يتأمل الكاتب المغربي هنا شذرات من قصة الشيخ الأكبر الذي اختلف القوم فيه بين نابذ له منقص من مكانته، متهم إياه بالزندقة والهرطقة والتضليل، وبين معتقد بولايته، فهو قطب الأقطاب، وتد الأوتاد، الواصل في درجات المعرفة بالله المنتهى، ويخلص إلى أهمية مفهومه عن المحبة وقبول المختلف.

ابن عربي: الشيخ الأكبر

الزنديق الأكبر!

محـمد شـارف

 

1. من هنا كانت البداية
دائما ما كان الانتساب إلى العرب والعربية مطلب كل "شريف" و"وضيع"، فبه تفتح الأبواب وتُرقى الدرجات، اختلف في نسب الكثيرين ممن ساهموا بقليل أو بكثير في الحضارة الإسلامية، بل تعدى هذا الشأن الأشخاص المنفردين إلى القوميات والجماعات، وهنا نستحضر الخلاف حول أصل الأمازيغ بين من يقول بأصلهم اليمني، ومن يؤكد أصالتهم وتميزهم العرقي، كقومية لها قوامها الخاص. ذلك لأن الأصل العربي كان بمثابة جوازِ سفر، تذكرةِ عبور، فـــ"أبناء الشعوب التي غُلبت على أمرها، والذين كانوا خاضعين للحكم العربي، كانوا يحاولون الانتساب إلى قبائل ذات أصول عرقية عربية، كي يحملوا شرف الانتساب لهم، وهذا ما كان يخدمهم في مباشرة الأمور السياسية والكثير من فعاليات الوجاهة."1  

لكل هذا، لا يمكن أن يكون ابن عربي إلا عربيا، فهو وإن وُلد في الأندلس في مدينة مُرسية على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، فلا يعني ذلك أنه أندلسي إسباني، أو أمازيغي ينحدر من جنوب المتوسط، وإنما عربي، وليس أيَّ عربي، بل من نسل الصحابي "الجليل" عدي بن حاتم.

ولد ابن عربي شيخنا الأكبر – زنديقنا الأكبر، وإن شئت، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الحاتمي الطائي ليلة الاثنين 17 رمضان سنة 560 هـ – 1156 م. وقد كان لعائلته  حظ وافر من العلم  والتقوى والورع، إضافة إلى القرب من البلاط، وما يعنيه ذلك من وجاهة ورفعة، فأبو محمد تقلَّد مناصب مهمة خاصة عند الأمير مردنيش، ثم سلطان الموحدين أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن، واستمر كذلك حتى عصر أمير المومنين الثالث أبي يوسف يعقوب المنصور، كل هذا كان له أثر في نشأة ابن عربي، أكسبه عزةَ نفس، فهو كريم أصلا ومنشأ، كما جعلته هذه المكانة ينغمس في ملذات الحياة المادية، يلهو مع أصحابه، ويعبث معهم، وينكب عن جادة الطريق ردحا من الزمان، إلى أن توصل إلى نتيجة عبَّر عنها بقوله: (هيهات والله ما كانت طريق الله هكذا)2 .

تاب ابن عربي وأناب، و من بين الأسباب التي تعين على التوبة، حسب ما تقرر في الشريعة، تغييرُ موضع المعصية، يلجأ ابن عربي إلى هجرة الموضع الذي غفل فيه عن طاعة الله والتقرب إليه فسافر صوب المشرق، رحلة دون عودة، هما رحلتان في الحقيقة: رحلة مادية نحو المشرق مهبط الوحي ومبعث الرسل، ورحلة روحية نحو العرفان والحقيقة. كان لهذه الرحلة الدور الأساس في تكوين شخصية ابن عربي الصوفية، فكانت ثمرتها فتوحاته المكية وفصوص حكمه وديوان شعره البديع ترجمان الأشواق

2. نقطة تحول
تكون نقطةُ التحول، تلك التي تفتح لك الأبواب، وتُريك ما خفي عنك – تمحو الغشاوة التي حكمت عليك بالتيه والضياع، مدةً طالت أو قصُرت، في ظلمات الشك والضلال. هذا ما وقع لشخصيتين مؤثرتين في الثقافة العربية الإسلامية، أبو حامد الغزالي في عز قوته وجبروته المعرفي، يضع كل ذلك، وينظر إلى نفسه فيجدها دون شيء يذكر، خاليةَ الوفاض، تائهة في لُجَجِ الضياع، فكان كتابه "المنقذ من الضلال" سفينته التي عبر بها تلك اللجة وذلك البحر العرمرم، لقد وجد أبو حامد الغزالي منقذه من تيهه في التصوف، يقول: «وانكشفت لي في أثناء الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره ليُنتفع به أني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى، خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق.»3

تجربة أبي حامد الغزالي تكررت، وإن بصيغة أخرى، عند ابن عربي، فهما وان اتفقا في النتيجة التي آل إليها صراعهم الفكري، فقد اختلفوا في بعض الجزئيات، أبو حامد الغزالي لم يبدأ رحلته من  الشك إلى الإيمان إلا بعد أن نضج معرفيا، ونال ما نال من حظوة اجتماعية وعلمية، عندما كان في الخمسين من عمره، أما تجربة ابن عربي، من الجاهلية – حسب تعبيره – إلى ختم الولاية حسب تعبير نصر حامد أبي زيد، فقد بدأت إرهاصاتها منذ الطفولة وسِنِيِّ شبابه الأولى، وقد عبر ابن عربي عن ذلك في مجموعة من النصوص المبثوثة في ثنايا كتبه، يقول ابن عربي: «مرضت فغُشي علي في مرضي، بحيث إني كنت معدودا في الموتى، فرأيت قوما كريهي المنظر، يريدون أذيتي، ورأيت شخصا جميلا طيب الرائحة شديدا يدافعهم عني حتى قهرهم، فقلت له من أنت؟ فقال أنا سورة يس أدفع عنك، فأفقت من غشيتي تلك وإذا بأبي رحمه الله عند رأسي يبكي، وهو يقرأ يس، وقد ختمها، فأخبرته بما شهدته، فلما كان بعد ذلك بمدة رويت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقرؤوا على موتاكم يس»4 .

ابن عربي ميت الجسد والروح، تذود عنه سورة من كلام الله، الله يحبه، بعثه من موتته لغاية كبيرة، ستكون بعثته من ظلمات جاهلية كان يرزح تحتها ويعيش في كنفها، إلى أنوار صوفية عرفانية سيحاول جهده للوصول إلى درجات الكمال فيها.

كثيرة هي القصص التي أوردها ابن عربي في مختلف كتاباته، يحاول أن يوضح فيها للقارئ أنه ليس حاشية في باب التصوف، وإنه قد وصل إلى ما لم يصل إليه أحد، ربما كان هذا سببا في تشنيع العلماء عليه، فالنفس بطبيعتها لا تقبل من يفاخر أمامها، خاصة إن كان التفاخر من هذا القبيل: معرفة الله والتقرب منه والولاية ومشاهدة الكرامات وتحقق النبوءات. يحدثنا ابن عربي عن نفسه فيقول "رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانية، ثُمَّ لمَّا أكملت نكاح النجوم أُعطيت الحروف فنكحتها، وعَرَضْتُ رؤياي هذه على مَن عَرَضَها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها، وقلت للذي عرضتها عليه: لا تذكرني، فلما ذكر له الرؤيا استعظمها وقال: هذا هو البحر العميق الذي لا يُدْرَكُ قعره، صاحب هذه الرؤيا يفتح له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون فيه أحد من أهل زمانه، ثم سكت ساعة وقال: إن كان صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة فهو ذلك الشاب الأندلسي الذي وصل إليها".5

نكح ابن عربي نجوم السماء في حلمه فكان أن استطال على جميع علماء عصره، وفُتح له من الفتوحات ما لم يفتح لغيره، فكان النجمَ الساطع والبدرَ المنير في ليلة ظلماء مدلهمة، نكح الحروف أيضا فكانت طيِّعة له، أُعطي أسرار الكلم فكان لا يغرف إلا من معين بحر الحقائق، هذا ما يريد ابن عربي أن يقوله من خلال حلمه – إن صح الحلم- وإن صح التأويل ...

3. سوء فهم
اختلف الناس في ابن عربي بين نابذ له منقص من مكانته، متهم إياه بالزندقة والهرطقة والتضليل، وبين معتقد بولايته، فهو قطب الأقطاب، وتد الأوتاد، الواصل في درجات المعرفة بالله المنتهى؛ وبين المنزلتين نجد من توفق في خلق شخصية لابن عربي، لا هي بالكاملة كمال الأنبياء والمرسلين، ولا هي بالناقصة العوجاء المنحرفة عن ملة الإسلام والمسلمين. إن التجني على ابن عربي بين المدح الغالي والذم المدقع مرده إلى سوء فهم وقلة علم، «فنحن قوم يحرم النظر في كتبنا»6 يقول ابن عربي على لسان طائفته، متبرئا من سوء الفهم المؤدي إلى غلو وإفراط أو إلى ظلم وتجنٍّ، فالصوفية تواضعوا على مصطلحات لها ظاهر وباطن، ومنطوق ومفهوم، فللعامة في التصوف الظاهر والمنطوق، وللعارف الباطن والمفهوم، وفي ذلك يقول السيوطي: «والقول الفصل عندي في ابن عربي طريقة لا يرضاها فرقتا أهل العصر ممن يعتقده ولا ممن ينكر عليه، وهي اعتقاد ولايته، ويحرم النظر في كتبه. وذلك أن الصوفية تواطؤوا على ألفاظ اصطلحوا عليها وأرادوا بها معان غير المعاني المتعارف عليها عند الفقهاء»7، هكذا ينظر عالم كالسيوطي وهو من أئمة مدرسة النقل وفقهائها إلى ابن عربي.

أُلِّفت مجموعة من الكتب التي انطلقت أطاريحها جميعا من سوء الفهم الذي أشرنا إليه، ويكفيك أن ترى وسومات هذه الكتب حتى تعلم كمية التحامل وغياب التجرد في النظر إلى  تراث ابن عربي. فمثلا برهان الدين البقاعي قطع بكفر ابن عربي وبغباء من يظن العكس، لذلك ألف لهذا الأخير الغبي- ربما شفقة بحاله، أو مراعاة للسجع الذي اقتضته صيغة العنوان،  كتابا وسمه بـ(تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي). كما نجد في ثنايا بعض الكتب لعلماء مسلمين تصريحا بكفر ابن عربي وبخروجه من الملة أيضا. فتقي الدين السُّبكي مثلا يقول «ومن كان من هؤلاء الصوفية كابن عربي وابن سبعين وغيرهما فهؤلاء ضُلَّال جُهَّال خارجون عن طريقة الإسلام فضلا عن العلماء»8. أما ابن حجر العسقلاني فقد سلك مسلك الاستهزاء لتسفيه أحلام الشيخ الأكبر، فهو (أي ابن عربي) قد «قال أقوالا منكرة ... ولَأَنْ يعيش المسلم جاهلا خلف البقر لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن، يصلي بها الصلوات، ويؤمن بالله واليوم الآخر، خير له من كثير من هذا العرفان، وهذه الحقائق، ولو قرأ مئة كتاب، أو عمل مئة خلوة»9 .

هذه نصوص تبرز حدة الكلام الذي ووجهت به عرفانيات ابن عربي، ما بين تكفير وتسفيه واستهزاء، تختلف أسباب ذلك كله إما لغيرة، وغيرة العلماء ثابتة معروفة؛ أو لاختلاف مذهب، وتعصب العالم لمذهبه يورده المهالك والزلل كما يقال، وإما لسبب آخر، وهو الأرجح، أشار إليه السيوطي، كما أشار إليه ابن عربي نفسه، محذرا كل من ليس من الجماعة، جماعة التصوف، من أن ينظر إلى كتبهم «فنحن قوم يحرم النظر إلى كتبنا«.

4. دين الحب
لـقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ   .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ

وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ   .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن

أديــن بديــن الحب أنى توجـــهـت   ..  ركــائبه فالحـب دينـي وإيماني10

الحب عند ابن عربي حب مَشَاعٌ، لا يحده حد، ولا يقطعه شك، حب يشمل جميع الخلائق على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم، حتى الوثنيون بهمجيتهم وتنكبهم عن الفطرة لهم حظ ونصيب منه، رسخ ابن عربي فلسفته في الحب، فضلا عن مقولاته العرفانية، في ثنايا شعره، والشعر أرسخ وأبلغ في تبليغ المراد وفي ترسيخه في ذهن المتلقي، فهو «إضافة إلى  الحث والتحريض والإقناع والحجاج، يسعى كذلك إلى تغيير أفكار المتلقي ومعتقداته، والى تغيير موقفه وسلوكه»11 من هذا المنطلق، توسل الشيخ الأكبر بالشعر لنشر نظرته للحب، فقلبه صار قابلا لكل صورة، فهو وثني، يهودي، مثلث، موحد .

إن الحب لا يعني اعتقاد عقيدة المحب، أختلفُ معه لكن مع ذلك أحبه، أرثي له إن أساء، وأسنُده إن أحسن، لذلك ربما قد نحتاج نموذج ابن عربي في الحب في زمن يعتبر المخالف فيه عدوا، تستحيل هاته العداوة إلى رغبة في محوه، ولعل غياب ثقافة الحب وعدم اتساع صدور الناس لمخالفيهم أدت بنا إلى هذا الواقع المرير الذي يعيش فيه الإنسان إما متربصا لمخالفه أو متوجسا منه.

5. نهاية الرحلة
ترجل ابن عربي عن صهوة حصانه ليلة الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة 638هـ، عن عمر يناهز الثامنة والسبعين عاما، تاركا لنا تراثا صوفيا كبيرا، قوبلت كتبه بالقبول من ملايين المسلمين، لكن ذلك لم يمنع ملايين آخرين من تكفيره والتشنيع عليه، قلده ختْمَ الولاية علماء مجتهدون، وألبسه علماء مجتهدون آخرون سرابيل جهنم فكفروه، لكن لو يعلم المادحون أن لا أحد قد عُصِم لكَفُّوا عن تقديسهم، ولو علم الذامون أن لا أحد قد خف زلـله وانعدم، لاجتنبوا الخوض فيما لا حق لأحد أن يخوض فيه.

هوامش:

1. ظلال العقل العربي(مسقط رأسي على المجتمع العربي من منظور سيكولوجي)، محمد مبروك أبو زيد، ج1، ص172

2. شمس المغرب (سيرة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي ومذهبه)، محمد علي حاج يوسف، فصلت للدراسات والترجمة والنشر، ط1،2006،ص66.

3. المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، تحقيق جميل صليبا و كامل عياد، دار الأندلس للطباعة والنشر، بيروت، ط7،1967، ص106.

4. هكذا تكلم ابن عربي، نصر حامد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002، ص 36.

5. كتاب الباء، محيي الدين ابن عربي، مكتبة القاهرة،ط1،1954،ص11.

6. تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي، جلال الدين السيوطي، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص2.

7. نفسه، ص2

8. النجم الوهاج بشرح المنهاج، الدميري، دار المنهاج، ط1،2004، ج6،ص285.

9. لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، ط1، 2002، ص393

10. ديوان "ترجمان الأشواق"، محيي الدين ابن عربي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط1، 2005، ص62.

11. الخطاب والحجاج، أبو بكر العزاوي، مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر، ط1،2010، ص37.