يقدم لنا الناقد الفلسطيني هنا قراءته لرواية محمد على طه التي تغوص في واقع فلسطين المعقد بعد تفشى الاستيطان الصهيوني في أراضيها، وتسلط اليمين العنصري المتطرف على مقدراتها، بصورة تستشرف مستقبل دولة الاستيطان التي تسير نحو التهام بنيها بعدما سامت الفلسطينيين شتى ألوان القهر والعذاب.

الحلم شبه المُستحيل

قراءة لرواية «نوّار العلت» لمحمد علي طه

نبيه القاسم

 

«نوّار العلت» (الأهلية للنشر والتوزيع عمان 2021) الرواية الثانية للكاتب محمد علي طه بعد روايته الأولى "سيرة بني بلوط" (دار الشروق – عمان 2007). وخلال هذه السنوا ت ما بين الروايتين تابع محمد علي طه كتابته للقصة القصيرة وقصص للأطفال ومسرحيات قصيرة وكتابة المقال الأسبوعي الذي يعالج فيه بأسلوبه الساخر الرشيق مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية التي تهمّ الجماهير العربية. قصدَ محمد على طه في روايته الأولى المساهمة في إعادة كتابة جانب من التاريخ الفلسطيني المهمّش، فترة ثورة الشعب الفلسطيني على المحتل الإنكليزي التي تمتد من بداية احتلال الإنكليز لفلسطين، حتى يوم رحيلهم وتسليمهم البلاد لليهود، وإن كان محور أحداث الرواية اقتصر على السنوات التي امتدت من احتلال الإنكليز حتى انتهاء ثورة 1936، كما أنّه حَدّد مكان الأحداث وحصرها في منطقة الجليل الشمالي من فلسطين وبالتّحديد في القرى القريبة من مدينة عكا.

يأخذنا الكاتب في (نوّار العلت) إلى السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين – رغم انزلاقه اللاإرادي إلى منتصف العقد الثاني وما حدث في سوريا والعراق (ص 209)، تاركا خلفه ما يزيد على الستة عقود شهدت فيها المنطقة والعالم والشعب الفلسطيني أحداثا رهيبة أهمها احتلال الجيش الإسرائيلي لكامل التراب الفلسطيني في حزيران 1967، واحتلاله عام 1982 للأراضي اللبنانية، وإخراج المقاومة الفلسطينيّة ثم انسحابه منها بعد ثمانية عشرة عاما. ومواجهته لانتفاضتين خاضهما الشعب الفلسطيني ضدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي، واتفاق "أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل وانتقال القيادة الفلسطينية للأراضي المحتلة، وإقامة السلطة الفلسطينية وانتخاب ياسر عرفات كأوّل رئيس لدولة فلسطين، ومَقتل رئيس حكومة إسرائيل اسحق رابين.

يتناول الكاتب في (نوّار العلت) الجانب الحياتي اليومي للإنسان العربي داخل دولة إسرائيل، والعلاقات التي تحدّدت ما بين الشعبين نتيجة للسّياسات التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتتالية في تعاملها مع الجماهير العربية، والمَنهَجيّة العنصرية التي نفّذتها، خاصّة في السنوات العشر الأخيرة، حيث أصبحت كلمة عربي مَسَبّة ومُثيرة للرّفض من قبل اليمين الإسرائيلي، ولم يعُد سَماع ترديدات "الموت للعرب" أو "العربي قاتل وعدو ومكانه خارج الحدود" غريبا ومُسْتَهْجَنا حتى بين أروقة الكنيست الإسرائيلي، وأصبح العربي هو المُطارَد والمشكوك فيه والمُتخلّف والقاتل والمُخرّب والفاسد والعدوّ، ولا أمل له مهما تنازل وتغافل وتناسى وحاول التقرّب، فهو المرفوض والمُتّهم والمُدان حتى لو ثبتت براءته.

وعمل الكاتبُ أيضا على إظهار الموقف المُتحدّي والمقاوم للعربي، وتَصدّيه للنَّهج المُعادي باختراق كلّ مَجالات العلم والعمل وإشغال الوظائف المُهمّة والمؤثرة. كما أنّه تعرّض للصعوبات التي يُواجهها العربي في حياته اليومية، ليس فقط من قبل السلطة وممارساتها ولكن من قبل أهل جلدته، حيث يشهد المجتمع العربي في السنوات الأخيرة الانفلات الذي يعاني منه الجميع نتيجة للتفكك المجتمعي ولانتشار الأسلحة غير المرخّصة وتزايد حالات القتل وخاصة قتل النساء والفتيان، ولا من رادع يمنع ذلك.

واهتمّ الكاتب محمد علي طه - من منطلق فكره الثوريّ اليساريّ وإنسانيّته وتفهمّه لظواهر العنصرية ومُسبّباتها لدى بعض الشعوب - بالكشف عن الجوانب الخيّرة في الإنسان كإنسان بعيدا عن انتماءاته وهويّته واعتقاداته. وطبيعي أن تكون العلاقة العاطفية هي الأكثر منطقيّة، لأنّ الحب هو القادر على تجاوز كلّ المَوانع والحدود. وتحدّي العادات والتقاليد وإخماد مَظاهر الرّفض والكراهية والعداء. وحتى تكون المواقف واضحة، وتتابع الأحداث وسلوك الشخصيّات منطقيّة معبّرة عمّا تُحسّ وتؤمن به اختار شخصيّات الرواية من بين طلبَة الجامعة المنتمين إلى أُسَر راقية متعلّمة مثقّفة لها مكانتها ودورُها المهمّ في المجتمع.

البداية المُسْتَشرفة للآتي:
يستهلّ الكاتب روايته بمشهد جميل للطبيعة الواسعة الهادئة حيث يقوم أحمد بحراسة أرضه التي زرعها بطيخا وشمّاما من غارات الحشرات والغربان، ويقضي الكثير من ساعات الليل في التأمّل واستعادة أحداث حياته الماضية. خاصة تلك السنوات التي قضاها في الجامعة، والمعارك التي خاضها ضدّ الطلاب العنصريين من اليهود، وأيضا مواجهته للطلاب العرب من ذوي الاتجاهات السياسية المختلفة حيث كان يُبهر الجميع بمنطق كلامه وتحليلاته ومحافظته على صداقة الجميع. كما يعرض موقفه من مختلف القضايا المهمّة مثل "اتفاق أوسلو" ومفاوضات السلام بين إيهود باراك رئيس حكومة إسرائيل وياسر عرفات ومواقف اليمين الإسرائيلي. ويستعيد أيّام ملاحقاته من قبل السلطة بسبب مواقفه السياسية، ومنعها له من الحصول على أيّ عمل بعد تخرّجه من الجامعة.

فقرّر أنْ يفلح أرضَه ويعتني بها لاعتقاده أنّه بذلك يجد الرّاحة والهدوء والأمان، حتى كانت تلك السّاعة المتأخّرة من الليل التي وجد نفسه متّهما بجريمة قتل فتاة يهودية، فأيقن أنّ لا أمان للعربي مهما حاول، فهو كما تراه السلطة - بجميع أجهزتها- المتّهم الأول والأخير، وهو المجرم القاتل الذي لا يُؤْتَمَن جانبُه، وما عليه إلّا الرّضوخ والاستسلام والاعتراف بالتّهمة التي تُنسَب له، وتَلَقّي العقاب برضى كامل. لكنّ أحمد يستبعد الضّعف والخنوع ويرى أنّ الحلّ الأفضل يكون بالتحدّي والرّفض والمُجابهة واختراق جبَهات الشعب اليهودي بخَلق التّواصل لزيادة مَعرفة الواحد بالآخر. والسّؤال: هل نجح في ذلك؟

ساعة التّحوّل نحو المجهول:
ظهور السيارة في ساعة متأخّرة من الليل وما أثارته من تساؤلات ومخاوف لدى أحمد جعلته يقلق طوال الساعات المُتبقية. ومع أوّل شعاع ضوء سارع نحو المكان الذي توقّفت فيه السّيارة لفترة قصيرة، وفوجئ بوجود جثة لفتاة. ورغم الخوف من العواقب سارع للاتّصال بالشرطة التي حضرت. ولكن ما خافه أحمد وقع، حيث شكّ رجال الشرطة به واحتجزوه للتّحقيق بتهمة قَتل الشابّة اليهوديّة. وسارعت الصحافة ومواقع التّواصل والتلفزيون لتنشر أخبار الجريمة واتّهام طالب جامعي عربي باقتراف الجريمة. مراحل التّحقيق كانت صعبة وطويلة، وتشعبّت لتشمل سمير أخ أحمد الذي تبيّن أنه كان صديقا وعاشقا للفتاة. كما جرى التحقيق مع والد الفتاة وصديقها الطالب اليهودي نفتالي. وتعاقبت شهور عديدة، وجمعت الشرطة دلائل وشهادات. وكانت نهاية قصة الجريمة الامساك بالمجرم القاتل.

شخصيّات الرواية:
اهتمّ الكاتب أن تكون الصورة البانوراميّة للواقع الذي يعيشه الشعبان العربي واليهودي وللعلاقات فيما بينهما دقيقة وأمينة، ولهذا اختار شخصياته من الطبقة المثقفة المتعلّمة التي تُوجّهها أيديولوجياتها ومفاهيمها التي ترسّخت لديها لسنوات مضت وأخرى آتية.

فكانت أسرة أهروني اليهوديّة المكوّنة من يوسف أهروني الضابط المتقاعد، ابن لأب بولوني كان قد نجا من النازيين بعد احتلالهم لبولونيا، وأمّ تشيكيّة التقته في الكيبوتس. يوسف الضابط الكبير في الجيش التقى زوجته "سارة" التي عملت مراسلة حربية في جبال الشوف أيام الحرب اللبنانية فجذبته بشخصيّتها وصدقها وشجاعتها وحبّها للرسم والموسيقى. وبعد سنوات من الخدمة العسكرية والقيام بمَهام عسكرية مهمّة في حروب إسرائيل، خاصة في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، خرج للتقاعد ليرعى ابنته "يافا" بعد موت زوجته "سارة" بمرض السرطان.

و"يافا" الابنة الجميلة المُدلّلة ليوسف وسارة، فُجعت بموت أمّها وهي في الصفّ الحادي عشر، التحقت بالخدمة العسكرية بعد تخرّجها من الثانويّة وكانت لفترة تعمل على حاجز "قلنديا" وتُساهم براحَة ضمير واقتناع بتنفيذ التعليمات التي تتلقّاها من المسؤولين لإهانة الفلسطينيين العابرين للحاجز. أثناء خدمتها العسكرية أحبّت نفتالي الضابط المسؤول عنها، واستمرّت علاقتهما بعد التحاقهما بالجامعة حتى تعرّفت على الطالب العربي سمير ووقعت في حبّه.

وبالمقابل كانت أسرة مراد العربية: الأب صبري عمل في شبابه بزراعة أرضه بالقمح والشعير والعدس والبطيخ والشمّام، لكنّه ترك الزراعة لعدم توفّر مياه الرّيّ الكافية، وانتقل ليعمل في ترميم البيوت. كان مؤمنا بضرورة اللقاء العربي – اليهودي  وانكشاف الواحد على الآخر، ومُؤكّدا على قيمة العلم وأهمية أن يلتحق الشباب العرب بالجامعات في مختلف مجالات العلم. وكثيرا ما كان يُكرّر على مسامع ابنه أحمد: "العلم يا أحمد هو الذي سوف يُنقذنا من التّخلّف". (ص32) لكنه أصيب بالسرطان ومات مُبكّرا.

ابنه البكر أحمد اكتسب الكثير من والده والتحق بالجامعة ودرس العلوم السياسيّة، كان نشاطه السياسي والاجتماعي خلال دراسته الجامعية مُثيرا ومُنبّها الكثيرين إلى شخصيّته المميّزة وآرائه المنطقية. قاد العديد من المظاهرات في مناسبات وطنية مختلفة. هذه النشاطات والمواقف كانت مُراقَبَة من أجهزة السلطة فلاحقته خلال دراسته وبعد تخرّجه من الجامعة ومنعته من إشغال أيّ وظيفة تَقَدّم إليها حتى قرّر العملَ في ما بقي لهم من الأرض فاستصلحها وزرعها، وكان يقضي معظم وقته في رعايتها وحراستها.

سمير هو شقيق أحمد الصغير، التحق بالجامعة وانشغل عن القضايا الكبرى والهموم العامة بنفسه ودراسته وحياته اليوميّة. صادق الكثيرين وصادقوه من بين الطلاب العرب واليهود حتى كان والتقى بيافا وتغيّر مَجرى حياته.

فاطمة أم أحمد وسمير كانت امرأة متعلّمة واعية ومهتمّة بقضايا بيتها وشعبها ومُتفهّمة للأوضاع السياسيّة والحياتيّة المختلفة. بعد انهائها لدراستها الثانوية التحقت بدار المعلمين في مدينة حيفا لتعمل بعد ذلك في سلك التّدريس في بلدتها حتى خرجت للتقاعد.

إضافة إلى هاتين الأسرتين نجد نفتالي مستوطن مُتشدّد يكره العرب، ويؤمن بأنّ فلسطين هي هبة الله للشعب اليهودي، ولا حقّ لغيرهم فيها. يعتدي على الفلاحين الفلسطينيين، ويُخرّب كرومَهم. يقطع أشجار الزيتون وشجيرات الكرمة، ويُفاخر بذلك ولا أحد يُعاقبه ولا أحد يُسائله. لا يعترف بوجود الآخر، ويرى أنّ العرب مغتصبون لهذه الأراضي، جاءوا من الصحراء واحتلوا أرض إسرائيل ويجب طردهم منها" (ص97) كان مسؤولا عن يافا خلال خدمتهما معا في الجيش، استمالها وعاش معها قصّة حبّ استمرت فيما بعد أثناء دراستهما في الجامعة.

مُحقّقا الشرطة: الضابط المسؤول ابراهام وأوري الذي أوكل له ملف التحقيق. سادت بينهما علاقة التّنافر والشعور بالتّعالي، تشوبها نظرة عنصريّة أو طائفيّة، فأبراهام ابن لعائلة عراقية الأصل، يتعامل باستعلاء مع أوري ابن لعائلة بولونية ويُمازحه بلؤم: "أنت يا أوري أشكنازي يساريّ، أنت فوزفوز، روماني لص وبخيل وأكثر شحا من اليهود الإيرانيين. ويرد عليه أوري: أنت عراقي بيجاما، كسول لا يهمّك سوى كرشك". ولكنّهما يتّفقان على كراهيّة العربي.

شخصيّات ثانوية لها دلالتها أيضا:
الضابط ألون
: كان متفوّقا في فرقة جولاني، نال شهادة تقدير من رئيس الأركان. لكنّه يختلف عن غيره بأنّه كما يُصرّح يرى في العرب أعداء، إلّا أّنه لا يكرههم، ويُؤكد "أنّه منذ ميلاده والعرب جيران لنا. تقاتلنا وتشاجرنا وتحاربنا وتعايشنا ولا نستطيع أن نستبدل جيراننا بجيران آخرين." كان حازما في تعامله مع المستوطنين إذا تعدّوا على الفلسطينيين."(ص203) وقال في مناسبة ما "أنا ضابط احتلال ونحن نحتلّ هذه الأراضي بقوّتنا العسكريّة، وعلينا أن ننفصل عن الفلسطينيين عاجلا أم آجلا" (204)

المُحقّق أمير
عمل إلى جانب المحقّق أوري في التحقيق بجريمة قتل يافا. كان يحاول جاهدا التّخفيف من تصلّب أوري في اتّهامه لأحمد وسمير بقتل يافا. وتصدّى لأوري عندما وصف العرب بالمُتخلّفين بقوله: ما تقوله شتيمة قذرة. أنت تتّهم شعبي بالتّخلّف. هذا كلام عنصري. نحن متحضّرون وعندنا حضارة عريقة. وعلى قول أوري له: لا أعنيك فيما أقوله، أنا أتحدّث عن العرب وعن اليهود الشرقيين. قال أمير: كيف لا يعنيني؟ أنا عربي درزي.(ص119)

فارس عشيق زوجة المُحقّق أوري:
مهنيّ يصلّح الغسّالات والأفران الكهربائيّة والثلاجات، درس أربع سنوات في دار المعلمين في حيفا، ولم يجد عملا في مهنة التدريس، فالتحق بدورة يتعلّم فيها مهنة، أرسلته الشركة إلى بيت المحقّق أوري لإصلاح الغسّالة، وحدث التّعارف بين فارس وشولا زوجة أوري فأعجبها واستمالته إليها واتّخذته عشيقا، وحتى تُخفّف من غيرة زوجها أوري تصف فارس بالصديق. وأوري الذي يريد التّشبّه بالطبقة الهاي لايف التي فيها لكل زوجة عشيق يقول بألم: "أغضّ الطّرف عن طبقتنا الوسطى، وأوافق معك على اختيار عشيق أو صديق، ولكن أن يكون عربيا فهذه مصيبة، أنا لا أثق بعربيّ في بيتي".(ص75)

اختراق حاجز الكراهيّة وتفجير كلّ التّناقضات والمواجع:
حاجز كراهية اليهود للعرب التي بلغت مَداها قُبَيل وأثناء تفجّر الانتفاضة الثانية في الأراضي المحتلة وامتدادها إلى داخل حدود ما قبل عام 1967 أدّت إلى التّباعد شبه الكلّي بين العرب واليهود، وبرزت بوضوح بين أروقة الجامعات من خلال المُواجهات شبه اليومية بين الطلاب العرب واليهود. وكانت نقطة الضّوء والتّحوّل وبَعْث الأمل بمستقبل جميل لا كراهيّة فيه ولا عداء في كفاتيريا الجامعة - حيث وقف الطلاب والطالبات لشراء ما يرغبون - بانسكاب القهوة على بنطال "يافا" الطالبة الجميلة وسرعة "سمير"، الواقف وراءها، لمساعدتها في تنظيف بنطالها والجلوس وإحضار فنجان قهوة جديد لها ومجالستها والتعرّف عليها.

هذه الصّدفة كانت لحظة الاشعاع في فؤاد كلّ من يافا وسمير ودافعة للتّواصل ومن ثمّ التّعارف والتّنزّه معا، وجَمْع الحبّ لكليهما. هذا الحب الذي جمَع بين يافا وسمير أسقط حاجز الكراهية، ولكنه فجّر كلّ التّناقضات والمَواجع لدى الجميع. أحمد الذي كان المبادر لاختراق حاجز الكراهيّة بالحوار المفتوح والعقلاني مع الطلاب اليهود في الجامعة، لم تُعجبه هذه العلاقة، ومازح سمير خلال نقاشهما السياسي قائلا "أنا خائف عليك أنْ تتزوّج بفتاة من بنات عمّنا وتقودك إلى أن تتهوّد"(ص28)

والأهمّ من كلّ ذلك التّحوّل الكبير في مواقف ومفاهيم يافا، فقد اعتادت أن ترى في العربي عدوا، وساهمت في ظلم وإذلال الكثيرين خلال خدمتها العسكرية على حاجز قلنديا، ومشاركتها في مهاجمة البيوت واعتقال الكثيرين في مدن الضفة الغربية؛ ولكنها وقد تعرّفت على سمير وأحبته وبادلته الآراء، وناقشته في مختلف القضايا، ومن ثمّ زارته في بيته في قريته، وتعرّفت على أمّه وجالستها، واستمعت إليها تروي لها قصة العذاب الذي عاشته وعائلتها وباقي أهل بلدتها عام النكبة، ولمست لديها الغفران والتّسامح والمَحبّة، أصبحت إنسانة أخرى متعلقة أكثر بسمير. تراه "رجلا من نوع آخر، رجل يحترم جسدي، ويتعامل معه كما يتعامل الوثنيّ مع آلهة الحبّ والجمال. "بينما ترى في نفتالي الذي أحبّته خلال خدمتها العسكريّة، رجلا مغايرا ونقيضا لسمير." كان نفتالي يرى فيّ قطعة من أرض إسرائيل التي وهبها الله إلى شعبه المختار، قطعة أرض يملكها، قطعة أرض له، ملكه، له الحقّ أن يفعل بها ما يشاء، أن يحرثها ويزرعها ويحصدها .. أن يبني عليها مستوطنة مؤقّتة أو دائمة." (ص221)

هذا التّحوّل الكبير في مواقف يافا جعلها تتصدّى لمعارضة والدها لعلاقتها مع سمير، وبالمقابل دفع والدها الضابط للعمل على إبعادها عنه، وتخويفها من المستقبل الذي ينتظرها "ما مستقبل هذه العلاقة؟ أنتِ ابنة المدينة، فتاة متحضّرة تحبّين الموسيقى والرّقص والغناء والمسرح والموسيقى، وهو ابن قرية متخلّفة. لا دور سينما ولا نواد، قرية بدائيّة. فإذا تزوّجتِ سمير فسترتدين الجلباب وتلفّين رأسك بالحجاب". وسارعت يافا لتذكّره بأنّ الطبيب الذي أجرى له العملية اسمه حسني، وهو عربي، والممرّضة التي اعتنت به اسمها سعاد وهي عربية، والصيدلاني الذي قدّم له الدواء اسمه محمود وهو عربي. ومازحته قائلة: لولاهم لَما أكلتَ يا أبي الفراولة اللذيذة والخضار الطازجة.(ص165/166)

لكن الضابط الكبير، يوسف أهروني والد يافا، الذي حارب العرب، وقتل منهم ويحتلّ أرضهم، ويؤمن بأنّ العرب غرباء جاءوا إلى البلاد من الصحراء، ويريد أن تكون الدولة ذات أغلبية وصبغة يهوديّة، وجد نفسَه، مع مرور الأيام واستقبال سمير في بيته وتبادل الآراء المختلفة، يصُرّح بأنّه "لا يكره العرب، ولكنّه لا يثق بهم، ويعترف بما قام به الجنود في الأراضي المحتلة من مُداهمة المنازل بعد منتصف الليل في ليال باردة، وإيقاظهم للزوجة والأولاد الصغار وإبقاءهم في العراء وأيديهم وراء ظهورهم. وهو متأكد من أنّ العربي يكره اليهود، ولن ينسى ما فعله الجند ضدّه وضدّ أهله وبلده وبيته وأطفاله وزوجته. (ص95)

ويتساءل يوسف أهروني وهو يتبادل الحديث مع الشرطي المحقق، بعد تأكيده أنّه ليس يساريا ولا علاقة له باليسار "ما يجري يوميّا في المناطق يجعل اليميني واليساري يسأل: وماذا بعد؟ ما تُريد الحكومة؟ إلى أين سنصل؟ القضيّة ليست قضيّة حبّ أو كراهيّة، القضيّة هي كيف ستكون الدولة؟ هل نُريدُها دولة يهوديّة أم يهوديّة عربية؟ إذا كنّا نُريدها يهودية، فعلينا أن ننفصل عن مليون عربي في المناطق؟ (ص188)

وأثار تَعَلّق يافا بسمير غضبَ وحقدَ نفتالي، واعتبره خيانة من قبل يافا، وتَعدّيا غير مقبول من سمير، فعمل على إقناع يافا بمختلف الطرق لتعود إليه وتترك سمير العربي العدو. واجتمع بوالد يافا وطلب منه التّدخّل. وبدأ يتعرّض ليافا وسمير بين أروقة الجامعة، ويُصرّ على أنّها له، ويؤكّد لها "لن أسمح لهذا العربوش أنْ يأخذك منّي، لن أتنازل عنكِ، ولن تكوني زوجة لعدو، افهمي ما أقوله"

محوريّة الرواية والقيود التي كبّلتها:
تكاد جميع الشخصيّات في الرواية تتمحور في تفكيرها وأقوالها وتصرّفاتها حول الفكر الذي تبنّته وآمنت به وعملت بتوجيهه. وتنطلق من المواجهة الحادة بين الموقفين المتناقضين لكل من اليهود والعرب حول الأحَقيّة في ملكية البلاد، والحلّ المَرضي عنه، والطريق الأمثل للوصول إليه.

لم يكن محمد علي طه الأوّل في طرحه لهذا الموضوع في الرواية المحلية، فقد تناوله العديد، خاصة من الكتاب اليهود مثل أ. ب. يهوشواع وسامي ميخائيل وخاصّة الكاتبة دوريت ربينيان في روايتها "جدار حي" (الطبعة التاسعة 2015) التي أثارت جدَلا طويلا وحادّا في الصحافة العبرية، على أثر قرار وزير المعارف بنيت إخراج الرواية من قائمة الروايات المُقَرّرة لطلاب المرحلة الثانوية. وتَحكي هذه الرواية قصة طالبة جامعية إسرائيلية حصلت على منحة دراسيّة لمدّة ستة أشهر في أمريكا، وبطريق الصدفة التقت شابّا فلسطينيا يدرس في نيويورك، وربطت بينهما قصة حبّ قوية انتهت بغرَق الشاب الفلسطيني في بحر يافا.

وكانت رواية الشاعر سميح القاسم "الصورة الأخيرة في الألبوم" (دار الكاتب عكا 1980) التي تناولت فترة المُواجَهة الحادّة ما بين رجال المقاومة الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية، وأثر ذلك على العلاقات العربية اليهودية في البلاد من خلال قصة حبّ بين شاب عربي وفتاة يهوديّة والدها ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي. وانتهت بقتل الضابط لشقيق حبيبها على الحدود.

وراوية بربارة في روايتها "على شواطئ التّرحال" (مكتبة كل شيء 2015) وقصة الحب بين سارة الطالبة اليهودية الجامعية المناضلة وطالب قسم التمريض العربي حيث التقيا أثناء مشاركتهما في مظاهرة جرت في مدينة حيفا ضدّ سياسة التّمييز وتعامُل السلطات مع الجماهير العربية.

لكنّ المُختلف في رواية محمد علي طه "نوّار العلت" أنها تُصوّر العلاقات في السنوات الصّعبة بعد تفجّر الانتفاضة الثانية من بداية القرن الواحد والعشرين، واستشراس اليمين اليهودي والعنصري الاستيطاني، وزيادة انحسار اليسار الإسرائيلي وجُبنه وصمته عمّا يجري في البلاد. وأيضا الّلافت والمُثير في رواية "نوّار العلت" أنّ الضحيّة كانت الفتاة اليهودية وقاتلها كان عاشقها اليهودي المستوطن. بينما في "الصورة الأخيرة في الألبوم" و "جدار حيّ" الضحية كان العربي. وبهذه النهاية نُدرك إلى أيّ مدى ممكن أن ينحرف اليمين العنصري اليهودي، واستعداده للتّضحية بأبناء جلدته، حتى لا يتنازل ويقبل بوجود العربي أو التّقرب منه والتّعايش معه. وقد شهدنا هذا العَمى والكراهية والحقد الدّيني المتطرّف الذي يكون على استعداد لتدمير وإنهاء وجود كلّ ما يعترض طريقه في ركضه نحو الغاية التي يريد، في قتل يغئال عمير لرئيس الحكومة اسحق رابين يوم 4/11/1995.

لكنّ إشعاعة الأمل التي حمّلها لنا محمد على طه في "نوّار العلت" أنّ الفكْر العنصري الكاره المُتجسّد في شخصيّة "نفتالي" هو الذي هُزم ورُفض وألقي به في السجن. وأنّ رفضَه وإدانته كان من "يافا" التي أثبتت تجريمَه بما كتبته في مذكراتها؛ ومن والد "يافا" الضابط الكبير "يوسف أهروني" الذي رفض زواج ابنته يافا منه، محذّرا إيّاها من أنّ نفتالي متديّن، والمتديّنون ينجبون الكثير من الأولاد، وسوف تتحوّل إلى آلة تفقيس، وتُرزَق خلال عشر سنوات عشرة أولاد. ورأى فيه خطرا كبيرا.

وإشعاعة الأمل أيضا في  كلمات الضابط ألون في حواره مع جنوده "أنا ضابط احتلال، ونحن نحتلّ هذه الأراضي بقوّتنا العسكريّة، وعلينا أن ننفصل عن الفلسطينيين عاجلا أم آجلا". (204) وفي الموقف الحيادي الإيجابي المهني للطبيب في "المركز الطبّي في أبو كبير" ومثله تصرّف المُحقّق في الشرطة، والقاضي في المحكمة الذي سخر من المُحقّق أوري وسأله: ما رأيك أنْ تعتقل جميع الفلاحين في السّهل؟ هل اعتقال هذا الفلاح مكافأة له على إبلاغه الشرطة بوجود جريمة؟" (ص70) كل هؤلاء عملوا بمهنيّة كبيرة بعيدا عن الأجواء العدائية التي تتَحَكمّ بالشارع، وتُؤجّجها وسائل الاعلام المختلفة، وفي هذا بعض الأمل والتّعزية.

ما انتهت إليه كلّ الروايات هو التأكيد على صعوبة إقامة علاقات طبيعية يسودها السلام والعَدل والمساواة واحترام الواحد للثاني بين الشعبين العربي الفلسطيني واليهودي داخل حدود الخط الأخضر. وشبه استحالة الحَلّ لقضيّة الصّراع الفلسطيني الإسرائيلي لأنّ الموقف الإسرائيلي المُتصلّب - من مُنطلق امتلاك القوّة - يرفض أيّ تنازل، في الوقت الذي يُحاول العربي فيه أنْ يقبل بحلول مختلفة حتى ولو كانت صعبة وظالمة له.

المرأة تظلّ الأساس:
واقع الحياة والطبيعة الإنسانيّة، وما أكّدَتْه كلُّ الروايات التي ذكرتُ، وأبرَزَتْه بشكل واضح روايةُ "نوّار العلت" أنّ المرأة بمشاعرها الرّقيقة النّاعمة السّاحرة تظلّ الجسر الآمن والأفضل والأسهل، لتذليل الصّعاب، وتجاوز الحدود، وبناء الجسور، وتقريب القلوب. ففي لقاء يافا بفاطمة أم سمير سقطت كلّ الحواجز "كانت تضمّني إلى صدرها وتُقبّل وجنتي وتقول لي: عيناك مثل نوّار العلت. أسعدني وأفرحني كلامها وذكّرني بأمّي التي كانت تضمّني إلى صدرها وتقول لي: ما أجملك يا شجرة الكمّثرى. أنا شجرة الكمّثرى عند أمّي ونوّار العلت عند ماما فاطمة، وأنا المدينة عند سمير، حيفا ببحرها الأزرق وكرملها وشاطئها وصنوبرها وغابات كرملها وعصافيرها". (ص228).

«نوّار العلت» رواية سياسيّة هادفة:
الفكر السّياسي النَّيّر التّفاؤلي المُوجِّه هو الذي يُحدّد هويّة رواية "نوّار العلت". الكاتب لم يكتب روايته لينقل لنا صورة طبق الأصل للواقع الذي نعيش، وإنّما قصد المساهمة في التّغيير للأفضل وفي توجيه المجتمع بناسه ومَفاهيمه وسلوكيّاته نحو الغد الأجمل. لم يكتف بالكشف عن الكراهيّة والحقد والعدائيّة التي يُعاني منها العربيّ، وإنّما كشف أيضا عن المَشاعر الإنسانيّة الكامنة لدى كلّ مخلوق من مَحبّة وتعاطف وتفاهم ورغبة في الحياة المشتركة الهادئة الآمنة.

وكما أبرز مظاهر الكراهيّة والعدائيّة والرّفض في الجانب اليهودي ضدّ كلّ عربيّ، هكذا أدان مَظاهر السّلبيّات في المجتمع العربي مثل العنف والقَتل والاعتداء وإطلاق النار في المناسبات ونوعيّة الغناء والأساطير الدينيّة المسيطرة على عقول الكثيرين، والتّعصّب القومي والدّيني والطائفي والعائلي والطّبقي، ودعا إلى انفتاح العربي على المجتمعات الأخرى، ليكتسب الأفضل منها، وشدّد على أهميّة اختراق بنات وأبناء شعبنا كلّ مجالات المعرفة والعلم. هذا الموقف الواضح جعل الشخصيّات في الكثير من المواقف تبدو متقمّصة لشخصية الكاتب، حتى تكاد تتخيّل محمد على طه بنفسه هو الذي يتكلّم ويشرح ويُوجّه ويُحذّر، وليست الشخصيّة إلّا القناع الذي يتَخفّى وراءه، وينسف بكل المُنادين بنظريّة "موت المؤلّف" مؤكّدا:

  • أنا الخالق، أنا الموجود والذي أريدُه يكون.

«نوّار العلت» رواية جميلة مثيرة:
تشدّ الرواية القارئ بفنيّتها وبنائها وحتى باسمها "نوّار العلت" الذي يُنبهنا إلى جماليّة هذه النبتة التي يعرفها كلّ واحد منّا، ورعاها الآباء والأجداد. هذا الاختيار للاسم الذي يوحي بالأمل والتّوق إلى مستقبل جميل، قد يعيشه الشعبان العربي الفلسطيني واليهودي الإسرائيلي، ففي نبتة العلت الأصالة والجذور العميقة للفلسطيني في وطنه، الذي تُشكّل فيه نبتة العلت أصالة ووجودا ومصدر غذاء مهم. وكذلك بزهرة النوّار الجميلة المتألقة وسطها إشعاعة الأمل في لقاء أبناء وبنات الشعبين المتجسّدين بيافا وسمير.

وكذلك تشدّ القارئ بإثارتها وحثّها له لمُتابَعة أحداثها وتصرّف شخصيّاتها خاصّة لحظة ينقطع المشهد الجميل للطبيعة ساعات الليل الهادئة، الذي ابتدأ به الكاتب روايته بظهور سيّارة غريبة أثارت قلق أحمد، وانتهى بالعثور على جثة شابّة مقتولة. وكما في الأفلام السينمائية، تعود بنا الأحداث إلى الماضي للبحث والتّنقيب للوصول إلى القاتل. ومع كلّ تقدّم في التّحقيق والحصول على عيّنات جديدة واعتقال وتحقيق، تشتدّ الرّغبة في التّعرّف على التّفاصيل والتّلهف للمزيد.

الزمن:
قد يكون "الزّمن" العنصر الأضعف في رواية "نوّار العلت" حيث ينحصر ويتقلّص في سنوات قليلة لا تحمل رؤيا مستقبليّة،  منغلقة أمام الإنسان اليهوديّ على رؤية مزدوجة  عاش أصحابُ إحداها في وَهْمِ أنفسهم وأحلامهم وعَظمَتهم وتفرّدهم وقوّتهم، وعانى أصحاب الثانية من قُصورهم وجُبنهم وخوفهم من إعلان موقفهم والتّحذير من المستقبل الرّهيب الذي ينتظر الجميع. وتتداخل الأزمنة ما بين الماضي والحاضر،  ولا مكانَ أو إشارة للمستقبل بينما نتَنقّل في الأمكنة من الحقل إلى غرفة التحقيق إلى الجامعة إلى الأراضي اللبنانية وحاجز قلنديا والمخيم والمستوطنة إلخ، ومع كل نَقلة تتكشّف لنا جوانب جديدة من  الشخصيّات ويزداد تلهّفنا.

المكان ودوره الفعّال:
المكان يشغل أهميّة كبيرة ورئيسيّة في الرواية ونجاحها. فقد أكسب الأحداثَ والشخصيّات مَعان ودلالات ما كانت لتظهر وتُؤثّر لولا أنّها في المكان الذي تواجَدت وحدثت فيه. فمشهد الأرض الواسعة التي زرعها أحمد ومنها حَلّق فوق حقول الذرة الصفراء وعبّاد الشمس والقطن وبيارات البرتقال، ووصل إلى شاطئ البحر وشاطئ الزّيب وسور عكا، وانطلق مع خياله فوق كلّ الأراضي التي تتراءى له فشعر براحة عميقة وسعادة غامرة افتقدها فترة زَمنيّة طويلة. ومَشاهد جبال الشوف ولبنان والجنود والحرب الدائرة. وحاجز قلنديا ومشاهد طوابير الفلسطينيين المُهانين من قبل مجموعة جنود شبّان يحملون أفكارا عنصرية. وصورة جنود الاحتلال في مخيمات اللاجئين يُخرجون الشيوخ والنّساء بعد منتصف الليالي من بيوتهم إلى العراء وتحَمّل برد الليل. ومشاهد التّحقيقات والاتّهامات التي تُوجَّه لأحمد وسمير بين جدران السجن بهدف إثبات تورّطهما في جريمة القتل. المكان في هذه المشاهد له الدور الرّئيسي في التأثير على القارئ، وحَمْله ليتنقّل بينها ويستعيدَها ولو بالخيال فتشدّ انتباهه وتُثير فيه مشاعرَ الغضب، وتُحيي أحاسيسه بالظلم والقَسوة والعداء والكراهيّة التي تعامل بها جندُ الاحتلال مع العربي الشقيق في الأراض المحتلة.

وحتى المكان السّاحر الجميل المُطلّ على كلّ المناطق، حيث يسكن نفتالي في مستوطنة مُقامة في الضفّة الغربية المحتلّة، كان له تأثيرُه على "يافا" وأثار فيها الكثير من التّساؤلات والتّخوّفات من المستقبل، فسألت نفتالي بعد أن أبدت إعجابها باهتمام الفلسطيني بالأرض وبكروم الزيتون واللوز التي غرسها فقال لها: سوف نستولي عليها فنحن أصحابها. وعندما قالت: وهؤلاء الفلاحون الذين غرسوا الكروم؟ قال: نطردهم. فصمتت وردّدت مع نفسها "كاد يصدمني بآرائه فهو لا يرى إلّا اليهوديّ ولا يعترف بحق إنسان إلّا بحق اليهودي. وتخيّلتُ مئات الألوف وربّما أكثر من سكان يهودا والسّامرة يعبرون النهر هائمين على وجوههم مثل هؤلاء السّوريين والعراقيين الذين تركوا مدنهم وبيوتهم بسبب الحروب. شعرت بأسى وبخوف وسألتُ نفتالي: كيف نطرد الناس من بيوتهم؟ فأجاب: هذه بيوتنا. هذه الفيلات ستكون لنا. هم مغتصبون ونحن نستعيدُ حقّنا." (ص208-210) حتى أنّ والد يافا علّق على مواقف وأقوال نفتالي عندما جاءت به يافا بقوله "هذا الفتى يسعى إلى نهايتين، إمّا أن يقتل عربيّا ويقضي سنوات في السجن، وإمّا أن يقتله عربيّ. يعني إمّا قاتل أو مقتول." (ص211) ولم يتصوّر يوسف لحظتها وهو يلفظ الكلمات أن الضحيّة ستكون ابنته يافا، التي سيقتلها نفتالي ويرمي بجثتها في الحقول.

وبعكس بيت نفتالي وما أثاره بيافا من مشاعر ومخاوف وتساؤلات ورفض، فإنّ بيت أسرة سمير في القرية وشوارعها وناسها أحيوا فيها، وهي تتجوّل مع سمير وتلتقي بالنّاس الطيّبين، أحاسيسَ الأمان والمحبّة والرّاحة. كذلك نلقى جمالية المكان وتأثيره بين أروقة الجامعة والكافاتيريا، حيث التقى سمير بيافا ويحظى الطلاب بالجو الأكاديمي العلمي الرّاقي، وبحرية الكلام والتصرّف وإقامة العلاقات المختلفة.

من هذه المركزيّة المهمّة شكّل المكان في رواية "نوّار العلت" عنصرا مهمّا في بناء الرواية وتكاملها وإكسابها البُعد العميق المُؤثر.

اللغة والأسلوب:
كما نعرف محمد علي طه في كلّ أعماله الإبداعيّة، هو المتألّق في قدرته على صياغة الجملة الجميلة، واختيار المفردة اللازمة، ورسم الصورة المثيرة، وبناء المشهد المتكامل، وخلق الجوّ الدّافئ الحاضن للشخصيّات المالئة للمكان والمُلتَفّة بالزّمان، فيجعلنا نضحك ونحن نبكي، أو نبكي ونحن نضحك، ويكتسي وجهنا بالبسمة الآخذة بينما الدمعة تنساب هادئة على الوجنتين.

لغته السرديّة الجميلة تأخذ القارئ في نشوة تعلّق بسحر اللغة وإذا ما انتقل للحوار ما بين شخصيات روايته نراه يتنقل في الحوار بين المُتحاورين بمستويات لغويّة ملائمة لكل منهم. يختصر الكلام في الحوارات، يهتم بالمحافظة على حيويّتها واهتمام المتلقي بمتابعتها. وإذا ما أخذنا إلى وصف مشهد جميل من طبيعة بلادنا الساحرة أو قرانا وحاراتنا فيبدع باللغة الراقية، ويتنقل في كل زوايا وتفاصيل المشهد، ليجعلنا نشعر وكأننا نعيشه ونتنقّل فيه، فتغمرنا الفرحة وتتملّكنا السعادة. و ترقّ اللغة وتتسامى عندما يوقفُ عقاربَ الزمن، ويعود بنا إلى أيّام زمان، حيث يُبدع في التّفنّن بالكلام عنها، ووصفها وإحيائها من جديد. كذلك وهو يأخذ بنا لنقرأ معا ما كتبته "يافا" في مذكراتها، فنعيش معها كلّ لحظة مع كلّ كلمة وفي كل موقع، ونكاد نخرج من أجسادنا ونحن نُجسّدُ بخيالنا المُحلّق ساعة دخول يافا مَدخل بيت سمير في القرية واللقاء الحارّ الذي استُقبلَت به من قبل فاطمة أم سمير، والمشاعر الإنسانية التي تملّكت يافا وهي تحضن فاطمة أم سمير وفي الوقت ذاته تشعر وكأنّها تُعانق أمّها سارة التي فقدتها من سنوات.

"كانت ماما فاطمة تضمّني إلى صدرها وتُقبّل وجنتيّ وتقول لي: شو هالحلاوة؟ عيناك مثل نوّار العلت. وكانت أمي سارة أيضا تضمّني إلى صدرها وتقول لي: ما أجملك يا شجرة الكمّثرى. أنا شجرة الكمّثرى عند أمي سارة ونوّار العلت عند ماما فاطمة". (ص228).

ولكن اللغة تعود لتتّخذ وقارها ورزانتها وهو يطرح أفكارَه ويناقش مختلفَ المواضيع السياسية والدّينيّة والاجتماعيّة وغيرها. هكذا تنساق اللغة مع كاتبنا محمد علي طه، لا كعبدة مُنجَرّة رغم إرادتها، وأمَة تأتمرُ بأمر سيّدها، وإنّما كعشيقة مُحبّة مُندغمة بصاقلها.

قد يطول الكلام أكثر وأكثر. ولكن لا بُدّ من النهاية.