تشير الناقدة، محررة الكلمة، إلى ثراء الميراث الذي حاور الوباء، واستجاب لمعاجة الجوائجِ المتعاقبة جماليًّا في الرسم. لا يستثنى من ذلك إلا المخزون الفني الذي تناول جائحة انفلونزا عام 1918، الموسومة خطأ بـ"الانفلونزا الاسبانيّة". وعليه تتناول بالتحليل الأعمال الفنية التي قاربتْ هذه الجائحة وظروف انجازها.

شهادات فنية على إنفلونزا 1918

أثير محمد على

 

منْ منا لم تنتابه آيات الاستغراب، بل واكتسحه عاصفٌ من الأسى، مِنْ منظرِ المدنِ المجبولةِ بالوجوم، بفعل تفشي الفيروس التاجي. الأمر الذي دفع العديد من النقاد والمهتمين بالفنّ في الفضاء الأوروبيّ لمراجعة الذاتِ الثقافيّة، واستعادةِ لوحاتٍ يُعمِّرها استفهام الموت.

وراح البعض ينقّب عن التعابير الجماليّة حول الجوائح التي انتابتْ تاريخ الإنسانيّة. حتى يمكن القول، أنّ البحث المحموم في راهن الثقافة الأوروبيّة عن كليّة البعد الإنساني في لوحة الوباء عامةً مع التفكّر في الوضع القائم، يتبدّى كما لو أنّه محاولة للسجال مع خطاب مابعد الحداثة ومفهوم الأناركيّة الفرديّة؛ والقول بضرورةِ عدم الانغلاقِ على المركز الأوروبيّ، والحاجة للانفتاح على مفهوم الإنسان بالمطلق؛ والتـأكيد على معايير أخلاقيّة وحقوقِ إنسانٍ كونيّة.

من جانب آخر، من الملفت للانتباه أثناء التنقيب في ماضي التصوير التشكيليّ، ثراء الميراث الذي حاور الوباء، واستجاب جماليًّا للتعبير عن الجوائجِ المتعاقبة ومعالجتها في الرسم. ومن كلّ هذا التراث الأوروبي، لا يستثنى إلا المخزون الفني الذي بالكاد تناول، أو أتى على ذكر جائحة انفلونزا عام 1918، الموسومة خطأ بـ"الانفلونزا الاسبانيّة"؛ والتي لم تفارق حياتنا الدنيا، إلا وقد أتتْ على ملايين من الضحايا البشرية، متفوقةً على ما حصدته الحربين العالميّين منفرديتن.

بدأتْ انفلونزا 1918، عند نهاية الحرب العالمية الأولى، في جهةٍ من الأرض لم يُتفق بعد على تحديدها، وساعدتْ تنقلات الجنودِ على تسريعِ انتشارها. وكان للإعلام الأوروبي في البلدان المشتبكة بالقتال الدور البارز في التعتيم على الوباء (بالاهمال، أو من أجل التحكم بمعنويات الجنود على الجبهات)؛ في حين أنّ إعلام اسبانيا، التي لم تكن منخرطة بالحرب، شرع بالتنبيه للوباء الآخذ بالاستفحال والتدخل في الصراع على البقاء حينئذٍ.

وعليه، كانت أخبار الانفلونزا المنتشرة في الصحافة الايبيرية، وراء وصمِ انفلونزا 1918 بالاسبانيّة، بل بـ«السيدة الاسبانيّة»، ودمغِ قبلتها بـ«المميتة»؛ على طباق نقيض مع «القبلة» الشهيرة في لوحة النمساوي غوستاف كليمت (1862-1918)، الذي قضى في الوباء في شهر فبراير؛ وشاء القدر أنْ يرك له مواطنه وتلميذه التعبيريّ اِيغون شيلي (1890-1918) رسماً لوجهه بعد الموت، وهو مسجىً في عنبر الجثث في فيينا. ويُعتبَر هذا التصوير أوّل الشواهد الفنيّة على بصمةِ الجائحة آنئذٍ.

 

يعزو البعض قلّة المنجز الفني الذي أولى عنايته بانفلونزا 1918 مباشرة، إلى الحالة النفسيّة المنهارة بعد الحرب، والرغبة الجامحة في نسيانِ الماضي القريب، والشروع في زمنٍ يحاول الحاضر وهو يرى المستقبل.

يخلصُ المطّلعُ على المنجزِ الفنيّ إلى أنَّ الندوب الكارثيّة، التي خلفتها الحرب العالميّة الأولى، قادتْ فناني «الطليعة التاريخيّة» إلى الشعور بأعراضِ أزمةٍ حادة، والإحساس بضرورة مراجعةِ الأفكار الجماليّة «المضاد للشعر»، أو تلك التي تدعو لـ«موت الفنّ»، أو «إنكار الفنّ» أو «انكار مبدأ المحاكاة الأسطي».. وهي مفاهيم كانت شائعة في كثير من الأوساط الثقافيّة قبل الحرب. وهنا، لا ننسى أنّ أحد ضحايا الانفلونزا من بين صفوف الطليعة كان الشاعر السوريالي غيوم أبولينير الذي توفي عن عمر يناهز الـ38 عامّا.

هكذا، بعد الحرب، واعتباراً من عام 1923 غدا الحديث يجري عن «الموضوعية الجديدة» كمولودٍ شرعي لـ«التعبيريّة»، رغم الاختلافِ البيّن بينهما على مستوى التوجه الفني. ذلك أنّ «التعبيرية» أكدتْ على عُقمِ اعتماد الفنِّ على الواقع، بينما «الموضوعيّة الجديدة» هي بحثٌ جماليّ في خصوبة الصلة بينهما. هكذا تولّدتْ لدى الفنانين بعد الحرب الحاجة إلى إعادة النظرِ في المواقف الذاتيّة المتطرفة، وخلقِ تشكيلاتٍ فنيّة تؤكد الحياة، وتوائم بين "الموضوعيّة" والأسلوب الذاتي دون أنْ تلغيه.

وعليه ليس بمستغربٍ أنّ بقايا ذاكرة انفلونزا 1918 الفنيّة تنتمي للتعبيريّة، عبر عملين أُنجزا في بلدين أوربيين مختلفين، وهنا أشير إلى النمساوي ايغون شيلي، والنرويجي ادوارد مونك (1863-1944).

يُعرف شيلي برسام التعبيريّة النمساويّة بامتياز، إلا أنّه عمل بشكلٍ مستقلٍ مغايرٍ، حتى يمكن التأكيد أنّه كان مفردًا بتعبيريته وتطويره لأسلوبٍ ذاتيّ خالص. تجلّتْ خطوطه وألوانه مثقلةً بالوحشةِ والفضائحيّة، ومثيرة في توترها واضطرابها؛ فيها تتواشج أوجار الإيروس مع الموت، كما تتضاعف الشخوص كمرايا متعاكسة تردد بعضها بعضًا دون أنْ تتوالف، سواء كانت مرسومة في لوحة واحدة أو لوحات متفرّقة.

وتتبدّى أعماله بالمجمل كشواهد على وطأةِ الحالة النفسيّة والجسديّةِ، والتمرد على العرفِ الاجتماعيّ والفنيّ المهمين. وتحمل اللوحة على كاهلها مَسعى كينونةٍ مفردةٍ للتحقق عبر الإغراقِ في بوهيميّة الغرائز والفضح: فضحِ الذاتِ وعبره الآخر والكلّ!

من جانب آخر، ورغمًا عن معاناة شيلي، كان عام 1918 الموافق لسقوطِ الامبراطورية النمساويّة-المجريّة، عامًا خصبًا بالنسبة للفنان، فقد أنجز فيه لوحاتٍ كثيرة، وشارك في معارض مختلفة، باع فيها العديد من أعماله. وفي تلك السنة بدأ برسم لوحة «العائلة» ذات الأسلوب التعبيريّ بامتياز. وتُمثّل أسرةً مكوّنةً من رجلٍ وامرأةٍ وطفلٍ: الرجل المصوّر هو إيغون شيلي؛ والمرأة، رغم عدم الشبه الكبير، هي زوجته إديث هارمز، التي تزوجها عام 1915. أما عن الطفل، فيؤكد مؤرخو الفن أنّ شيلي أضاف مرتسمه إلى اللوحة بعد معرفته بحَبَلِ زوجته. بيد أنّ تصاريف الدهر كانت تترصد هذه الأسرة المحتملة؛ ففي خريف 1918 تصاب زوجته بالانفلونزا، وتموت مع الجنين في شهر حملِها السادس.

 

 

هكذا تستبطن لوحة «العائلة» عنف قول المصير دون قصدٍ من الرسام، أو عساها رؤيته القلبيّة ومحاولته مصارعه الموت على مدار الفنّ في اللوحة، وتحقيق الحياة المأمولة فوق قماش الرسم.. لعله أراد الانتصار في نِزاله هذا عبر إحلال الواقع الفني (وهم يدوم ويبقى) محل الواقع المادي (واقع ملموس يزول).

من جانب آخر، تتبدّى اللوحة كأنّها تستعجل قول الحياة وهي في سباق مع الموت. ذلك أنّ إيغون نفسه تبع زوجته إلى القبر بعد ثلاثة أيام من وفاتها، عن عمر يناهز الـ28 عامًا، مخلفًا وراءه اللوحة وفيها الطفل المولود في وَهمِ الرسم حيًّا يرزق مع والديه؛ وتاركًا مناداته الجماليّة الأخيرة قبل الرحيل.

وصارت هذه اللوحة شهادة غير مباشرة على الإنفلونزا الإسبانيّة في تاريخ الفنّ.

قبل أنْ أترك تصوير «العائلة»، أود التنويه إلى أنّه يبدو كحوار مع تصوير آخر، كان شيلي قد أنجزه قبل الوباء سنة 1910، وأقصد به اللوحة الموسومة بـ«أم ميّتة»؛ وفيها صوّر امرأة حبلى متوفاة، يضمُ رحمها جنينًا حيًّا. كما لو أنّ الرحم كفنٌ يطوي الحياة، ويوعز بأنّ الموات محايث للحياة الدنيا. على هذا النحو تعبّر هذه اللوحة عن مدى قرب الحياة من الموت عن قصدٍ فني؛ بينما لوحة «العائلة» تشير إلى ذلك دون قصد، أو عساها رؤيا الفنان القلبيّة كما أشرت سابقًا.

أما ادوارد مونك فقد تعرف على سيرة الموت، وهو لا يزال صغيرًا، حينما كان يتسلل إلى جسد أمه وأخته. تأثر بحراك الشبان البوهيمي في العاصمة النرويجيّة، الأمر الذي أثّر على أسلوبه وانزياحه نحو التعبيريّة. وقد لعبَ الفزعُ والموتُ دورَ الملهمِ والموجّهِ لدفةِ زورق مونك الجماليّ، على حدّ تعبيره، خاصة في اللوحات التي تنزف من الأمسيات الجنائزيّة، وتنسرب من السهر على الموتى، وتنزّ من المناجاة المشبوحة قرب السقماء.. ملخصةً بالتصوير الإحساس المأساوي، الذي يميز الثقافة الاسكندنافية من سترندبرغ إلى ابسن حتى كيركيجارد.

وإسوة بشيلي أثارت لوحات مونك السخط، واعتبرت فضائحيّة؛ وفيها أشاح وجهه بعيدًا عن الانطباعيّة، والتفت إلى تصوير دخيلة النفس البشريّة، وعالمها الجواني؛ وعمل على تقويض التشكيل الموضوعي، ليعبر عن وجهة نظرٍ ذاتية محضة؛ حتى أنّ لوحته «الصرخة» (1893) تعتبر الأكثر تعبيريّة في الرسم الحديث.

أصيب مونك بانفلونزا 1918، ولكنه انتصر على الداء. وفي عام 1919 بدأ بالتماثل للشفاء، وشرع برسم صورته الذاتية أثناء فترة النقاهة. وفيها بقي وفيًّا للتعبيريّة التي مارسها على شخوص مرتسماته السابقة، خاصة من خلال التحويرات الغروتسكيّة الحادة. وانتهتْ اللوحة إلى تصوير حالةِ عليلٍ يحاول التعافي، والخروج إلى النور والتلوين، من قتامة الاحتضار؛ رغمًا عن أنّ صورته توضّح متلازمة إرهاق الجائحة المزمن.

ويُرى مونك في اللوحة بكلّ هزاله وشحوبه، كليلًا جالسلًا على كرسي خيزران قرب السرير، يتطلّع نحو المتلقي بعينين غائرتين كهفيّتين وفمٍ فاغر؛ لكنه بذات الوقت، يتطلع إلى نفسه، وإلى دخيلته، لطالما هو رسم ذاتي ينجزه الفنان عن الرسام الذي فيه أثناء الإبراء من الداء. وكأن الفن هو وسيلة مونك للتفوق على الاعتلال؛ فالانتصار على الداء هو تحقق لماهيته. وعليه، أضحتْ اللوحة واحدة، من أهم الشهادات المروعة المباشرة، التي تتفاوض فيها الحياة مع الموت.

وقام بتكرار رسمه الذاتي هذا، ما لايقل عن أربع عشرة مرة في عام 1919، على غرارِ ما فعله مع «الصرخة»، مشددًا عبر التكرار على الحياة والاحتفاء بنجاة نفسٍ على شفا حفرة من موت. وعليه، انضمت هذه اللوحة كذلك إلى بقايا انفلونزا 1918 في تاريخ الفن.