تواصل (الكلمة) هنا نشر القسم الثاني من هذه الدراسة التي تناول قسمها الأول في العدد السابق مسيرة النقد الحديث للعهد الجديد في القرن التاسع عشر، لتصل بها هنا إلى استقصاءات النقد والبحث التاريخي الفيلولوجي في القرن العشرين في هذا المجال.

النّقد الحديث للعهد الجديد خلال القرن العشرين

جون. س. كسِلمان ورونالد. د. ويثروب

ترجمة: عزالدّين عناية

1 ـ المسارات المستجدّة(*)
ورثت دراسات القرن التّاسع عشر توجّهات القرن السّابق المتنوّعة، لكن بقيت المسائل التاريخية الناشئة عن الرّوايات الإنجيلية بشأن المسيح تحتلّ مكان الصدارة. فإلى أي حدّ استبطن إيمان الكنيسة البدئية وحوى خواص شخصية المسيح؟ من الجلي أن هذا التّساؤل سينتهي بالتأثير على المعنى والأهمية اللاّهوتيين المنسوبين لبعض الرّوايات. فالبحث عن "الإنجيل الكامن خلف الأناجيل" من خلال نقد الشّكل كان إحدى الإجابات المقدَّمة عن هذا التساؤل من دراسات الكتاب المقدّس خلال القرن التّاسع عشر.

وإحدى نتاجات هذا السياق كان الإعتراف بأولوية اللاّهوت، كما يجلو من القاموس اللاّهوتي (TWNT, GLNT)، الذي شُرِع في إنجازه سنة 1932م تحت إشراف ج. كيتيل (1888 ـ 1948م) G. Kittel، والذي ساعده في إنجازه مختلف الدّارسين الألمان الكبار للعهد الجديد. وحتى وإن لم تتساو كلّ الأبحاث في هذا العمل في القيمة العلمية، فقد كانت إحدى المساهمات اللاّهوتية الكبرى لدراسة العهد الجديد في ذلك القرن. ولإلمام أحسن بالتآلف بين النّقد واللاّهوت في القرن XIX، نأخذ هنا بعض العيّنات الرّائدة مع بداية القرن.

أ ـ هجران البحث الحرّ عن يسوع التاريخي
كان المسعى الستروسي لتدوين حياة يسوع، وبإقرار من الكاتب نفسه، مخيبا، كما طرق أيضا ومن جوانب أخرى، مسار أعمال مشابهة، بسبب طبيعة المصادر المتناولة. وبحسب قياس أستعيد لاحقا وصيغ من طرف مدرسة نقد الشّكل، شبّه ستروس المقطوعات والرّوايات والأقوال المفردة المتكوّنة منها الأناجيل بعقد من الجواهر المعروضة، سعى كتّابها لترتيب انتظامها حسب هيئة مصطنعة. ففي النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، بدا هذا التشكّك غير مبرّر. في مستوى أوّل، وضع الاكتشاف والتدليل العلمي على نظرية المصدرين في المتناول مجموعتي "مرقس" و"Q"، بصفتهما الأكثر قربا من التراث الرّسولي الأصلي. وفي مستوى ثان، وبقيادة هرناك ارتأت المدرسة الحرّة إمكانية الإلغاء، بفضل المنهج التاريخي النّقدي، للاعتقاد المسيحولوجي المجلى من طرف رايماروس داخل الأناجيل، هكذا يتيسّر الصعود ليسوع التاريخي الكامن خلف مسيح الإيمان المعلَن في العهد الجديد. وتحت تأثير ذلك، عرف النّصف الثاني من القرن التّاسع عشر إنتاج عدد وافر من سِيَر يسوع مبنيّة على وقائع متأتّية من نقد القرن الثامن عشر، وبالتّالي الإقرار، بوجود مصدرين أساسيين وبإمكانية تخليص تلك السّير من الادّعاءات العقدية.

* كانت الهجمة الأولى ضدّ هذه الادّعاءات مع المؤلَّف الكلاسيكي ـ Das Messiasgeheimnis in den Evangelien- ، الذي نشره و.وراد (1859-1906م) W. Wrede ، سنة (1901)، والذي وظّف فيه المنهج النّقدي الذي صاغه التحرّريون، مبيّنا الطّابع اللاّعلمي لصورة يسوع المختلَقة. كما ذهب إلى أن إنجيل مرقس، مثلما هو شأن الأناجيل الأخرى، ليس مجرّد سيرة ذاتية، بل تأويل لاهوتي عميق لمعنى يسوع. ومن البدايات الأولى لعمله، لا يعرض كاتب الإنجيل يسوعا بشريا ولكن يسوعا إلهيا بصفة كلّية. وتتلخّص أطروحة وراد بشأن مسيائية يسوع كالتّالي: لا يقدّم يسوع التاريخي أيّ سند بشأن المسيا، فعلى إثر قيامته، تفطّن الحواريين أنه المسيح. فهم قرأوا رسالته المسيائية داخل الحياة الأرضية وخلقوا "السرّ المسيائي" (الإخفاء للطبيعة المسيائية من جانب يسوع) لشرح حدث، كون الطبيعة الحقيقية للمسيا بقيت مجهولة لديهم، وخصوصا، لدى اليهود حتى رحيل المعلّم. فالسرّ المسيائي بالتالي، هو تقليد خُلِق من طرف الجماعة المسيحية الأولى ولقِي قبولا لدى مرقس، الذي لم يرو بموضوعية المؤرّخ بل بوجهة نظر إيمانية مسيحية. بهذه النظرية سبّب وراد خيبة أولى لتفاؤل البحث الحرّ حول يسوع التاريخي، ثم سيجيء الإجهاز النهائي على ذلك المسار بعد سنوات قليلة مع شويتزر (1) Schweitzer.

* نشر أ. شويتزر (1875-1965م) A. Schweitzer  أيضا، سنة 1901 دراسة بعنوان: - Das Messianitats-und Leidensgehimnis-، دافع فيها عن تاريخية السرّ المسيائي، مؤكّدا أن الأمر ليس بدعة كنَسِية بل قناعة بالمسيح. والعمل الأكثر أهمية لشويزر هو "تاريخ البحث في حياة المسيح" المنشور سنة 1906، وهو عرض متكامل للبحث عن يسوع التاريخي من رايمروس إلى وراد. فبعد نقد حادّ من طرف التمثّل اللّيبرالي ليسوع (المعلّم الأخلاقي، كما نعته بانبهار هرناك في دروسه في "جوهر المسيحية") يعيد شويتزر بناء ما بدا له الصورة الصّحيحة ليسوع التاريخي. متّبعا التعليمات المقدّمة من طرف ج. وايس J. Weiss في مؤلّفه:- Die Predigt Jesu Vom Reich Gottes 1892-، حيث يبدي شويتزر الطّابع الرّؤيوي والأخروي لحياة يسوع وتعليمه، الذي كان شخصية بطولية، عنيدا يرنو ليكون المسيا، أعلن الرّسالة الأخروية لنهاية العالم، وسعى باتجاه حتفه لتأكيد الحدث. وحتى وإن كانوا قلّة من قبلوا بهذه الصورة ليسوع التاريخي، فإن عمل شويتزر يكشف أهمية الأساس والسياق الرؤيوي لتعاليم يسوع، مشكّلا بذلك ختما للبحث الحرّ عن يسوع التاريخي(2).

ب ـ ردود الأفعال الكاثوليكية الأولى عن الأبحاث النّقدية
تكاد تكون آثار نقد الكتاب المقدّس على الدّراسات الكاثوليكية حتى القرن العشرين غائبة، فالتقليد النّقدي الذي أنتج أعلاما مثل ستروس وبور بقي يُنظر إليه بعين الاحتراز. ومع سنة 1943 فقط، على إثر الرّسالة البابوية DAS، لبيو الثاني عشر، شرع الدّارسون الكاثوليك للكتاب المقدّس حيازة حظوة في الصّفوف المتقدّمة للدّراسات المستحدثة حول العهد الجديد.

     كان الدّومينيكاني م.ج لاغرانج M.J. Lagrange 1855-1938م) دون شك، من أوائل الدّارسين الكاثوليك للكتاب(المقدّس. حيث اطّلع على الأبحاث النّقدية الألمانية حين كان طالبا في قسم اللّغات الشّرقية في جامعة فيينا، ومع سنة 1890م، وبدون أي دعم مالي، أسّس بمدينة القدس "المدرسة التّطبيقة للدّراسات الإنجيلية /الكتابية"- l'Ecole pratique d'études bibliques-، المعروفة بشكل أوسع تحت تسمية:- Ecole biblique-. كان الهدف الرّئيسي للمدرسة تطوير دراسات الكتاب المقدّس، ليس فقط باعتباره نصّا موحى من الله ولكن أيضا كعمل أدبي يمكن أن يُفحَص بالاستعانة بالمنهج التاريخي النّقدي الذي تمّ تطويره خلال القرن XIX. وخلال سنة 1892م بعث لاغرانج "المجلّة الكاثوليكية" -Revue Biblique-، الأكثر أهمّية في دراسات الكتاب المقدّس. وفي سنة 1902م ألحقها بـ:- Etudes bibliques-، وهي سلسلة شروحات للكتاب المقدّس، ذات طابع عقدي وعلمي. كانت النتيجة الكبرى لعمل لاغرانج، وبإيجاز، إدخال الدّراسات الكاثوليكية، التي كانت حكرا حتى تلك اللّحظة على الدّارسين الرّيبيين والعقلانيين البروتستانت، موضحا بهذا الشّكل أن استعمال المنهج التاريخي النّقدي ليس بالضرورة مناقضا للإيمان(3).

     حاز دارس كاثوليكي آخر أهمّية معتبرة، اسمه أ. لويزي A. Loisy (1857-1940م)، هو فقيه لغوي وشارح بارع، انتهت مسيرته لسوء الحظّ في الحداثة. شغل منذ 1884م إلى 1893م منصب مدرّس الكتاب المقدّس بالمعهد الكاثوليكي بباريس، كان قد خصّص رسالته للدكتوراه للتاريخ الكانوني للعهد القديم، التي أنهاها سنة 1890، والتي يظهر فيها التأثير الحاصل للنقد. يقبل لويزي في عمله مبادئ المدرسة النّقدية ونتائجها، كما يدنو من الجناح النّقدي الحاد فيها. قاد الإقتراب من الحداثة إلى تصادم مع السّلطات الكنسية، وانتهى إلى صدور قرار حرمان ضدّه سنة 1908م. وبالمثل أثار لويزي شكوكا أيضا لدى الدّارسين الأرثوذكس والكنسيين المحافظين مثل لاغرانج.

     العمل الهام للويزي كان "الإنجيل والكنيسة" 1902م، وهو بمثابة ردّ على كتاب هرناك "جوهر المسيحية"، الذي ذهب فيه إلى أن جوهر المسيحية في التحقيق الدّاخلي والفردي لله في الرّوح البشرية، مما يجعل المسيحية لا تلزمها أيّة حاجة للكنيسة، وهذا الموقف يمكن أن يكون عقبة للإيمان كما أنه يدخل تحويرا جذريا على المسيحية. ضدّ هذا الموقف دافع لويزي عن الكنيسة كمؤسّسة تشكّل وساطة أصيلة بين الله والبشر، نافيا كونها بُعِثت من طرف المسيح للغرض المراد لها، ومثبتا تطوّرها بحسب المراد الإلهي، فما كان يسوع يدري ما سيؤول إليه أمرها. صاغ لويزي لاحقا هذه الأفكار في عملين متتابعين: "الإنجيل الرّابع" 1903م و"الأناجيل الثلاثة (متى ومرقس ولوقا)" 1908م، اللّذين فصل فيهما يسوع التاريخي، غير الواعي بخاصيته الألوهوية، عن مسيح الإيمان، ومحدّدا في الجماعة المسيحية الأولى خاصيات مميّزة بين المؤمن والحدث(4).

ج ـ مدرسة تاريخ الأديان
طبقت مدرسة ـ Religionsgeschichtliche Schule ـ مبادئَ الدّراسات المقارنة للأديان، ورأت في المسيحية ظاهرة دينيّة على شاكلة غيرها مما عجّت به الإمبراطورية الرّومانية. مثل تلك المعنية بالغسل الطقوسي، أو العشاء المقدّس، أو عبادة إله ميّت ومنبعث، أو تلك التي على يقين بالحياة الأبدية، كوسيلة توحّد مع الألوهية. وهو ما يدعو للتفكير بسياق تطوّري من التمازج والتّداخل المشترك، بين المسيحية وديانات الأسرار الشّعبية ذات المنشأ الشّرقي. تجلّى أثر مقاربة تاريخ الأديان، بالأساس على تفسيرات العهد الجديد، في التأثير على بولتمان ومدرسته(5).

* وجد مذهب من مذاهب مدرسة ـ Religionsgeschichte ـ سندا في ر. ريزنستاين (1861-1931م) R. Reitzenstein  ففي مؤلّفه: ـ Die hellenistichen Mysterienreligionen - 1910م، رسم سياق الهلّنة في التاريخ البدئي للمسيحية، واستخلص ثلاث نتائج أساسية في دراسة العهد الجديد:

1 ـ خلّف الدّين الإغريقي والأديان الشّرقية عموما تأثيرات عميقة على لاهوت العهد الجديد، خصوصا ما تعلّق منه ببولس.
2 ـ البشارة، طقس الكنيسة البدئية، يمتح من ديانات الأسرار ومن الغنوصية.
3 ـ فكرة الخلاص بين موت المسيح وبعثه، استعارتها المسيحية البدئية من أسطورة غنّوصية ما قبل مسيحية.

* كان و. بوسيت (1865-1920م) W. Bousset، دون شكّ، الدّارس الأعمق تأثيرا في مدرسة تاريخ الأديان. وكان عمله الهام (1913م)- Kyrios Christos-  عصارة تطوّر للفكر المسيحي حتى إرينيو. اعترف بوسيت بأهمية الطّقس في الكنيسة البدئية، حيث رأى أن بولس وأتباعه وراء تحوير المسيحية البدئية إلى طقوس أسرار. فقد كانت عديد الجماعات المسيحية الأولى متواجدة في الوسط الهلّيني، أين اختارت، وبكلّ بساطة، بعض التجمّعات التي تدين بالأسرار يسوعا إلها جديدا، مثل "كيريوس" K?rios، النعت الملحق عادة بالإله ـ الملك في عقائد وطقوس ديانات الأسرار.

بسبب تأثير مدرسة ـ Religionsgeschichte ـ على مدرسة بولتمان، نلخّص هنا أطروحاتها الأساسية. الأولى: وهي فرضية أسطورة المخلِّص، التي توجد في شكل ما قبل مسيحي في الغنوصية. الثانية: طرح شكل من المسيحية الوثنية (Heidenchristentum)، مستقلّ عن تقاليد الكنيسة اليهودية ومتأثّر بشكل جامع بالجماعات الدّينية غير المسيحية التي يرجّح احتكاكها بها. بالنهاية، من داخل العهد الجديد يمكن العثور على دلالات "كاثوليكية بدئية" (Frühktholizismus)، أي التطوّر إلى كنيسة مؤسّساتية كواسطة خارجية ومرئية للخلاص (Heilsanstalt)، وهو سياق يمكن رؤيته كتحوير للمسيحية الأصلية البولسية(6).

د ـ نشأة النّقد الشّكلي
يمثّل نقد المصادر العمل الأكثر أهمّية لدراسات العهد الجديد في القرن التّاسع عشر، ومن بين إسهاماته القيّمة، نذكر تقديم أولوية نصّ مرقس وتحديد مصدر "Q"، واكتشاف استعمال بعض المصادر لدى متّى ولوقا. وضمن انشغاله بدراسة الوثائق المتوفّرة، لم يوفّق نقد المصادر في الذّهاب قدما وراء هذه النتائج. يتساءل النّقد خلال القرن التّاسع عشر، إن كان بالإمكان الصّعود خلف الوثائق التي بحوزتنا، إلى الفترة الممتدّة بين الوقائع والوثائق الأولى المكتوبة (30 ـ60م)، في فترة كانت فيها روايات أقوال يسوع وأعماله ترد بالآرامية.

كان هذا العمل هدف النّقد الشّكلي، أو ما عرف ب ـ (Formgeschichte، تاريخ الأشكال)، الذي سعى لدراسة أصول وتاريخ التراث ما قبل الأدبي (الشّفهي)، المطلّ من خلف الأناجيل التي بحوزتنا، بشكل تحليلي. فبحسب هذا البحث، تكوّنت الأناجيل من عديد الوحدات الموجزة، قبل صياغتها في نصّ مكتوب، كانت موزّعة بين الجماعات المسيحية الأولى كوحدات مستقلّة. كما ينشغل نقد الأشكال بأصناف وأنماط تلك الرّوايات والمقولات، إن لم نقل بالرّؤى المحفوظة في الأناجيل. عرف هذا النوع من البحث دفعا أوّليا من الباحث الكبير للعهد القديم هـ. جونكيل H. Gunkel، الذي صاغ تقنيات تأويل بغرض تمييز التقاليد الشّفهية المتخفّية وراء الوثائق والواقع المعيشي ـ Sitz im Leben ـ المتصوَّر. فقد دفع نقد أشكال العهد الجديد جونكيل، لتمييز ثلاثة مستويات مختلفة في التشكّل والمحافظة على مادة الأناجيل:

1 ـ واقع حياة المسيح ـ Sitz im Leben Jesu ـ، وهو السياق والمعنى المتيسّر نسبته لحدّ الآن لرواية أو مقولة شخصية في الحياة الأرضية ليسوع.
2 ـ واقع حياة الكنيسة -Sitz im Leben der Kirche-، وهو واقع وسياق رواية أو مقولة محدّدة ليسوع داخل حياة الكنيسة البدئية. إذ المسألة في تحديد ما الذي دفع الجماعة البدئية للمحافظة على ذكرى مميّزة عن حياة يسوع ومماثلة المعنى الذي تكتسبه.
3 ـ واقع الإنجيل ـ Sitz im Evangelium ـ، وهو سياق رواية أو مقولة الربّ في الإنجيل الواسطة. المسألة في فهم التعليم المروي بداخل سياق محدّد، وهذه الأخيرة تميز المرور من الشكل إلى الصياغة(7).

* كانت انطلاقة فترة نقد الأشكال سنة 1919م مع نشر مؤلّف: ـ Der Rahmen der Geschichte Jesu ـ لـ ك.ل. شميدت (1891-1956م) K.L. Schmidt. والأطروحة التي يعرضها هذا العمل أن الأناجيل الثّلاثة (متى ومرقس ولوقا)، هي مجمّعات فسيفسائية لمشاوير صغرى من حياة المسيح، وقد كانت بعض الحلقات، زمن الرّواية الشفوية، شائعة في وحدات مستقلّة، ولكن لا تحوي سوى قلّّة منها إشارات للزّمان والمكان الأصليين، والاستثناء الوحيد، المتشكّل من رواية العذاب، ما يبدو قد تواجد في رواية متواصلة ومتناسقة حتى زمن متأخّر. صاغ مرقس، بين تلك الوحدات المفتّتة والمستقلّة، رابطةً بمثابة "معابر جسور". وكانت صياغة تلك الأطر بسبب الأغراض اللاّهوتية، أكثر من كونها تقريرا عن حياة يسوع. وحسب مصطلح نقد الأشكال، يفكّر مرقس في الأمور، أكثر من كونه يعرض "واقع حياة المسيح"، أو "واقع حياة الكنيسة"، أو "واقع الإنجيل". فالجماعة المسيحية الأولى التي دوّن فيها مرقس وإليها إنجيله، مستبطنة ومتكيّفة مع روايات ذات معنى عن الحياة والطقس والإهتمامات الرّعوية والتبشيرية التي تشغلها.

* شهدت سنة 1919م نشر كتاب ـ Die Formgeschichte des Evangeliums ـ لـ: م. دبليوس (1883-1947م). M. Dibelius  وكانت نقطة انطلاق دبليوس من فكرة، أن النّشاط التبشيري ومتطلّبات الكنيسة البدئية قد أثّرا على تشكيل التّراث القديم. وفي نقاشه للتراث يقدّم ديبليوس مبدأين صارا بديهيين لدى النّقاد اللاّحقين:

1 ـ أنّ الأناجيل الثّلاثة (متى ومرقس ولوقا)، ليست أعمالا أدبية بالمعنى الصارم للمصطلح، بل أدبا موجّها للاستهلاك الشّعبي ـ Kleinliteratur ـ.
2 ـ ما كان أصحاب الأناجيل الثّلاثة (متى ومرقس ولوقا) الكتّاب الحقيقيين، لكن مجرّد منسقّين لمواد موجودة سلفا.

الملاحظ أن المبدأ الأوّل تداعى جرّاء التحليلات العميقة للنّقد الأدبي، والثاني تم وضعه رهن النّقاش مع نقد الصياغة.

آخر وجوه الثلاثي الهام لرواد نقد الشّكل كان ر. بولتمان. لكن قبل الانشغال بالمعالجة البولتمانية لتراث الأناجيل الثّلاثة (متى ومرقس ولوقا)، من وجهة نظر نقد الأشكال، نلخّص بإيجاز المبادئ التي اعتمد عليها عموما. كما ذكر سلفا، يفترض ذلك فترة تحوّل شفهي سابقة للأناجيل المدوّنة، كانت فيها الرّوايات والأقوال التّراثية تجول بشكل وحدات مستقلّة. والعامل الأساسي لحفظها يمكن البحث عنه، في حاجة الجماعة المسيحية ومصلحتها. ارتأى نقد الأشكال لاحقا أن المسيحييّن الأوائل ما كانت لهم مصلحة من التاريخ، فالأناجيل لا تشكّل سيرة ذاتية تعرض صورة متناسقة عن حياة المسيح، ولكن مرآة لإيمان الكنيسة البدئية وحياتها. لذلك تولي الجماعة المسيحية الأولى التاريخ قيمة باهتة، ولا تسعى لإرساء تمييز جلي للتاريخ الدّنيوي ليسوع، وبالمقابل تولي أهمية تاريخ يسوع وحضوره في الكنيسة بعد القيامة، حيث يواصل حديثه عبر الرّوح. وعبر التملّص من الرّقابة التاريخيّة والثّقة في حضور يسوع، استطاعت الكنيسة البدئية تكييف التّراث بحرّية، لأجل الاندماج بشكل خلاّق، في أي لحظة تستدعيها الحاجة في مجال الدّعوة والمحاججة والشّعائر، إلخ...(8).

2 ـ النّقد واللاّهوت: أعمال رودولف بولتمان
عبر مزج بين معرفة واسعة وصرامة علمية، مع رغبة رعوية صادقة في الكشف لمعاصريه عن مسبّبات توقّف الإيمان عن حيازة موقع الكلمة الفصل، كان رودولف بولتمان (1884 ـ 1976م) بحقّ الوجه الأبرز لدراسات الإنجيل في القرن العشرين. لقد صارت ماربورغ، المدينة التي احتضنت النشاط الأكاديمي، توبنغن الجديدة، بما خلّفته من تأثير على اللاّهوت البروتستاني. ومن وجهة نظر كمّية بحتة، تمتدّ أعمال بولتمان على ما يقارب نصف القرن، ملهِمة سيلا من الأدبيات المساندة والمعارضة(9).

يسمح فكر بولتمان بالصعود لبعض المصادر الهامة، فمن ستروس متح بولتمان مفهوم الأسطورة، مفتاح تأويل العهد الجديد، ومن وراد أخذ فكرة الطّابع غير المسيحاني لحياة يسوع وعبقرية الخلق للجماعة المسيحية البدئية، وعن مدرسة تاريخ الأديان ورث مفهوم التجميع للأصول المسيحيّة ومقولة التأثير القوي للغنوصية في عالم العهد الجديد، كما ساهم نقد الأشكال في تدنّي الاهتمام لديه بيسوع التاريخي. ولكن بعيدا عن كلّ تلك العوامل، يمكن الإقرار أن النّواة الأكثر صلابة في فكر بولتمان، قد خضعت لمؤثّرين أساسيين اخترقا جلّ أعماله، إضافة إلى عناصر أخرى تمّثلت بالخصوص في اللّوثرية الرّاديكالية ووجودية م. هايدغر(1889-1976م) M. Heidegger.

* تحتلّ اللّوثرية الأساس في توجيه فكر بولتمان، ومن اليسير إدراك ذلك في الحفاوة الإنجيلية الهامة التي خصّصها للكلمة الدّينية. لكن اللّوثرية البولتمانية تشكّل خطّا عميقا، لأنها تعي عملها اللاّهوتي كنتيجة منطقية للمذهب الإصلاحي للإثبات عبر الإيمان فحسب، وهنا يكمن التعليل اللاّهوتي لإهمال بولتمان يسوع التاريخي، بصفة البحث عن أساس تاريخي للإيمان يشكّل خيانة لمبدأ "الإيمان فحسب" ـ Sola fede ـ. فالشكّ العميق فيما يتعلّق بتاريخية الرّوايات الإنجيلية، إضافة إلى نزع الجانب التاريخي للكريغما يفترض سحب الثّقة بشأن البحث عن أساس موضوعي للإيمان. فمن وجهة نظر بولتمان، القصّة الوحيدة التي يمكن أن توجد في الكريغما هي "الداس" Dass، الحدث الجلي والبسيط لتواجد الإنسان يسوع الناصري وموته صلبا. والكلمة التي تصادف في الكريغما هي بالتالي الأساس، علاوة على كونها موضوع الإيمان. ويعتبر التفسير البولتماني الإيمان جاريا في حدود الإختيار والقرار الشخصي، كفعل إرادة أكثر من كونه إقرارا عقليا، وذلك إرث لوثري هايدغري في الآن نفسه. هكذا يغرس المفهوم التبخيسي للكنيسة، بجذوره في الفردانية اللّوثرية، والذي أعتبرت فيه الكنيسة ضمن الدائرة المعلنة والمسموعة فيها الكلمة.

* كان هايدغر وبولتمان زميلين بماربورغ، من سنة 1923 إلى 1928م، وكان بولتمان على اعتراف دائم بالتأثير الحاصل على لاهوته من الفكر الهايدغري، خصوصا عبر "الكينونة والزّمن"، الذي جرت أولى طبعاته الألمانية سنة 1927. وتحليل أثر وجودية هايدغر على بولتمان يجلي بعمق تلك النقاشات(10). وكمثال على ذلك، التأويل البولتماني للاّهوت البولسي عبر المفهوم الهايدغري، من خلال العبور من الوجود الزّائف إلى الوجود الحقّ. فسواء هايدغر أو بولتمان، فإن كليهما يفرز الوجود الزّائف، بصفة الحياة البشرية رهينة سكينة وهمية في عالم زائل، عن الوجود الحق، والذي يتحقّق حسب هايدغر نتاج قرار شخصي، في حين حسب بولتمان فهو عطيّة إلهية متبوعة بالتملّص من أي التصاق بهذا العالم وانفتاح على الكلمة المخلّصة للنّعمة المعلنة في الكريغما. ومن الهام ملاحظة بقاء فلسفة هايدغر سؤالا مشرّعا بين أتباع بولتمان(11).

أ ـ بولتمان ونقد الأشكال:
مستعينا بالنتائج التي توصّل إليها كلّ من شميدت ودبليوس، طبّق بولتمان منهج نقد الأشكال في ـ Die Geschichte der Synoptischen Tradition - 1921، مبتعدا بذلك عن المقاربة المحافظة لدبيلوس. وترفض الأبحاث البولتمانية الانحصار في أداة تصنيفية أدبية، كما تهدف لصياغة أحكام على تاريخية الروايات وعن مصداقية الأقوال التي يعثر عليها في التقليد. كما يبدو شك بولتمان في المصداقية التاريخية للأناجيل جليّا، معترفا بأن جانبا كبيرا من التراث يعود للخيال الخلاّق للجماعات المسيحيّة الأولى. وذلك النزر القليل الذي يعترف بصحّته، يوجد أساسا في أقوال المسيح، لكن لا يمتدّ الإقرار إلى السّياق الإنجيلي ـ Sitz im Evangelium ـ، الذي يعتبره خلقا للتقليد اللاّحق، وبشكل أساسي لكتّاب الأناجيل.

ب ـ بولتمان اللاّهوتي:
تتجلّى المساهمة اللاّهوتية الهامّة لبولتمان في مجال التأويلية. وحتى وإن كان العديد يرفضون قطعا النّتائج، فممّا هو جلي أن بولتمان يواجه مسألة حقيقية، تلك المتعلّقة بصعوبة ترويج الرّسالة المسيحية في القرن XX. وبصفته لاهوتي إنشغل بمدى مساءلة رسالة العهد الجديد حقيقة الناس، فهو يرى أن لغته الأسطورية لا ينبغي أن تمنع قرارهم الوجودي.

* التنقية الأسطورية للعهد الجديد: ظهر مانفستو بولتمان سنة 1941م تحت عنوان: ـ Nues Testament und Mythologie ـ، فأثار جدلا واسعا كما ترافق بسوء فهم. هناك ملاحظتان أساسيتان:

ـ في حديثه عن الأسطورة، لا يقصد بولتمان قصصا خيالية أو روايات خرافية، لكن استعمالات صور تعبير عمّا هو مفارق في حدود هذا العالم.
ـ من الهام الإعتراف بالمقصد الرّعوي العميق للنّداء البولتماني للتنقية الأسطورية، أي لتأويل العهد الجديد في حدود وجودية. فلدى بولتمان ليست التنقية الأسطورية إختزالا للعهد الجديد، ولكن الوسيلة الوحيدة لجعل رسالة الخلاص مقبولة في أيّامنا.

ومع بولتمان تأتي ضرورة التأويل نتيجة لواقع الحال، كونه من المستحيل ربط الإيمان بالرّؤية الأسطورية للعالم المميّزة للعهد الجديد. فإذا ما كانت الكريغما تقود الأفراد لاتخاذ قرار، فمن اللاّزم نزع الطّابع الأسطوري عن العهد الجديد. وكذلك تأويل الأطر الأسطورية، لغرض بيان فهم الحياة البشرية المنحشرة فيها. لقد وجد بولتمان في وجودية هايدغر الوسيلة المناسبة لهذا الشّكل من التأويل للعهد الجديد، والذي يشكّل بالنّسبة إليه أداة مناسبة، ليس فقط لطبيعة الأسطورة ذاتها، ولكن لما تعلّق بالبدأ داخل العهد الجديد ذاته، خصوصا مع بولس ويوحنّا. نموذج من التنقية الأسطورية للعهد الجديد نجده في "الإسكاتولوجيا المتحقّقة" ليوحنّا، أي الصورة التي يعرضها عن الحياة الأبدية في الزّمن المعيش، كذلك في الزمن القادم. وقد صارت الخاصية الرّعوية للتنقية الأسطورية جليّة، حين تم التفطّن إلى أن إلغاء العقبة الأسطورية، قد ساعد بولتمان لإجلاء حجر العقبة الأساسي، الإشارة التي يعلنها الإنجيل أن الحدث الأخروي لله "لأجلنا ولخلاصنا" كان له مكانا في حياة يسوع وموته.

والملاحظ أن عديد الرّدود على أطروحات بولتمان، ما كانت تعارض الحاجة الملحّة لإعادة التأويل، وفك الطلاسم، ونزع الأسطرة عن جانب من الصّور الأسطورية للعهد الجديد، ولكن كانت ضدّ الشّكل الذي انتقى به الصّور أو الأساطير المرفوضة. مثل، قيامة الأموات والمعاجز، التي يحكم بولتمان بتهافتها في نظر المحدثين، والتي تحتفظ بحسب رؤى دارسين آخرين بكلّ معانيها(12).

* بولتمان وإنجيل يوحنّا: تحوز كتابات بولتمان عن يوحنّا مجالا زمنيا موسّعا، ينطلق مع سنة 1923م، ويتمثّل العمل البارز له في التفسير المنشور سنة 1941 في سلسلة مييرك، في مؤلّفه ـ Das Evangelium des Johannes ـ. وحتى وإن كان الكثير لا يقبل بالنتائج، فالتفسير النّقدي النّافذ لهذا المؤلّف يبيّن الأهمّية الفائقة لتفسير بولتمان في تاريخ دراسات الكتاب المقدّس. وبحسب بولتمان، تعود الخطوة الأولى في تشكيل إنجيل يوحنّا إلى كاتب الإنجيل، الذي كان غنّوصيا مهتديا للإيمان المسيحي. والذي متح مادته من ثلاثة مصادر أساسية مستقلة عن بعضها:

1 ـ مصدر متكوّن من مجموعة المعجزات، ذات طابع رمزي وغير تاريخية، منسوبة ليسوع.
2 ـ مجموعة من الخطابات الشّعرية ذات مصدر غنوصي شرقي، مع خطابات الوحي (Offenbarungsreden).
3 ـ مصدر المحنة ـ القيامة، المتوازي مع تراث الأناجيل الثّلاثة (متّى ومرقس ولوقا)، والمستقلّ عنه.

وبعد رحيل صاحب الإنجيل، جاء دور المدوّن أو المنسّق، المتمثّل عمله أساسا في التنظيم والتنسيق. فقد تنبّه المدوّن بدءا إلى أن العمل الإنجيلي في غاية الفوضى، فعمل جاهدا لعرض المادة بشكل متناسق، لكن مسعاه لم يكن في غاية التوفيق. لقد وعى بولتمان عمله في إعادة تشكيل النّظام الأصلي لإنجيل يوحنّا كمتابعة لعمل المدوّن. وضمن معرفة المدوّن بتراث الأناجيل الثّلاثة (متى ومرقس ولوقا)، سعى لتنسيق عمل صاحب الإنجيل. والشيء الهام المطلوب في تنسيق صاحب الإنجيل كان في مواءمة العمل مع التعاليم السّائدة للكنيسة، لجعله مقبولا من وجهة نظر أرثوذكسية. وللقيام بذلك، أضاف مراجع مقدّسة للعمل، كان يفتقدها، لغاية إضفاء إتزان وإصلاح لإسكاتولوجيا الإنجيل. هذه المواءمة اللاّهوتية تبدو ملحّة جرّاء التوجّهات الغنوصية للإنجيلي، الذي وظّف مفاهيم غنوصية خالية من الأسطرة لتأويل معنى المسيح لمعاصريه. فالأسطورة الغنوصية للمخلّص، تم نزع الأسطرة عنها لمؤالفتها مع الشخصية التاريخية ليسوع الناصري،  في حين تتوسّط الثنائية الغنوصية الثنائية الميتافيزيقية في الأخلاق.

يولي بولتمان صورة المسيح المتلقّي للوحي أهمّيةً، فهو ليس وحيا عبر الأسرار الغنوصية المتعلّقة بعالم مفارق، ولكن على صلة بشخص يسوع ذاته. فمعنى إنجيل يوحنّا إذن لا يتمثّل في العمل الخلاصي، بل في كلمات يسوع، فهو الحقيقة النّور الذي ينبغي احتضانه. فكلّ من يعترف به يشمله الخلاص. هنا تأتي ضرورة الخلاص، لأن يسوع يمنح في الزّمان والمكان فرصة القرار(13).

3 ـ ردود الأفعال على أعمال بولتمان
تتجلّى أهمّية تأثير بولتمان على دراسات العهد الجديد من خلال كثرة ردود الأفعال المساندة والمعارضة على حد سواء. إذ تطال بعض المؤثّرات كافة الفكر المسيحي، حيث تمتد مساحة الرفض الكلّي للعمل البولتماني من الأصولية المحافظة إلى ليبرالية ف. بوري F. Buri، الذي يتّهم بولتمان بالمبالغة في نزع الأسطرة بغرض إلغاء واقع عمل الله عبر المسيح.

كانت المدرسة الاسكندنافية لتاريخ التراث أساسا التي قدّمت إصلاحات هامّة للسّلبيات النّقدية لنقد الأشكال البولتماني. ومقاربة تاريخ التراث، المدمج في حقل الدّراسات الكتابية القديمة في عمل بعض الدّارسين، مثل س. موينكل S. Mowinckel، تم تطبيقها على العهد الجديد مع المدرسة التفسيرية لأوبسالا(14)، أين يثبت أن الرّوايات الإنجيلية ليست نتيجة سياق إبداعي، ولكن نتاج سياق يهدف لنقل التّراث الإنجيلي قامت به مؤسّسة غايتها إيصال التراث. هذه المؤسّسة، أدّت في الكنيسة البدئية وظيفة مماثلة لعمل مؤسّسة الأحبار المعاصرة، المكلّفة بنقل التوراة المكتوبة والشّفهية ومراقبتها. وقد لاقى عمل جيرهاردرسون مساندة لدى من يسعون إلى بديل للحكم السّلبي على تاريخية الأناجيل، المميّزة لعديد الدّراسات الجارية في فضاء نقد الأشكال(15). كانت البدائل الرّاديكالية البولتمانية الأكثر أهمية، تلك التي صيغت من طرف لاهوتيين ألمان وبريطانيين ذوي اتجاهات محافظة، علاوة على الجدل المثار في ألمانيا من طرف التلاميذ السابقين لبوتلمان.

أ ـ ردود أفعال الدّارسين المحافظين
ما كان لاهوت بولتمان في ألمانيا ليخلو من معارضين، حيث جرى انتقاد المغالاة الشكّية والبحث عن مفتاح تأويلي لدخول العهد الجديد بعيدا عن الوجودية الهايدغرية، يكون بواسطة الكتاب المقدّس.

     (1886-1968م) ك. بارث K. Barth. هو لاهوتي عقلاني في دراسته للعهد الجديد، كان مناصرا لبولتمان. فقد جعلته الحرب العالمية الأولى يدرك خطأ اللاّهوت اللّيبرالي، وقد عبّر عن مراده في مؤلّفه: "رسالة إلى مؤمني روما" 1918م، الذي ركّز فيه على الأهمّية اللاّهوتية لرسالة بولس، مجليا طابع الكتاب المقدّس ككلمة الله. وبالنّسبة لبارث تشكّل الدّراسة التّاريخية النّقدية في أحسن الحالات منطلقا للعمل الصّائب للتفسير اللاّهوتي. أين تنشغل الدّراسات البولتمانية بالجانب الإنساني للعلاقة بين الله ـ الإنسانية، حول كيفية تلقّي الوحي، والتي يمثّل فيها الله مصدرا للوحي. فقد كان بولتمان من أوائل المدافعين عن بارث، وإن لم يشاركه في المنهجية فعلى الأقل في المبادئ، لكنّ تأويليته للنزع الأسطوري والوجودية لم تلق رضى لدى الجميع(16).

     (1902) أ. كولمان O. Cullmann، هو أستاذ في جامعة بازيليا، صار المدافع الصلب عن تاريخ الخلاص ـ Heilsgechichte ـ كمفتاح لفهم العهد الجديد. وقد اقترح هذا البديل عن المدرسة البولتمانية في كتابين هامين: "المسيح في التاريخ" 1946، و"سرّ الخلاص في التاريخ" 1965. وترى مقاربة ـ Heilsgechichtlich ـ في التاريخ تعاقبا للحقب الخلاصية، يشكّل فيها حدث ـ المسيح النّقطة الرّابطة بين خطّ زمني حاو لحقبة تحضيرية، يمثّلها الفضاء الحالي للكنيسة. فالتاريخ العام للكتاب المقدّس متميّز بتوتّر دائم بين الوعد والإنجاز، بين المتواجد وغير المتواجد بعد. وباختلاف مع البولتمانيين، يرى كولمان أن تاريخ الخلاص ليس تحريفا، بل ينغرس أصلا في تعاليم المسيح. إذ يبدو تاريخ الخلاص ميزة شاملة للعهد الجديد، من يسوع إلى يوحنا. ويدافع كولمان عن خصوصية ـ Heilsgechichte ـ كوسيلة تفسيرية لبلوغ المعنى الجوهري للعهد الجديد، مجليا أن يسوع والكنيسة البدئية قد تشبّعا من مصادر العهد القديم ومن نظرته للتاريخ.

من المناسب ذكر كتاب كولمان: "مسيحولوجيا العهد الجديد" (1957م)، الذي يعبّر عن مساهمة جيّدة في لاهوت الكتاب المقدّس. ففي هذا العمل سعى لتحديد مسيحولوجيا الكنيسة البدئية في العهد جديد، مستقلّة عن التأويلات المجراة مع اللاّهوت اللاّحق، وللغرض اختبر عشرة نعوت في العهد الجديد نسبت إلى يسوع، مبرزا علاقتها بالعمل الأرضي، وبالعمل الأخروي المستقبلي، وبالعمل الحالي في الكنيسة، وبماقبل الوجود.

* تشكَّل تحدّ آخر لفكر بولتمان تمثّل في عمل و. بانينبيرغ W. Pannenberg"الوحي كتاريخ" (1964)، و"المسيحولوجيا: مسارات أساسية" (1964). يقترح بانينبيرغ بديلا آخر عن إهمال التاريخ المميّز للاهوت الكلمة البارثية، وعن التركيز البولتماني للوحي في الكريغما، في التاريخ. فبحسب باينبيرغ، لا يبلغ إلينا الوحي الذاتي لله، لا مباشرة، كما الشأن مع بارث وبولتمان، ولا عبر قصّة خلاص، كما يقترح كولمان، لكن بشكل وسائطي وغير مباشر، عبر أحداث التاريخ. وبكون التاريخ هو موضع الوحي، فإن ذلك يستدعي فحصا عبر مناهج البحث التاريخي. وإذا ما كان تاريخ الوحي مدرَكا عبر العقل، فإن الإيمان لا يكفي، بل بالأحرى يستدعي المعرفة العقلية. وبالمثل إذا كان الإيمان لا يوفّر المعنى الدّاخلي لأحداث التاريخ الماضية، فهو ثقة متّجهة نحو المستقبل، باتجاه الاختتام النهائي للتّاريخ السّابق في حدث المسيح.

ب ـ ردود فعل الدّارسين البريطانيين
تقليديّا، الدّارسون البريطانيون هم أكثر محافظة من الدّارسين الألمان في الحقل اللاّهوتي والتأويلي، حيث رفضوا بشكل عام الشكّ الجذري والتأويلية الوجودية لبولتمان. ولكن نقد الأشكال، بخلاف ذلك، لاقى ترحيبا لديهم، ولم يتخلّفوا عن توظيفه الجيد في تحليلاتهم.

* أ. هوسكينز E. Hoskyns
يرجع فضل انتشار نقد الكتاب المقدّس واللاّهوت الألماني بين الدّارسين البريطانيين، للسير إدوين هوسكينز (1844 ـ 1937م). فقد ترجم شرح بارث لـ"الرسالة لمؤمني روما" للأنجليزية. وفي مؤلّفه: ـ The Riddle of the new Testamentـ 1931، هاجم الفكرة اللّيبرالية التي ترى أن النّقد يمكن أن يرسم صورة غير لاهوتية ليسوع داخل التقليد الأكثر قدما. تبيّن لهوسكينز، مثل غيره من نقّاد الأشكال، أن سرّ الإشكال الأساسي للعهد الجديد يمكث في الصّلة بين يسوع النّاصري والكنيسة المسيحيّة البدئيّة. لكن كانت له ثقة كبيرة في مقدرة النّقد العلمي لبلوغ يسوع التاريخي المتخفّي خلف الأناجيل. شرحه الكبير لإنجيل يوحنّا ـ The fourth Gospel ـ، الذي نشر بعد وفاته من طرف ف. د. دافي F.D. Davey سنة 1940، جمع دراسات نقدية جادّة وتأويلا لاهوتيا عميقا، وهو يعدّ من أرقى ما أنجز في التّراث البريطاني.

* ف. تيلور (1887-1968) V. Taylor
يقرّ بأهمّية التأثير البولتماني، فبعد نشر ـ Riddle di Hoskins ـ نشر أيضا ـ The formation of the Gospel Tradition ـ 1933 حول نقد الأشكال. وهي معالجة متّزنة، شديدة الإنتقاد لما يتعلّق بالنتائج السّلبية لنقد الأشكال، ولكن في نفس الوقت متقبّلة للمساهمات الإيجابية. لازالت تمثّل إلى اليوم مقدّمة بالغة الأهمية في الموضوع. ويرى تايلور أن نقد الأشكال، بعيدا عن أي تجريح، يمكن أن يوفّر تأكيدات هامة لأطروحات الأصالة التاريخية للتّراث الإنجيلي. ومن خلال الإعتراف بالطبيعة اللاّهوتية للأناجيل، دافع تايلور بإلحاح عن قيمتها التّاريخية كمصدر لإعادة بناء العبارات والوقائع الحقيقية ليسوع.

يبدو ذلك جليّا في ثلاثيته عن مسيحولوجيا العهد الجديد: "أسماء المسيح" 1953، "حياة المسيح ودعوته" 1954، "المسيح الإنسان من خلال تعاليم العهد الجديد" 1958. إضافة إلى مشاركته التقدير البولتماني لأهميّة المسيح المعلَن، يعترف تايلور في نفس الوقت بالأهمية المسيحولوجية ليسوع التاريخي.

العمل الأكثر شهرة لتايلور هو التفسير المعنون بـ"الإنجيل بحسب القدّيس مرقس" 1952، والذي يتبنّى فيه وسائل علم الكتاب المقدّس لصياغة بديل لشكوكات وراد حول تاريخية مرقس. نُشِر في طبعة جديدة سنة 1966، وهو يشكّل عملا مرجعيا للدّراسات المتعلّقة بالأناجيل الثّلاثة (متى ومرقس ولوقا).

* ر.هـ. لايتفوت (1883 ـ 1953م)، يعدّ الأقرب بين زملائه البريطانيين من التّفسير الألماني، كان من أكثر المساندين لنقد الأشكال في إنجلترا. وعنوان الدّراسة التي نشرها سنة 1935 "التاريخ والتأويل في الأناجيل"، نجد فيها عرضا للمقاربة التي تبنّاها في اعتبار الأناجيل تفسيرا لاهوتيا لا بصفتها سيرة ذاتية ليسوع الناصري. يمثّل مؤلّفه "الإنجيل بحسب القدّيس مرقس" استثناء في القبول التقليدي البريطاني لتاريخية مرقس. كما كتب لايتفوت تفسيرا بعنوان "إنجيل القدّيس يوحنّا"، نشر بعد وفاته سنة 1956.

* ك.هـ. دود C.H. Dodd
ما كان الإنشغال بأهمّية إيصال رسالة العهد الجديد حكرا على المدرسة البولتمانية، نجد دود (1884 ـ 1973) حتى منتهى الثّلاثينيات، ينحو هذا المنحى النّقدي الضروري للعهد الجديد، منجِزا بنفسه الخطوات الأولى باتّجاه خلاصة شاملة. وبرغم عدم انتمائه لمدرسة نقد الأشكال، شارك في التعريف بالإنجيل الماكث خلف الأناجيل بمؤلّفه: "التعاليم الرّسولية وتطوّراتها" 1936، وهو تحليل للبشارة البدئية للكنيسة، خصوصا ما تعلّق منه بأعمال الرّسل وبولس. رأى في الكريغم الرّسولي البدئي الوحدةَ البنيوية للعهد الجديد.

كذلك كان لمؤلّفه "حِكَم الملكوت" تأثيرا هاما من خلال ما لاقاه من نجاح، عبر تجاوزه الحِكَم التي نجدها في الأناجيل إلى الأمثال الأصلية التي ضربها يسوع. عبّر جرمياس عن تثمينه لعمل دود، الذي صاغ عبر ذلك الكتاب نظرية "الإسكاتولوجيا الواقعية"، التي تشكّل فيها المملكة المعلنة، بحسب أمثال يسوع، واقعة حاضرة أكثر من كونها مستقبلية.

تلخصّت الدّراسات الشّبابية في كتابين: أولهما "تفسير الإنجيل الرّابع" (1953)، وهو تحليل لأصول المفاهيم اليهودية في بنية إنجيل يوحنّا، أنتُقِد في ذلك لما أولاه من أهمّية مبالغة للهلّنية باعتبارها العالم الفكري لإنجيل يوحنّا. بعد عشر سنوات قدّم دود للطّبع "التّراث التاريخي للإنجيل الرّابع" (1953)، وهي دراسة عن العلاقة بين يوحنّا والأناجيل الثّلاثة الأخرى (متّى ومرقس ولوقا)، مرتكزة على تقليد مواز، لكن مستقلّ عن الأناجيل الثّلاثة. فعلى مدى صفحات الكتاب، يعرض دود الكفاءة التاريخية واللاّهوتية العاليتين، التي صارت من خاصيات الانتاجات البريطانية المميّزة في مجال دراسات العهد الجديد.

لم ينته التقليد البريطاني مع الدّراسات المذكورة، بل إن أوْج الانتاجات كانت في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث استعمال مناهج وأدوات مشتركة إضافة إلى أنشطة الجمعية العالمية (Studiorum Novi Testamenti Societas)، التي تجمع سنويا دارسين زائرين من كلّ البلدان، ساهموا في جعل الخاصيات المميّزة للدّراسات البريطانية والألمانية متقاربة.

ج ـ ردود أفعال المدرسة البولتمانية: ما بعد البولتمانية
كان ردّ الفعل الأساسي للأرثوذكسية البولتمانية ما ثار بين أتباع بولتمان أنفسهم. فبرغم النّزعات الفردية لهؤلاء التلاميذ، فإن ردود فعل البعض منهم فحسب دشّنت ما صار يعرف بتفسير "ما بعد بولتمان". تشكّل جناحان، تمت من خلالهما متابعة عمل بولتمان، والمعالجة النقدية لبعض الأطروحات الأساسية التي تشكّل السّؤال الأساسي ليسوع التاريخي، والمتعلّقة بمعنى وأهمية فلسفة هايدغر لشرح اللاّهوت. ونظرا لصعوبة السّؤال الثّاني، نحدّد معالجتنا بالبحث الجديد عن يسوع التاريخي، في حين نشير للقارئ فيما يتعلّق بالسّؤال الهايدغري للبيبلوغرافيا والنقاش المسجّل في المؤلّف المذكور بالهامش(17).

بالنسبة لبولتمان، تُفشِل الطّبيعة الكريغمية للإنجيل أي مسعى للصعود نحو المسيح التاريخي عبر اعتراف الإيمان بالمسيح، الربّ القائم، للكنيسة البدئية. وبحسب بولتمان ليس للكنيسة البدئية أيّ جدوى من سيرة ترسم الوجه التاريخي ليسوع النّاصري، وقد ركّزت نظرتها أساسا على يسوع الإيمان المعلن في الكريغما، ولذلك يبدو يسوع التّاريخي غير مجد للإيمان المسيحي.

وبرغم شكّه النّظري العميق في إمكانية إرساء بحث تاريخي يبلغ ماوراء الكريغما، صاغ بولتمان معايير صارمة لاختبار أقوال المسيح وأفعاله سواء في مؤلّفه: "تاريخ الأناجيل الثلاثة (متى ومرقس ولوقا)" أو في "المسيح". وبحسب هذا السّياق الحاضر في عمل بولتمان، والذي يسعى الأتباع لانتهاجه في أبحاثهم الجديدة بشأن يسوع التاريخي، كان الرّائد في ذلك م. كاهلر M. K?hler (1835-1912) خصوصا في كتابه: ـ Der sogenante historische Jesus und der geschichtliche biblische Christusـ  (1892م)، الذي أعيد طبعه سنة 1956 في الفترات الأساسية لما بعد البولتمانية.

* تم انطلاق البحث الجديد شكليّا سنة 1953 مع أ. كاسمان (1906) E. K?semann -، المدرّس بتوبنغن، في مقال بعنوان "مسألة يسوع التّاريخي"، والذي عرض فيه ثلاث أطروحات أساسية:

1 ـ إذا ما تم تهوين الصّلة بين الربّ الممجّد للإيمان المسيحي ويسوع الأرضي التّاريخي، تصير المسيحية أسطورة لاتاريخية. يشير كاسمان للخطر الكامن في النفي التاريخي البولتماني للكريغم، المؤدّي إلى نفي الحضور العيني للمسيح واعتباره مجرّد خيال.
2 ـ إن كانت المسيحية البدئية لا تعير اهتماما لتاريخ يسوع، لماذا تمت إذن كتابة الأناجيل؟ فقد كان كتّاب الأناجيل مقتنعين أن المسيح المعلَن إليهم ليس سوى المسيح التاريخي الأرضي.
3 ـ حتى وإن كانت الأناجيل من إنتاج الإيمان الفِصحي، فبالتالي من الصّعب الصعود للمسيح التاريخي، لأنّ الإيمان يتطلّب ثقة في هويّة يسوع الأرضي مع الربّ المفعم بالكريغم.

حذو هذا الدّفاع عن ضرورة البحث المستجدّ، قدّم كاسمان بعض المبادئ المنهجيّة:

1 ـ فلإثبات صدْق قول يسوع وفعله لزم فرز كافة المواد الإنجيلية ذات الطّابع الكريغمي، وهو ما لا يعني بالضّرورة أن هذه الأقوال خاطئة، ولكن جمعها مع رسالة الكنيسة يجعل استحالة اختبار كونها معلنة من طرف يسوع. فواقعها المعيشي Sitz im Leben يمكن أن يكون حالة أو إيمانا سابقا للفصح.
2 ـ ينبغي تجنب أيّ تواز في اليهودية المعاصرة، سواء في تقليد الأحبار أو في الأخرويات، التي ليس ممكنا إثبات صدقها.
3 ـ ينبغي أن تعكس الأقوال الصّادقة للمسيح خاصيات آرامية. وقد غيّر كاسمان موقفه لاحقا ناسبا أهميّة للأخرويات اليهوديّة، لما تمثله من بنية للاّهوت المسيحي البدئي، لا للغنوصية الأثيرة لدى بولتمان. عبر تطبيق صارم لتلك المعايير، تم العثور في تعاليم المسيح على بعض العناصر الثابتة العائدة لشخصه، توجد الأفكار الأساسية لكاسمان حول هذا الموضوع في مؤلّفاته التفسيرية.

* سنة 1956 نشر تبيع آخر لبولتمان من ماربورغ وهو أ.فوكس(1903) E. Fuchs - مقالا بعنوان "البحث عن يسوع التاريخي"، اقترح فيه أصولا جديدة للبحث، تتعلّق بسلوك يسوع، أين يبحث فيه عن شيء من التاريخي، والهام للإيمان كذلك. فالمسيح يحضر واقعيا في الحياة، من خلال تناول الأكل والشرب مع الخطاة، وما يجلو عبر الأمثال الفعلَ الخلاصي للربّ القريب. وإعلان محبّة الربّ للمذنبين فيه شيء من السّلطة، حيث يقف المسيح في موضع الإله، ممثّلا نفس الإرادة مع تلك العائدة إليه. ولنا في سلوك المسيح المفتاح لولوج الفهم الدّاخلي لهويّته وطبيعته بصفته ممثّلا للربّ. يقين فوكس في الأصالة التاريخية للرّوايات الإنجيلية بشأن نشاط المسيح، ارتكز على ثقة في احتمال تحوير الكنيسة للأعمال أقل من الأقوال(18).

* بعد ثلاثين سنة من "مسيح" بولتمان، نشر ج. بورنكام (1905ـ1990م) G. BornKamm من هيلدلبيرغ مؤلّفه "يسوع الناصري" سنة 1956، ويعدّ الدّارس المابعد بولتماني الأول المهتمّ بيسوع التاريخي. وعلى شاكلة كاسمان وفوخ، ينسب بورنكام جدوى تاريخية وأهمّية للإيمان اللاّمتساوي لسلطة يسوع. وإن كان كاسمان يرى التجلّي في التعاليم وفوخ يراه في سيرة يسوع، فإن بورنكام يؤكّد أن الأثر الهام المحدث جرّاء الأناجيل، هو السلطة المباشرة وبدون تواز ليسوع، وهي سلطة مطلقة، حاضرة سواء في الكلمات أو عبر الأفعال، فكل سلطة مصدرها يسوع التاريخي وليست نتاجا للإيمان.

وعلاوة على تجربة السّلطة، بالنسبة لبورنكام، يمكن إرساء الوقائع التالية المتعلّقة بيسوع التاريخي، فقد كان يهوديا، ابن يوسف النجّار، أصيل النّاصرة في الجليل. بشّر في المدن الواقعة على ضفاف بحيرة الجليل، وقام بعمليات إشفاء وأعمال خيرية جعلته في صدام مع الفرّيسيين، وفي النهاية تم صلبه في أورشليم. الشيء الأكثر أهمية في هذه الوقائع التاريخية، الجلية والبسيطة، بمعانيها الأساسية، أنه خلال رسالة المسيح، كانت اللّحظة الأساسية الأخروية التي تحظّ على القرار حاضرة، فاللّقاء التاريخي مع يسوع هو في الواقع لقاء أخروي مع الله.

* خلال سنة 1959 ظهرت دراسة ما بعد بولتمانية أخرى حول يسوع لـ: هـ.كنزلمان. (1915-1989) H. Conzelmann ، وهي خلاصة جيدة لما يمكن معرفته بشأن يسوع التاريخي. فبالنسبة له، يسوع هو اللّقاء المباشر للإنسانية مع الله، فعبر دعوته تجلّى الإعلان الفوري النّهائي. وكلمة يسوع هي الكلمة النهائية لله، وأفعاله تعبير فعلي عن حضور الملكوت. في كتابه "جوهر الزّمن" (توبنغن 1954) ، يقدّم فكرة عن ـ Redaktionsgeschichte ـ المطبّقة من طرف البولتمانيين اللاّحقين. في هذا العمل يثبت كنزلمان كتابة لوقا لتاريخ المسيح، ضمن سياق لاهوتي محدّد بشكل دقيق، كما أضاف مجلّدا خاصا بتاريخ الكنيسة البدئية. وحسب كنزلمان رأى المسيحيون الأوائل مجيء المسيح النهايةَ الحتمية للتاريخ، وإن كانت الفترة الفاصلة ما بين القيامة ـ الصعود وعودة المسيح على الأرض قصيرة جدّا، فإن تأخّر تلك العودة قد أدخل الكنيسة في إعادة تفكير مركّب في لاهوتها الخاص. حيث حوّر لوقا بشكل اعتباطي وجذري الرّؤية الاسكاتولوجية ليسوع وللمصادر القديمة مثل إنجيل مرقس، مدخلا في اللاّهوت المسيحي البدئي سياق ـ Heilsgeschichte ـ بصفة الدعوة العامّة للمسيح فترة وسطى بين حقبة إسرائيل وحقبة الكنيسة. اعتبر كنزلمان والمابعد بولتمانيين، بشكل عام، فهم لوقا ثانويا وخاطئا، مرتئين تحريفا وتحويرا في الإنجيل الأصلي. وبشأن هذه النّقطة استقلّ كولمان عن المابعد بولتمانيين، معتبرا فهم لوقا للتاريخ أصيلا ومتجذّرا في تعاليم المسيح، أين تم إعلاء السّياق الأخروي من طرف كنزلمان. كذلك نذكر من أعمال كنزلمان الأخرى: "لاهوت العهد الجديد" و"أصول المسيحية ونتائج النقد التاريخي".

* يعتبر ج. م روبنسون. J.M. Robinson الرّائد لمدرسة ما بعد بولتمان في أمريكا. يرتئي تواجد نهجين للولوج إلى شخصية المسيح، فعلاوة على الكريغما، بواسطة الستوريوغرافيا الوجودية ـ التي أعدت من طرف الفيلسوف الألماني و. دلتاي W. Dilthey (1833-1922م) ثم من طرف ر.ج كولنغود (1889-1943م) R.G. Collingwood، في الأثر الذي نشر بعد وفاته تحت عنوان "فكرة التاريخ" (1946) ـ تتيسر ملاقاة يسوع التاريخي الذي رفض العالم الأرضي للعيش مع الله فحسب، ولا تجعل الفلسفة الوجودية للتاريخ البحثَ الجديد ممكنا فقط، بل شرعيا.

* ج. إبيلينغ. (1912)  G. Ebeling- هو مؤرّخ للكنيسة ولاهوتي عقلاني، يعمل مدرّسا في توبنغن، وينشغل أساسا بمسألة الإيمان في مجاله الموسّع، مثل أهمّية يسوع التّاريخي في الإيمان واللاّهوت، ومسألة تحوّل يسوع من التاريخ للإيمان في يسوع كربّ، وتعاليم المسيح بشأن الإيمان. فبداخل بعض التعاليم، ينتقي إبيلينغ العناصر التاريخية التالية: اقتراب مملكة الربّ (التي يحدّد فيها جوهر رسالة المسيح)،  فرز إرادة يسوع عن تلك الراجعة لله، من خلال استعماله تعبيرات غير مسبوقة مثل "لكن أنا أقول لكم"،  الخضوع لإرادة الله الذي يخلّص البشرية،  والدّعوة للتوبة والمتابعة المرحة.

4 ـ تطوّر البحث النّقدي الكاثوليكي
كانت الأربعون سنة الأولى من القرن العشرين، منذ أيّام لاغرانج ولويزي والأزمة الحداثية، فترة معتمة بالنسبة للدّراسات الكتابية الكاثوليكية. وفقط مع رسالة بيو الثاني عشر انطلقت الدّراسات المعتبرة في مجال نقد العهد الجديد من الجانب الكاثوليكي، ضمن إطار عام ممتد بين 1955 ـ 1980.

فمنذ 1943 حتى 1970، شهدت الدّراسات الكتابية الكاثوليكيّة تناميا سريعا منتظمة بالأساس حول مواقف معتدلة، كثيرة الاقتراب من كولمان وتايلور ودود مثلا، وليس من مدرسة بولتمان والمابعد بولتمانية.

حصل علماء التوراة الكاثوليك على تشجيع من الكنيسة عبر وثيقتين أساسيتين: "تعاليم بشأن الصحّة التاريخية للأناجيل" صدرت عن اللّجنة التوراتية البابوية، والدّستور العقدي بشأن الوحي الإلهي ـ Dei Verbum ـ عن مجمع الفاتيكان الثاني 1965. تقرّ الوثيقة الأولى خصوصا أن الأناجيل تكوّنت من تشكّلات تراثية متنوّعة، ولا تمثّل رواية حرفية أو تاريخية عن حياة المسيح. هذا الموقف دعم نتائج الدّراسات الكتابية، ووضع الأساس لتطوّرات لاحقة في الدّراسة العلمية والنّقدية للعهد الجديد لعلماء الكتاب المقدّس الكاثوليك.

بالانطلاق من خيار حذر، وتعامل مع أحكام مقبولة في الدّراسات البروتستانية، خلّفت الدّراسات الحديثة مع الوقت أثرا عميقا في أبحاث العهد الجديد. ووفّقت في إقناع الكاثوليك النّبهاء، أن المواقف المحافظة والمتشدّدة السّالفة من الكتاب المقدّس، ما عادت بالامكان قدرة للمحافظة عليها، وأنّ المقاربات الحديثة لها جدواها أيضا، فهي قادرة على تغذية الشّعائر والرّوحانيات. وقد دفعت نتائج الدّراسات العلمية إلى مناقشة مسائل ذات أثر عقدي، متعلّقة مثلا بحدود معرفة المسيح لذاته وللمستقبل وللكنيسة،  وعصمة "أعمال الرّسل" الضّامن الفعلي التّاريخي للكنيسة،  وعنصر الإبداع في تشكيل التّقليد الإنجيلي،  والمحدوديّة التاريخيّة لمرويات الطّفولة. ففي العقود الأخيرة من القرن العشرين، توقّف اعتبار دراسات العهد الجديد الكاثوليكية مجرّد رفيق يافع للدّراسات البروتستانية. ولكن برغم التطوّرات الكبرى منذ زمن رسالة بيو الثّاني عشر، واصلت المقاربة النّقدية للعهد الجديد إثارة النّقاشات والاعتراضات سواء لدى الكاثوليك اللّيبراليين أو لدى المحافظين(19).

وقبل تناول الحالة المعاصرة، نستعرض بعض الأسماء الهامّة، ذات الصّلة بتطوّر دراسات العهد الجديد الكاثوليكية الحديثة.

أ ـ فرنسا: يعتبر الكتّاب الفرنسيون بالأساس الأغزر إنتاجا بين الدّارسين الكاثوليك للعهد الجديد. كان هذا بالأساس نتيجة لـ: م. ج لاغرانج وللمعهد التوراتي بالقدس. في مجال العهد الجديد، تم تجميع أثر لاغرانج من طرف ب. (1906-1987م) بنوا P. Benoit  ومن طرف م. أ. بوازمار M.E. Boismard، حيث نشر الأخير سنة 1946 حوصلة أولية تدعم النّقد الشّكلي. كانت شهرته بالأساس، بفعل مقالات تناولت الإلهام، وأحاديث عذابات المسيح، وسرّ القربان المقدّس، والبعث والصعود، ومفهوم الجسد لدى بولس،  عديد هذه المقالات تم تجميعها في أربعة مجلّدات بعنوان "التفسير واللاّهوت"، باريس 1961 ـ 1982. عمل بوازمار بالأساس في الفضاء الشّبابي، أما اليسوعيون الفرنسيون، مثل الكردينالان ج. (1905-1974م) دانيلو J. Daniélou  و هـ. 1896-1991م دي لوباك H. de Lubac ، فقد ساهما بأعمال هامة تعلّقت بالمعنى الرّوحي للنصّ المقدّس. وفي روما كتب س. (1896-1991م) ليونيت S. Lyonnet عديد الصّفحات ذات الصّلة ببولس، بالأساس عن رسالة إلى مؤمني روما. كما أنجز السولبيزيانيون الفرنسيون بعض الدّراسات، التي لم تتناول العهد الجديد فحسب بل الكتاب المقدّس عموما. وفي ميدان العهد الجديد، يتميّز أ. فوييA. Feuillet بدراساته عن عودة المسيح إلى الأرض، وُجِّهت انتقادات من الأوساط المحافظة والجدالية لأعماله الأخيرة.

ب ـ بلجيكيا: في الوقت الذي خيّمت فيه خشية على جانب كبير من العالم الكاثوليكي، جرّاء حدّة المقاومة للحداثة، وفّقت جامعة لوفان في المحافظة على التقليد الذي تفخر به من خلال منشورات المونسنيور ل. (1883-1968م) شرفو L. Cerfaux . فالأجزاء الثّلاثة الحاوية لمؤلّفات هذا الدّارس التّوراتي Receuil L. Cerfaux Louvain 1954-1962 تثبت مقدرة عالية. وقد عُرِف شرفو خاصّة بثلاثيّته عن اللاّهوت البولسي من خلال مؤلّفه: "المسيحيّة في لاهوت القدّيس بولس". كما تابع تقليد لوفان بعض تلامذتها مثل أ. (1916-1980) دسكامبس A. Descamps ، الذي صار لاحقا أسقفا وعميدا للكلّية وسكرتيرا للّجنة الكتابية البابوية بروما. عمله الأكثر شهرة "العادلون والعدالة" (لوفان 1950)، كما خصّص اليسوعي البلجيكي إ. دي لا بوتيري I. de la Potterieالمدرّس في المعهد التوراتي بروما، صفحات عدّة ليوحنا، (مجموعة الدّراسات التي كتبت بالتعاون مع س. ليونيت S. Lyonnet "الحياة بحسب الرّوح، الواقع المسيحي" باريس 1965، و"الحقيقة بحسب القدّيس يوحنّا"، روما 1977. كما كتب البندتي ج. دوبنت "التّطويبات" (لوفان 1954 ـ 1973)، وهي سلسلة أعمال عن "الأعمال" تحت عنوان "مصادر كتاب الأعمال" (بروج 1960)، و"خطابات ميلي" (باريس 1962)، و"خلاص الأمم" (نيويورك 1979)، و"دراسات جديدة عن أعمال الرسل" (شينسالو بلسامو 1985). كما ساهم ف. نيرينك F. Neirynck بكتابات قيّمة عن الأناجيل الثّلاثة (متى ومرقس ولوقا)، نذكر منها: "الازدواجية لدى مرقس" (لوفان 1972)" و"التوافقات الصّغرى بين متى ولوقا ضد مرقس" (لوفان 1974).

ب ـ ألمانيا: بتأثير من زملائهم البروتستانيين، أنتج دارسو التّوراة الكاثوليك الألمان بعض الشّروح الهامّة. مما يجدر ذكره:ـ  Regensburger Neues Testament- و- Herders theolgischer Kommentar zum Neuen Testament-. في السلسلة الأولى نجد أعمالا هامة بشأن الأناجيل الثّلاثة (متى ومرقس ولوقا) لـ: (1893-1975م) ج. شميدت J. Schmidt ، علاوة على المتعلّقة بإنجيل يوحنّا و"الأعمال" لـ: أ. ويكنهاوزر (1883-1960م) A. Wikenhauser ، وقد بقي مؤلّفه "مقدّمة للعهد الجديد" عديد السّنوات في عداد أحسن المقدّمات النّقديّة الكاثوليكية للعهد الجديد. كتب ر. شناكنبورغ R. Schnakenburg، الذي يعدّ من أهمّ الدّارسين الكاثوليك الألمان في هذا القرن، لـ: Herders theolgischer Kommentar zum Neuen Testament الشّرح الكبير لإنجيل يوحنا في ثلاثة أجزاء، وأيضا "الكنيسة في العهد الجديد" و"السيادة" و"ملكوت الرب" و"التعميد في فكر القدّيس بولس" و"الرّسالة الأخلاقية للعهد الجديد". في حين كتب ر. بيشR. Pesch جزءين خصّصا لإنجيل مرقس (فريبورغ 1984). وكانت شروحات Evangelisch-Katholscher Kommentar zum Neuen Testament، نتاج تعاون كاثوليكي بروتستاني، دام عدّة سنوات، وتعد هذه السّلسلة المشتركة علامة على التقدّم المسكوني الذي طبع الدّراسات التّوراتية في النّصف الثّاني من القرن العشرين.

ب ـ أمريكا: تشكّلت دراسات العهد الجديد الكاثوليكية في ما وراء الأطلسي بداية مع مقالات ودراسات كانت غايتها محدّدة، وكانت في أغلب الحالات لجعل الاتّجاهات الفرنسيّة والألمانية مقبولة في اللّغة الأنجليزية. لكن مع نهاية الحمسينيّات بدأت الدّراسات الإنجيليّة الكاثوليكية الأمريكية في بلورة هويّتها، مخلّفة تأثيرا في الخارج أيضا. من بين عديد الروّاد، يمكن ذكر اثنين، فخلال الخمسينيّات كتب اليسوعي الكندي د. ستانلي D. Stanley عديد المقالات، عارضًا فيها على قرّاء الأنجليزية بعض الاتّجاهات في القارة، ولهذا اشتبك في ردود فعل مع الأصولية الكاثوليكية الأولى المضادّة للأفكار الجديدة، وقد كانت تلك الرّدود حامية خصوصا مع سنوات 1959 ـ 1962. سعيه من أجل إدماج النّقد الإنجيلي الحديث رافقه فيه بشجاعة عالية أ. سيغمان E. Siegman (1908-1967م)، الذي أدار مجلّة -Catholic Biblical Quartely- من 1951 إلى 1958، مضفيا عليها طابعا علميا.

في نفس الوقت تمّ تدريب عديد الدّارسين الكاثوليك الشبّان على استعمال المناهج النّقدية، في مؤسّسات تتمتّع بشهرة مثل جونس هوبكينس وهارفارد ويال وغيرها. وقد حظي العديد منهم بشهرة محلّية وعالمية، يمكن تمييز ر. أ. براون R. E. Brownو ج. أ. فيتزماير J. A. Fitzmyer من بينهم، وكلاهما عضوان في اللّجنة التوراتية البابوية بروما. كان براون من أتباع المذهب السولبزياني، درّس في مدرسة الاتحاد اللاّهوتي بنيويورك، وكان الكاثوليكي الأمريكي الأوّل الذي تقلّد رئاسة الجمعية العالمية "Studiorum Novi Testamenti Societas" ذات الصّيت العالمي. من بين مؤلّفاته نذكر شروحاته لإنجيل يوحنّا والرّسائل، علاوة على الدّراسة الموسّعة عن روايات الطّفولة بعنوان "مولد المسيح"، غاردن سيتي 1977. عبر دروسه وأعماله المختلفة خلّف براون أثرا في نشر وقبول الدّراسة النّقدية للعهد الجديد في العالم الكاثوليكي. أما فيتزماير، فهو مدرّس يسوعي في الجامعة الكاثوليكية، يُذكَر عادة بدراساته في اللّغة الآرامية وبمؤلّفيه المتعلّقين بشرح إنجيل لوقا.

وحتى وإن كان يصعب القيام بانتقاءات، فمن المتيسّر بلورة فكرة عن تطوّر دراسات العهد الجديد الكاثوليكية الأمريكية بعد الفاتيكان الثاني مع ج. دوناهو J. Donahue، و د. هارينغتون D. Harrington، و ج. ماير J. Meier، و ب. بركينزP. Perkins ، و د. سنيور D. Senior وآخرين. علاوة على ذلك نجد أعمال دارسين مستقلّين، فقد وضعت جمعية "Catholic Biblical Association" بدوريتها ـ Catholic Biblical Quartely ـ الدّراسات الكاثوليكيّة الأمريكيّة في مستوى دراسات الجمعيات المعتبرة مثل " Society of Biblical Literature" و" Novi Testamenti Societas Studiorum". وبشكل عام وفّقت دراسات العهد الجديد الكاثوليكية الأمريكية في إظهار حيويّتها وترك أثر على المستوى العالمي.

5 ـ التطوّرات الأخيرة في دراسات العهد الجديد
بفضل توظيف الإعلامية فيما يخصّ التوافقات والمرجعيّات، سرّعت التقنيّات الحديثة، خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، تطوَّر عديد الحقول في دراسة العهد الجديد. وفي هذا المجال حريّ رسم ملخّص لأهمّ التوجّهات في دراسات العهد الجديد. ففي المعالجات اللاّحقة سوف تولى عناية للاتّجاهات الأكثر جدّة، وهذا ما لا يعني تواري العمل النّقدي في الأصول والأشكال والتقليد، الذي تواصل الاشتغال عليه على مدى النّصف الأوّل من القرن السالف. فخلال السّنوات الأخيرة تواصل ظهور شروحات هامة، مثل ما أنجزه ف. فورنيش V. Furnish بشأن الرّسالة الثانية إلى مؤمني كورنثوس 1984، و هـ. د بيتز H. D. Betz عن غلاطية 1979. وقد أثار المجلّدان، العائدان لـ: هـ. كويستر H. Koester "مقدّمة للعهد الجديد"، فيلادلفيا 1982، جدلا واسعا، لجرأته في اتخاذ عديد المواقف. كذلك نجد دراسة هامة عن العهد الجديد لـ: م. هنجيل M. Hengel، "اليهود والإغريق والبرابرة. مظاهر هلّنة اليهودية في فترة ما قبل المسيحية". كم أن نشر مكتبة نجع حمادي بالإنجليزية سنة 1977، أثار موجة من الكتابات ذات الصلة بالكتابات المنحولة والغنوصية للعهد الجديد، مثل "الإنجيل الغنوصي" لـ: أ. باجيلس E. Pagels نيويورك 1985، و "أناجيل أربعة أخرى" لـ: ج. د. كروسان J.D. Crossan، الذي حاول إظهار قدم وعراقة الأناجيل الأربعة غير الكانونية (ثلاثة من بينهم مجزّأة) مقارنة بتلك الكانونية.

أ ـ الأبحاث المتعلّقة بمجتمع العهد الجديد
حتى وإن كان اهتمام الدّارسين بفكر المسيحيين وحياتهم في العهد الجديد ليس شيئا مستجدّا، فإن العناية المخصّصة لمجتمعات القرن الأوّل مثّلت تطوّرا هاما في دراسات العهد الجديد. ففي "تاريخ ولاهوت الإنجيل الرّابع" 1968 يصف ج.ل مارتين J.L. Martin بجلاء كبير، وبعبارات مقنعة كيف يعكس إنجيل يوحنّا، بشكل ما، محاولات دفاع جماعة مطرودة من البيْعة بسبب مطالبها بتأليه يسوع. كما ظهرت نتائج أعمال أخرى عن تاريخ الجماعة الشابّة لدى مارتين، في مؤلّفه "إنجيل يوحنّا في التّاريخ المسيحي"، نيويورك 1978، كما لدى ر. أ. براون R.E. Brown في كتابه "مجتمع الحواري المختار"، نيويورك 1979. وحاز أيضا تاريخ مجتمع متّى أهميّة من الدّرجة الأولى في عديد المؤلّفات لـ ج. ب. ماير J.P. Meier، وقد أثارت الحالة المعيشيّة التي عرضها مرقس نقاشات، بما مهدت به من أدبيّات هامة وموسّعة. تمثّلت المسألة الأساسية لبعض النقاشات، في طرح ما إذا كان أحد الأناجيل قد كتب بهدف تقليص سلطة الحواريين الذين صاروا موضع تقديس من جانب المسيحيين، بما أولي من أهميّة ليسوع في صنع المعجزات. من بين أولئك الذين شاركوا في النقاشات، تظهر أسماء ت. ويدن T. Weeden و و. هـ. كيلبر W.H. Kelberو أ. بيست E. Best.

ب ـ نقد التأليف
تعود أصول هذه المقاربة التي أثارت اهتمامات كبيرة، لأعمال ثلاثة دارسين، ظهرت كتاباتهم لاحقا وهم:

G. Bornkamm, Uberliferung und Auslegung im Matt?usevangelium (Neukirchen 1948); H. Conzelmann, Die Mitte der Zeit; W. Marxsen, Der Evangelisti Markus .

يجلي نقد التأليف الدّور الإبداعي الذي قام به كتّاب الأناجيل في صياغة المادة التراثية، والناقد عليه اكتشاف السّياقات التي وظّفها كتّاب الأناجيل أثناء التأليف والصياغة. فذلك العمل يحوي إيحاءات هامة بشأن الاهتمامات الجزئية للمؤلّف ولمجتمعه، وبذلك الشكل يساهم نقد الصياغة في البحث عن جماعات العهد الجديد. وقد تم تطبيق هذه التقنية أيضا على "الأعمال" وعلى "رسائل بولس".

ج ـ أنواع أخرى من النّقد
المقال الذي خصّصه هذا الشرح للتأويلية، يدعو القارئ للتنبّه لنماذج النقد التي تطوّرت خلال الحقبة الأخيرة من القرن العشرين: (النقد الأدبي، البنيوية، نقد النصوص المقدّسة القانونية، إلخ). في هذا الموقع تم توفير معلومات مرجعية ليس من الضروري استعادتها في هذه الورقات، نكتفي هنا بعرض بعض النماذج الهامة، والنقاشات المثارة. ففي أواخر الثمانينيات تم تطبيق تقنيات النّقد الأدبي الحديث على الأناجيل، على إنجيل مرقس مع د. رهوادس D. Rhoads و د. ميكي D. Michie،  وعلى إنجيل يوحنا مع ر. أ. كولبيبر R.A. Culpepper،  وعلى إنجيل متّى مع ج. د. كينغسبوري J.D. Kingsbury. رأى العديد أن المقاربة البنيوية الأكثر تعقيدا ما كانت مثمرة، إذ المفاهيم المستعملة نفّرت عديد القرّاء. جلبت روايات العذاب البنيويين خصوصا، مثل أ. جينيست O. Genest في مؤلّفه "يسوع الألم" مونريال 1978، و ل. مارين L. Marin في مؤلفه "سيميائية رواية الألم" بترسبورغ 1980. في حين ما تعلّق بنقد النّصوص المقدّسة الكانونية، فإن مجمل العمل تمت متابعته في فضاء العهد القديم. لكن نجد ب. س. شيلد B.S. Childs قد أثار جدلا واسعا بمؤلّفه: "العهد الجديد كقانون" فيلادلفيا 1985، الذي أثار فيه إن كان من المشروع الاهتمام بمفهوم، ان كتابا من العهد الجديد مندمج في السياق للتوراة بمجملها، فإن ذلك ينبغي ألا يخفي المدلول الذي للكتاب لدى المؤلف الذي صاغه ولدى قرّائه الأوائل.

د ـ العهد الجديد والعلوم الاجتماعية
كان أول الدّارسين الذين وظّفوا علم الاجتماع والإناسة في دراسة العهد الجديد س. ج. كايس S.J. Case.، و س. ماتاوس S. Matthews، و ف. غرانت F. Grant، لكن بعض المقاربات اتخذت وجها جديدا مع بداية السبعينيات، كما تشهد بذلك أعمال ج. غ. غايجر J.G. Gager في "المملكة والجماعة" (أنجلوود كليف 1975)، وأعمال غ. ثايسين G. Theissen في "علم اجتماع المسيحة البدئية" (1978). حتّى صارت تعبيرات مثل "حركة يسوع" و "النحل الألفية" و"الكاريزميون التائهون" شائعة في وصف المسيحيين الأوائل. ومن بين أهمّ المساهمات الأمريكية، تظهر أعمال ج.هـ. أليوت J.H. Elliott في "بيت لمن لا بيت له" (فيلادلفيا 1981)،  وأعمال أ. مالهيرب A. Malherbe في "الخصائص الاجتماعية للمسيحية المبكّرة"(فيلادلفيا 1983)،  وأعمال و. ميكس W. Meeks في "الجماعة المسيحية الأولى" (نيوهافن 1983)،  الدراسة الأولى من هذه الأعمال المخصّصة للسياق الاجتماعي لرسالة بطرس الأولى، تبين الرّابطة بين هذا البحث مع جماعات العهد الجديد.

هـ ـ اتجاهات أخرى
علاوة على الاهتمام النّشيط بالسّياق الاجتماعي الذي أنتج فيه المسيحيون الأوائل العهد الجديد، بدأ بعض الدارسين إيلاء اهتمام مماثل للمسيحيين الذين يقرؤون العهد الجديد داخل السياق الحديث، اهتمام دعتمه تأويلية يستفز فيها المعنى القارئ المعاصر. كما ارتفعت أعداد النّسوة اللاّتي أولين اهتماما بدراسات العهد الجديد، مما ولّد حساسية مستجدّة تجاه المواقف ذات الطّابع الذّكوري القديمة والجديدة. نجد محاولة جادة في بلورة نقد نسوي لأصول العهد الجديد لدى شوسلر فيورانسا Schüssler Fiorenza، في مؤلّفها "مذكّراتها" (نيويورك 1983). فعلى ضوء التأويلية، أعادت شوسلر فيورانسا ملامح حركة المساواة الأصلية ليسوع، التي تسبق حدث القمع التراتبي الذكوري. لكن يبقى الأمر عرضة للنقاش، إن كانت تلك المسيحية تواجدت حقّا أو هي نتاج للحساسيات الحالية(20). كما ظهرت أيضا عديد الكتابات حول العهد الجديد من تأليف لاهوتي التحرّر، سواء من أمريكا الجنوبية أو غيرها(21). ويشير هؤلاء اللاّهوتيون إلى عناصر التحرّر والانحياز إلى الفقراء كخيارات مركزية داخل "حركة يسوع". بعض الاهتمامات العالمثالثية بالعهد الجديد كانت جرّاء مساهمات دارسين من الهند واليابان وإفريقيا. ستساهم العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين بتنقية المساهمات الإيجابية عن غيرها في هذا الحقل.

نجد سياقا واعدا ومميزا في القرن الواحد والعشرين يتعلّق بازدهار الدّراسات المسكونية التي تدشّنت مع الفاتيكان الثاني، إذ تم تشجيع دارسين بروتساتينيين وكاثوليك من نفس المجال، مهيؤون لاستعمال نفس المناهج، من المؤسّسات الكنسية للتعاون معا لانجاز تفاسير وترجمات للعهد الجديد مشتركة، غايته دعم الحوار المسيحي الداخلي بين اللّوثريين والكاثوليك. إذ أنجزت في الولايات المتّحدة مجموعات من الدّارسين المنضوين تحت كنائس عدّة أبحاث مسكونية حول مواضيع ساخنة: "بطرس في العهد الجديد" (نيويورك 1973) و "مريم في العهد الجديد" (نيويورك 1978)، اللذين ترجما إلى عدّة لغات،  و "الصدق في العهد الجديد" (فيلادلفيا 1982). وضمن ذلك المسار ترأّس دارس ينتمي للتقليد الإصلاحي غير كاثوليكي، ب. ج. أشتماير P.J. Achtemeier جمعية:Catholic Biblical association,،  وفي نفس الوقت تقلّد الكاثوليكيان ر. أ. براون R.E. Brownو ج.أ. فيتزماير J.A. Fitzmyer رئاسة: Society of Biblical Literature. كما انتقل دارسون كاثوليك للعهد الجديد للتدريس في أهم كلّيات الدّراسات العليا البروتستانية، وبالعكس كذلك. وداخل السياق الموسع للدراسات بين الأديان للعهد الجديد، تم اغناء فهم كتابات اليهود الأوائل المؤمنين بالمسيح، بأعمال المفسّرين اليهود. كما جاء اغناء لاحق، جرّاء الالحاح الذي تطلّبه برنامج دراسات المترشّحين المسيحيين للدكتوراه في العهد الجديد عبر إلمام بكتابات اليهودية البدئية مثل المدراش والتلمود، وتبدو هذه الاتجاهات واعدة في المستقبل.

باحث من تونس وأستاذ بجامعة لاسابيينسا بروما
e-mail:
tanayait@yahoo.it
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ المؤلف الأول أستاذ العهد القديم في "Weston School of Theology" بكمبريدج وماساشوسيت بالولايات المتحدة الأمريكية، والثاني أستاذ الكتاب المقدّس في "St. Patrick's Seminary, Menlo Park" بكاليفورنيا. وقد وردت الدراسة ضمن النسخة الإيطالية المعنونة بـ:
(1) ـ Nuovo Grande Commentario biblico, Editrice Queriniana, Brescia, Italia, 1997.
J.L. Blevins, The Messianic Secret in Markan Research 1901-1976 (Washington 1981); Boers, What is New Testament Theology?45-60.
(2) ـ D.E. Nineham, Explorations in Theology 1 (London 1977) 112-133; L.H. Silberman, JAAR (1976) 498-501.
(3) ـ M.-J. Lagrange, Al servizio della Bibbia; H. Wansbrough, CIR 62 (1977) 446-452.
(4) ـ B. Reardon, Liberalism and Tradition (Cambridge 1975) 249-281.
(5) ـ K. Müller, BZ 29 (1985) 161-192; Neil, Interpretation, 157-190.
(6) ـ Boers, What is New Testament Theology? 60-66
(7) ـ E.V. Mcknighit, What is Form Criticism? (Philadelphia 1969).
(8) ـ لمعالجة أوسع لهذه الخلاصات في نقد أشكال الإنجيل يمكن الاطلاع على:
K. Koch, The Growth of the Biblical Tradition (New York 1968); McKnight, What is Form Criticism?; Neill, The Interpretation of the New Testament, 236-291.
(9) ـ What is New Testament Theology?, 75-84; B. Jaspert(ed) Rudolf Bultmanns Werk und Wirkung (Darmstadt 1984); C. W. Kegley (ed.), The Theology of Rudolf Bultmann (New York 1966); N. Perrin, The Promise of Bultmann (Philadelphia 1969).
(10) ـ نجد معالجة قيمة للموضوع أوصى بها بولتمان نفسه لدى ج. ماكواريي J. Macquarrie, An existentialist Theology: A Comparison of Heidgger and Bultmann (1955).
(11) ـ J. M. Robinson J. Cobb (ed.), The later Heidgger and Theology (NFT1, New York 1963) .
(12) ـ Johnson, R.A., The Origins of Demythologizing (NumenSup 28, Leiden 1974); Painter, J., Theology as Hermeneutics: R. Bultmann's Interpretation of the history of Jesus (Sheffield 1986).
(13) ـ Smith, D.M., The composition and order of the Fourth Gospel (New Haven 1965).
(14) ـ مثل الدراسة الهامة لـ: ب. جيرهاردرسون:
B. Gerhardson, Memory and Manuscript: Oral Tradition and Written Transmission in Rabbinic Judaism and Early Christianity (1961).
(15) ـ B. Gerhardson, The Gospel Tradition, Lund 1986.
(16) ـ S.W.Sykes, Karl Barth, Oxford 1979.
(17) ـ R.E. Brown - P.J. Cahill, Biblical Tendencies Today: An Introduction to the Post-Bultmanians (Corpus Papers, Washington 1969).
(18) ـ Fuchs, Studi sul Gesù storico (Tübingen 1960).
(19) ـ R.E. Brown, Biblical Exegis and Church Doctrine (New York 1985).
(20) ـ W.S. Babcock, Second Century 4(1984) 177-184.
(21) ـ F. Belo, A Materialist Reading of the Gospel (Maryknoll 1981); L. Boff, Gesù Cristo liberatore (Assisi 1974); J. Sobrino, Christology at the Cr