يعود بنا الكاتب المصري هنا إلى لويس عوض وبعض معاركه، ويتوقف عند سعيه لكتابة تاريخ الفكر المصري، وتمحيصه للدور الإشكالي المعقد الذي لعبه جمال الدين الأفغاني في هزيمة الثورة العرابية من ناحية، وفي تسويغ التبعية العثمانية، وما انطوى عليه من تسويغ الاستعمار البريطاني لمصر.

لويس عوض والثقافة السائدة

طلعت رضوان

 

أثرى د. لويس عوض المكتبة المصرية (والعربية) بالعديد من المؤلفات مثل (تاريخ الفكرالمصرى الحديث- من عصرإسماعيل إلى ثورة1919) فى عدة أجزاء..كما كتب عن الأدب اليونانى وأساطيره وعن المسرح اليونانى..وكتب فى النقد الأدبى..وكتابه المهم عن شكسبير،  غيرترجماته العديدة..ومن بين كتبه المهمة كذلك كتابه (ثورة الفكر- فى عصرالنهضة الأوروبية) الصادرعن مركزالأهرام للترجمة والنشر- عام 87. فى هذا الكتاب شرح سيطرتْ الكهنوت الدينى المسيحى على عقول المواطنين، وكل ما يتعلق بشئونهم الروحية، حيث احتكروا تفسيرالكتاب المقدس، وإقامة الصلوات والوعظ بسبب «جهل العامة باللغة اللاتينية.»

ولعلّ هذا كان أحد الأسباب التى جعلت دانتى اليجيرى (1265- 1321) للدعوة إلى التخلي عن اللغة اللاتينية واستخدام اللغة (العامية) الإيطالية. فكان هذا ما جعل الكنيسة تغضب منه، فتـمّ نفيه من مدينة فلورنسا عام 1301. وهوفى سن السادسة والثلاين. وقضى فى المنفى عشرين عامًا حتى وفاته عام 1321. ووصل جبروت الكهنوت الدينى لدرجة الحكم عليه بإحراقه حيًا، وإعدام أولاده الصغار. ثـمّ تـمّ تعديل الحكم فى مارس 1302 إلى مصادرة أمواله. وإعدامه حرقــًا إذا قــُبض عليه داخل فلورنسا أو أقاليمها. والسبب فى كل ذلك أنّ الكنيسة رأتْ أنّ أفكاره تقوّض سلطانها، وتــُحررالسلطة الزمنية (الدنيوية) من السلطة الدينية. وبهذا المعنى يُعد فكر دانتى مرحلة مهمة فى تاريخ العلمانية. وكان من رأى المؤرخ المسيحى أورسيوس أنّ تصدع الامبراطورية، وانهيارها كان نتيجة للغضب الإلهى، وأنّ غضب الله حلّ على الرومان، لأنهم ضلوا وحادوا عن طريق الله بفسقهم، فأرسل الله عليهم البرابرة من كل جانب فخرّبوا الامبراطورية. وبذلك قضتْ الكنيسة الكاثوليكية على كل شعورقومى فى نفوس الإيطاليين،  فجعلتهم يتنكرون لأمجاد جدودهم ويتبرأون من حضارتهم.

كما عرض لويس عوض حياة العالم والفيلسوف جوردانو برونو (1548- 1600) وفى كتاب برونو (ظلال الأفكار) كتب أنّ معلمه هو (هرمز) مثلث العظمة الذى أخذته اليونان من المصريين القدماء. وأنّ ديانة قدماء المصريين هى ديانة العقل ونورالفكر. وحسب ما قال القديس أوغسطين، أنّ المسيحيين هم الذين صادروا هذه الديانة وحرّموها بموجب القانون، فكانت هذه هى الضربة القاضية على الحضارة المصرية. ولذلك كان جوردانو برونو يلتمس الإصلاح الدينى من خارج العقيدة المسيحية، ويدعو لإحياء ديانة مصر القديمة.

وفى عام 1584 أصدر برونو محاوراته الإيطالية بعنوان (الكون اللانهائى) ومحاوراته بعنوان (طرد الوحش المنتصر) وكان يقصد بالوحش بابوية روما. وفى هذا الكتاب دعا لإحياء ديانة المصريين القدماء فى مرحلتها الهرمزية. وأنّ التعصب الدينى– كما هوفى كل الأديان– تسبب فى ضراوة الكاثوليك فى البلاد الكاثوليكية فى اضطهاد البروتستانت. وضراوة البروتستانت فى البلاد البروتستانتية فى اضطهاد الكاثوليك. كما أنّ برونو في آخر كتبه (مائة وعشرون وصية للرد على المشائين) وفى معظم صفحات هذا الكتاب هدْمٌ لفلسفة أرسطو. وكان برونو طوال إقامته فى فرنسا وإنجلترا وألمانيا، يحلم بتأسيس دين عالمى، يــُـزيل حزازات التعصب بين البشر. ويضع حدًا للمذابح والحروب الدينية. وكان هذا الدين العالمى عنده هو إحياء الديانة المصرية القديمة فى مرحلة عناقها مع الفيثاغورية والأفلاطونية الحديثة. لكل هذا حكم الكهنوت الدينى عليه بالكفر. وسلمته الكنيسة للسلطات المدنية لإعدامه فأحرق حيًا فى ميدان كامبو دى فيورى فى 17 فبراير1600 (من ص241- 256)

ورغم إسهامات لويس عوض الثرية فقد تعرّض للهجوم على شخصه وعلى كتاباته فى حياته وبعد وفاته. ولم تـُصبه السهام من الأصوليين الإسلاميين وحدهم. وإنما أيضًا من بعض اليساريين. وتصاعد الهجوم عليه خاصة بعد نشر كتابه (مقدمة في فقه اللغة العربية) وكتابه عن جمال الدين الإيرانى الشهير بالأفغانى. وفى هذا الكتاب (تاريخ الفكرالمصرى الحديث- مكتبة مدبولى- عام86) اعتمد على عشرات الوثائق والمراجع الأصلية وشهادات معاصرى الأفغانى، فأتاح له ذلك طرح العديد من الأسئلة مثل: لماذا أخفى الأفغانى أنه وُلد فى قرية (أسد أباد) بالقرب من مدينة همدان غرب إيران؟ ويؤكد ذلك أنّ لغته الأصلية هى الإيرانية. وأنّ لغتيْه المُكتسبتيْن هما العربية والتركية. ولم يثبتْ أنّ لغته الأصلية إحدى لغات أفغانستان. ولماذا أخفى مذهبه الشيعى ليبدوسنيًا فى البلاد السنية (أفغانستان وتركيا ومصر)؟ ولماذا نسب نفسه إلى أفغانستان عندما ذهب إلى تركيا ومصر والهند؟ ولماذا لقــّـب نفسه بالسيد جمال الدين الرومى (أى التركى) عندما كان فى أفغانستان؟ أما الفترة التى قضاها فى العراق فلقــّـب نفسه بالاستانبولى (مركزالخلافة وعاصمة الإسلام السنى وقتها)، فلماذا أخفى جنسيته الأصلية؟

ولماذا طرده الإنجليزمن المحفل الماسونى الإنجليزى؟ ولماذا تنقل بين المحافل الماسونية الإنجليزية والفرنسية والإيطالية؟ وكيف حصل على عضوية كل منها؟ خاصة أنّ هذه المحافل لم تكن إلاّ جمعيات سرية أنشأتها الدول الأوروبية فى تسابقها الاستعمارى لتجنيد المثقفين المصريين؟ ولماذا كان مؤيدًا لرياض باشا رغم عدائه للحركات الدستورية والديموقراطية؟ وفى المقابل لماذا كان رياض باشا أقوى سند داخل السلطة للأفغانى طوال إقامته فى مصر. وحتى بعد نفيه، فما هى المصالح التى جمعتْ بينهما؟ ولماذا كان الأفغانى يُعادى نوبارباشا. ويعمل على طرده من الوزارة. هل كان ذلك لمصلحة مصر أم لمصلحة الباب العالى؟

لماذا عمل الأفغانى على تحقيق حلم الإنجليز بخلع الخديوي إسماعيل؟ وبالمقابل لماذا بذل كل جهد ممكن لتنصيب توفيق الذى لايختلف مؤرخ واحد حول حقيقة أنه صنيعة الإنجليز؟ وكيف استطاع إخفاء حقيقة دعوته للجامعة الإسلامية وتواصله مع تركيا أثناء إقامته فى مصر. واندماجه فى الحركة الوطنية التى كان محورها (مصر للمصريين) لا للأوروبيين ولا للعثمانيين؟ وكيف استطاع الجمع. وهوفى مصربين حملته العلنية ضد الإنجليز. ونظريته السرية فى التعاون معهم فى الهند؟ ولماذا سمح الإنجليزله أنْ يُقيم فى الهند، بعد أنْ طردوه من مصر. وكان فى إمكانهم أنْ يُشحنوه إلى بلاده إيران؟ هل ليضعوه تحت المراقبة؟ أم لأنه موصى عليه من الباب العالى صديق الإنجليزفى تلك الفترة؟

لماذا كان تفسير الأفغانى للثورة العرابية تفسيرًا زريًا؟ هل لأنّ الثورة العرابية لم ترفع شعار التبعية العثمانية، ورفعتْ شعار(مصر للمصريين)؟ رغم أنّ بعض أجنحتها الساذجة كانتْ تؤمل خيرًا فى مؤازرة تركيا لها، كما أنّ منشور العصيان الذى أصدره السلطان عبدالحميد، وأهدرفيه دم عرابى والعرابيين فى أخطر مراحل المقاومة المسلحة للغزو البريطانى، يصعب معه الحديث عن تأييد الخليفة لرعاياه المسلمين. لقد كان موقف السلطان عبدالحميد فى هذه الأزمة مع ممثله الشرعى الخديو توفيق، وضد الثائرين عليه، ومع الجيوش البريطانية التى سفحتْ دم رعاياه من المصريين وكان كل أمل (الرجل المريض) أنْ تقمع له إنجلترا الثورة العرابية.

ولماذا كان تفسير الأفغانى للغزو البريطانى على مصر تفسيرًا زريًا كذلك؟ فإنجلترا احتلتْ مصر لتؤمّن طريق مواصلاتها الامبراطورية إلى الهند. وهذا حق ولكنها فى هذه المرحلة بالذات على صعيد المسألة الهندية، كانت تخشى هندوس الهند الذين كانوا طليعة الكفاح الوطنى أكثر مما كانت تخشى مسلميها، الذين كانت إنجلترا تـُجرّب معهم تجربتها فيما بعد مع المصريين المسيحيين، أى محاولة التودد إليهم لتسلخهم من تيار الحركة الوطنية.

هذه الأسئلة (وغيرها كثير) استنبطها لويس عوض من عشرات المراجع الأصلية ومن بينها أصدقاء الأفغانى. ومع ذلك شنـّـتْ الثقافة السائدة ضده حملة عدائية بحجة أنه إتهم الأفغانى بالإلحاد، بينما لويس عوض نقل للقارىء ما حدث عندما ألقى الأفغانى محاضرة فى جامعة دار الفنون بتركيا. وبعدها أشاع شيخ الإسلام (حسن فهمى أفندى) أنّ الأفغانى زعم أنّ النبوة صنعة. وأوعز للوعاظ في المساجد أنْ يذكروا ذلك، وحرّضهم ضد الأفغاني، الذى اضطر للدفاع عن نفسه وإثبات براءته. ورأى أنّ ذلك لايكون إلاّ بمحاكمة شيخ الإسلام.

هذا ماكتبه لويس عوض نقلا عن رشيد رضا– كما وجدتُ فى كتاب (تاريخ الإصلاح فى الأزهر- تأليف الأزهرى المُستنير عبد المتعال الصعيدى تذكير بهذه الواقعة) ووجدها لويس عوض فى كتاب خليل فوزى الذى ذكر أنّ لجنة شـُكلتْ للرد على زندقة الأفغانى. وأنّ كتابه كان ثمرة هذه اللجنة الدينية تنفيذا لأوامر الخليفة لنصرة الدين وتسفيه الفلاسفة الحقراء. والنتيجة التى وصل إليها خليل فوزى أنّ الأفغانى مرتد. وإذا لم يُعلن توبته حقّ قتله. وذكر إبراهيم الهلباوى أنه تعلم مما سمعه من أساتذته فى الأزهر أنْ يُبغض الأفغاني بوصفه ملحدًا. وكتب سليم بك العنحورى (وهومن مريدى الأفغانى) أنّ الأفغانى عندما كان فى الهند برز فى علم الأديان حتى أفضى به ذلك إلى الإلحاد.

وكتب عبد الله النديم أنّ الأفغانى مزج بالاعتقاد ما وجّه إليه الانتقاد. ثم عدّل بهم عن أنديته الأدبية إلى المحافل الماسونية. ثم اشتهر بعض تلامذته بفساد العقيدة ومعارضة الدين الشديدة. وهكذا نجد أنّ صفة الإلحاد أطلقها معاصرو الأفغانى عليه. ومنهم بعض مريديه. ولم يكن هدف لويس عوض إلصاق هذه الصفة به، فهو أرفع من استخدام لغة الأصوليين. وإنما كان الهدف وضع السياق التاريخى لمجمل الظروف التى تخلقتْ فيها هذه الصفة. ثم مناقشة هذا السياق: هل كان الأفغانى ملحدًا فعلا؟ وكيف يكون ملحدًا إذا كانت كتاباته، خصوصًا فى كتيبه (الرد على الدهريين) ومرحلة العروة الوثقى التى روّج فيها لمقولة (الرابطة الدينية) بهدف نسف الانتماء الوطنى. وكذلك مجمل مواقفه التي تـُشير إلى نزعة أصولية، جاهر فيها بالخلافة العثمانية. والدفاع عن تطبيق الشريعة الإسلامية، فكيف يــُـتهم بالإلحاد؟ وهل كان إلحاده على أسس فلسفية اقتنع بها. ودافع عنها بشكل مبدئى؟ أم أنّ هناك خطأ وقع فيه من وصفوه بها، وأنّ سلوك الأفغاني نفسه ساعدهم على هذا الاعتقاد مثل انضمامه إلى الجمعيات الماسونية. وهى حقيقة ذكرها د. عبدالوهاب المسيرى فى كتابه (الجمعيات السرية فى العالم) حيث استعرض تاريخ تلك الجمعيات بغية توظيفها فى خدمة الدول الاستعمارية. وأنّ الأعضاء كانوا يتمتعون ببعض المزايا .. وكان من بين هؤلاء الأفغاني .. والشيخ محمد عبده.. والأمير عبد القادر الجزائري (كتاب الهلال- نوفمبر93- من ص99- 103)