رحل عنا الشاعر والمترجم الفرنسي هنري ميشونيك، الذي احتل مكانة أساسية في المشهد الشعري الإنساني وحضورا لافتا في الشعرية العربية. هنا يقدم الشاعر المغربي جزءا من انشغالات الراحل والأسئلة التي شغلته طيلة مسيرته الإبداعية والنقدية.

في شعريّة هنري ميشونيك

شاعر من المغرب

عبداللّطيف الوراري

في صمْتٍ رحل هنري ميشونيك، إلى مجهوله رحل الشاعر والمترجم والناقد المبتهج بالمعرفة التي سافرت، بمهماز النّقد والمغامرة، في تأمل الخطاب النظري والتحليلي الخاص بالشعر وقراءة أجروميّاته الأساسية، بلا مطلق ولا متعاليات. تاريخ من السؤال وإعادة السؤال يصاحب برنامج ميشونيك النقدي الذي يرتبط بتأمل مختلف الخطابات من وجهة نظر الشعرية الّتي نظّر لها كمعرفةٍ تبحث في صيغ الدلالة النَوعية للنص الأدبي.

لقد وقفت شعرية ميشونيك في مُفْترق تاريخٍ يعصف بالقناعات، ابتداء من السبعينيات التي شهدت حمّى الجدل النقدي والسجالي في غير علم من العلوم الإنسانية، في أوروبا وخارجها. كان برنامج هذه الشعرية، في بادئ أمرها، هو النقد، وبخاصة نقد الشعرية البنيوية التي كانت لا تزال في ذروة وثوقها بنفسها. يصرِّح ميشونيك بأنه "لا يمكن أن نقوم بمحاولة جديدة من غير البدء بتحديدٍ منهجيّ. فنحن لا نقرأ بكلمات الآخرين"(1، ص. 11). وعليه، طفقت شعريّته تناقض، بوعي، تاريخ الشعرية بأسره منذ أرسطو. عملها، حتى وإن كان مجهوداً نظريّاً، لن يكون ممكنا ـ مع/ رغْم عتماته ـ إلا باعتباره تنظيراً للممارسة. لا هي بخطابٍ وصفيٍّ، أو نشاطٍ تأمّلي، أو بحثٍ تاريخي أو مقارن. هي لذاتها. بطبيعة الحال، تمرُّ عبر التاريخ، وبالضرورة كذلك من الثقافة إلى الثقافة، ضدّاً على وهم تكامل الثقافات. ويرى ميشونيك أن النظرية ليست ممكنة إلا في علاقتها بالممارسة (شأن ألا تكون تأمّلاً)، ومن الخطأ القول أن المفاهيم لم تنتج، تاريخيّاً، عن هذه الممارسة الخاصة والنوعية، وهو ما يلزم حتْماً تحاشيه.

وقد أعطت البلاغة من ديشو أوسطاش إلى رونسار دي بيلي، وملاحظات راسين حول الشعرية، وأخرى لنوفاليس وبودلير وهيغو، ثم عند ملارمي وهوبكينس لمّا امتزج الأدب والفلسفة، نماذج تُجسّد تفاعل النظرية والممارسة. وفي نظره، ليست هناك مغامرة نظريّة بمعزل عن هذه الممارسة. وترجمة نصوص الكتاب المقدّس التي دأب عليها تلعب دورها هنا، فضلاً عن ممارسته الشعر. لا يوجد بجانب النظريّةِ "الصعبة" الشّعرُ" السهل".إذا كانت النظرية صعبة فلأنّ الشعر أكثر صعوبة. ان النظرية، إذن، سعْيٌ مستمرٌّ إلى الممارسة ودراسة العلاقات بين بنية النصوص وتلقيها، لا علم لها تدّعيه، أو حلمتْ به يوماً. تلك هي النظرية النقدية التي يسميها ميشونيك "إبستيمولوجيا الكتابة"، بما تتضمنه بالضرورة من نقد اللسانيات (وضع حدود اللسانيات ومسلماتها موضع تساؤل)، ومن نقد التحليل النفسي والماركسية. فهي أوّلاً تذكر بأنها مرتبطة باللسانيات ـ العلم، وثانياً بأن ميدانها، عكس الظاهراتية، هو الممارسة التاريخية، وأن لها صرامتها وعلاقتها الخاصة بالمعرفة، وثالثاً هي، بشكلٍ سجاليّ، ضد إعادات التقديس الراهنة التي تقترن تماماً بالنزعتين العلمية والتجريبية كما في زمن بيرس، بقدر ما هي ضد مدّ الخطاب السّيكولوجي المُجَمْلن وجزْره. وأخيراً ، من أجل أن تطرح ما يتعلق، في آن، بالنظرية وميتا النظرية التي تحرص قواعدها على العودة إلى الممارسة التاريخية، وإلى تفاعلها مع معرفة" العلوم" الإنسانية. بنوعية الكتابة، إذن، ترتبط نوعية النظرية .

يُمثّل هذا المسعى الضرورة الداخلية لعمل "من أجل الشعرية" بأجزائه الثلاثة الأولى الصادرة بين 1970 و 1973، الذي يطبعه السجال إلى جانب النقد. يؤكد "يبدو لي اليوم أن أول مسألة هي إبستيمولوجيا الشعرية، وما يشكل موضوع النقاش هو الوضعية نفسها لكل خطاب حول الشعرية، وخاصة حول اللغة الشعرية". ويطرح الكتابة كـ "فعالية معرفة نوعية"، و "الكتابة هي ابستيمولوجيا لغتها"، إذ تذهب الكتابة نحو ما لا تعرفه، نحو ما ليس لها : ليست معرفة نظرية أو مفاهيمية، بل هي ممارسة وتعرُّف وفعلٌ نوعيٌّ يعبر العلاقة بين اللغة ونصِّها، النصّ ولغته، بقدر ما يعبر محور هذا العمل الذي لا يتمُّ بالمعرفة بل بالممارسة.

وضمن مفهوم "إبستيمولوجية الكتابة" هاته يعقد ميشونيك وشيجة بين المنهج ومحتوى المنهج، بين النظرية والممارسة. ويأخذ ميشونيك الإبستيمولوجية في معناها الواسع كـ "نقد لمبادئ وفرضيات ونتائج ذات هدف غايته معرفة الكتابة والأدب، باعتبار أن هذه المعرفة تتم داخل العلاقة الضرورية مع الممارسة. إنها التأمل في، لا التأمل حول".

بهذا التصور، لا يتعلق الأمر بالتفكير في ما هو الأدب، بل في ما يصنعه. وهذا ما يستدعي استبدال مشكلات الماهية بمشكلات التاريخانية. وبما أنها دراسة للغة الشعرية بالمعنى الواسع، فإن الشعرية بقدر ما هي تحاول أن تعرف ما تؤسسه وتخلقه معرفةً تامّة، تستتبع أكثر فأكثر عملاً معرفيّاً للعلاقات بين كل ممارسة للغة ونظريتها في اللغة. هكذا تقود الشعرية إلى نظرية نقدية للعلاقة بين الفلسفي والسياسي وكلّ ما هو فعلٍ لغويٍّ، القصيدة تحديداً.

من هنا، كان هنري ميشونيك يعمل على إنتاج نظرية نقدية انطلاقاً من نوعية القصيدة، في صلة بمختلف ذُرِّيات اللغة المضادة، القصيدة المضادة، من داخل الرهان السياسي دائماً، الذي يتم اللعب به داخل الشعرية. ويؤكّد، فضلاً عن ذلك، فصل العلم عن النظرية، مُنِتجاً لخطابٍ نظريّ يبحث قواعد معرفته، بقدر ما يكون المعرفة ذاتها. فأنْ ندعو الشّعرية علماً هو وهْمٌ أو خداعٌ يمكن موضعته بما يلزم. إنّما هي خطابٌ سجاليٌّ ما دام يبحث عن نفسه، ويسعى إلى صرامته الخاصة، داخل الهيمنات الإيديولوجية المتعاقبة وضدّاً عليها. إن الشعرية، دون أن تهجر ميدانها، تقود إلى نقد الأنثروبولوجيا عبر نقد نظريات اللغة، داخل الصراع الذي تقيم فيه من أجل إكساب اللغة ونظريتها وممارستها طابع التاريخانية، ضدّاً على إعادات التقديس الراهنة، التي تلعب دوراً سياسيّاً دقيقاً. من هنا تدافع الشعرية عن نفسها، وتتحصّن لتكون الممارسة والنقد في آن.

ذلك ما اختبره في "كتابة هيغو"، وفي تحليل الوضعية الراهنة للشعر، مُعتبراً الشعر سؤالاً، لأنّ الجواب يتّجه نحو الماضي وانسجامه الخاص، بمقدار عمله المتواصل على استجلاء الشروط التي يقيم داخلها الصراع مُسبقاً، تحت ستار ميتافيزيقي. ولم يكن "احتفاؤه بالشّعر"، في آخر كتبه، إلا على نحو ساخر، عندما لاحظ أن كلمة "شعر" أصبحت تعني خمسة أو عشرة أشياء مختلفة في آنٍ واحد، ورأى في ذلك تنافر أصوات لا يُحتمَل. لذلك كان يُقصد باحتفائه تأمُّل الأشياء الأكثر اختلافاً، التي توضع بشكل غامض داخل كلمة شعر، وهو ما قاده إلى نقْدٍ مُعمَّم لما نصنعه بالشعر ونقوله عنه، وبالتالي إلى نقد الفلسفة، أيّ فلسفة، معتبراً أنّ التأمُّل في ما هو مشكلةٍ شعرية يتجاوز بكثير أن يكون شأناً في الأخلاقيات والسياسة. لا يتعلّق الأمر، إذن، بتحبيب الشعر، بل بالكفّ عن خداعه بالكليشيهات والأباطيل التي لا تعير للشعر وزْناً. فالنّظر نحو الشعر بافتتانٍ وولعٍ كانت نتيجته سلبية، لأنّ ذلك يقود الى الكتابة حول الشعر وإلى الاحتفاء بها، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحصل للقصيدة. القصيدة لها عدوّان: الشعر نفسه، بمعنى شعر الماضي، والفلسفة بسبب مفهومها للغة. وهذا ما دعاه إلى التأمّل في العلاقات بين كتابة قصيدة وقراءتها وبين مجمل تاريخ الشعر.

لقد كانت شعرية هنري ميشونيك نظرية نقدية اختراقية، بالمعنى الذي أفاد نقد مفاهيم الإيقاع والمعنى والذات والخطاب، مثلما نقد الحداثة. عبر ضربة نرد لا تكفُّ عن الحركة. حركة الاستراتبجية التي تواجه بخطابها خطاب الاستراتيجيات الأخرى، من الدليل الى ما يتقوّى به، ومن اللّغة إلى ما ينزع إلى إعادة تقديسها، ومن الإيقاع إلى ما يسجن الذّات في الخطاطة، ومن الحداثة إلى ما يحجب ادّعاءاتها.

إنّنا بصدد مسارٍ نظريٍّ ونقديٍّ متعدّد ومتراصّ بالأسئلة، وهو لا زال يفعل حتى اليوم.

ولا نزعم أنّ هذا المدخل قد يُحيط بهذا المسار كله، الصعب والمتشعب داخل واحدةٍ من أهمّ الشعريّات وأطرفها في عصرنا، كان يشقّ حجر الأسئلة، ويندّ عن ضحكات الحُرّية، بدءاً من "من أجل الشعرية"(1970)، مروراً بـ "نقد الإيقاع" (1982) و "سياسة الإيقاع، سياسة الذات" (1986) و "الحداثة الحداثة " (1988) و "شعرية الترجمة" (1999)، إلى "احتفاءً بالشعر" (2002)، عبر النصوص الكاشفة عن انشغالات ميشونيك الأساسية، ضمن استراتيجيتي النقد والسجال.