يقدم لنا الناقد الفلسطيني المرموق هنا عرضا لصفحات مهمة من تاريخنا الثقافي وقد تجلت في عمل روائي للكاتب الجزائري الذي اكتشف كتاب مي زيادة «ليالي العصفورية» وصاغ منه عمله الأخير الذي يكشف عن ازدواجية المثقف وتخلف رؤيته للمرأة، وهو أمر متجذر في ثقافتنا حتى الآن.

واسيني الأعرج في روايته «ليالي إيزيس كوبيا»

مَيّ زيادة في جحيم «العصفوريّة»

المخفي في علاقة مي زيادة والرّجال الذين أحاطوا بها

نبيه القاسم

 

ميّ زيادة، الأيقونة التي لا تُمحى من الذّاكرة، التي كلّما بَعُد الزّمنُ بها عادت لتستحوذ على مَحاور الدّواوين الأدبيّة والثّقافيّة، تعود للمرّة الكم؟ من جديد بعد إصدار الكاتب الروائي واسيني الأعرج روايته "مي، ليالي إيزيس كوبيا، ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفوريّة" (دار الآداب بيروت والأهلية عمان). واليوم أعود للسؤال نفسه: إلى أيّ مدى كانت علاقة ميّ زيادة بزوّار صالونها الأدبي من الأدباء الكبار؟ وكيف تعامل معها هؤلاء الزّوّار الذين سرعان ما انفضّوا عنها بعدما أقفلتْ صالونَها، ورحلت إلى لبنان حيث زَجّ بها ابنُ عمّها في العصفوريّة؟

الروائي واسيني الأعرج يجعل من علاقتها بهؤلاء الأدباء ثيمة مهمّة في روايته المستوحاة والمعتمِدة على سيرة ميّ زيادة في "ليالي العصفوريّة". ويتّخذ الموقفَ المُساند لمي في غضبها على هؤلاء الأدباء واستنكارها لمواقفهم التي وقفوها منها. حتى تكاد في بعض المواقف تجده طَرَفا حادّا وقاسيا ومُتشدّدا في حديثه عنهم، واهتمّ، كما يّدعي بغير حق، الكاتب والشاعر المصري شريف الشافعي، "أنْ لا يُظهرهم كفطاحل وقامات في الثقافة العربية بقدر ما ظهروا كمتنافسين في عشق ميّ زيادة، ومُتخاذلين عن نَجدتها في محنتها". (جريدة المدن الألكترونية 14.3.2019)

أدباء وأعلام في صالون ميّ زيادة:
جذب صالون مي زيادة الأدبيّ الذي افتتحته عام 1912 في مدينة القاهرة معظم الشخصيّات البارزة على السّاحات الثقافيّة والأدبيّة والفكريّة في مصر. وقد تنافس البعضٌ منهم في مدحه وتودّده لميّ، فقد لقّبها ولي الدين يكن بملكة دولة الإلهام، وخليل مطران بفريدة العصر، ومصطفى صادق الرافعي بسيّدة القلم، وشكيب أرسلان بنادرة الدّهر، ويعقوب صرّوف بالدّرّة اليتيمة، والأب أنسطاس الكرملي بحلية الزمان، وشبلي الملاط بنابغة بلادي، ومصطفى عبد الرازق بأميرة النهضة الشرقيّة، وفارس الخوري بأميرة البيان، وعبد الوهاب عزام بالنابغة الأدبية.

هكذا وجدت مي زيادة نفسها فتاة في أواسط العشرينات من عمرها، أوّل فتاة تلتحق بالجامعة المصرية، عزباء، جميلة، مثقفة، تُجيد عدّة لغات، تكتب بالعربية والفرنسية، ممتلئة أنوثة وحيويّة، بسمتها لا تُفارق وجهها، كلماتها النّاعمة الجميلة الجاذبة المثيرة مثل "حبيبي" تشدّ كلا منهم إليها. ولا غرابة أنْ يقع البعض منهم في حبّها في ذلك الزمن الذي كان محظورا على المرأة العمل خارج البيت، أو المشاركة في المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها. ولم نعرف إلّا القليلات في مصر من اللواتي كسَرن قيود العادات والتّقاليد والمفاهيم الدينيّة المتشدّدة، وخُضن عراكَ الحياة. وقد يكون سببُ نجاح ميّ في كسرها لكلّ الموانع ثقافتُها الواسعة، وكونُها مسيحيّة لبنانية، ومثقفة يدعمُها والدُها الياس زيادة صاحبُ جريدة المحروسة بعلاقاته الواسعة مع رجال الثقافة والأدب.

تقف الكاتبة غادة السمّان في مقدمتها لكتاب جوزيف زيدان عن ميّ زيادة على "المعاناة التي عاشتها مي من الالتباس في موقف زوّار صالونها الأدبي بين جمال ميّ الكاتبة وجمال أبجديّتها، وبين حضورها الأنثويّ وقدراتها الإبداعيّة. ففي معظم مدائح بعض (زبائن) صالونها لها يتجلّى التّخلّي عنها "كفنّان ندّ" تحت ستار تمجيد أنوثتها وجمالها وحضورها الآسر"(ص9).

وتستشهد بنقد عباس محمود العقاد لأدب ميّ في قوله "اقرأ كتابة الآنسة مي لا تجد فيها ما يغضبك. ليكن لك رأيك في أسلوب الكتابة أو نمط التفكير أو صيغة التّعبير، فما من كاتب إلّا وللناس في أسلوبه وتفكيره وصيغ تعبيره آراء لا تتّفق. أمّا الإنسان في ميّ ذلك الكائن الشاعر الكامن وراء الكاتب منها والمفكر والمعبّر- فلا يسع الآراء المتفرّقة إلّا أنْ تتّفق فيه وتُصافحه مصافحة السلام والكرامة". (المقدمة ص8) وتُعلّق غادة السمان على كلام العقاد هذا بقولها "إنّه عاملها فيه مثل مضيفة حسناء في طائرة الإبداع، لا واحدة من ربابنة التّحليق."

ويصف سلامة موسى مي بقوله "هي ربعة مستديرة الوجه، زجاء الحاجبين، وطفاء الأهداب، دعجاء العينين، يتألّق الذكاءُ في بريقهما؟ يجلّل وجهها الجميل شعر جثل أسحم، وتلعب أبدا على شفتيها ابتسامة الخفر .. ولعلّ زجج حواجبها ووطف أهدابها أعلق الأشياء بذاكرة مَن يراها. وعلى الرّغم من سعة اطلاعها واستثارتها، لا تزال أبعد النساء عن الاسترجال وأشدّهنّ أنثويّة .. كثيرة التّواضع والاستكانة".

أمّا إسماعيل صبري فعبّر عن شعوره تجاه مي وصالونها الأدبي بقوله:

إنْ لم أمتّع بميّ ناظريَّ غدا

أنكرتُ صُبْحَك يا يومَ الثلاثاء

ويقول جوزيف زيدان في كتابه عن مي "جلّ مَن كتبوا عن مي لم ينسوا أنّها امرأة، فتناولوها من هذا المنطلق دون حَرَج؛ ناظرين إلى أنوثتها على حساب فكرها، كاتبين عنها كلاما لم يكن ليدور في خلد أحد أنْ يكتب مثله لو كان المتناوَل رجلا. وعلى الرغم من إطلاق شتّى الأوصاف الرّفيعة عليها، بقيت ميّ في نظر المؤسّسة الأدبيّة الرّجاليّة امرأة حتّى أطراف أصابعها؛ يصحّ أن تُعامَل وتُقَوّم كأيّة امرأة. فسلامة موسى يُقرّرُ "لم تكن ميّ جميلة ولكنّها كانت "حلوة". ويصفها فتحي رضوان بعد لقائه الأول بها "لها عينان ضيّقتان تبدوان للنُّظّار كأنّ بهما أثَرا من رَمَدٍ قديم، فليس فيهما شيء من الجمال. أمّا ميّ نفسها فممتلئة غير مترهّلة، وأظنّها أقرب إلى القِصَرِ من الطول. وصوتُ ميّ تشوبه رنّة حزن، لا أدري إذا كانت طبيعيّة أم مصطنعة، وهي تقطع عباراتها، وكأنّها تُلحّنها وتُوقّعها كأغنية". واتّهمها الدكتور منصور فهمي باللعوبيّة. وحتى هدى شعراوي زعيمة حركة تحرير المرأة في مصر آنذاك تقول: لم تكن ميّ على وسامتها ووضاحة وجهها جميلة بالمعنى الصّحيح للجمال. (ص17-18)

ميّ مَحطّ  اهتمام ورَغَبات الجميع:
ظلّت مَيّ زيادة مركزَ اهتمام ومَحطّ رغبات معظم زوّار صالونها على اختلاف اهتماماتهم الأدبية والفكرية والثقافيّة والسياسية والفلسفيّة والاجتماعيّة، يسعون إليها مُكتفين بترحابها الجميل وكلامها الرقيق واهتمامها الكبير وبلقاء مشاهير الأعلام من ذوي المكانة، كلّ في مّجاله. ويعترف طه حسين أنّه أُخِذَ بصوتها ونَبَرات إيقاعها يوم سمعها في حفل تكريم الشاعر خليل مطران بقوله في مذكراته: "لم يرض الفتى عن شيء ممّا سمع إلّا صوتا واحدا سمعه فاضطرب له اضطرابا شديدا، وأرِقَ له ليلته تلك. كان الصوت نحيلا ضئيلا، وكان عذبا رائقا، وكان لا يبلغ السّمع حتى ينفذ منه في خفّة إلى القلب، فيفعل به الأفاعيل" (مذكرات طه حسين دار الآداب 1967 ص45-46) وسَعِدَ طه حسين يوم حقّق له أستاذه أحمد لطفي السيّد رغبته في لقاء مَي زيادة، وزيارة صالونها الأدبي. (مذكرات طه حسين ص47).

وتجاوزت رغباتُ البعض التّوقّفَ عند حدود اللقاءات الأسبوعيّة الثقافية والأدبيّة والفكريّة، التي يُشارك فيها في صالونها، وخدعته خيالاتُه الوهميّة إلى نسج علاقة حبّ معها. ويقول عامر العقاد في  كتابه "لمحات من حياة العقاد المجهولة – دار الكتاب العربي 1968 ص186"، "كان روّاد صالونها جميعا يحرصون على إرضاء صاحبته .. بل كان كلّ منهم يخلو إلى نفسه بعد انفضاض النّدوة، فيتمثّل تلك النّظرات الحلوة، وذلك الحديث العذب، والجمال الفتّان فيترجم ذلك كلّه إلى قصيدة غزل أو رسالة يبعث بها بالبريد." وكان لعلاقاتها واحتفائها الممَيَّز بالبعض أنْ كثُرت الهمسات والتّلميحات، وتناثرت القصص لتنسج قصصَ حبّ بين هذا أو ذاك وميّ زيادة.

ويقول الكاتب عبد اللطيف شرارة في دراسة له عن ميّ زيادة "كان من نشاطها الاجتماعي أنْ زُجّ بها في مآزق عاطفيّة، لا نعرف مدى ما في الروايات والأحاديث التي تنوقلت حولها من صحّة، إذ كانت تُلاقي عطفا خاصّا من لطفي السيّد، وتسري همسات خافتة حول علاقتها بمصطفى صادق الرافعي وطاهر الطناحي."(مي زيادة - دار صادر بيروت 1965 ص65).

ووصلت النّزاعات حول قلب ميّ بالبعض إلى التّلاسُن والاتّهامات والتّشابك، فتُسارع مَيّ لتهدئة الأفئدة، وإرضاء الجميع بكلامها المعسول وخفّة دمها ورشاقتها. حتى أنّها رضيت بأن تُبعد ما بين مصطفى صادق الرافعي وعبّاس محمود العقّاد، حيث وصل الخلاف بينهما حَدَّ الشّتائم، فخصّصت للعقاد يوم الأحد تُجالسه فيه وحده، بينما يلتقي الآخرون كلّ يوم ثلاثاء.

وتكاد أغلب المراجع تتّفق على أنّ ميّ زيادة كانت تتأرجح في عواطفها بين مصطفى صادق الرافعي الذي خصّص لها كتابيه "أوراق الورد" و "رسائل الأحزان" ومحمود عبّاس العقاد. وهي تشير إلى ذلك بقولها: "إنّ معركة "على السفود" بين العقاد والرافعي لم تكن ثقافيّة، وأدبيّة بالمعنى الدّقيق للكلمة. في عمقها كانت نار الغيرة تشتعل بينهما بسببي. الرافعي كان يراني أني أعاشر شخصا يكره المرأة، وأنّ كلّ ما فيها هو غير صحيح، وأنّه لا يحترمني، وأنّه يحكي في المجالس أنّي نعجته الشّهيّة، وعشيقته. وكان العقاد، حتى بدون أن أبدي رأيي فيما يفعله، ينتفض بقوّة. أعرف غيرته الكبيرة من كلّ المنافسين له أدبيّا، بالخصوص جبران. كان يسخر كثيرا من الرافعي مثل طفل حقود: ماذا عشقتِ في رجل أصمّ أبكم ومعتوه، وربّما مجنون أيضا. لم أكن أملك وسيلة للدّفاع عنه إلّا الصّمت.  كل ما كان يكتبه الرافعي، كان العقّاد يأتيني به ناقما: ها هو معتوهك يهينك مرّة أخرى أمام الجميع، وأنتِ تجدين له كلّ سُبل التّسامح؟ (ص183-184)

وتعترف مي بأنّها كانت على علاقة خاصّة بالعقاد، وقد خصّصت له يوم الأحد لتُجالسه وحده "كان العقاد حبيبي، رغم خلافاتنا الخاصّة. كان مأزوما من جبران وغير جبران. ولم يكن لديّ أيّ حلّ له. كان من الصّعب عليه أنْ يراني امرأة خارج السّيطرة. خارج سربه النّسويّ السّرّي الذي أعرفه. منحته يوما خاصّا به. بنا. الأحد، لأنّه كان يتضايق من يوم الثلاثاء المُخصّص للصّالون. لم أكن مُهيّأة للنّوم معه، وهذا خياري. كان يغضب كطفل صغير. أحاول أنْ أقنعه أنّ جسدي ليس ملكي، لدرجة أنْ يئس من يأسي ومنّي. هو يريد أنثى شهيّة بعد فيلم جميل نراه معا في الفانوس السّحري، وبيت مُعطّر مُهيّأ للحظة قد لا تتكرّر أبدا، فيُفاجأ بامرأة تفعل معه كلّ شيء، إلّا أنْ تنام في حضنه. حظّه وضعه في كفي مثقّفة لا تنفعه كثيرا في الفراش، تكاد تكون هو، رجل بجسد امرأة تفكّر. شبيهتُه في كلّ شيء، حتى في غيرتها وعنادها. (ص172).

وتعترف ميّ بحبّ العقاد لها وحبّها له "العقاد الذي تحوّل مثل عاصفة دخان كان يحبّني. كتبتُ له في رسالة: "حسبي أنْ أقول لكأنّ ما تشعرُ به نحوي، هو نفس ما شعرتُ به نحوكَ، منذ أوّل رسالة كتبتُها إليكَ. بل خشيتُ أنْ أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد، منذ أوّل مرّة رأيتك فيها، الحياء منعني، والآن عرفتُ شعورك" (الرواية ص173). وتقول مي عن حبّها للعقاد: "العقّاد الذي عشقته وقاسمته ما أخفيتُه عن الآخرين. كان نموذجي في الاستماتة من أجل الحقّ، لم يُخِفْه السّجن أو الغَطرسة. (ص171).

ويروي عامر العقاد قصّة الحب بين العقاد ومي زيادة، حيث بدأت بتلك المغازلة اللطيفة التي قام بها معظم زوّار صالونها الأدبيّ، وكان يكتب لها الرسائل ويرسلها فتتجاهل وصولها وقراءتها، إذا ألمح لها بها في جلوسه إليها في الصالون. لكن الحبّ زاد وبان بتخصيصها له يوما منفردا عن باقي الحضور، وأنّها كانت تُبادله الرسائل إذا ما سافر إلى بلدته أسوان، وتلتقيه وتذهب معه لحضور أفلام سينمائيّة. وقد اعترف العقاد بحبّه لمي عندما سأله طاهر الطناحي عن ذلك فقال: لقد أحببتُ في حياتي مرّتين: سارة ومي. ويروي العقاد في روايته "سارة" قصة حبّه المُتداخل لمي زيادة ولفتاة باسم سارة، (رواية سارة، دار الكتاب ، بيروت. ط 2،  1969 ص161-162).

حبّ ميّ الكبير، كما يعترف جميع مَن تناول سيرتها، كان لجبران خليل جبران، الذي هربت إليه لتجدَ عنده الأملَ وتجسيدَ الحلم الذي انتظرته. "لم يكن جبران حبيبي الذي أسرتني كتاباته، كان أمانيّ وحائطي اللغوي."(ص110) وحبُّها هذا جعل كلّ الذين أحبّوها يتضايقون من جبران، ويُضمرون له الضّغينة لأنّه سرقها منهم.

وتذكر ميّ في أكثر من مناسبة حبّ البعض لها مثل: "أنطون الجميل الذي شعرتُ يوما بأنّه سيموت من دوني (الرواية ص248)، وسلامة موسى الذي أحببته كثيرا وكنتُ وراء توظيفه في جريدة الوالد. (الرواية ص251) وأمين الريحاني الذي كنت أعرف أنّه حبيبي الذي عاد من أمريكا فقط ليرعاني بقلبه وكلّ حواسّه. هذا الرّجل في هذا العالم الضَّحل نادر، لكنّه موجود. وهو الذي اعتقد أنّ حبّي لجبران ما أبعدَني عنه، ولم يُدرك أنّ لا أحد يُمكنه أن يُبعد آخر عن أحد". (الرواية ص203-204) وتذكر أنّ لطفي السيّد قد وقع في حبّها: "العقاد، سلامة موسى، لطفي السيّد أصيبوا بخيبة كبيرة لأنّهم لم يجدوا المرأة التي تَنافسوا عليها في السّرّ والعَلَن". (الرواية ص248) وطاهر الطناحي الذي ناشد ميّ، وقد سمع بما لحِقَ بها في لبنان بقوله:

عودي إلى مصر مثل الشمس ساطعة تزجين ضيّك آيات وعرفانا

كم قد ْحَزنّا لبُعد طال موعده وكم حسَدنا على الأيّام لبنانا (الرواية ص242)

انفضاض المحبّين والأصدقاء وقت الحاجة إليهم:
اعتقدت ميّ زيادة أنّ هذا الحبّ الذي أحاطها به كلّ مَن عرفها وتواصَل معها من كبار الأدباء والمفكرين والسياسيين وغيرهم، لن يضعُفَ أو يختفي في يوم من الأيّام. لكنّ المصائب التي توالت عليها بموت والدها وثم والدتها وبعدهما موت جبران، جعلتها تُحسّ بانهيار عالمها الرّوحاني والنّفسي والاجتماعي، وأنّ لا شيء بقي من أجل أنْ تعيش له في هذه الحياة، فأخذت تنزوي داخل نفسها، بأنْ أقفلت صالونَها الأدبي، وانقطعت عن لقاء زوّاره.

وتصف سلمى الكزبري ما حلّ بمي بعد موت جبران "لقد صدع موت جبران ميّاً جسما وروحا. ولمّا استبد بها الحزن والاكتئاب أصيبَت بانهيار عصبيّ، تبعه انهيار في صحّتها، فاعتزلت الناس، وأصبحت عرضة للوساوس والأوهام، وغدت امرأة مفجوعة، بل خيالا لامرأة هدّتها الأحزان وحطّمتها الصّدمات. ففي عام 1935 بعثت إلى قريبها في بيروت الدكتور جوزيف زيادة برسالة مؤثّرة وصفت آلامَها، وتردّي صحّتها، وطلبت منه المجيء إلى مصر لإنقاذها ممّا كانت تُعانيه، مُعربة عن رغبتها في العودة إلى لبنان." (مقدمة كتاب الشعلة الزرقاء ص24).

هذه السنوات التي آثرت فيها الوحدة بعيدا عن كلّ إنسان مع ما انتشرت حولها من إشاعات عن تَردّي حالتها الصحيّة والنفسيّة، أبْعَدَ زُوّارها وعشّاقها عنها، ومع الأيّام انصرف كلّ منهم لهمومه ومَشاغل الحياة، حتى إذا ما جاء ابنُ عمّها، ورحل بها إلى لبنان عام 1936، كانت قد توارت عن اهتمام العديد، والقليل منهم حاول أن يُبقيها ذكرى جميلة يستعيدُها كلّما لفحَه الهوى، وجاءه طيفُها مُذكّرا ومُؤنّبا ولائما.

اعتقدت ميّ أنّ خلاصَها من حالتها المأساويّة سيكون بالعودة إلى بلدها لبنان وأهلها. لكنّها وجدت نفسها ضحيّة لمؤامرة دنيئة، أوقعها فيها مَن اعتقدته منقذها وحبيبها العائد، ابن عمّها الدكتور جوزيف زيادة، حيث اتّهمها بالجنون، وزجّ بها في العصفوريّة بعد أن تنازلت له عن كلّ ما تملك. ورفضت ميّ المؤامرة وطالبت بإطلاق سراحها، وعندما أدركت استحالة ذلك، أملت أنْ يقوم عشّاقُها وأصدقاؤها ومحبّوها الذين أحاطوا بها في صالونها الأدبيّ في القاهرة، بما لهم من سطوة وقوّة وتأثير، بنجدتها. لكنّ رجاءها خاب، ولم يهتم أيّ منهم بحالتها أو السّؤال عنها. ولم تتقبّل ذلك وأطلقت صرخات استنكارها وعتابها وغضبها بألم وحزن "لماذا تخلّى عنّي الجميعُ بهذه السّرعة الغريبة، وكأنّي لم أكن؟" (ص108)

وتشكو من عقوق أصدقائها "حتى أصدقائي تخلّوا عني، وبدل أنْ يُدافعوا عنّي، راحوا يُكيلون لي التّهم القاسية، وجعلوا من كآبتي مادّتهم لذبحي. كنتُ مأدبتهم المفضّلة في جلساتهم الواسعة." وبألم تقول: "خيرة أصدقائي ولّوا وجوههم عنّي صوبَ الفراغ. كنتُ أحسب حسابهم، لكنّهم تخلّوا عنّي". وتتساءل "ماذا لو أثار طه حسين زوبعة، وهو سيّدها وقادر عليها؟ ماذا لو كتب عنّي شيئا صغيرا، سطرين لا أكثر، حبّا في هذه الصّداقة؟ ماذا لو كان العقاد وفيّا لحبّ نبت كبيرا، قبل أن يموت بسرعة". وبغضب تقول "كيف تجرّأ العقاد أنْ يرميني بسهولة؟ ألم يكن حبيبي، رغم خلافاتنا الخاصّة". (ص172) ماذا لو ركض نحوي من القاهرة إلى بيروت، ألم أكن حبيبته التي ألهمته بكتاب، ومنحته ما لم أمنحه لأحد غيره، وضمّني إليه، كما تعوّد أن يفعل معي كلّما عدتُ من سفرة، أو جاءني من قريته حيث يهربُ دائما؟ (ص183) "وماذا لو انتفض لطفي السيّد الذي كنتُ أعرفُ إخلاصَه وقلبَه الجميل؟" وتتساءل "لماذا صمت الرّجل الذي علّمني الكثير، يقول لي إنّه جُنّ بي، مصطفى صادق الرّافعي؟" "ثم ماذا لو سأل عنّي سلامة موسى؟ ألم يُعلن لي عن حبّه عشرات المرّات". (ص184). "أيعقل أن يكونوا كلّهم مثل بعض؟ كيف استسلموا لصحافة كاذبة، وهم أعرف الناس أنّي لم أكن مجنونة؟" (ص118-120).

وتستغرب من تصرّف أمين الرّيحاني قائلة: "أمين الرّيحاني .. أوّل مَن انتظرتُ أن يقف بجانبي، لكنّه غاب كما غابوا جميعا. صدّق القَتَلةَ بلا تعب. (ص171) "لم يُدافع عنّي أحد؟ كان الجبنُ سيّدَ كلّ شيء. لماذا؟ هل فعلتُ شيئا مشينا ليقتلني هذا الشرق الأليم، الذي دافعتُ عنه بكلّ حواسي؟ لا أحد قال كلمة واحدة".(ص197)

انتقام مَيّ من الذين تخلّوا عنها:
بعد إطلاق سراحها وخروجها من العصفورية وعودتها إلى مصر قرأت ميّ ما كُتبَ في الصحف عنها من قِبَل أصدقائها ومُحبّيها فيما مضى. فقرّرت أن تُغلقَ باب بيتها في وجههم. رفضَتْ استقبال أنطوان الجميل الذي حسّسها دائما بأنّها جزء منه وساكنة في عينيه، لكنّه غدر بها وتخلّى عنها. (ص248) وغضبت جدا بعد قراءتها ما قاله طه حسين: "أقسَمَ برأس كلّ أساتذته العظام وعلماء النّفس أنّه رآني غير طبيعيّة، وأنّي أسير حثيثا نحو الجنون، لأنّ أزمة نفسيّة كبيرة جرّتها إلى العصفوريّة" (ص252)، فرفَضَتْ استقباله وجرَحته وأهانَته في حديثها الهاتفيّ معه عندما اتّصل بها. (ص261-263).

لكنّها تعترف بعدم استطاعتها ردّ العقاد وسلامة موسى ولطفي السّيّد. لكنهم عندما زاروها أصيبوا بخيبة كبيرة لأنّهم لم يجدوا المرأة التي تنافسوا عليها في السّر والعَلن. (ص248). وفوجئت بما صرّح به العقّاد وسلامة موسى بعد زيارتهما لها، وجرح قلبَها وقسَمه إلى نصفَين، وتساءلت: "لماذا قال سلامة موسى ما قال "كانت صورة مي في ذهني عندما ذهبنا لزيارتها، لا تزال صورة الفتاة الجميلة الحلوة التي تضحك في تدلّل، وتتحدّث في تأنٍّ. فخرجَتْ لنا امرأة مهدمة كأنّها في السبعين، قد اكتسى رأسها بشيب أبيض، مشعّث .. إلخ . "هل كان العقاد مُجبرا أن يُفبرك كذبة ضدّي ليُخفيَ بؤسَه معي؟" (الرواية 251).

وتنتقد العقاد على تصرّفه، "فهو من القليلين الذين استقبلتهم في بيتي الجديد الفقير، لكنّه لم يحسب لذلك أيّ حساب. شرب قهوة عندي في وقت لم أفتح للآخرين لا باب بيتي، ولا باب قلبي، أعتقد أنّه حقد عليّ عندما أرادني في فراشه وتمنعتُ، لم أجد في العقاد هشاشة العاشق، ولكن ملمسا من حجر وصوّان. لم يتخطّ الأفكار التي نبتَ عليها. الكتابة هشاشة دائمة، لكنّها أيضا صنعَة الإحساس فيها قد يكون محدودا. لا أشعر أبدا أنّي أخطأته يوم تركتُه، فهو في النهاية رجلٌ شرقيّ لن يتغيّر، وإذا تغيّرَ فسيكون ذلك بصعوبة كبيرة، ولكنّه في أوّل هزّة، بدل أنْ يُراجعَ نفسَه، يعود إلى اللحظة الأولى التي تظنّ أنّه تَخطّاها. وأتساءل أحيانا إذا لم يظلّ الأنسان العربي مثبتا في عُقَد المراهقة حتى الموت. كلُّ مَن ابتسمْتُ لهم حوّلوا الابتسامةَ إلى إعْلان حُبّ. تَصحّر في عُمق الإنسان العربي. وحشتُه الأساسيّة امرأة لم يحسم معها حساباته الحياتيّة. هناك عَطش ذكوري تَحمّلتُه بكل ثقله". (الرواية ص250)

وتُعلّق ميّ على تصرّفهم وما قالوه مُشفقة عليهم "محنتي ليست تَرَفا بائسا. هي محنة المثقّف العربي في أوهامه المَرضيّة، الذي استقرّ على ازدواجيّة مَقيتة، ستُرافقه إلى قبره بعد أن قَبِل بها واستكان لها". (ص249) وتستعيدُ أيّامَ علاقاتها بزوّار صالونها في القاهرة، وكيف كانوا يصغُرون في عينيها كلّ يوم "لقد عشتُ بين عشرات الرّجال الذين اشتهوني دفعة واحدة. رجال كانوا بصدد صناعة عالم جديد، كلّما اقتربتُ منهم صغُرَ الكثيرُ منهم. اكتشفتُ وأنا بينهم في الصّالون، أنّ هذا العالم الجديد الذي كانوا يُبشّرون به ليلا نهارا، محكوم عليه بالموت اختناقا، اليوم أو غدا أو بعد مائة سنة، ما دامت المرأة لا سلطان لها فيه، ولا تشترك في صناعته. تمنيتُ أنْ أصرخَ بقوّة حتى تتقطّعَ أحبالي الصّوتيّة: أيّها الرّجل، لقد أذللتني، فكنتَ ذليلا. حرّرني تكُن حرّا. لكنّه لم يسمع إلّا لأنانيّته ولحَداثة صنَعَها على مَقاسه". (الرواية ص116-117)

وتقول "منذ البداية أدركتُ أنّ صراعي سيكون كبيرا مع رجال شاخوا قبل أنْ يكتبوا. وُلدوا مُخَرَّبي الأدمغة في غمار حَداثة أكبر منهم، لأنّهم رفضوا كسرَ كلّ مُعوّقاتهم الدّاخليّة. كلّهم بلا استثناء، صُنّاع الحَداثة، كلّما تعلّق الأمرُ بامرأة مَزّقت الشّرنقةَ، مقابل ثمن غال دفعته من أعصابها وراحتها، أخرَجوا سكاكينهم. أزمة الحَداثة العربيّة امرأة. هزيمة الخروج من التّخلّف امرأة أيضا." (الرواية ص167) وكأنّي بها تتنبّأ بما سيكون، وقد صدَقتْ. "كنتُ أشتهي أنْ أنتميَ لرجل واحد أمنحُه كلّي، ولا أترك لنفسي شيئا، ولكنْ لا أحدا منهم كان يُحبّني كما اشتهيتُ. سأموتُ وسيفتح كلّ منهم علبتَه السّريّة، ليجعلَ من الحبّة قبّة، من صباح الخير إعلان عن قصّة حبّ، ومن اللمسة حبّا مجنونا على سرير اللذّة. (الرواية ص200-201).

واسيني الأعرج يكشف المستور:
انشغال كلّ مَن تناول حياة ميّ زيادة وما عانته من ظلم أقاربها، وخاصّة ابن عمّها الدكتور جوزيف زيادة، وبحبّ ميّ لجبران وحبّه لها رغم البُعد الجغرافي بينهما. هذا الانشغال حجبَ عن عيون كلّ المهتمّين بها، وأبعدهم عن الالتفات إلى ما سبّبَ لها رُوّاد صالونها، أصحاب الأسماء الكبيرة في عالم الأدب والفكر والسياسة من ألم روحي ونفسيّ، حتى جاء الرّوائي واسيني الأعرج بروايته "ميّ، ليالي إيزيس كوبيا، ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفوريّة" المستوحاة من مذكرات ميّ زيادة "ليالي العصفورية"، التي اجتهد في البحث والتّنقيب عنها حتى وجدَها ولملم صفحاتها، ووقف على التصرّفات السيئّة التي قام بها كبارُ الرّموز الذين نعتزّ بهم في عالم الأدب والفكر والمعرفة، فكشف المستور، وأثار حملات صحافيّة، منها الشّاكرة له عمله، ومنها المستنكرة فعلته والمُشكّكة بصدقه وأمانته في ما روى. وحتى أكون على يقين تحدّثتُ مع الروائي واسيني الأعرج وسألتُه عن مدى دقّة ومصداقيّة ما روى، فأكّد لي أنّها صحيحة مائة بالمائة ولم يزد أيّ حرف عليها.

قد يستغرب الكثيرون تصرّفَ أصحاب الأسماء الكبار رُوّاد صالون ميّ زيادة، لوقوع معظمهم في حبّ ميّ، أو للمشاحنات والخلافات التي كانت تشتدّ وتحتدَ فيما بينهم حول ميّ، أو للقصص الوهميّة التي نسجَها بعضُهم أو للسّلوكيّات المشينة التي قام بها البعض منهم، ولجحودهم وتنكّرهم للتي أسعدتهم وأفرحتهم واستقبلتهم في صالونها.

ولكنّنا إذا عُدنا إلى تلك السّنوات منَ الثلث الأوّل من القرن التاسع عشر حيث كانت المرأة سَجينة بيتها، مُقيّدة بالعادات والتّقاليد والمفاهيم الدينيّة الصّعبة، لا خروج لها من البيت إلّا بمرافقة أحد أفراد أسرتها، والأفضل من الذّكور، محرومة من العلم والحريّة والتّعبير عن رأيها حتى في تقرير مَصيرها، تعيش في مجتمع ذكوريّ يفرض مفاهيمَه وآراءه ويتحكّم بها، وإذا ما برزت إحدى الفتيات وتمرّدت وشقّت عصا الطاعة وانطلقت تُنشد الحريّة، يُسارعون إلى إخماد صوتها إمّا بالقتل، وإذا لم ينجحوا، فبإلصاق كلّ القصص المسيئة الفاضحة الكاذبة بها.

في مجتمع كهذا جاءت ميّ زيادة، المولودة لأسرة مسيحيّة في مدينة الناصرة في فلسطين، والتي عاشت وكبرت في لبنان حيث اكتسبت، على مَدار سنوات قضَتها في مدارس الأديرة، العلمَ والمعرفة واتقانَ اللغات العديدة. جاءت إلى القاهرة برفقة والدها الياس زيادة، صاحب جريدة "المحروسة" المنفتح على عالم الثقافة والأدب، وافتتحت بموافقته صالونَها الأدبيّ كلّ يوم ثلاثاء لاستقبال  كبار رجال الفكر والأدب والسّياسة على غرار صالونات فرنسا، تستقبلهم بالتّرحاب والبَسمة والكلمة اللطيفة، وتُحاورهم في مختلف مواضيع الفكر والثقافة والأدب، وتكتب مثلهم في الصحف وتنشر الكتب، فيعود كلّ منهم من صالونها مبهورا بها، مأخوذا بلطفها وبسمتها وكلمتها الهامسة، فيعتقدُ واهما، أنّها تخُصّه بها وحده، فيسقط صريعَ هواها، ويكتب لها القصيدة أو الرّسالة، ويرسلها لها أو يقرأها يوم يلتقيها، فتبتسم ولا تُعَلّق، فيزيد وهمُه، ويزداد تعلّقُه وتكثرُ قصصُه. وإذا ما استنكر أحدٌ فعلَتهم، وهم أصحاب الأسماء الكبيرة، كلّ في مَجاله، ومنهم مَن فاته قطارُ العمر أو له زوجة وأولاد، ولا يليق به أنْ يقع في حبّ فتاة صغيرة في أوّل تفتّحها على دروب الحياة، يُسارع عبّاس محمود العقاد ليُدافع ويُفسّر ويشرح بقوله: "إنّ عواطف الإنسان خالدة فيه. وحتى الشيخوخة، ربّما أعانت بأكثر ممّا يُعين الشّباب، إذ تهدأ فيها ثورة العواطف المستعرة التي تُبلبلُ النّفوس، وأيضا فإنّها تُعمّقُ التجربة، وتُعمّق الفهمَ للحياة الإنسانيّة وما يدور في قلب المحبّ من مَشاعر" (عامر العقاد. لمحات من حياة العقّاد المجهولة ص249)

أخيرا
أقول شكرا للرّوائي واسيني الأعرج الذي كشف لنا عن مذكرات مي زيادة "ليالي العصفورية" التي ظلّت مجهولة لسنوات. وقدّ أبدع في تقديمها بلغته الجميلة وأسلوبه الأخّاذ، فجعلنا نعيش مع ميّ. نتعاطف معها، ونغضب غضبها. نحزن حزنها، ونرثي معها واقعا سيئا مُهشّما عاشته وكانت ضحيّته.