في تفاعل مع كل النظريات والتجارب والمدارس النظرية، والتي أفضت الى ظهور وعي نقدي بالظاهرة الشعرية في المغرب. ونوه، الناقد عادل عبداللطيف، في البداية بمجهود الناقد والاكاديمي عبدالجليل الأزدي في ترسيخ التحليل النقدي في الفضاء الجامعي. ليعرج في سفر تاريخي، ومن خلال أقانيم محددة، عند تشكل الخطاب النقدي في المغرب. رابطا هذا التشكل، بمستويات عديدة، سواء تعلق الأمر ببروز الظاهرة الشعرية في المغرب وتشكل خطاب عالم يستقرأ ملامحها العامة.

وتنقل الباحث عبداللطيف، في منعرجات الفعل التأسيسي للنقد الشعري الحديث في المغرب. ابتداء من عشرينيات القرن الماضي، ومن طرف الشعراء، ووقوفا عند أعلام، وحضور التجربة المشرقية، ومع تجربة مهرجان فاس ثم الانفتاح على التجارب النقدية والعلوم الحقة والانسانية، ليفرد حديثه الخاص عن التجربة النقدية للناقد محمد مفتاح. ويرى الناقد عادل عبداللطيف، أن التجربة النقدية في انفتاحها على الوعي النقدي الثقافي، واستيعاب المنظور البلاغي في الشعر، ومرجعيات أخرى جعل الظاهرة الشعرية تحظى بوضع خاص في المحفل النقدي، غير أنه ينبه الى أن الشعر ليس خطابا فقط، وليس صياغة، ولكن له خلفيات معرفية. مع تأكيده أن هناك نقاد راكموا تجارب مهمة في حقل النقد الشعري في المغرب، ولعل أبرزهم ظاهرة الشعراء النقاد.

اليوم، يتساءل الناقد عادل عبداللطيف، هل لازال النقد الشعري مواكبا للتراكم الشعري الحاضر؟ أم هل يمكن الحديث عن انتكاسة، على مستوى بعض الرؤى؟ وإذا كانت مرحلة "بروز كتابة المحو، وظاهرة البيانات"، الى جانب خطاب المقدماتي، والذي يعتبر إضاءة مهمة، تؤشر على معطى إيجابي لهذا الحضور الفاعل للنقد الشعري في المغرب، فإن تراجع حضور الشعر في البحث العلمي، مع التوجه لمواضيع أخرى، أمسى سمة جديدة لراهننا اليوم. وإذا كان النقد ضروري للشعر، فلا حياة للشعر بدون النقد، بل لا يمكن للشعر أن يحقق أثره المعرفي العام، دون مواكبة النقد.

وحول تقصي ظاهرة الشعر في المغرب، من خلال ما تقترحه من تجارب وحساسيات وأنماط الكتابة والرؤى، أشارت الشاعرة رشيدة الشانك الى سمة أمست تحدد هذا الوضع العام للشعر في المغرب، وهو ما وسمته ب"صبيب قوي جدا"، في استعارة لمصطلح جغرافي. فخريطة الشعر المغربي، خريطة متنوعة، ببعده الحساني والأمازيغي والزجلي والفصيح، وهي تجارب وليدة معاناة، غير أن زخم المنجز الشعري المغربي يفوق الكتابات النقدية المغربية. في المقابل، هناك قراءات لأسماء وتجارب بعينها، دون الانفتاح على حساسيات أخرى. والتجربة الشعرية النسائية، كما انتبه الى ذلك الناقد بنعيسى بوحمالة، حققت "طوفانا وزخما يحتاج لقراءات استيعابية". لذلك تطالب الشاعرة الشانك، الى ضرورة أن ينتبه النقاد لهذه التجارب الحديثة، والتي استطاعت أن تحقق تراكما نوعيا، لذلك فهي تطالب النقاد بنوع من الشجاعة لاكتشاف هذا الزخم الإبداعي الشعري.

تؤكد الشانك، أن الحاجة اليوم لصداقات النصوص لا الأسماء، في راهن يغيب فيه السجال النقدي. الحاجة الى ناقد شجاع وأكاديمي، بجرعات زائدة في تمثل التجارب الحديثة. ناقد جرئ يمتلك أدوات وعدة معرفية، في زمن نعيش زخما عارما من الابداعات، نحتاج لأسئلة نقدية صارمة تواكب وتبحث عن الجماليات في هذه النصوص، كي تحلق بعيدا لتصل الى القراء، وتستوطن ذاكرة القارئ المغربي. بعيدا عن "القراءات المناسباتية"، تطالب الشاعرة الشانك، الى ضرورة أن تنفتح الجامعة والبحث العلمي على مقاربات للتجارب الشعرية اليوم في مختلف تجلياتها.

ويذهب الناقد عبدالجليل الأزدي، في نفس الاتجاه، بالتأكيد على ضرورة انفتاح الجامعة المغربية على التجارب الشعرية في المغرب، لترابط عضوي بين الشاعر والناقد والقارئ. لذلك يدعونا الناقد الأزدي، الى فاعل آخر هو الملحن والمغني. فبعض الشعراء لازالوا حاضرين في المشهد الشعري، بفعل الألق الذي أمدهم به مجالي التلحين والغناء. ف "أغنية راحلة" و"القمر الأحمر"، جعلت قصائد الجواهري تظل خالدة في الوجدان المغربي. وهناك جهود اليوم، مبادرات الفنان حسن شيكار، والذي انفتح على الشعر المغربي، والفنان عزيز باعلي، اشتغال أعطى زخما لحياة النصوص ودفع بها الى الواجهة.

يقترح الناقد الأزدي، عوض كلمة "الصبيب الشعري"، مصطلح أكثر علمية وهو "السوق الشعري"، مصطلح ورثناه من تراثنا العربي، ولا نستعمله اليوم. فالمنجز الشعري في المغرب، منجز متعدد ومتنوع، على قدر تعدد السوق اللسانية في المغرب، سوق مترامية الأطراف، (الحسانية في الجنوب، اللغات الأمازيغية، والعربية بمختلف ما نعرفه (العمودية، قصيدة النثر، الهايكو) والدوارج المغربية على تعددها)، فالشواعر والشعراء المغاربة يكتبون بجميع اللغات الوطنية، المستعملة في السوق اللسانية المغربية، بل هناك شعراء يكتبون بلغات وافدة من الضفة الأخرى (الانجليزية والفرنسية والاسبانية..)، بل هناك من يكتب حتى باللغة الصينية، والألمانية. منجز شعري متعدد تعددا مذهلا، الشعر لم يعد مجالا ذكوريا كما هيمن في الثقافة العربية الاسلامية، فاليوم نعرف فورة في الكتابة الشعرية النسائية.

وينبه الناقد الأزدي الى أن كتابة الشعر، لم تعد مرتبطة بالباحثين في الحقل الثقافي، والأساتذة الجامعيين وفي مختلف أسلاك التعليم، بل هناك ظاهرة وجود فاعلين جدد في حقل كتابة الشعر، ينتمون الى حقول أخرى (محامون ومحاميات وأطباء وقضاة ومهندسون). لذلك يطالب النقاد، باكتشاف هذه الجغرافيات من النصوص والتجارب، ومن تم ضرورة الانفتاح عليها. وينضاف مؤشر آخر، فمباشرة بعد دخول منظمة التجارة العالمية 1995، في مراكش، وبعد بداية "الجائحة السابقة: العولمة"، سمحت أنماط التواصل الاجتماعي والحوامل الالكترونية، ببروز أسماء كثيرة في هذا المجال. تم تفاوت يلاحظ بين المنجز الشعري والنقد، بل هناك عزوف وعدم اهتمام بالشعر، عكس الثقافة العربية القديمة، حيث كان هناك فائض في الاهتمام بالشعر، اليوم تراجع نوعي في الاهتمام بالشعر، على حساب أشكال أخرى (السياسي والديني والاعلامي والسردي..).

يطالب الناقد الأزدي النقاد بضرورة إتقان لغات أخرى، ففي السياق الراهن، على الناقد أن يكون على بينة من اللغات ومعرفة بلغاته الوطنية (الحسانية والامازيغية والدوارج والعربية)، لذلك يقترح تأسيس حلقات للبحث، في هذا التعدد الشعري اليوم. وفي ظل غياب كلي للمؤسسات الجامعية المغربية، عن متابعة المنجز الشعري في المغرب. تبرز ضرورة الدفع باتجاه مزيد من اهتمام الطلبة بالمنجز الشعري المغربي اليوم، لأن الممارسة الشعرية جزء من هذا المحيط، وما يكتب في الوسط الثقافي أيضا. الحاجة الى عمل جماعي ممأسس، لإضفاء هذا الطابع، لذلك يحيي الناقد الأزدي، مجهود دار الشعر بمراكش، في هذا الباب.

ويرى الناقد عادل عبداللطيف، أن المشهد الشعري في المغرب، زاد تعددا، بل ازدادت حساسياته وتجاربه الشعرية وتطورت آليات وأنماط الكتابة في المشهد ككل. وارتباطا بهذا المعطى، تدرج فيما تشكل، ابتداء من ما قدمه الشاعر محمد بنيس والشاعر أحمد بلبداوي في فضاء القصيدة، وأيضا ما ارتبط بمبدأ الالتزام في الشعر المغربي، وارتباط أصوات بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، تشعبات ومسارات متعددة للكتابة الشعرية في المغرب. غير أن هذا المشهد الشعري، سيعرف مند التسعينات، فورة وتعدد للحساسيات، مع انفتاح كبير على فضاءات جديدة، الكترونية، أكثر ديمقراطية ورحابة، الى جانب حضور الميتا لغة داخل هذا الشعر.

ويلاحظ الناقد عادل عبداللطيف، الى أن ما ينشر على الفضاء العنكبوتي يميل الى التكثيف والاقتصاد في اللغة، مع حضور لعناصر دلالية (نموذج الغضب..) في انفجار شعري ظل ميزة المنجز الشعري في المغرب. وقد سمح هذا المعطى، أن تحظى بعض الأنماط، بفعل التجاور الممكن، إذ أصبحنا نجد القصيدة العمودية الى جانب أنماط كتابات شعرية أخرى. ينبه الناقد عبداللطيف، أن هناك بعض الاستسهال، في بعض الكتابات، الى جانب وارتباطا بأسئلة النقد الشعري، سيادة لغة الفرد والمعجمية، ونوع من المجاملة، وانفتاح النص الشعري على بعض الفنون الأخرى، الشعر والتشكيل، الشعر والأغنية.. وهو ما يؤكد اختيار الشعر لمسارات أخرى، مع الشبكة العنكبوتية وما تفتحه من إمكانات. لكن الحساسيات في الشعر المغربي، قد تغطي على التصنيف الجيلي. فقصيدة بنطلحة، نموذجا، لا زالت تجدد نفسها باستمرار. من تم فللنقد وظيفة التحليل، والتقويم ، لكن وفق منظومة خاصة قوامها، تقويم الناقد العالم المتمكن معرفيا.

وضمن محور المرجعيات والأفق الاستشرافي، ترى الشاعرة رشيدة الشانك، أن المغرب يعرف تراكما شعريا لافتا، لكن هناك استسهال في كتابة القصيدة، بل حتى بعض دور النشر تفتح الباب أمام تجارب الطبع الشخصي على نفقة المؤلف، مما يؤهله الى إصدار ديوانه بشكل سريع. ورغم أهمية الفضاء الالكتروني، فخطورته لا تخفى بحكم حضور نماذج شعرية رديئة، وتعليقات تزكيها أحيانا.

ومن هنا، دور ووظيفة الناقد في الوقوف أمام تفشي هذه الرداءة. المطلوب، أن يترك الشاعر تجربته تختمر، تنوعا، وتراكما. وأن يكون الشاعر ناقدا لنفسه أولا، فالكتابة، تحتاج لوعي. وإذا كان النقاد يبنون لبنة في هذا المشهد الشعري، فعليهم أن يسهموا في ترسيخ هذا الأفق، إزالة العتمة على بعض النصوص والتجارب المغمورة، وعلى الجامعات والطلبة الانفتاح عليها. مطلوب من الشاعر، اليوم، أن يشتغل على تجربته الخاصة، وإذا كان لافتا بروز طوفان شعري نسوي اليوم، مكن الشاعرة من الخروج من قوقعتها، فالحاجة لتنمية المعرفة الابداعية، معرفيا وفلسفيا وصقل الكتابة، يظل رهانا محمودا. لقد أصبحنا اليوم، تؤكد الشانك، أمام جماليات في القصيدة بالمغرب. اليوم، لدينا طفرة نوعية، نعيشها في مرحلة استثنائية.

يعيد الناقد عبدالجليل الأزدي، قراءة الخطاب الشعري في المغرب، في محاولة لاستكشاف إطاراته النظرية والعلمية، ليلاحظ اعتماده على أدوات منهجية، (الجامعة المغربية) على مرجعيات مستقاة من مجال الأدب وعلم الاجتماع، والنقد الثقافي، والبنيوي والانتربولوجي وغيره. هناك خطاب وعناصر نظرية توجد داخل النصوص الشعرية أحيانا، وجهات نظر تهم الشعر والكتابة، تم حاجة ملحاحة لإعادة اكتشاف هذه العناصر النظرية. أما فيما يتعلق بالخطاب المقدماتي، يشير الأزدي، أنه لم يكن من عادة شعرائنا كتابة مقدمات لدواوينهم، باستثناءات قليلة (المعري، وبعض الشعراء كتبوا مقدمات بهواجس أخلاقية). الى أن بدأت بعض التقاليد التي ترسخت، إما مقدمة للشاعر نفسه، أو مقدمة غيرية يكتبها ناقد. وقد قامت مجلة الملتقى المغربية، في أحد أعدادها، بجمع العديد من المقدمات لدواوين الشعراء المغاربة، وأصدرتها ضمن ملحق خاص. والمطلوب من النقد مقاربتها، وقراءة هذا الخطاب المقدماتي.

أما في مجال الأبحاث النقدية، التي تعتمد على أبحاث منهجية، مهما تعددت مرجعياتها، ففي الغالب يتم استنساخ لنفس الخطاب المرجعي، وهو ما يتكرر في الكثير من القراءات. يرى الناقد الأزدي، ضرورة قراءة النصوص الشعرية من داخل علاقاتها، وتفكيك البنيات الداخلية، والانتباه أن ليس كل ما ينشر يعتبر ديوانا شعريا. عكس بعض التجارب الرائدة، والمبنية (راجع، الجواهري،...). فديوان الفروسية للشاعر الراحل أحمد المجاطي، مبني بشكل متناغم، بفصول ومقاطع، بل ويمكن اعتبار قصيدة حروف بيانا للكتابة. يدعو الأزدي النقد أن يقوم بدوره ووظيفته، في غربلة ما يصدر، وعزل الكثير من الدواوين. هناك مسألة استراتيجية، اليوم، على النقد أن يصفي الحساب مع الكثير من الأسماء، يعيشون على وهم الشعر، عكس تجارب شعرية، تمتلك لغة جميلة ومشحونة بمعرفة وأساطير ومرجعيات تاريخية، يفرض على الناقد الذهاب بعيدا لقراءة وإدراك عوالمه الشعرية.

واختتم الناقد عادل عبداللطيف، هذا المحور الأخير، بتأكيده على العديد من التوصيات والخلاصات الأساسية، تصبو جميعها في أفق استشرافي ينمي الحاجة لخطاب نقدي شعري، يؤجج عوالم القصيدة في مختلف حساسياتها. فإذا كان النقد الشعري في المغرب، محكوم بالعديد من المرجعيات، ما راكمه من التراث العرب، حين كان للشعر مكانته الاعتبارية والرمزية في الثقافي العربية الاسلامية، انتهاء بالمرجعيات النظرية الغربية. يجب أن لا يتم التوقف عند نقطة التشخيص، بل أن يتم استشراف الأفق، حتى يتمكن هذا النقد الشعري أن يستعيد دوره ووظيفته المركزية.

مطلوب من النقد الشعري في المغرب، أن يواكب هذه الفورة، وإخضاع دوره المسؤول، كما أن هناك حاجة مستمرة للشعر، لا يمكنها أن ترتبط بأي حدود. مطلوب من بعض المؤسسات الوصية، وزارة جامعات مؤسسات ثقافية...، احتضان هذه المبادرات الهادفة في اتجاه انبعاث ألق جديد للخطاب النقدي في المغرب. وعندما يتعلق الأمر بمجموعات بحث وورش، خصوصا في رحاب الجامعة، فيكفي استدعاء دور النقد الشعري في فرنسا، والذي شكل بوصلة لدينامية نقدية وثقافية فاعلة. ويربط الناقد عبداللطيف، بين مجال الفلسفة والتاريخ والكتابة الشعرية، إذ تم ضرورة لأن يرتبط الشعر بهذه الحقول، كما لا يمكن أن نستثني حقولا أخرى، كالمعطى الاجتماعي والانتروبولوجي.

أفق الشعر ورهانات النقد الشعري في المغرب:

لقد سعت ندوة دار الشعر بمراكش، الى محاولة تحديد أسئلة النقد الشعري في المغرب، ورهانات التأويل. مع تحديد مسارات هذا النقد ولحظته الراهنة وأفقه، بحكم أنه نشاط تحليلي لأثر إبداعي، ومعطى تأويلي ومعرفي يستقرأ هويات النصوص. ضمن هذا الهاجس المعرفي، سعت الندوة تمثل تطورات النقد الشعري في المغرب، على امتداد لحظات تشكله، وإعادة صياغة هويته اليوم ومناهجه ونظرياته وأفقه وتشييد لحظته اليوم مع مساءلة النص الشعري في المغرب، في تعدد رؤاه وتجاربه.

لهذه الاعتبارات وغيرها، شكلت لحظة انعقاد ندوة دار الشعر بمراكش، "أسئلة النقد الشعري في المغرب: المنجز ورهانات التأويل"، لحظة معرفية بامتياز وهي تسعى الى رصد مختلف المقاربات للنص الشعري في المغرب، على اعتبار أنها علاقة تجاور وتزامن، رغم اختلافات في منابعها المرجعية. فالتحولات التي مست النقد الشعري في المغرب، وضمن مختلف مساراته التاريخية الى اليوم، يمثل قيمة معرفية تعيد الاعتبار للنص الشعري ولمكوناته التخييلية والجمالية، وهو ما يعيد للظاهرة الأدبية وضعيتها الاعتبارية، منهجيا ومعرفيا. لكن، وفق تصور يولي للنص الشعري اليوم، وبما يختزله من أسئلة الهوية وأنماط الكتابة الشعرية وأسئلتها، مكانته الأولية كمكون لرصد ومقاربة وتقصي تحولات النقد الشعري في المغرب.

ندوة دار الشعر بمراكش "أسئلة النقد الشعري في المغرب: المنجز ورهانات التأويل"، محطة جديدة ضمن استراتيجية الدار للمساءلة والتمحيص النقدي، حول منجزنا الشعري اليوم، وما يفتحه من أفق إبداعي. وهي محطة ستتواصل مستقبلا، بمزيد من الانفتاح والمقاربات، سعيا للإنصات البليغ لنبض النصوص ولجغرافيات شعرنا المعاصر اليوم.