في دراسة الباحث الهندي لأسباب تطور العلوم الإسلامية وسر انحطاطها، دعوة صريحة لإعمال العقل النقدي ودوره في ازدهار المعرفة، وتفنيد لمساوئ الكسل العقلي والتقليد وتيارات كتابة الشروح والحواشي والمختصرات، ثم إدخال هذه المختصرات والشروحات والحواشي في البرنامج التعليمية. مما جنى على العلوم الإسلامية وأدى إلى الركود والجمود.

أسباب تطور العلوم الإسلامية وسر انحطاطها

(دراسة تاريخية)

محمود عالم الصديقي

 

مقدمة:
إن الإسلام دين علم وعقل. فإن الإسلام هو الذي منح العقل حرية تمام الحرية، ودعاه إلى النظر في الغايات والبحث عن تعاقد الأسباب والمسببات، وإمعان النظر في ألغاز الحياة، والتفكير في مصيرها وفي خالقها. وأنحى على التقليد الأعمى، وحمل عليه حملة عنيفة، وصاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته. فالإسلام هو الذي رفع مكانة العلم والعلماء، وجعل لأتباعه تلقى العلوم لازما وملزَما، وشجعهم على تلقى العلوم على اختلاف أنواعها، وأطلق العنان للعقل في البحث والتفكير، وخاطب العقل وطالبه بإمعان النظر في الكون من النظام والترتيب وتعاقد الأسباب والمسببات، واستنهض الفكر ليصل بذلك إلى اليقين لصحة ما ادعاه ودعا إليه. فلم يطالب الإسلام بالإيمان بالله وبرسوله واليوم الآخر، إلا بعد تقديم الدلائل والبراهين على ذلك. فآخى الأسلام بين الدين والعلم أول مرة، وقرر أن من قضايا الدين مالا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل. فبدأ العقل يؤدي وظيفته بحرية كاملة، حتى تطورت العلوم ولا سيما العلوم الإسلامية تطورا بالغا.

مدخل: أسباب تطور العلوم الإسلامية
إن العقل الإسلامي عندما لاحظ أن المسائل الجديدة تتوارد على المملكة الإسلامية، فبدأ يفكر في حل هذه المسائل، وجعل يستنبط المسائل من القرآن والحديث، ويجتهد في معرفة حكمها في مسائل أو حوادث مماثلة وقعت في عصر الرسول، أو جاء ذكرها في القرآن، فيطبق حكمها على مثيلاتها، هكذا تطور الفقه الأسلامي. وكذلك عندما واجه العقل الإسلامي في فهم الآيات القرآنية، قام بتفسيرها، هكذا تطور علم التفسير. وكما أن العقل الإسلامي عندما شاهد أن الناس من الديانات الأخرى يهاجمون الإسلام ومبادئه بعد تزودهم بالفلسفة اليونانية والفارسية والهندية، فقام بالدفاع عن الإسلام واتهامات خصومهم في ضوء الفلسفة، حتى تطور علم الكلام. وكذلك عندما رأى العقل الإسلامي أن الناس لأسباب مختلفة يضعون الحديث، فقام بجمع الحديث وتدوينه في كتب، وكذلك أنه سجل أحوال رواة الحديث، ليعرف عدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم، بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، فتطورت علوم الحديث. كما احتاج العقل الإسلامي في فهم القرآن والحديث إلى علوم إجتماعية من التاريخ والجغرافيا، وإلى علوم لسانية وأدبية، فاهتم العقل الإسلامي بالسير والمغازي، وقام بوضع القواعد الصرفية والنحوية، وكذلك وضع القواميس وجمع الآداب الجاهلية والإسلامية، ليستعين بها في فهم القرآن والحديث.

وكذلك قام بترجمة العلوم الأجنبية ذات الفائدة من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، نظرا إلى فائدتها للإنسانية وفضيلتها المذكورة في القرآن والحديث. فنقلها، وحافظ عليها، ثم أضاف إليها، ثم ساهم فيها مساهمة جبارة لا يستهان بها. كما يقول ابن خلدون: "فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافة ضياعه؛ ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه؛ ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان، فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباط والاستخراج والتنظير والقياس، واحتاجت الى علوم أخرى هي وسائل لها: من معرفة قوانين العربية وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد؛ فصارت هذه العلوم كلها علوماً ذات ملكات محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع."[1]

أسباب انحطاط العلوم الإسلامية
فراحت العلوم والفنون تتطور منذ مجئ الإسلام حتى بلغت شأوا من الكمال في العصر العباسي الأول، ولذلك يعتبر هذا العصر العصر الإسلامي الذهبي. وقد تطورت العلوم إلى هذا الكمال والشأو، لأن العقل الإسلامي كان مطلق العنان في التفكير والبحث. ثم بدأت العلوم تنحط، وسبب ذلك إهمال وظيفة العقل الإسلامي، وتضييق دائرة العلم في الإسلام بعد أن كانت واسعة النطاق، و مشتملة على جميع المعارف بما فيها العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية. وفتح إهمال وظيفة العقل الإسلامي للمسلمين أبواب التسليم والتقليد والإيمان بالخرافات والأوهام، التي أدخلها في الإسلام أعداءه كأمثال عبد الله السلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه والوعاظ الجاهلون، والتي جلبت لهم أسباب أخرى فرعية لانحطاطهم وفتورهم في جميع المجالات من العلم والسياسة والاقتصاد. فعندما أهمل المسلمون وظيفة العقل ساد بينهم تيار التقليد في كل فرع من فروع العلم والمعرفة، حتى في العلوم التي وضعوها في فترة يتمتعون بحرية التفكير حتى في شرح الآيات القرآنية التي مهدت الطريق لوضع فن التفسير والفقه وأصوله والفرائض وعلم الكلام وقواعد اللغة العربية من النحو والصرف. ليتمكنوا من فهم القرآن والحديث ثم استنباط الأحكام منهما.

ثم أنهم دخلوا في التقليد وحرموا العقل حرية الفكر والتفكير، وطلبوا من الناس أن يقبلوا كل ما يجدوه في كتب المتقدمين بإسم الدين بدون نظر وفكر فيها. فيقول ابن خلدون "ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلدون لمن سواهم. وسد الناس باب الخلاف وطرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم، ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه، فصرحوا بالعجز والإعواز، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء، كل من اختص به من المقلدين. وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب. ولم يبق إلا نقل مذاهبهم. وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية، لا محصول اليوم للفقه غير هذا. ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه، مهجور تقليده. وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة".[2]

ويقول الشهرستاني: "وأما العامي فيجب عليه تقليد المجتهد، وإنما مذهبه فيما يسأله‏:‏ مذهب من يسأله عنه‏.‏ هذا هو الأصل إلا أن علماء الفريقين‏:‏ لم يجوزوا أن يأخذ العامي الحنفي إلا بمذهب أبي حنيفة، والعامي الشافعي إلا بمذهب الشافعي، لأن الحكم بأن لا مذهب للعامي، وأن مذهبه مذهب المفتي‏:‏ يؤدي إلى خلط وخبط فلهذا لم يجوزوا ذلك‏."[3]

وازداد الأمر سوءً عندما ظهر التصوف الذي قدم نظرية المكاشفة، وأبطل وظيفة العقل تحت ستار الكشف والكرامات التي لا يستطيع العقل إدراكها، لأن منبعها الكشف والوجدان.[4] مما أعطى دجاجلة من المتصوفين المتظاهرين أوسع مجال ليلعبوا بشعائر الإسلام، ويدخلوا في الإسلام كل ما يريدون تحت ستار التصوف، الذي يتحرر عن العقل وقيده[5]. هذا هو السبب أن الفقه الإسلامي الذي يعتمد على العقل دخل في جدال وتصادم مع التصوف منذ ظهوره. واستمر هذا الجدال بينهما حتى نبغ الإمام الغزالي في القرن الحادي عشر، وقام بالمصالحة بين الفقه والتصوف في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين". و شرح في هذا الكتاب الاصطلاحات الصوفية في عباراتهم. فصار التصوف منذ ذلك الحين علما مدونا في كتاب، بعد أن كانت طريقة مروية يأخذ المتصوفون أحكامها بالرواية. وكما أن هذا الكتاب مملوء بأحاديث لا يعرفها رواة الحديث.[6]

وكذلك أنه كتب في سيرته الذاتية المعروفة بـ"المنقذ من الضلال" عن طرق المعرفة فوجدها أربعة، وهي طريقة المتكلمين، وطريقة الباطنية، وطريقة الفلاسفة وطريقة الصوفية.[7] ثم رد جميع هذه الطرق إلا طريقة الصوفية وهو المكاشفة[8] التي لا تحصل إلا بطريقة الصوفية: وهي الذوق والسلوك.[9] وقد استنكر بعض العلوم العقلية خلال تفنيد المتكلمين والفلاسفة وطرقهم، ومنع المسلمين من تعلم بعض هذه العلوم التي ليس لها علاقة بعلم الإلهيات مثل المنطق وعلم الرياضيات والطبيعيات، لأن هذه العلوم وأمثالها في زعم الإمام الغزالي تولد في القاري حسن الاعتقاد عن الفلاسفة. كما يقول في ذم علم الرياضة: "أما (العلوم) الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، وليس يتعلق منه شيء بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً، بل هي أمور برهانية، لا سبيل إلى مجاحدتهم بعد فهمها ومعرفتها. وقد تولدت منها آفتان: الأولى، من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، فيحسب أن جميع علومهم في الوضوح وفي وثاقة البرهان كهذا العلم. ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما تناولته الألسنة، فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم! فإذا عرف بالتسامح كفرهم وجورهم ،استدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين، وكم رأيت من يضل عن الحق بهذا العذر، ولا مستند له سواه. وإذا قيل له الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً في كل صناعة، فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقاً في الطب، ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلاً بالنحو، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق، وإن كان الحمق والجهل يلزمهم في غيرها، فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني، وفي الإلهيات تخميني، لا يعرف ذلك من جربه وخاض فيه. فهذا إذا قرر على هذا الذي ألحد بالتقليد، ولم يقع منه موقع القبول، بل تحمله غلبة الهوى، والشهوة الباطلة، وحب التكايس على أن يصر على تحسين الظن بهم في العلوم كلها. فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم، فإنها إن لم تتعلق بأمر الدين، ولكن لما كانت من مبادئ علومهم سرى إليه شرهم وشؤمهم، فقل من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى."[10]

وفوق ذلك كله أنه كتب كتابا شهيرا مسمى بـ "تهافت الفلاسفة" في الرد على الفلاسفة ونجح في تفنيدهم. ففندهم في عشرين مسألة، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها، واعتبارهم أهل البدع في سبع عشرة. وكان الإمام الغزالي على حق في الرد على الفلاسفة في بعض تأويلهم في العقائد الإسلامية، غير أنه تشدد في الرد عليهم حتى منع المسلمين عن أخذ بعض العلوم الإنسانية التي ليس لها علاقة بعلم الإلهيات. وكان له العذر في هذا التشدد أيضا لأن عصره كان يقتضي ذلك، لأن الناس في زمنه قد بدأوا يبحثون حول الإسلام ومبادئه في ضوء الفلسفة، ويثيرون الشبهات حول العقائد الإسلامية. ففي هذه الأوضاع المؤلمة قد برز الإمام الغزالي، ورد على الفلاسفة في أقوالهم غير الإسلامية. غير أنه سلك موقفه المتشدد في تفنيدهم وكان على المتأخرين أن يفهموا طبيعة عصر الإمام الغزالي وطبيعة عصرهم، ولكن بالعكس تحت تأثير كتبه أنهم قد أغلقوا على أنفسهم أبواب هذه العلوم. فتوقف تقدم العلوم ولا سيما العلوم الإسلامية. كما يقول الشيخ محمد عبده: "ثم انتشرت الفوضى العقلية بين المسلمين تحت حماية الجهلة من ساستهم، فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم، فوضعوا ما لم يعد للإسلام قبل باحتماله، غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارا، ومن البعد عن ينابيع الدين أعوانا، فشردوا بالعقول عن مواطنها، وتحكموا في التضليل والتكفير، وغلوا في ذلك حتى قلدوا بعض من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم والدين."[11] فتوقف تقدم العلوم عند المسلمين عندما قيدوا العقل بأغلال التقليد، وقاموا باستعباده، وضيقوا دائرة العلم في الإسلام، وآمنوا بنظرية المناقضة بين العلم والدين. فإن السبب الرئيسي لانحطاط العلوم الإسلامية هو إهمال وظيفة العقل.[12]

المنهج الدراسي مشتمل على الشروحات والمختصرات
من المهم أن تذكر هنا هذه الحقيقة المريرة أيضا أن العلماء عندما أغلقوا باب الاجتهاد، ودخلوا في التقليد، والتزموا بقواعد قررها الأئمة السابقون في إصدار مسائل جديدة واردة عليهم، فلم يجدوا مجالا واسعا لتقديم الأفكار العقلية المبتدعة وعرضها على المسرح العلمي، فلجأوا إلى شرح أمهات الكتب للعلماء الكبار وعباقرة العلوم المختلفة، أو إلى تلخيصها في كتب مختصرات لإرواء غليلهم العلمي. كما يقول ابن خلدون: "ولما صار مذهب كل أمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس، فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه، بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب أمامهم. وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة، يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة، واتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا. وهذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد."[13] وإن تيار كتابة شروحات ومختصرات، وكتابة حواشي على حواشي، انتشر بصورة غريبة حتى - وفقا لقول أحمد أمين – "أن عالما يأتي فيختصر، ثم يأتي عالم فيشرح ما اختصره، حتى تكون لنا من ذلك ما هو أطول من المطولات. ولم نكسب من ذلك إلا المجهود الضائع. وكل يوم يمر يزداد الحال سوءً و ركودا"[14].

وازداد الأمر سوءً عندما تم إدخال هذه الشروحات والحواشي والمختصرات في المنهج الدراسي لمؤسسات التعليمية الإسلامية، مما أدى بالحركة العلمية الإسلامية إلى ركود وانحطاط بأسوأ صورة. وقد لاحظ ابن خلدون طريقة المتأخرين في كتابة الشروحات والمختصرات ثم إدخالها في برنامج التعليم، ثم نقدها نقدا لاذعا في مقدمته. وانفرد الكلام بتفصيل عن هذه الشروحات والمختصرات وضررها في التعليم يستحق أن يذكر كل ذلك للقارئ. فيقول في نقد شروحات مطولة في التعليم: "اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك. وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها. ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع القصور، ولا بد دون رتبة التحصيل. ويمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلاً وما كتب عليها من الشروحات الفقهية، مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير والتنبيهات والمقدمات والبيان والتحصيل على العتبية، وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه. ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم، والإحاطة بذلك كله، وحينئذ يسلم له منصب الفتيا، وهي كلها متكررة والمعنى واحد. والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها، والعمر ينقضي في واحد منها.

ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط، لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً؛ ولكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها. ويمثل أيضاً علم العربية من كتاب سيبويه، وجميع ما كتب عليه، وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم، وطرق المتقدمين والمتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك. وكيف يطالب به المتعلم، وينقضي عمره دونه، ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر.[15]

المختصرات ومضراتها في التعليم
وكذلك أفرد ابن خلدون الكلام في المختصرات ومضراتها في التعليم، فيقول: "ذهب كثير من المتأخرين الى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها، باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن. وصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسراً على الفهم. وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان؛ فاختصروها تقريباً للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه، وابن مالك في العربية، والُخونَجِي في المنطق وأمثالهم. وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدىء بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم كما سيأتي.

ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم، بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها. لأن ألفاظ المختصرات نجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت. ثم بعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات، إذا تم على سداده، ولم تعقبه آفة؛ فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة. وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة؛ فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها."[16]

اهتمام بتدريس العلوم الآلية أكثر من الاهتمام بتعليم العلوم المقصودة بالذات
ثم إن المؤسسات التعليمية الإسلامية اهتمت بتدريس العلوم الآلية أكثر من اهتمامه بتعليم العلوم المقصودة بالذات. فكانت كتب النحو والصرف والمنطق تتمتع بمكانة مرموقة في المنهج الدراسي في المؤسسات التعليمية الإسلامية مما جنى على العلوم المقصودة بالذات؛ وأدى بالعلوم الإسلامية إلى ركود وانحطاط. وهذا استلفت نظر ابن خلدون. فأفرد فصلا مستقلا في مقدمته في تجسيم عيوب هذه الطريقة التعليمية ونتائجها السلبية على التعليم. كما يقول: "إعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات، كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة؛ وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم، كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة. وربما كان آلة لعلم الكلام وأصول الفقه على طريقة المتأخرين. فأما العلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار؛ فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته وإيضاحاً لمعانيها المقصودة. وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. ولا يوسّع فيها الكلام ولا تفرع المسائل، لأن ذلك يخرج بها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغواً، مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها، مع أن شأنها أهم، والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة؛ فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعاً للعمر وشغلاً بما لا يغني. وهذا كما فعله المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه."[17]

وفوق ذلك كله أن المنهج الدراسي للمؤسسات التعليمية الإسلامية كان يحتوي على كتب مشتملة على علوم شتى من التفسير والفقه والمباحث الفلسفية والنحوية وغيرها من العلوم. ومثال ذلك تفسير البيضاوي ففيه مباحث في الفلسفة واللغة والأدب والنحو والصرف وغيرها من العلوم. وهذا النوع من المباحث المخلوطة بموضوعات شتى يجعل المتعلم مضطربا. فلا يستطيع متعلم أن يكسب قدرة على موضوع واحد فضلا عن موضوعات شتى بعد انفاق قسط وافر من عمره. وقد أشار إليه الشيخ محمد عبده في كتابه رسالة التوحيد فيقول: "هذا هو السبب في خلط مسائل الكلام بمذاهب الفلسفة في كتب المتأخرين، كما نراه في كتب البيضاوي والعضدي وغيرهما وجمع علوم نظرية شتى وجعلها جميعا علما واحدا، والذهاب بمقدماته ومباحثه إلى ما هو أقرب إلى التقليد من النظر، فوقف العلم عن التقدم."[18]

هكذا أن تيارت التقليد وتيارات كتابة الشروح والحواشي والمختصرات ثم إدخال هذه المختصرات والشروحات والحواشي في البرنامج التعليمية جنت على العلوم الإسلامية وأدت الحركة العلمية إلى الركود والجمود.

الفترة المظلمة
فساهمت هذه الأسباب جميعها في انحطاط العلوم الإسلامية. وهذا الانحطاط العلمي قد جلب للمسلمين الركود والتخلف في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والميادين الأخرى. وقد ظل المسلمون في هذا الانحطاط الشامل فترة طويلة تمتد منذ عصر المتوكل إلى هجوم نابليون على مصر عام 1798م. وهذه الفترة الطويلة تعتبر في التاريخ الإسلامي فترة مظلمة من ناحية الابتكار الفكري ووالإبداع العلمي. فجمد فيها الفكر الإسلامي. كما يقول أحمد أمين: "ولما ضعف شأن المعتزلة وقع الناس تحت سلطان المحدثين وأمثالهم من الفقهاء، وظلوا تحت هذا السلطان منذ عهد المتوكل إلى ما قبل اليوم بقليل؛ فكانت النتيجة جمودا بحتا، علم العالم أن يحفظ الحديث ويرويها كما سمعها، ويفسرها تفسيرا لغويا، ويشرح رجال السند كما شرحه الأقدمون هذا ثقة، وهذا ضعيف، من غير نقد عقلي؛ فقه الفقيه أن يروي أقوال الأئمة قبله، فإذا عرضت مسألة جديدة، لم تكن، فقصارى جهد المجتهد أن يخرجها على أصول إمامه."

وتعجبني عبارة المسعودي السابقة، وهي أن المتوكل أمر الناس بالتسليم والتقليد؛ فهذه هي طبائع العلماء من عهد المتوكل، تسليم بالقضاء والقدر، وتسليم بما كان وما يكون، وتقليد للسابقين، وتقليد في الفتوى والآراء، ومن ثم تكاد تكون الكتب المؤلفة في الحديث والفقة والتفسير، بل والنحو واللغة من عهد المتوكل صورة واحدة، إن اختلفت في الشيء فاختلفت في الأطناب والإيجاز والبسط والاختصار. وأما الأمثلة فواحدة، وأما العبارة الغامضة في الكتاب الأول فغامضة في الكتاب الأخير، كلها خضعت لأمر المتوكل بالتسليم والتقليد، وانعدمت فيها الشخصية كلها، لأن الشخصية عدوة التسليم والتقليد. ولو بقى الاعتزال لتلون المسلمون بلون آخر أجمل من لونهم الذي تلونوا به."[19] ويقول في مكان آخر: فلما ضعف شأن المعتزلة بعد المحنة ظل المسلمون تحت تأثير حزب المحافظين نحوا من ألف سنة، حتى جاءت النهضة الحديثة."[20]

 

أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها، حرم كارغل التابع لجامعة كشمير، كارغل

 

 

[1] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص 544

[2] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص448

[3] الشهرستاني، الملل والنحل، ص204، ج1

[4] أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 2، ص 60،

[5] عبد الرحمن الكواكبي، أم القرى، ص 35

[6] عمر فروخ،الفكر العربي، ص 289

[7] الإمام الغزالي، "الاسكندرية، مصر، ص 12

[8] نفس المصدر، ص 14

[9] الإمام الغزالي، المنقذ من الضلال، ص35

[10] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، دار ابن خلدون، الاسكندرية، مصر، ص 20

[11] محمد عبده، رسالة التوحيد، دارالشروق، ص31

[12] وأما وظيفة العقل فهي إمعان النظر في الكون والتفكير عن الله وعن آياته وعن أحكامه وغيرها ليتوصل إلى الحق،

[13] مقدمة ابن خلدون، 449

[14] ظهر الإسلام، ص215، ج4

[15] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص 531

[16] ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، 532

[17] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون،

[18] محمد عبده، الأعمال الكاملة، تحقيق، الدكتورمحمد عمارة، دارالشروق، ص 389 ج3

[19]أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج3، ص 204

[20] أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج3، 207،