زوجُ «الزوجة الفرنسية» مرشدٌ سياحي مصري، والرواية في أحد مستوياتها رحلة تمتد من باريس إلى القاهرة وحتى الهند، عابرةً بثقافات متميزةٍ ومختلفةٍ. يتراوح النص ما بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات. بسردٍ بسيطٍ خادعٍ تحقق الرواية درجة عاليةً من التعقيد، كاشفةً عن مسافاتٍ خرساء بين عوالم متجاورة.

رواية العدد

الزوجة الفرنسية (رواية العدد)

عـادل أسـعد المـيري

 

يقول هرمان هيسيه في بداية الرواية الأقرب الى أن تكون سيرة ذاتية (في بداية حديثي عن الحب، أقول إنني فيما يتعلّق به، ظللت طوال حياتي صبيّا غريرا. كان حبّ النساء في نظري دائما، عبادة تطهّر النفس، شعلة من النار أججت جذوتها كآبتي، وارتفعت ألسنتها الى أعلى. كنت أمجّد النساء في مجموعهنّ، كجنس غريب جميل ممتلىء بالألغاز، يتفوّق على الرجال بما أوتي من جمال طبيعي، ويتحتّم علينا أن نقدّسه. لكن حبّ النساء أتاني من المرارة، أكثر مما أتاني من الحلاوة. حقيقة إن النساء بقين على النصب عاليات، ولكني أنا شهدت تطوّرا مضحكا، من دور العابد المبجّل، الى دور أليم مضحك).

 

السقوط من الطابق الرابع
29 مارس 1994: في محضر قسم شرطة بولاق أبو العلا، قال روّاد مقهى بجانب سينما على بابا في شارع فؤاد، إنّهم شاهدوا سيّدة أجنبيّة تنزل من تاكسى حوالى الساعة الرابعة صباحا، وكان الشارع هادئاً نسبيّاً فى تلك الساعة من الليل، وأنّها كانت ترتدى بنطلونا وبلوزة وتضع حول شعرها غطاء رأس، ثم دخلت شارع السلطان أبو العلا حوالى عشرين متراً، ثم عادت إلى الخروج من الشارع لتدخل العمارة رقم 83.

بعد خمس دقائق من دخولها، خرج شخص من شرفة الطابق الأول يتساءل عن صوت الإرتطام الذى أيقظه من نومه، وبعد دقيقة تخرج سيّدة من شرفة أخرى وهى تولول قائلة (الحقوا فيه واحدة ست واقعة فى بير السلم).

وقال شخص ثالث يسكن الطابق الثاني بنفس العقار إنّه كان قد سمع قبل دقائق صوت أقدام تصعد السلّم، وتتوقّف فى كل طابق لتقول بصوت مرتفع (الله أكبر)، ثم سمع صوت الإرتطام بالطابق الأرضي. من الأشياء المحيّرة فى هذه القصة مسألة ذلك الدعاء المتكرّر (الله أكبر)، الذى كانت ترفع به صوتها عند توقّفها فى كل طابق. هل كانت فقط تكرر العبارة خلف صوت المؤذن لصلاة الفجر القادم من المسجد القريب؟

كنت قد عوّدتها خلال سنوات الزواج على مسألة التعلّم بالتكرار، وكنت أذكر لها عبارة (التكرار يعلّم الشطّار) فكنت أذكر نفس العبارة عشر مرات، متنقلا خلفها بين الحجرات، وأنا أطلب منها أن تكرر ما أقوله، مهما كان عدد مرات الاعادة، حتى أشعر أنها قد أتقنت النطق، وكان يضايقها الحاحي، فكانت تسخر من اللثغة التي تمنعني من نطق حرف الراء بوضوح، فكانت تردد متعمّدة (التكغاغ يعلم الشطاغ).

قالت ريتا بعد الحادثة ببضعة أيام، حين جاءها المحقق في العناية المركزة بمستشفى المعادي حيث ظلت أسبوعا: (إن المنزل رقم 83 بشارع أبو العلا ببولاق، هو المنزل الذى كنت أقيم فيه فى القاهرة منذ مائة عام)

وعندما سألها ضابط البوليس كيف هذا وهى ما تزال شابة صغيرة، ردّت قائلة: (إن هذا كان قد حدث لي فى حياة أخرى، فى واحدة من حيواتى السابقة، اوعوا تفتكروا ان هذه الحياة هى أول حياة لي في هذه الدنيا، لكن ما تخافوش فأنا في الأصل مصرية، أول ما اتخلقت كنت مصرية، أنا أم الدنيا).

الا أنها قالت كذلك هذه العبارة بالعربية الفصحى، ولا أعلم كيف تعلّمتها (أنا كائن فضائي) ثمّ بالعامية (انتوا مين؟) مما جعلنا جميعا نبتسم رغم المأساة.

كان مستوى ريتا في كل من العربية الفصحى والعامية المصرية، قد تقدّم جدا خلال السنوات الأولى من زواجنا، إذ كنّا نقرأ سويّا في الجرائد، ونستمع الى الاذاعة والتفزيون، وكنّا نسجّل شرائط كاسيت صوتية وشرائط فيديو، نعيد الاستماع اليها ومشاهدتها، ونكتب في الورق كل يوم.

ذكرت الجرائد الصباحيّة إنّ تلك السيدة الأجنبيّة كانت معتادة على التردّد على هذه العمارة رقم 83، حيث كانت تقابل أحد عشّاقها فى شقّة بالطابق الرابع، وحين تخلّى عنها قرّرت الانتحار.

أثناء صعودها السلم قابلت شخصاً، إعتقدت للحظة أنه حبيبها الهندى شاندرا، فبدأت تقبّله على وجهه وشفتيه، ثم انحنت أمامه لتقبّل قدميه، ويبدو كذلك أنها داعبت عضوه الجنسى، ولكنها عندما نظرت إلى وجهه واكتشفت أنه ليس شاندرا، وإنّما هو إنسانٌ مشوّهٌ قبيح المنظر، ذُعرت منه جدّاً، وبادلها هو نفس النظرات المذعورة، وجرى كل منهما في اتجاه مختلف خوفاً من الآخر. هو شخص مختلّ عقليا اعتاد أهله على تركه يتجوّل في العمارة ليلا.

تقول إنّها عندما وصلت إلى الطابق الرابع، آخر طوابق العمارة، سمعت أصواتاً تدعوها إلى القفز، والبعض قد فسّر ذلك على أنّ ريتا مصابة بفصام في الشخصية (سكيزوفرينا schizophrenia)، والكلمة تعني انقسام أو انفصال بين عصبين يعملان في العادة متحدين، فيُزيد أحدهما من وظيفة جسمية، ويُنقِص الآخر من نفس الوظيفة، حسب حاجة الجسم، وهما من أعصاب الجهاز العصبي اللاإرادي (السمبتاوي)، والكلمة استعملت منذ القرن التاسع عشر، للدلالة على مرض انقسام الانسان على ذاته، وعيشه بشخصيتين.

البعض الآخر فسّر الأصوات التي تستمع اليها، والأصوات التي تتكلم بها بصفات وشخصيات مختلفة، مثل أن تقول أنا نبيّة الحب والسلام، أو أن تقول أنا ملكة فنون الاثارة الجنسية (البورنوجرافي)، على أنها مسكونة بأرواح شرّيرة، كانت تتحدّث إليها فى أذنها، ذلك الحديث المتّصل الّذى لم يسمعه أحد غيرها، لأنها كانت واقعة تحت تأثير النفوذ السلبي لليوجي الهندي الشرس. أي بكلمات صريحة أنها كانت

(ملبوسة). إنّ تسلّط الأرواح الشريرة على بعض البشر، هو شيء معروف في كل بلاد الدنيا، ومنذ أزمنة بعيدة.

أفكر الآن في اليوجي الشرس، المتسبّب في أول أزمة في الهند. وأتساءل (هل يمكن للتأثير المغناطيسي لهذا الشخص أن يمتد عبر كل هذه المسافات الشاسعة، من موقعه في شمال الهند حيث يسكن في بلدة ريشي كِش Rishikesh عند سفوح جبال التبت، الى حي الزمالك بالقاهرة؟)

قالت ريتا (عندما قفزت كنت أتوقّع أن أطير) ثم قالت (عندما نظرت إلى أسفل وجدت فناءاً صغيراً جميلاً، بمربعات من البلاط الملوّن، مثل البلاط الموجود عندنا في مطبخ شقّتنا، هذا هو ما شجّعني على القفز، فأنا لم أتوقّع أبدا أن هذا الفناء الصغير الجميل يمكنه أن يؤذيني، بل بالعكس سيحضنني ويحنو عليّ) 

ثم غيّرت كلامها بعد فترة، قائلة إنّها إعتقدت أنّها ستقفز فى حمام سباحة، (وأنا طبعا سبّاحة ماهرة، وحاصلة على عدة شهادات في سباقات السباحة والغطس في فرنسا). وكان من أعجب ما قالته (أنا قذفت بنفسي فى بحر من الطحينة، وأنا أحب أكلها، فكلما ذهبت الى مطعم فلفلة كنت أطلب أطباقاً متعددة من الطحينة ذات الأشكال المختلفة). تسكت قليلا ثم تقول (أنا كائن فضائي)، ثمّ بالعامية (انتوا مين؟)، مما كان يجعل جميع المنصتين اليها يبتسمون. 

هكذا يبدو بوضوح كيف أن ريتا لم تعرف أبدا لماذا قذفت بنفسها من هذا الارتفاع المهلك، أربعة طوابق من المباني القديمة التي يبلغ ارتفاع الطابق فيها أربعة أمتار. 

الأحد 27 مارس 1994: تركتني ريتا في شقة الزوجية في الزمالك، حوالي الساعة العاشرة مساءً، بعد عودتها من حفل هندي في دار الأوبرا المصرية، وذهبتْ للمبيت لدى الجارة شيرين تمهيدا للإنفصال.

دخلتُ لأنام 11 مساءً بعد أن وضعت سدادتين في أذني، لمنع تسرّب ضوضاء العمل في تجهيز المركز التجاري اليمامة سنتر، التي كانت تدوم طول النهار وطول الليل، ظللنا عاما ونصف عام في معاناة مستمرّة، بسبب ضوضاء تجهيز اليمامة، وتحويلها من مبنى إداري الى مركز تجاري، تكسير جدران وتركيب سلالم كهربائية. شيء كان فوق طاقة الجهاز العصبي على التحمّل. كانوا يلقون بألواح الخشب وبأحمال ثقيلة أخرى مثل أكياس الرديم، من الطابق العاشر الى الطابق الأرضي، الساعة 3 صباحا. لم تنصفنا أبدا نقطة شرطة الجزيرة، الذين قالوا لنا مرارا وتكرارا كلما ذهبنا للشكوى ولعمل محاضر إزعاج، إن المالك أمير سعودي، ولا فائدة من شكواكم فلن يستجيب لكم أحد.

كانت ريتا قد بدأت تستعمل اسم القاهرة مضافا اليه دائما كلمة جحيم، أي تقول مثلا (سأغادر جحيم القاهرة l enfer du Caire يوم كذا)، و(سأعود الى جحيم القاهرة يوم كذا). كانت أحيانا تخرج الى شرفة حجرة النوم، الساعة الثالثة صباحا، وهي الشرفة التي لا يستطيع العاملون أن يروها، أو أن يروا الواقفين فيها، فتصرخ بصوت مرتفع (عايزين ننااااااااااااااااااااااااااام) وكنت أسمع بعد ذلك تعليقات وقحة وضحكات بصوت مرتفع. كنت أنتقم منهم أحيانا، بشراء أشولة مليئة بالبطاطس النيّة، التي أقذفهم بها كيفما اتفق، لعلها تصيب بعضهم في وجوههم، وكنت أنجح أحيانا في إصابة أحدهم فأسمعه يشتم ويبرطم.

إن الاحتكاك الفردي بين البشر، لا يحدث الا في الدول المتخلّفة، بسبب عدم قيام السلطات المعنية بتطبيق القانون، وبحماية الأفراد من سطوة المؤسّسات، أو في مواجهة أفراد آخرين أقوى منهم، وبالتالي يضطّر الأفراد الى الدفاع عن حقوقهم المشروعة بأذرعتهم، ويضطرون الى التشابك بالأيدي. والآن بعد مرور حوالي ربع قرن من ذلك الوقت، أقول إن اعتقاد ضابط مصري أن أمير سعودي هو شخص فوق القانون، هو الدلالة رقم واحد على أننا نعيش في بلد متخلف. ملعون أبوك أيها الضابط. ملعون أبوك أيها الأمير.

في أي مدينة فرنسية، أو أوروبية، مهما كانت أهميّة العمل، أو أهمية القائمين به، تتوقّف كل الأجهزة والآلات عن الدق والحركة، من 6 مساء الى 8 من صباح اليوم التالي، ذلك لأن حقّ الانسان في النوم، هو أحد الحقوق الأساسية لأي انسان، مهما كان قليل القيمة في نظر الآخرين.

الآن تحوّلت اليمامة سنتر الى خرابة، بعد أن كانت مركزا للجذب التجاري، لمدة قد تصل الى عشر سنوات، انسحب من تحت أقدام أصحابها البساط، بعد ظهور مراكز تجارية أخرى مثل أركيديا وسيتي ستار، أو كايرو سيتي فيستيفل، ولم يعد فيها الا بضعة محلات بالطابق الأرضي فقط لاغير، وباقي الطوابق العشرة خراب يباب ينعق فيه البومة والغراب. عفوا لهذا الاستطراد الذي لابدّ منه حتى أشفي غليلي، فقد تولّد لدي يقين أن اليمامة سنتر، هي من بين أسباب مرض زوجتي، وفشل حياتنا الزوجية. كنت كذلك قد أغلقت باب حجرتي عليّ من الداخل، وذلك لمنع القطّة سي بسي من مضايقتي. عرفت فيما بعد أنها وهي عند الجارة شيرين، دخلت أولا لتنام، الا أنها بعد ذلك تسرّبت من الشقة في الساعة الثالثة من صباح الاثنين، لتأخذ سيارة أجرة الى آخر شارع الهرم. (طلب السائق ثلاثين جنيها فأعطيته ثلاثة وثلاثين لأني كما تعرفون أحب الرقم 33).

الثالثة صباح الاثنين 28 مارس: ذهبت الى بانسيون (تري أوف لايف/ شجرة الحياة) الذي يملكه جودة، في منطقة نزلة السمّان، حيث تأملت منظر انعكاس ضوء القمر على الأهرامات الثلاثة للحظات، من سطح البانسيون الذي يتكوّن من طابقين اثنين، ويقع إلى يسار مدخل ساحة الصوت والضوء بنزلة السمّان، ثم نزلت لتحاول أن تنام فى إحدى الغرف، إلاّ إنّها لم تنم، وإنّما عادت إلى الخروج من البانسيون لتسير فى اتّجاه الأهرامات، وكانت الساعة حوالى الرابعة صباحاً.

الرابعة صباحا: ذهبت ريتا مشياً عبر الصحراء، إلى الهرم الثالث، ثم دخلته مع شخص، قد يكون هو أحد الغفر القائمين بالحراسة الليلية للمنطقة، حاول مداعبة ثدييها، فصفعته على وجهه. دخلت بعد ذلك أحد الأهرامات الصغيرة خلف الهرم الثالث. (شعرت داخله كأنّي قد عدتُّ إلى رحم أمّي). كان الجو بارداً في الصحراء خارج الهرم، فهذا هو شهر مارس في الصحراء المصرية، أمّا بطن الهرم فكان دافئاً هادئاً مظلماً.

ركِبَتْ بعد ذلك حصاناً ذهبت به إلى قلب الصحراء فى اتّجاه أهرامات سقّارة. يبدو أنه كان قد انضم اليهما شخصان آخران، (أرادوا أن نخلع ملابسنا ونركب تلك الأحصنة عراة)، إلا إنّها بقيت كما تقول ترتدى (جلاّبيّة على اللحم). وهذا معناه أنها قد خلعت ملابسها لترتدي الجلباب.

السابعة صباحا: كانوا قد بقوا فى منطقة سقّارة حتى شروق شمس يوم الاثنين، ثم عادوا بالخيل فى اتّجاه منطقة أهرامات الجيزة، وكانت تحتفظ طوال تلك المدة بحقيبة يدها حول أحد كتفيها. هل كان أولئك الرجال قد حاولوا اغتصابها؟ كانت ريتا في ذلك العام في عامها الثالث والثلاثين، بقوام رشيق ووجه جميل وشعر أشقر وعينين زرقاوين. هل سرقوها؟ فهي عندما غادرت منطقة الهرم في تاكسي، لم تكن تحمل معها حقيبة يدها. من الممكن جدا أن هؤلاء الغفر القائمين بحماية المنطقة، عندما وجدوا سيّدة أجنبية تائهة ضائعة وحدها في تلك الساعة، ولم يتمكنوا من اغتصابها، قرروا أن ينتقموا منها بسرقة حقيبتها.

التاسعة صباحا: ذهبت ريتا إلى محل جواهرجي فى شارع الهرم، كانت تتعامل معه بصفتها قائدة مجموعات سياحية (تور ليدر)، وتأتي اليه ببعض الزبائن من السياح ليشتروا منه، وقد شعر مدير المحل (وهو مرشد سياحي سابق) بأنها غير طبيعيّة، وكان كل من بالمحل يعرفها جيّداً، فطلب لها المدير سيّارة تاكسى لتعود بها الى المنزل، ولكنها ذهبت بها إلى فندق المنيل بالاس. (أنا لم أشعر أنّها غير طبيعية، كل ما فى الموضوع أنّها كانت قد مارست بعض تمارين اليوجا، جالسةً على أرضيّة المحل، ويبدو أنها كانت سعيدة جداً)، ذكرت له ريتا موضوع رغبتها في الطلاق مني، وادّعى أن هذا هو السبب الذى يبرّر به عدم اتصاله بي، لأنه توقّع أن نكون أنا وريتا على خلاف.

قد يكون صادقا فيما يتعلق بالسبب الذي منعه من الاتصال بي، ولكنّه كاذب فيما يتعلق بحالة ريتا، فإن منظرها وهى تمارس اليوجا جالسة على أرضيّة المحل، كان بالتأكيد قد أثار سخرية أو دهشة موظّفي المحل وزبائنه، ولكنّه رغم الصداقة التى كانت تربطه بنا لم يتدخّل، وفضّل أن يتخلّص منها.

العاشرة صباحا: ذهبت بالتاكسي إلى فندق نادي البحر المتوسط Club Med بقصر محمد علي بالمنيل، ولم يمنعها أحد من الدخول، حيث اتّجهت مباشرة إلى الحجرة التى كان يقطنها مديرها السابق (لوران)، عندما عملت في شركة نادي البحر المتوسط، قبل عشر سنوات، وطرقت على الباب بشدّة تريد الدخول بحجّة ضرورة عودتها إلى العمل فى النادى، لأنها الآن مطلقّة وتحتاج إلى الحجرة، وفاتها أن (لوران) الذى تتحدّث عنه كان مديراً للنادي قبل عشر سنوات. اختلال تام لمقاييس الزمان والمكان. سكيزوفرينيا.

الحجرة كانت تشغلها عائلة فرنسية، خرج منها رجل يعنّف ريتا ويوبّخها، ممّا تسبّب فى حالة من القلق فى الفندق بشكل عام، وانتهى الموقف بالرجل إلى أن طلب من الأمن اقتياد هذه المجنونة الى خارج الفندق. حتى الرجل الفرنسي المثقف المتحضّر لم يدرك خطورة حالتها. قالت (كانوا فى منتهى السخافة، ثم كيف أنّهم لم يدركوا أنّي أقيم فى هذا الفندق منذ سنوات طويلة). تعجّبتُ أن أحداً لم يدرك أنها مريضة، وأنها تعانىٌ من غياب ذهن تام، ومن عدم إدراك تام للزمان والمكان، لو كان أي شخص قد سألها فقط (احنا في سنة كام) لأدرك هذه الحقائق. ولكن الناس في كل بلاد الدنيا تسير على مبدأ (ابعد عن الشر وغنّي له)، والمثل في الأصل هو (وقنّي له) أي اصنع له قناة ليتسرب منها ويبعد عنك.

بدلاً من إقتيادها إلى خارج الفندق، تركوها تجلس فى حديقة حمّام السباحة حتى غروب الشمس، لم تكن قادرةعلى دفع ثمن وجبة غذاء، لأنها كانت قد فقدت حقيبتها. تقول (كنت أشعر بالجوع وأنظر الى الطعام على الموائد حولي، والحمدلله جاءت مجموعة سياحية كنت أعرف مرشدها، تركني أجلس الى مائدته، وذهبت معه مرة واحدة الى البوفيه المفتوح ولم يقل أحد من الفندق شيئا، مجاملة للمرشد). يبدو أنها أحيانا، كانت تمر ببعض لحظات وضوح الرؤية، والا كيف تعرفت على المرشد؟

تعتقد ريتا أن حقيبتها قد سرقت منها فى حديقة قصر المنيل، وأنا أعتقد أنهم غفر منطقة خفرع. الغريب أنها في أزمات لاحقة بعد سنتين وثلاث سنوات وعشر سنوات، كانت تعود الى حديقة فندق المنيل بالاس للبحث عن حقيبتها المفقودة، ليس من أجل النقود التي كانت فيها، ولا من أجل أي شيء عدا الرغبة في استرداد بطاقتها الشخصية المصرية، التي كانت داخل الحقيبة، البطاقة الشخصية الورقية القديمة، التي كانت تحبّها جدا وتعتزّ بها. كأن كل أزماتها اللاحقة تعيدها الى نفس الاحساس بالضياع التام، الذي شعرت به خلال تلك الأزمة الأولى.

السابعة مساءً: ظلت حوالي عشر ساعات في حديقة قصر المنيل، دون أن يلفت هذا انتباه أي شخص، لا مصري ولا فرنسي. ثم اضطرّت إلى أن تطلب من قائد إحدى السيارات الخاصة، أن ينقلها معه إلى هيلتون رمسيس، ويبدو أن قائد السيارة لم يكن مهذّباً معها، فقد تطاول عليها باليد، مم اضطرّها إلى أن تصفعه على وجهه.

وصلت إلى هيلتون رمسيس وصعدت إلى الطابق السادس والثلاثين، وهو آخر طوابق الفندق حيث يوجد ملهى ليلي، كنا قد سهرنا فيه ذات مرة، احتفالا بعيد زواجنا الأول، وكان موظّفو المكان يعدّونه لاستقبال زبائن الليلة. دخلت إليهم وبدأت تتحدّث معهم بالعربيّة والإنجليزيّة والفرنسية والايطالية والألمانية، وذكرت شيئاً عن رغبتها فى أن تحجز مائدة فى أفضل مكان بالملهى، وعندما سألوها عن إسم ذلك الشخص الذى ستحجز المائدة له، ذكرت إسم طبيبها النفسى، وهو من الأطبّاء المعروفين، وحيث إنّها سيدة فرنسيّة، فقد استجابوا لطلبها.

إلاّ إن تصرفاتها اللاحقة جعلتهم يشكّون فى أمرها، إذ بدأت تمارس اليوجا فى منتصف قاعة الرقص بالملهى، أولا بوضع الوقوف على الكتفين، ثم ثانيا بوضع الوقوف على الرأس، ممّا لفت انتباه الجميع، إلاّ أنّ ما أشاع جوّاً من الفوضى فى المكان هو أنها بعد ذلك مباشرة بدأت فى الرقص على الطريقة الهندية، كأنها كانت تنصت الى موسيقى تدور فقط في خيالها، تدندن بها بينها وبين نفسها. ثم إنّ اثنين من الهنود كانا يمرّان بالمكان، وانتبها إلى طريقتها فى الرقص، وحاولا أن يتحدّثا اليها، فصفعت أحدهما على وجهه. إنتهى هذا الموقف بأن قادها الأمن إلى خارج الفندق بالقوّة.

التاسعة مساءً: ها هي تقف وحدها خارج هيلتون رمسيس. لا تعرف إلى أين تذهب، وتشعر بالضياع والمهانة. جائعة مرهقة. تظل تلك الفترة من الليلة بين التاسعة مساءً والرابعة صباحاً غامضة تماماً، بل أكثر فترات تلك المأساة غموضاً، فنحن لم نعرف على الإطلاق ما الّذى قد حدث لها خلال تلك الساعات السبع، بين مغادرة الفندق والسقوط من الطابق الرابع.

هل ظلت تمشي على الكورنيش فى المسافة بين هيلتون رمسيس وبولاق أبو العلا ذهاباً وإيابا عشرات المرّات؟ هل كادت ساقاها أن تقوداها إلى الزمالك؟ هل كانت تفكّر بعقلها الباطن فى العودة إلى المنزل الّذى كنت أنتظرها فيه، والّذى يقع على بعد كيلومتر واحد؟ كيف انحرفت يميناً فى طريق شارع 26 يولية جهة بولاق أبو العلا، بدلاً من أن تنحرف يساراً فى نفس الشارع جهة الزمالك؟

من المؤكد أن المشاة على الكورنيش كانوا قد تبادلوا معها بعض جمل الحوار القصيرة بالعامية المصرية، الا أنه في مثل تلك الحالات يخاف المصريون من التدخّل، لأنها أجنبية شقراء مما يجعل مسألة الاقتراب منها محفوفة بالمخاطر. لست متأكّداً على الاطلاق من درجة وعيها بما كان يدور حولها، فمن الجائز جداً أنها كانت فى عالم خيالي هلامي، ليس به الاّ النجوم والأضواء والألوان، وبعض الأصوات المبهمة، والخيالات غير المحدّدة، وذلك بالقياس الى حالتها في أزمات لاحقة عشتها معها لحظة بلحظة.

الرابعة صباح الثلاثاء 29 نوفمبر: استطاعت أن تحصل على سيارة تاكسي طلبت من قائدها الذهاب إلى المطار، (أنا رايحة أستقبل ميتران رئيس فرنسا). كان الاحساس بالضياع هو الذي جعلها تلجأ الى، حيلة البحث عن شخص قادر على حمايتها، رئيس جمهوريتها الفرنسية، وكان من الأدعى أن تذكر اسم جاك شيراك الذي كان على معرفة بوالدها. إلا أنه في ذلك الوقت لم يكن رئيسا لفرنسا بل عمدة لباريس.

يبدو أن المفاوضات حول الثمن شغلت المسافة من أمام فندق هيلتون رمسيس، حتّى أمام سينما (علي بابا) بشارع فؤاد، ويبدو أن سائق التاكسي قد طلب منها مغادرة سيّارته، عندما أدرك أنها لم تكن تحمل معها أيّة نقود. تقول إنّها غادرت التاكسي بإرادتها، طلبت منه التوقّف أمام رقم 83 بشارع فؤاد، وأضافت (هذا هو رقم المنزل الذى كنت أعيش فيه فى مدينة كان الفرنسيّة عندما كنت طفلة).

هذا هو ما تعوّدت عليه ريتا، أن تحكي نفس الحكاية ولكن في كل مرة بتفسير مختلف، فقالت لضابط الشرطة أثناء التحقيق، بعد حادثة الوقوع من الطابق الرابع: (هذا هو المنزل الذي كنت أسكنه في القاهرة قبل مئتي عام، على زمن حملة نابوليون بونابارت، عندما كنت متزوّجة من تاجر قبطي غني قتلني بطعنة سكّين). ثم (أنا كائن فضائي) المعتادة، تتبعها بالعامية (انتوا مين؟) كأنه توقيعها على أقوالها.

غالبا ستكون قد طلبت من السائق أن يتوقّف ثم بحثت عن هذا الرقم؟ ولكن كيف لها أن تبحث عنه وهو غير موجود على واجهة المنزل الذى دخلت فيه؟ فإنّ المنازل تحمل الأرقام حتى 79، ثم تنقطع الأرقام وتبدأ من جديد برقم 85!! أقول لكم إنه يمكنكم الذهاب الى هناك للتأكد بأنفسكم، فأنا لا أكذب عليكم. على الأقل كان هذا هو الحال في مارس 1994.

نُقِلت ريتا إلى مستشفى بولاق أبو العلا في الرابعة والنصف من صباح الثلاثاء، إذ تطوّع أحد روّاد المقهى، بنقلها محطّمة العظام في سيارته الى المستشفى، وتمّ عمل محضر بقسم شرطة بولاق أبو العلا، لكل من شاهدها وسمعها ونقلها إلى المستشفى.

سافرت مع ريتا الى باريس، وعدت الى القاهرة بعد أربعة أشهر، حين حاولت العثور على هذا المحضر، في قسم بولاق أبو العلا، لكنهم قالوا لي إنه في سفارة فرنسا حتى الآن يدرسونه. من جديد عدت الى باريس أثناء محاولاتها الأولى في المشي، وبقيت معها بضعة أشهر. بعد الحادثة بسنة حاولت العثور من جديد على هذا المحضر الا إنهم قالوا لي إنه تمّ تكهينه، واستعملت أوراقه دشت. من الجائز أن سفارة فرنسا قد احتفظت به.

يوم الحادثة، لم تكن تحمل معها لا باسبورها الفرنسى، ولا باسبورها المصرى الذى لم تكن قد حصلت عليه الا قبل بضعة أشهر، وذلك لأنها كانت قد تركت هذين الباسبورين في الشقة قبل مغادرتها إياها، فهي عند مغادرة شقتنا بالزمالك لآخر مرة، لم تكن تحمل معها الا بطاقتها الشخصية، الصادرة من قسم شرطة قصر النيل، بتاريخ يونيو 1993، بنهاية مدّة السنتين اللازمة لسيّدة أجنبية، للحصول على جواز سفر مصري، بعد الحصول على شهادة الجنسية المصرية من مبنى المجمّع.

أما أنا فيوم الاثنين 28 نوفمبر بالنسبة لي كان هو يوم محاولة معرفة الحقيقة. الساعة الثالثة صباح الاثنين جاءت الجارة الصديقة نيفين لتطرق بابي، الا أنني كنت مستغرقا في النوم فلم أسمعها.

الساعة الثامنة صباحا، أيقظني تلفون من الجارة التي قالت: (تركت ريتا شقّتي 3 صباحا، وقبل مغادرتها كنت قد سمعتها تتصل بجودة في التلفون)

الساعة التاسعة صباحا، ذهبت بسيارتي إلى جودة، الجالس في مدخل بانسيونه، ولكنه لم يكن يعرف أي شيء، قال إنه دخل لينام 12 مساء، وأنها قد تكون جاءت 3 ونصف صباحا، لكن أحدا لم يبلغه. ذهبت الى نقطة شرطة الهرم، فقيل لى إنّه لم يحدث أى شئ في تقارير النقطة عن تلك الليلة.

الساعة 10 صباحا ذهبت الى سفارة فرنسا أمام حديقة الحيوان، فطلبوا مني الذهاب الى القنصلية في وسط البلد.

الساعة 11 صباحا، ذهبت الى قنصلية فرنسا في شارع طلعت حرب، حيث قابلت سكرتيرة قنصل فرنسا. في البداية كانت سخيفة، ووجدت لديها ميلا الى توبيخي، كأني أنا المسؤول عن هذا المرض، وهذه الأزمة، أو كأني ناقص همّ، أو كأنها انتهزت الفرصة لتأنيب أحد أفراد هذا الشعب المتخلف! ثم طلَبَت من مساعدها الدوسيه الخاص بريتا.

اكتشفتُ أنها تعرف موضوع ذهاب ريتا إلى الهند وعودتها منها، وأن بعض تفاصيل تلك المسألة مسجلٌ فى الدوسيه الّذى تمسكه بيدها. قالت (السلطات المصريّة هى التى تتكفّل فى الحالات المماثلة بالبحث عن المفقود).

لماذا إذن كان التأنيب والتوبيخ والتقريع والذي منه؟ ولماذا كان بحثها في الدفاتر؟ حتى الفرنسيون يا ربي يبحثون عن المنظرة الفارغة! كلّفتنى بأن أبدأ البحث عنها فى المستشفيات وفى أقسام الشرطة.

الساعة 12 ظهرا اتّصلتُ بطبيبها المعالج الدكتور ياسر، فنصحنى بالسؤال عنها فى مستشفى الأمراض العقليّة بالعباسيّة، قائلا (إنه في حالة إثارة أي مريض عقلي لأي بلبلة في الشوارع، تقوده الشرطة الى هذا المستشفى، لعمل تقييم طبي لحالته العقلية)

الساعة الواحدة ظهرا أخذت سيارتى وذهبت إلى مستشفى الأمراض العقلية بالعبّاسية، حيث قابلت مدير المستشفى، وكنت ممسكاً بصورة فوتوغرافية لها أعرضها عليه، وهي نفس الصورة التي كانت في باسبورها المصري الذي كنت ممسكا به في يدي، فما كان منه إلا أن ابتسم ابتسامة صفراء، وبنظرة لؤم وتشفّي سخيفة على وجهه، قال لي (يا خسارة، حلوة وصُغَيَّرة).

كان اسم هذا الشخص هو (الدكتور القط)، أو (الدكتور الفار) لم أعد أتذكر جيدا. كيف لهذا الطبيب أن يقول هذا الكلام؟ هل هذا كلام أطباء؟ ولماذا بدا سعيدا بالمأساة التي تحدث لي!! عند مغادرتي مكتبه جلست ساعة في حديقة المستشفى، ثم ارتميت على الحشائش وأنا أبكي، ومن جديد أتساءل، كيف يقول لي هذا المجنون (يا خسارة، حلوة وصغيرة) هل يقصد تعذيبي؟ إن لم يكن هذا هو قصده فماذا يقصد إذن؟ ما هذا الانعدام التام للذوق والاحساس من طرف شخص مفترض فيه أن يشعر بالمأساة؟ شخص المفترض فيه المهنية؟

يا جماعة هذا بلاغ مني بذلك، لو أن هذا الطبيب (القط أو الفار) ما زال على قيد الحياة، أطلب محاكمته، وإن كنت أعتقد أنه لابدّ قد مات شرّ ميتة، فلقد مرّت على تلك الأحداث خمسة وعشرون عاما، وكان هو وقتها في حوالي الستين من عمره.

الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الاثنين 28 نوفمبر، مررت على نقطة شرطة الجزيرة، وقال الضابط أنه سيقبل مني الابلاغ عن غياب زوجتي، رغم أن القانون يحتّم الغياب لأكثر من 24 ساعة قبل الابلاغ. (سنكتب أنها غائبة منذ بعد ظهر أمس).

عدت الى شقّتي في شارع أحمد حشمت وقد فقدت أعصابي تماما وبدأت في البكاء بصوت مرتفع. لمدة عشر ساعات اتصلت بأكثر من مئة شخص، ممن وجدت أرقام تلفوناتهم في أجندة ريتا. ولم أصل الى أي شيء. أخرجت كل النسخ الموجودة عندي من الانجيل والقرآن، بالعربية والفرنسية والانجليزية، ووضعتها أمامي على رفّ موجود في الصالة، وأشعلت بعض الشموع، ووضعتها على الرفّ كما اعتادت هي على أن تفعل، واستأنفت البكاء. اتصل بي بعض الأصدقاء لمحاولة معرفة الأخبار. نمت في مكاني على الكنبة بملابسي.

صباح الثاثاء 29 نوفمبر وهو يوم الصدمة، قمت بعمل نفس الدورة التي قمت بها أمس، أولا بالسيّارة الى نقطة الهرم، ثم ثانيا الى قنصلية فرنسا في وسط البلد، ثم ثالثا الى مستشفى الأمراض العقلية في العبّاسية.

الساعة الرابعة ظهر الثلاثاء، جاءتني مكالمة هاتفية من نقطة شرطة الجزيرة على المنزل، اثنتي عشرة ساعة بعد الحادثة، التي وقعت في الرابعة من صباح نفس اليوم (لقد وجدنا زوجتك، إنها فى قسم شرطة بولاق أبو العلا). لم يقل لى إنّها فى مستشفى بولاق، مما جعلنى أعتقد أنها قد أخطأت فى تصرّفاتها كما سبق أن فعلت فى الهند، إما بالرقص أو بالتعرّي فى الشارع، وأن الناس قد اقتادوها إلى القسم.

عندما وصلت إلى قسم بولاق أبو العلا، استقبلنى المأمور وأمسك بذراعى ليبلغنى، أن زوجتي مصابة بكسور مضاعفة فى ساقيها الاثنين، وأنّها فى العناية المركّزة بمستشفى بولاق أبو العلا، وهو على بعد خطوات من القسم. لم أكن قد أدركت بعد خطورة الحالة، لمحت فقط فى المحضر الذى كان المأمور ممسكاً به فى يده، كلمات مثل (جروح قطعية فى الوجه) و(كسور مضاعفة فى الساقين).

اقتادنى نقيب شرطة إلى المستشفى، حيث فوجئت تماماً بمنظرها. كان نصفها الأسفل بالكامل داخل جبيرة واحدة، من الوسط إلى الساقين، كما أن وجهها كان مغطّى تماماً بالضمادات، وعدا ذلك فإن الذراعين كانا يتحرّكان فى الهواء في كل اتّجاه حركات هستيريّة، كأنها كانت تطرد عن نفسها أو عن سريرها، أرواحا شريرة لا يراها أحدٌ سواها. لم تعرفني الا بعد أن اقتربت منها، فهي قد فقدت نظارتها الطبية، التي بدونها لا تستطيع تمييز الوجوه بسهولة.

قال المستشار القانوني لقنصليّة فرنسا (وهو محام مصري)، إنه كان أوّل شخص يراها وأن هذا كان حوالي الساعة 12 ظهرا، وعلى الفور أدرك فداحة الحالة. (بفضل تدخّلي، وتهديدي للأطباء بتدخّل سفير فرنسا شخصياً، تم وضع الجبيرة حول ساقيها، وتوصيل المحاليل إلى أوردة ذراعيها، لأنها قبل ذلك كانت ملقاة على الأرض من الخامسة صباحا الى الثانية عشرة ظهرا، فى عنبر به العديد من المرضى، ولم يكن أحد قد اقترب منها على الإطلاق).

لم أتشكّك لحظة واحدة في كلامه. تساءلت كثيرا عن الذي يمكن أن يحدث من مجازر، للمرضى الفقراء في المستشفيات الحكومية، (للمرضى الغلابة ربنا الذي خلقنا جميعا، وللقتلة الجحيم باذن الله). تأكدت فيما بعد أن هذا الكلام صحيح، فهي لمدة سبع ساعات، لم تأخذ أيّة محاليل، ولا أيّة سوائل بالفم، مما أدّى إلى دخولها فى حالة جفاف، تركوها فقط ملقاة على مرتبة مفروشة فوق أرضية عنبر عظام النساء، سبع ساعات دون أن يتدخّل أي طبيب، كانوا فقط ينظرون اليها كلّما مرّوا أمامها!!

فأنت لو كنت في مستشفى حكومي مصري، دون أوراق شخصية، ودون أموال في جيوبك، ودون أقرباء يدافعون عنك، ويطالبون لك بالحدّ الأدنى من الاهتمام، فلن يلتفت اليك أحد، وستعامل معاملة كلاب السكك. حتى يا حلو لو كان شعرك أصفر وعينيك زرقا. فقط عندما عرف الأطباء بتدخّل سفارة فرنسا، خافوا.

أُعطِيَت جرعات مكثّفة من الليثيوم (مضاد للهذيان)، وكذلك من الأمبسلين والجاراميسين (مضادات حيوية)، كانت تلك الجرعات الضخمة المفاجئة، فوق طاقة الكليتين على العمل، خاصة بسبب حالة الجفاف، ممّا أدى إلى توقف الكليتين عن العمل، وإلى دخولها في مرحلة فشل كلوي ستستمر معها أسبوعا كاملا.

فيما بعد كان أخصائي كلى قد قال لي (إن هذه الجرعات بهذه التركيبة تحرق خلايا الكلية، ولم يفعل هذا الا شخص جاهل لا علاقة له بالطب). ستظل ريتا في حجرة الغسيل الكلوى لمدة أسبوع كامل، لم يتمكن خلاله جراحو العظام من إجراء أى تدخّل جراحي، بسبب أن الجسم لا يتحمّل التدخّل الجراحي، دون أن تكون الكليتان تعملان وفى حالة جيّدة.

بقيت مع ريتا في إنعاش بولاق أبو العلا عشر دقائق، ثم طلب مني النقيب الذي اصطحبني الى هناك، الذهاب معه الى شارع الجلاء، للعرض أمام النيابة، استفسرت منه عن السبب. قال (أنت لاتعرف أنك المتهم الأول؟)، قلت (كيف؟)، قال (أنت زوج مصري لسيدة فرنسية غنية أكبر منك سنا)، قلت (أنا أكبر منها بسبع سنوات)، قال (طبيب المستشفى قدّر أن سنها هو خمسون عاما وأنت عمرك أربعون عاما فقط)، قلت (باسبورها الفرنسي معي، ويقول إنها من مواليد 1960 أي إنها لم تتم الثالثة والثلاثين الا منذ شهورقليلة)، قال (قل هذا الكلام في النيابة). كان طبيب أبو العلا قد قدّر لها هذا السن، بسبب تحوّل شعرها بين يوم وليلة الى اللون الرمادي الأبيض، وهو ما لم أكن قد لاحظته عندما كنت معها بسبب إختفاء شعرها تحت الضمادات.

ظللتُ في نيابة شارع الجلاء ست ساعات، أعادوا خلالها سؤالي نفس الأسئلة أمام وكلاء نيابة مختلفين. ثم حضر طبيبها النفسي للشهادة بأن المريضة تعاني من ميول انتحارية، فتم إخلاء سبيلي.

نقلت ريتا حوالي الثانية من صباح يوم الأربعاء، بسيّارة اسعاف من مستشفى بولاق أبو العلا العام، الى مستشفى خاص في المعادي، حيث أدخلت فورا من جديد الى الرعاية المركزة، بالإضافة الى الغسيل الكلوي المستمر transperitoneal عبر الغشاء البريتوني وجدار البطن. أجريت لها فحوصات مختلفة كان من بينها أشعة مقطعية على المخ، لأن جراح المخ بالمستشفى شكّ في وجود شرخ في قاع الجمجمة، بسبب تسرّب قطرات من سائل النخاع الشوكي، عبر فتحة الأنف.

الحمدلله كانت الجمجمة سليمة. وكان الحوض سليما، وكان القفص الصدري سليما، وهو ما حفظ كل الأجهزة الحيوية سليمة، ليس فقط المخ بل كذلك القلب والمعدة والأمعاء والمثانة. كانت كل الكسور فقط في الطرفين السفليين. (معجزة بكل المقاييس، السقوط من هذا الارتفاع الشاهق، والبقاء بحوض سليم) هكذا قال أخصائي الأشعة. أنقذها جسمها الرياضي المرن المدرّب، إذ امتص بعضلاته ومفاصله صدمة الوقوع، وقلّل الى الحد الأدنى النتائج الخطيرة التي كانت يمكن أن تحدث.

أراد جراحو العظام الأساتذة في كلية طب قصر العيني، بعد أربعة أيّام من الحادثة، بترَ الساق اليمنى أسفل الركبة، بحجّة أنه بعد مرور كل هذا الوقت، فإن استجابة الأنسجة لإعادة البناء ستكون محدودة، وإنّهم لو كانوا قد تمكّنوا من التدخّل جراحياً خلال الأيّام الأولى، لأمكن إنقاذ الساقين.

لكن لحسن حظّ ريتا أنها فرنسية، وأن أهلها تمكّنوا من دفع ثمن طائرة خاصة تابعة لشركة الإنقاذ الأوروبي (يوروب أسّسيتناس) Europe Assistance، وهو مبلغ مئة وخمسون ألفا من الفرنكات الفرنسية، وتمّ نقلها بالطائرة من القاهرة إلى باريس، فى اليوم الثامن بعد الحادثة، أي صباح الثلاثاء التالي، وكانت الطائرة صغيرة جدا لا تحمل أكثر من المصاب المراد نقله، بالإضافة الى الطبيب والممرّض والطيّار ومساعده، لذلك لم أتمكن من السفر معهم، ولحقت بها بعد يومين على إحدى طائرات مصر للطيران.

 

باريس

(1)

وصلت ريتا الى مطار رواسي في باريس، وبسيارة اسعاف الى مستشفى بيشا في الحيّ الثامن عشر بباريس، الواقع بالقرب من الطريق الدائري، حيث كان ينتظرها منذ الساعة السادسة صباحا، فريقان جراحيّان طبّيان. أُجريت لها عدة جراحات متتالية خلال اليوم الأول من وصولها. كان الفريقان الجراحيان يعملان معا في نفس الوقت، على كسور ساقيها، أحدهما على الساق اليمنى والآخر على الساق اليسرى، في صراع مع الزمن، وحيث إن حالة الساق اليمنى كانت الأخطر، بكسورها المضاعفة المتعدّدة، وتهتّك في العظام والأنسجة، فقد استمرت العمليات فيها ست عشرة ساعة متواصلة، وتمّ تغيير فريق هذه الساق اليمنى أكثر من مرة.

بذلك فقط تمكنت ريتا من الاحتفاظ بساقيها دون بتر، لأن البشر في فرنسا لهم قيمة أكبر بكثير من البشر في مصر، وقيمة الساق اليمنى في فرنسا كانت أكبر بكثير من قيمتها في مصر. لكنها أقامت فى باريس عاما ونصف العام، بين مستشفى باريس ومركز إعادة التأهيل في ضواحي باريس.

أنا في القاهرة عندما علمت بالحادثة، لم أكن أنوي الاتصال بأهلها لابلاغهم، لأنني كنت أريد أن أعتمد فقط على نفسي كزوج مسؤول، وعلى الامكانيات الجراحية المتاحة في القاهرة، حتى اللحظة التي قال فيها الجرّاح المصري ببساطة شديدة، إنه ينوي بتر الساق اليمنى، فقط عند هذه اللحظة اتصلت بأهلها.

في الأيام الأولى في (بيشا) كانت ريتا في قسم الرعاية المركزة بالطابق الأرضي. وقد وصلت أنا في ثالث يوم بعد العملية الجراحية. أتذكّر أول مرة رأيتها هناك كيف صدمني منظر الأجهزة الحديديّة المثبّتة بالعظام، والموجودة خارج الجسم إلى جوار الفخذ. كانت قد رُفِعَت عنها قسطرة البول، وعندما أرادت أن تتبول، جاء الممرض لينقل اليها المبولة، وليساعدها على أن تميل بجسمها كله إلى أحد الجانبين، فرأيت كيف أن فخذها كلّه تسلّخ. بعد مرور أسبوع على العملية نقلت الى الطابق العاشر من المستشفى الباريسي، المخصص لجراحات العظام.

الا ان المشكلة الغريبة التى ظهرت هى أنه حتى فى باريس، كان التنسيق بين الأقسام المختلفة للمستشفى مفتقدا، فقد فوجئت منذ اليوم الأول فى الطابق العاشر، بأن أطباء قسم العظام يعالجون فقط جروح العظام، ويتجاهلون تماما الحالة النفسية والعقلية للمريضة، رغم وجود قسم للأمراض العصبية والنفسية داخل نفس المستشفى، لكن في مبنى آخر.

 

(2)

أقمت في شقة أعارني اياها أصدقاء فرنسيون يقيمون في القاهرة. كنت أفضّل أن أذهب الى المستشفى مشيا على الأقدام، وكان المشوار يستغرق حوالي ساعة، من حيث كنت أسكن بالقرب من حدائق (ليه بيت شومان) الى مستشفى بيشا، كنت أستعمل أحد أطول شوارع الشمال الشرقي في باريس، وهو الشارع المسمّى على اسم موقعة حدثت في الحرب العالمية في أوكرانيا، شارع كري مي يا Crimea، وأسرح في مناظر الشوارع الباريسية الهادئة المتفرّعة منه في ذلك الجزء من المدينة، وأتأمل فيما حدث.

بعد ذلك اكتشفت وجود خطين للنقل العام، يصل بي الأول منهما الى شارع ريفولي في مواجهة متحف اللوفر، ومن هناك كنت آخذ خطا ثانيا من بدايته الى نهايته في الميدان الواقع أمام المستشفى. هكذا فقط تمكنت من تحسين حالتي المعنوية، بالذهاب بين الأوتوبيسين، تقريبا كل يوم، لقضاء ساعة أو ساعتين في متحف اللوفر، حيث قمت بعمل اشتراك في جمعية أصدقاء اللوفر، التي تسمح للعضو بدخول المتحف مجّانا. في ذلك العام كانت قيمة الاشتراك هي 200 فرنك، وهو ما يساوي تقريبا ثمن سبع تذاكر يومية، كانت قيمتها في ذلك الوقت 30 فرنكا.

بدأت بأقسام الحضارات القديمة، مصر القديمة والعراق القديم، بابل وآشور، ثم اليونان والرومان حيث كمّية هائلة من التماثيل والنقوش والزخارف الحائطية، ثم فنون الاسلام بين القرنين التاسع والخامس عشر الميلاديين، الخشب والخزف والمعادن والنسيج، ثم فنون التصوير (أي الرسم على التوال/ القماش)، خلال خمسة قرون، منذ القرن الخامس عشر في بداية عصر النهضة، الى التاسع عشر، في كل بلد على حدة، بمعنى أن هناك مثلا فنون التصوير بالزيت على قماش huile sur toile، في هولندا وحدها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، في جناح مستقل إذا وقفت في بدايته لا تستطيع أن ترى نهايته، وهو الذي فيه رمبراندت Rembrandt ومملينج Memling وفرمير Vermeer وبروجلBrueghel .

كنت أقرأ في كل زيارة بضعة صفحات من تلك التي يتيحها المتحف لزوّاره، وهي الصفحات المقوّاة بالبلاستيك، المتروكة في صندوق خاص في كل قاعة، ثم اشتريت مجلّدا ضخما به كلّ هذه الصفحات المقوّاة بالبلاستيك الموجودة في القاعات، ويقع في إجمالي 700 صفحة. اشتريته وتركته في المنزل، حتى أتمكن من استئناف القراءة في المنزل. وهكذا أغرقت أحزاني في تاريخ الفن.

 

(3)

كانت الزيارة في المستشفى ممنوعة فى الفترة الصباحية، ومفتوحة تماما خلال الفترة المسائية، أي من الثالثة بعد الظهر الى الثامنة مساء، فكنت أخرج من الشقّة في الثامنة صباحا، لآخذ الأوتوبيس الى اللوفر، أو إذا لم أكن في مزاج الاستيعاب، أترك نفسي لأمشي ساعات طويلة دون وجهة محدّدة، لكني كنت أقترب بالتدريج من موقع المستشفى.

يقع مستشفى بيشا في منطقة بورت سانت وين، أي باب القدّيس وين، وهو أحد الأبواب التي كانت في الزمن القديم تؤدّي الى كنيسة القدّيس وين، التي كانت تقع في القرون الوسطى خارج أسوار باريس. زالت الأسوار بالتدريج منذ نهايات القرن التاسع عشر، وحلّ محلّها بالتدريج الطريق الدائري منذ منتصف القرن العشرين، لكن ظلت تسمية هذا المكان بالاسم القديم.

أثناء دوراني في شوارع المنطقة، عبرت كوبري المشاة فوق الطريق الدائري، فاكتشفت الى الجهة الأخرى منه وجود سوق للبراغيث. وسوق البراغيت marche aux puces، هي التسمية التي تطلق على أسواق بيع الأشياء المستعملة. يقام هذا السوق في يوميّ السبت والأحد، ويرتاده عدد ضخم جدا من الباريسيين وغيرهم. هناك وجدت كل شيء. أقنعة خشبية أفريقية/ آلات موسيقية شرقية/ تحف من الخزف الصيني/ معاطف ثقيلة روسيّة الصنع. هذه هي مجرّد بعض الأمثلة.

يحيط الطريق الدائري بباريس الصغرى، التي قد لا يتعدّى عدد سكّانها مليونان، الا أن باريس الكبرى التي قد يصل عدد سكانها الى عشرة ملايين، لا يحيط بها أي طريق. المهم في الموضوع هو أنه يمكنك الدخول حتى الآن في القرن الواحد والعشرين، الى داخل باريس الصغرى، باستخدام نفس البوّابات التي كانت موجودة منذ بضعة قرون، وكان زائرو باريس يدخلون منها اليها. هذه البوّابات لا تزال تحمل أسماءها القديمة.

كنت أتسكّع أحيانا فأصعد الكباري التي تعبر فوق الطريق الدائري، لتنقل المشاة بين باريس الصغرى وباريس الكبرى، وأحيانا أقف فوق هذه الكباري لأراقب حركة السيّارات. في مرحلة الوقوف فوق الكباري، لاحظت وجود فتيات وسيّدات يقفن عند الزوايا بين الطريق الدائري والبوّابات. تتوقف السيارات عندهن، فتتبادل الفتيات الحوار لحظات مع قائدي السيّارات، ثم تستأنف السيارة طريقها، إما وحدها أو بعد أن تكون الفتاة أو السيدة قد ركبت في السيّارة الى جوار قائدها.

في الحقيقة اعتقدت لفترة أن الفتيات يسألن قائدي السيّارت أن ينقلوهنّ معهم، عبر جزء من الطريق بطريقة الأوتو ستوب. ثم تساءلت لماذا لا يوجد ذكور بين الواقفات؟ أي هل يقتصر الانتقال على الفتيات؟ ثم بملاحظة نوعية الملابس التي تكشف عن الجزء الأكبر من الجسم، عرفت الحقيقة. قائد السيّارة يشاهد الفتاة من على بعد وهو يقترب مهدّئا من سرعته لدخول باريس من إحدى بوّاباتها، فإذا أعجبته الفتاة أوقف سيّارته أمامها ليسألها عن السعر، وإمكانية التفاوض فيه، ولتسأله هي عن المكان الذي سيستقبلها فيه، فإذا تمّ الاتفاق ركبت الى جواره. لا أحد يتدخّل على الاطلاق. بل في الحقيقة كنت الوحيد الذي التفت انتباهه وتوقّف ليراقب.

 

(4)

كنت أذهب أحيانا الى المستشقى، إمّا لقضاء ساعة أو ساعتين، أو أحيانا كنت أبقى أربع أو خمس ساعات، وفقا لحالة ريتا. فى رابع أو خامس يوم من انتقالها الى الطابق العاشر، ذهبت اليها وكانت حالتها النفسية سيئة جدا، كانت تتكلم بدون توقف، وتقفز من فكرة الى أخرى.

فيما يلي هذا هو المونولوج الأول من مونولوجات ريتا، الواردة في هذه الرواية، وعددها الاجمالي هو ثمانية مونولوجات، ومونولوج هي كلمة تنقسم الى جزئين مونو + لوج أولا مونو وتعني شخص منفرد أو شيء منفرد + لوج مشتقة من الكلمة لوجوس logos وتعني الكلمة مثل مونولوجات اسماعيل ياسين وثريَا حلمي في الثلاثينات والأربعينات، التي كانت تدعو الى الابتسام، وقد تدعو بعض مونولوجات ريتا هي الأخرى الى الابتسام، إذن المونولوج هو أن تتولى هي وحدها عملية الكلام، أن تحتكر هي وحدها الحديث، وأن تكرّر نفس الجملة أحيانا عشر مرّات، قبل أن تنتقل منها الى الجملة التالية لها، بحيث لو حاول شخص آخر أن يتكلّم معها، أو يردّ عليها، فهي إما أنها لا تعبّره على الاطلاق، أي لا تعيره أدنى اهتمام، أو أنها توبّخه وتتطاول عليه.

أقصر هذه المونولوجات يبلغ طوله ربع ساعة، وأطولها يبلغ طوله عشر ساعات، وكنت أحاول أن أسجّل خلفها الأفكار، وفقا لدرجة وعيها، فإمّا أن أظل أمامها ممسكا في يدي بورقة وقلم بحيث أكتب الكلمات المفاتيح، أو أن أقوم وأذهب الى مكتبي، لأسجّل تلك الكلمات المفاتيح، كان هدفي هو محالة معرفة الطريقة، التي كانت تقفز بها من فكرة الى أخرى، بشكل متطاير، في محاولة لفهم ميكانيزمات التفكير وما يحدث في الدماغ، كان هذا هو الحل الوحيد الذي مكّنني من تحمّل هذا الموقف، موقف مرض زوجتي العقلي، بأن أتعامل معه بطريقة عقلية علمية.

المونولوج الأول وعنوانه: أنت لست أمير أحلامي

وينقسم الى عدّة أجزاء

الجزء الأول:

أنت لست أمير أحلامي........عندما كنت أدور فى شوارع القاهرة ليلة الحادثة...... .كنت أبحث عن حبيبي شاندرا.....بقيت كالمجنونة على رصيف الكورنيش أمام الهيلتون أبحث عنه فى وجوه الرجال......بقيت ساعات لا أعرف عددها.... .المشكلة هى أن وجوه المصريين تشبه الى حد كبير وجوه الهنود  ....هل تعتقد أني مسكونة بروح شريرة؟... ...ماذا يقول أهلك عني؟.. .....هل يقولون إني مجنونة؟..... ..هنا يقول الأطباء إنني سأستطيع يوما ما أن أمشي من جديد.

 

الجزء الثاني:

أنا لا أثق بهم رغم أنهم فرنسيون...... إن أحدا لا يلتفت الى كوني أختنق

......... بسبب أجهزة التدفئة تلك الموجودة فى حجرتي..... يقولون تدفئة مركزية ....... وأنا لا أثق بهم رغم أنهم فرنسيّون ....... وأنا أقول لهم إنني لو لم أضع أنفي فى الهواء الطلق ......  خارج هذه الغرفة ..... فإني سأموت مختنقة خلال أيام قليلة ..... أو أمتنع عن الطعام والشراب ...... لتكتب عني الجرائد والمجلات حتى أحصل على حقوقي

 

الجزء الثالث:

زمن الفسح قد انتهى ...... ماذا تفعل هنا ...... اذا كنت حتى لا تستطيع انقاذي من الاختناق؟ ........ جئت من القاهرة تتفسح فى باريس؟ ...... ألا تعرف أن زمن الفسح قد انتهى؟ ...... لماذا تتركني أتكلم وحدي ولاترد علىّ؟ .... هل عاد اليك غباؤك القديم الذي كنت قد نجحت فى تخليصك منه؟ .

 

عودة الى الجزء الأول:

أنت لست أمير أحلامي .... يجب أن أطلب الطلاق وأعود الى الهند .........الى شاندرا ..... لنمارس اليوجا والحب كل يوم ... أنا غنية جدا ..... وأنت لست أمير أحلامي ....... يجب أن أذهب غدا الى القنصلية الفرنسية بالقاهرة لأطلب الطلاق ..... أم أننا قد حصلنا عليه فعلا؟

 

الجزء الرابع:

إحنا فين؟ ... ماهذا القيد المعدني الثقيل الذى يمنعني من الحركة؟ ... وماهذا الفراش البغيض وهذه الوجوه الكالحة؟ .... هل أنا فى مستشفى؟ ...... لماذا أنا هنا؟ ...... يا ناس أنا لم أعد أتذكر أى شىء .... ولكني أتذكر وجهك  .... فأنت دائما الى جواري

 

الجزء الخامس:

أنت ملاك نزل من السماء ....  وجهك دائما مبتسم ومشجّع .... .ماذا قلت لك؟ .... هل أسأت اليك؟ .... هل أخطأت فى حقك؟ .... أنت مستعد دائما للتسامح ...... إنك لم تتخلَّ عنى أبدا ... أنت نهر من الحنان ..... لا بل أنت ملاك نزل من السماء .... المشكلة هى في هذه التدفئة المركزية .... وسأموت الآن مختنقة .... .ألا تفعل شيئا لانقاذ زوجتك حبيبتك؟.

 

(5)

أصبحت حالة ريتا سيئة جدا، الآن هى تعتقد أنها ستموت مختنقة، ليس بسبب التدفئة المركزية ولكن بسبب مرض خطير أصاب رئتيها، وكانت لديها قوة اقناع لدرجة أن ادارة المستشفى قد سمحت لها بعمل أشعة بالموجات فوق الصوتية لصدرها، لم تظهر شيئا. بالمناسبة فإن كل علاجات ريتا، وعملياتها الجراحية، يغطي نظام التأمين الصحي الفرنسي تكاليفها تماما، لكنهم كانوا يترددون أحيانا في الانصياع لطلبات المريض أو أهله قبل استشارة الإدارة.

أمّا فيما يتعلق بضعف التنسيق بين قسم الأمراض النفسية والعقلية من ناحية، وقسم جراحات العظام من ناحية أخرى، فهذا هو ما لمسته بنفسي منذ اليوم الأول، عندما أهملوا تماما الاعتناء بمرضها العقلي، واهتموا فقط بكسور العظام. أما الإهمال فى القسم الذي تقيم فيه ريتا في الطابق العاشر، من طرف أعضاء هيئة التمريض، فهو حقيقة أثبتتها لي ريتا، عندما قالت (خلال النهار بطوله، لم أطلب حوض التبوّل ولا حتى مرة واحدة، وبالتالي أتبول فى فراشي الذى أصبح مبتلا تماما، ولم يلفت ذلك انتباه أحد على الاطلاق، لا من الممرضين ولا من الأطباء، وذلك لأنهم ينظرون فقط الى كسور ساقي). قالت لي هذا في مساء يوم الجمعة.

صباح السبت ذهبت إلى المستشفى مبكراً، حوالي العاشرة صباحاً، وتوجّهت مباشرةً إلى رئيسة تمريض الدور. قلت (أنا زوج المريضة ريتا، سرير رقم 21) قالت (أعرف) قلت (منذ بضعة أيام وهى تشتكي من الاختناق...) قاطعتني (منذ بضعة أيام وهى تشتكي من كل شيء)

قلت (أتعرفين حضرتك أنها مريضة عقليّة؟) لم تردّ!! حتى فى فرنسا فان الممرضّين (يستخسروا فيك الكلام)، أو يجوز لأنّهم لاحظوا أنّنى لست فرنسياً، فأصبحت بالتالي غير جدير بالرد عليّ.

كانت رئيسة التمريض قد تركت حجرة التمريض متّجهة بمجموعة من الدوسيهات الطبيّة إلى العنابر، تبعتها وأنا أقول (ألا ترين أن حالتها تستدعي عرضها على طبيب متخصّص فى الأمراض النفسية؟)، قالت (لست أنا الّتى تحدّد، ثم إننا لانستطيع أن نفعل أىّ شىء لا اليوم ولا غداً، ليس قبل صباح الاثنين، ثم إنّنا نقوم بواجباتنا على خير وجه، ولا نشعر بأي تأنيب

 ضمير، ولسنا فى انتظار شخص يأتينا من بلاد العالم الثالث، أو من آخر الدنيا من بلاد واق الواق، أو من بلاد البرابرة، ليقول لنا ما الذي ينبغي علينا أن نفعله أو ألا نفعله). دخلَت رئيسة التمريض حجرة خاصة بأحد المرضى، وطبعا لم أتمكّن من الدخول خلفها.

 

(6)

صباح اليوم التالي (الأحد) بكت ريتا بمرارة شديدة، أثناء زيارة عمّها وبنات عمّها لها، وعندما همّوا بمغادرة المكان زاد نحيبها بشكل هستيري، ولم يعرف الزوّار ماذا يفعلون، خاصة عندما أمسكت ريتا بكل ما طالته يداها وحطّمته، حتى القرد الصغير اللعبة هديّة عمها الّذى تحبّه، مزّقته تماماً أمام العم، ولم تكن تتكلّم وانما فقط تنتحب. خرجنا جميعاً إلى الممر الخارجي، عندما دخلت ممرضة لإعطائها حقنة مهدّئة.

ذكر العمّ شيئا عن استشارة طبيب نفسي من أقرباء العائلة، فذكرت له ضرورة الاستعانة بأحد الأطبّاء النفسيّين داخل المستشفى ليتمكن من متابعتها يومياً، ثم غادروا المكان دون أن نتفّق على شىء، وبقيت أفكّر إن السبب فى نوبة هياج ريتا هو احساسها بالظلم، فهى تقول لنفسها (لماذا يكون كلّ هؤلاء الناس أصحّاء، يتحرّكون فى كلّ مكان كما يشاؤون، بينما أنا مريضة هكذا ومقيّدة بالفراش؟ ماذا فعلت بنفسي؟).

صباح الاثنين فوجئت بأن ريتا ترفض الكلام، وعندما جاء ميعاد الوجبة الرئيسيّة رفضت الطعام. حتى مساء الأحد كانت ريتا تأكل بنهم شديد، وتتحدّث الينا جميعاً، وكانت تمسك بيدي عندما تحدّثني. وكانت قد كرّرت علىّ نفس الجملة عدة مرات (أنا كلّي ثقة فيك، أنت الوحيد الذى تستطيع أن تخرج مراتك حبيبتك من هذا المكان الذي تختنق فيه، أنت الّذي تستطيع أن تجد حلاًّ حتى أتنفس الهواء الخارجي).

فكّرت فى أن أطلب من الادارة نقل سريرها إلى جوار نافذة الحجرة، وعندما تحدّثت بذلك إلى رئيسة التمريض، ذكرَتْ أن تاريخها المرضي لن يسمح بذلك (تقصد سقوطها من الطابق الرابع)، ثم أضافت (ان طلبها هذا قد يكون حيلة منها لتعيد المحاولة من جديد). حتى الأمس كانت ريتا تتكلّم فى التليفون، وتردّ على أسئلتنا جميعاً، أمّا اليوم فهى تتجاهل وجودنا تماماً، وتوجّه بصرها إلى سقف الحجرة، تحملق في نقطة ثابتة، ولا تظهر أىّ رد فعل ولا حتّى بهزّة رأس. ستمتنع ريتا تماما عن الحديث خلال أسبوعين، وستمتنع كذلك عن تناول الدواء والغذاء، حتى يضطرّ الأطبّاء إلى اعطائها إيّاهما عن طريق توصيل المحاليل بالأوردة.

 

(7)

بعد أسبوع من الاضراب عن الطعام والكلام، جاءها أخيرا طبيب نفسيّ، بعد الحاح مني، وتردّد يومي على قسم الأمراض النفسية بنفس المستشفى. كان الطبيب يأتي ليجلس أمامها كل يوم لمدّة نصف ساعة، يتحدّث اليها فى موضوعات مختلفة وهى لاتردّ عليه، بل يظلّ فمها مفتوحاً، وتظل عيناها مثبّتتين فى السقف. عندما علم الطبيب النفسىّ بعد أسبوع، بوجود زوجها المصري إلى جوارها فى باريس، ولم يكن أحد قد أخبره بذلك، رغب فى أن أشاركه جلساته تلك. وقد حقّقنا سويّا نجاحاً سريعاً على كل المستويات.

بدأت ريتا أوّلا باغلاق الفم، ثم ثانيا وافقت على أخذ الأدوية بالفم، وليس عن طريق الحقن بالأوردة، الا أنها كانت مستمرة في رفض الطعام، ثم لاحظنا أنّها بدأت تتابعني ببصرها، عندما أتحرك فى الحجرة، بدلا من الحملقة المستمرة في السقف. أقنعناها بصعوبة شديدة وبالحيلة، أن تعود إلى تناول الطعام،إذ كنت أتناول من طعامها أمامها وأقول (كم هو لذيذ) ثم أقترب بالطبق من فمها وأنفها حتى تشمّ الرائحة، فكانت تدير وجهها.

ثم ذات مرة تركت لي الممرضة فرصة أن أعطيها الدواء بالفم، ففتحت فمها وهي مغمضة العينين، وهي تتوقع ملعقة دواء، فوضعت فيه ملعقة حساء، بصقتها على الفور في اتجاهي، الا أنها بعد دقيقة واحدة طلبت مني طبق الحساء. وهكذا نجحنا أنا والطبيب فى أن نجعلها تعود إلى تناول الطعام، وبالتالى بَطُلَت كذلك حجّة الامتناع عن الكلام.

أمّا أنا فكنت أعاني معاناة شديدة فى صمت تام، فلا أحد يسمع شكواي، فقدت سلامي الداخلي، فقدت كل متعة فى الحياة، حتى رغم اشتراك اللوفر، أصبت باكتئاب حاد بدأ الى جوار ريتا في المستشفى الباريسي، ودام حوالي عاماً كاملاً. لم تعد مباهج عاصمة النور تعني أى شىء، أصبحت أشعر باليتم أثناء تجوالي الذاهل فى الأحياء المختلفة، وكنت أتذكّر كل الأماكن الّتى ذهبنا اليها معاً، خلال الأعوام 1990/ 1993، التي كنا نحضر خلالها سويّا في الصيف الى باريس. كنت أتعمّد المرور أمام تلك الأماكن، لعلي أجد فيها بعض السلوى، المتاحف والمطاعم ودور السينما والحدائق، والشقق الّتى يسكن فيها الأصدقاء، لم أعد أحتمل.

عدت الى القاهرة، بعد أن ظللت أربعة أشهر الى جوارها، وتركتُ شقّة الزمالك، أجّرتها مفروشة بعقد لمدة عام لفتاة كنديّة، كانت تعمل مع واحدة من منظّمات حقوق الانسان غيرالحكوميّة، أعتقد كان اسمها منظّمة أوكسفام. فكل ركن فى الشقّة يجعلنى أبكي. استأجرت شقّة صغيرة فوق سطح عمارة فى آخر شارع جامعة الدول العربيّة، وكنت فيها أتأمّل السماء عدّة ساعات كلّ يوم. هذا هو الوقت الذي فقدت فيه إيماني تماما، بعد أن كنت قبل ذلك فقط أتشكك.

بالمناسبة حين غادرت شقة الزمالك لآخر مرة، لم أتمكن نفسيا من ترك مجموعة برطمانات زجاجية، كانت ريتا تستعملها في وضع منتجات نباتية، لزوم نظامها الغذائي النباتي، الذي كانت تتبعه قبيل الحادثة، حسب طريقة الدكتورة كوزمين، فأخذت هذه البرطمانات معي في حقيبة مستقلة، لعلي أستعملها بدلا من ريتا لأن مدّة صلاحيتها كانت ستنتهي. عند وصولي الى الشقة الجديدة، ساعدني البوّاب على نقل بعض حقائبي، الا أنه عندما سمع صوت احتكاك الزجاج ببعضه، توقّف عن مساعدتي وتركني أحملها بمعرفتي.

قال (لعن الله شاربها وساقيها وحاملها)

ثم قال (ربّنا يتوب عليك من هذا البلاء).

حوار داخلي بمناسبة (ربّنا يتوب عليك):

أنا وصلتُ الآن الى مرحلة الكُفر التام.

يا سلام على العناية الالهية.

شيء جميل جدا والله حكاية العناية الالهية دي،

هي دي صحيح العناية الالهية وللا بلاش،

في الحقيقة بلاش أحسن،

فبعد طفولة ممزّقة بسبب طلاق الوالدين،

ثم فقد جنينين في حملين متتاليين،

ثم فقد الرحم تماما في الحمل الثاني خارج الرحم،

حتى تصبح ريتا غير قادرة تماما على الانجاب بعد ذلك،

كأن هذا وحده لا يكفي العناية الالهية،

فتصاب المسكينة بمرض عقلي،

كان يمكنها أن تعيش به دون مضاعفات،

لكن كيف تسمح العناية الالهية بهذا الدلع،

إذ يجب أن تقوم العناية الالهية بدورها على أكمل وجه،

حتى تعيش ريتا بقية حياتها

بطرفين سفليين عاجزين.

صحيح صدق اللي قال عناية الهية.

 

(8)

وصلتُ إلى المستشفى الذي يقع على بعد ساعة بالقطار من محطة شمال باريس (جار دي نور)، هو يستغرق ساعة لأنه يتوقّف عشرين مرة، منها التوقّف مثلا أمام محطّة سارسل Sarcelles المشهورة بأنها، بؤرة التهاب للشبيبة المغاربية. هذه هي المدينة التي لا يعيش فيها الا مغاربة، أي توانسة وجزائريين ومراكشيين،  فالفرنسيّون عندما يستعملون كلمة مغاربيMaghrebin ، يقصدون هذه الجنسيّات الثلاث، أما إذا قصدوا سكّان من المغرب فقط،  فهم يقولون مراكشي، ويستعملون كلمة Marocain.

يصعد في هذه المحطّة في الاتجاه الى باريس عادة، شباب ممزّق تماما على كل المستويات، نفسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وهؤلاء مشكلتهم معقّدة جدا، بسبب أنهم لا يستطيعون متابعة الدراسة في المدارس الفرنسية الحكومية العادية منذ عامهم الأول، إذ يذهب التلاميذ الفرنسيون الى نفس هذه المدارس، وهم يتفوّقون على التلاميذ العرب منذ أول لحظة، في مادة اللغة الفرنسية، التي تدرّس بها جميع المواد. في حين أن أولاد العرب المغاربة لا يجدون في منازلهم أي معاونة لغوية من والديهم، وبالتالي فهم محكوم عليهم منذ عامهم الأول في المدرسة، بالتراجع عن المستوى المتوسّط للتلاميذ، فتزداد عاما بعد عام نسبة تسرّبهم من التعليم الى الشوارع.

أما فكرة تخصيص مدارس ذات مستوى منخفض للتلاميذ المغاربة، فهذا يكرّس للانقسام، الذي بدأ يتضّح في الأجيال الجديدة، أكثر مما كان عليه الحال في الأجيال الأقدم، إذ فشلت كل محاولات أن يسكن المغاربة والفرنسيون في نفس الأحياء، فالمغاربة يتركون أبواب شققهم مفتوحة طول اليوم، وهذا لم يعتد عليه الفرنسيون الذي يميلون في المساكن الى الانعزالية، والمغاربة يستمعون الى الموسيقى العربية العالية الصوت حتى وقت متأخر من الليل، ثم الى تلاوة القرآن حتى الصباح.

هؤلاء الشباب المغاربي يحاولون في القطارات خاصة، حيث تصعب مراقبة كل العربات، وفي وسائل النقل العام عامة، التعبير عن غضبهم المكبوت تجاه المجتمع الفرنسي، بتحطيم المقاعد وزجاج النوافذ، ثم يتحدّون الجميع عندما يتحدّثون بصوت مرتفع عن المخدّرات، ولا يمر بهذه العربات من القطار حيث يوجدون، أي مفتّش طالما ظل هذا الشباب في القطار، لأن هذا الشباب لا يحصل على تذاكر، ولا يستطيع المفتّشون غير المسلّحين أن يفعلوا حيال هذا التحدّي أي شيء. وحيث إنني استعملت هذا القطار في الذهاب والإياب كل يوم، لمدّة لا تقل عن أربعة اشهر، فقد تصادف مرات عديدة، أن دخلوا العربة التي أجلس فيها، فيتركها لهم الفرنسيّون، ليتجمّعوا معا في عربة أخرى من القطار، حتى يتسنّى لهم الدفاع عن النفس لو لزم الأمر.

وحيث إنني لا أقوم من مكاني لأذهب مع الفرنسيين، كان الشباب يأتون نحوي لينظروا في وجهي ببعض العدوانية مع حب استطلاع، فأكلمهم على الفور بالعامية المصرية التي يفهمونها جيدا، حتى من قبل ظهور الأقمار الفضائية، لأنهم يتابعون الأفلام والأغاني المصرية، ففي شقق عديدة سكنت فيها في باريس الى جوار مغاربة، كانوا ينصتون أغلب الوقت الى أم كلثوم وحليم. في هذا الموقف يدركون على الفور أنني مصري، فيبتسمون ابتسامات كبيرة، ويصافحونني باليد واحدا واحدا.

 

(9)

المستشفى أو مركز إعادة التأهيل، الذي كانت ريتا قد نقلت اليه وظلت فيه لمدة عام، متخصص في العلاج الطبيعي، لإعادة تأهيل الجهاز الحركي (أي العظام والعضلات والأعصاب) حتى تتمكن ريتا من العودة الى المشي بشكل طبيعي. أول مرة ذهبت اليها، بعد غيابي في القاهرة لبضعة أشهر، وجدتها تجلس على كرسيِّها المتحرّك فى الحديقة مع صديقتها لويز، وكان النهار مشمساً جميلاً والجو دافئاً، قبّلتها على جبينها وذهبت إلى الإدارة للحصول على إذن بالخروج معها ساعة في الحديقة، كما ذكرت لي حسب العرف المتبع.

كانت ترتدي سروالاً قصيراً، يسمح برؤية ساقيها المتورّمَيْن وقدميها، وعليهما آثار العمليات الجراحيّة المتعدّدة التى أُجريت لها خلال الشهور الأخيرة، وكذلك كان أنفها المكسور يشوّه ابتسامتها. لا أصدّق عينيّ!

هل هذه هى زوجتي الجميلة؟

لا أدري ماذا سأفعل؟

هل سأجد الشجاعة لأعود بها إلى القاهرة؟

كيف سأدفعها في كرسيها المتحرّك على أرصفة القاهرة؟

أرصفة القاهرة التي لا يستطيع أن يمشي عليها الأصحّاء؟

كيف سأعود الى ممارسة الحب معها؟

يبدو لي أحياناً هذا الأمر غاية فى الصعوبة!

وفى نفس الوقت لا أستطيع أبداً أن أتخلّى عنها

لا الآن ولا فيما بعد.

أثناء النزهة كانت تقول لكل من نقابله

(انظروا هذا هو زوجي الذي أحكي لكم عنه،

إنه من بلاد الفراعنة).

عدت معها إلى حجرتها لأساعدها فى غسل ساقيها وقدميها ثم فى تجفيفهما، وساعدتها كذلك فى ترتيب ملابسها، ثم قبّلتها على وجنتيها وغادرت المستشفى. كنت أعود أولا بسيارة المستشفى التى تغادره مرة كل ساعة للذهاب بالزوّار إلى محطّة القطار، وفى المحطّة آخذ القطار المتجّه إلى باريس والذى يقطع المسافة فى حوالى ساعة.

 

(10)

كابوس سخيف أيقظنى من نومى، أنا وريتا نسير فى شوارع مدينة تبدو لي كأنّها الإسكندريّة أو مارسيليا، ضاحكَيْن عابثَيْن لاهيَيْن لانعبأ بشىء، نتبادل العبارات اللطيفة، وفى طرفة عين إذا بزلزال فظيع يقتلع العمارات ويبتلعها! نجري فى الشوارع لا نعرف أين نختبئ من ذلك الرعب، نرى الحوائط تتساقط وننجح فى تفاديها، الاّ أنّ أحد تلك الحوائط يسقط علينا! أعود إلى النوم من جديد لأصاب بكابوس جديد، انا وريتا ننام فى حجرتنا بالمنزل، عندما يوقظنا صوت انفجار هائل، أنظر الى خلف السرير فأجد فتحة كبيرة فى الحائط، تسببت فيها قنبلة مدفع انطلق علينا لا أعرف من أين، وعندما نقرر مغادرة المنزل الذى لم يعد آمنا، وننزل الى الشارع في الزمالك، نفاجأ بوجود دبّابة أمام باب العمارة، وبأن فوّهة مدفع الدبّابة تتابعنا أثناء سيرنا.

شعرت خلال هذه الفترة، ولأول مرّة منذ أربعة أعوام بأن عمّ ريتا قد أصبح أكثر تحفّظا معي، وكأنه كان يحمّلني ذنب مرض ريتا، وذنب سقوطها من الطابق الرابع. هو يحاول أن يقول لي إنني قد فشلت معها كزوج، وإن بقائي إلى جوارها الآن معناه الوحيد هو أنني أطمع فى ثروتها؟ ثم أن ايريك كان قد زرع فى قلبي الشكّ من هذه الأسرة، عندما قال (إنهم لا يريدون الاعتراف بمرض ريتا العقلى حتى لا تسوء سمعة بنات العائلة، إذا شاع أن مرضها وراثي، وبالتالي لايقبل عليهن الأزواج) قد تكون هناك كذلك رغبتهم في أن تُترك بدون علاج نفسي، حتى تيأس من جديد من حالتها، وتحاول من جديد الإقدام على الانتحار علّها تنجح هذه المرة، وينتقل الإرث بأكمله إلى أسرة العم.

 

(11)

بعد خروجها من مستشفى إعادة التأهيل، أقمنا لمدة بضعة أشهر في الحي الرابع عشر، بالقرب من الطريق الدائري، عند (بوابة أورليان Porte d Orleans). أقمنا في استوديو مساحته ثلاثين مترا مربعا، ويتكون من حجرة كبيرة بها الفراش ومائدة الطعام، بالإضافة الى ركن المطبخ والحمام. هذا النوع من السكن يخصص للعزّاب، أو للطلبة الجامعيين القادمين من المناطق الريفية لمتابعة الدراسة في جامعات باريس.  

ريتا عاجزة عن النزول الى الشارع، فهي بالكاد تستطيع الحركة وحدها داخل الشقة باستعمال عكازين، وقد زاد وزنها كثيرا من 50 كيلوجرام الى 75 كيلوجرام، بسبب قلة الحركة خلال أكثر من عام، وبسبب أدوية المرض العقلي التي تحتفظ بقدر كبير من السوائل داخل الجسم. كنا نذهب معا ثلاث مرات في الأسبوع من هذا الأستوديو، الى أحد المركز الطبّية القريبة، في شارع فرسان جيتوريكس، حتى تقوم طبيبة نفسية بمتابعة حالتها، كان اسمها مدام حدّاد، اعتقدت أنها لبنانية، لكن اتضح أنها من أصول يهودية ولدت في باريس. كانت تجري مع ريتا نوعا من التحليل النفسي، وهو علاج لم تحصل عليه ريتا أبدا حتى ذلك الوقت، لا في القاهرة ولا في باريس، إذ كان أطباء الأمراض النفسية حتى ذلك الوقت لا يهتمّون بمعرفة تاريخها، بل يكتفون فقط بالنظر الى التحاليل ثم يحدّدون وفقا لها حجم جرعات الأدوية.

كنت متفائلا، ولدي رغبة قوية في مساعدتها على اجتياز الأزمة، واستطعت فعلا أن أنقل هذا التفاؤل اليها. ورغم ذلك فإن منظر تشوهات جسمها بسبب العمليات الجراحية في ساقيها وفخذيها، والعظام التي أخذوها من الحوض لترقيع الكسور، بالإضافة الى الأنف المكسور، الذي لم يتدخل جراح التجميل بعد في إصلاحه، كان قد أساء اليها كثيرا. كنت في البداية أحاول تشجيعها على النزول الى الشارع للتنزه قليلا على الأقدام في الحديقة القريبة، ثم على الرصيف المقابل لمشاهدة فتارين العرض في المحلات، ثم الى مطعم البيتزا على بعد مائتي متر، ثم الى دار سينما جومون أليزيا على بعد ثلاثمائة متر. هكذا بالتدريج وبالحيلة، رغم التهالك الواضح عليها، والبادي في سرعة التنفس واحمرار الوجه والعرق الغزير، كنت أساعدها في استعادة قدراتها الحركية. الا أن الحظ السيء كان ملازما لنا، فمثلا كنا في محطة مترو أنفاق سان ميشيل يوم التفجير الذي حدث هناك في يوليو 1995، ونتج عنه عدد من القتلى والجرحى، مما جعلها تنكمش من جديد، وتخشى استعمال المترو، فبدأنا في استعمال خطوط الأوتوبيس.

كانت أجمل زياراتنا معا في صيف ذلك العام، الى غابة فانسان الواقعة على الطريق الدائري، حيث نظلّ طوال الصباح جالسَيْن على ضفاف بحيرة الغابة، حيث يوجد بعض الأطفال الذين يحاولون تعويم مراكب خشبية صغيرة على مياه البحيرة.

تقول (لن يكون لنا أطفال أبدا)

فأرد (مش مهم الأطفال، يمكن للحياة أن تستمر دون أطفال)

فتقول (مشاعر الأمومة أقوى من مشاعر الأبوة،

إن سبب وجود المرأة في الحياة هو إنجاب الأطفال).

حاولت أن أشغلها عن تلك المشاعر السلبية، فكنت آخذها الى المتحف الواقع عند مدخل الغابة، عند الباب الذي يعرف باسم البوّابة الذهبية، وهو متحف الحضارات الأفريقية المغاربية الأوسيانوجرافية، وهذه الكلمة الأخيرة تعني جزر المحيطات الهادىء والأطلنطي والهندي التابعة لفرنسا، منذ زمن إمبراطوريتها الاستعمارية، وهو المتحف الذي يضمّ أحواضا هائلة للأسماك في طابقه الأرضي (الأكواريوم)، ثم مجموعة مقتنيات الحضارات البدائية لدى قبائل أفريقية وأوسيانوجرافية في طابقه الأول، ثم مجموعة مقتنيات مغاربية في طابقه الثاني، من خزف وخشب ونسيج ومعادن، فيأخذها الخيال من جديد الى ذكريات واحدة من أحلى ذكريات عمرها، وهي ذكريات السنة التي قضتها في المغرب، في نادي البحر المتوسّط (كلوب ميد) Club Med في أغادير. كانت تكرر (فقدت جمالي الذي لن يعود اليّ أبدا). هكذا كانت مشاعرها السلبية في أغلب الأحوال أقوى من مشاعري الإيجابية.

كانت تجد لذة في مراجعة تصاريف أفعال العامية المصرية، ففي لحظات انسجامها التام كانت تطلب مني أن أمتحنها في هذه الأفعال، وهذا كان يحدث أيضا أحيانا في بعض الأزمات. كانت بداية هذا الوسواس المتعلق بالأفعال، السؤال الذي وجهتهه لها أمي بعد شراء ستائر جديدة للصالون، سألتها أمي (علقتيها؟) فردت ريتا (أيوة علقتيها) فضحكت أمي، وهكذا صممت ريتا على إجادة تصريف الأفعال، مع ضمائر الفاعل والمفعول به المختلفة. أنا علّقتها/ إنت علّقتها/ إنتي علّقتيها/ هو علّقها/ هي علّقتها/ إحنا علّقناها/ إنتو علّقتوها/ همّا علّقوها.

عند العودة الى القاهرة، قال لي الطبيب المعالج إنه يمكن لريتا أن تستأنف حياتها الطبيعية، بشرط تجنب المثيرات والمهيجات:

- الانفعالات العاطفية العنيفة، مثل الحزن الشديد أو الفرح الشديد أو القلق الشديد،

(أردت أن أقول له إن الكلام سهل ولكن التطبيق صعب)

- الخمر والمخدرات

(ماشي في حدود فترات بقائي معها في القاهرة،

ولكنه ينسى أنني مرشد سياحي ويجب علي أن أغيب أحيانا في الصعيد عدة أسابيع)

- مع ضرورة المواظبة التامة على العلاج بالأدوية الموصوفة والتردّد على عيادته مرة كل أسبوع مع عمل تحليل ليثيوم في الدم مرة كل شهر.

 

الرحلة الى الهند

26 سبتمبر 1993: بعد حوالي عامين من ممارسة اليوجا المكثفة، بين مصر وفرنسا، نصحني أصدقائي بضرورة الذهاب الى الهند، وقضاء بضعة أشهر في واحدة من مدارس اليوجا في الهند (وتسمّى هناك أشرم). كان غرضي أن أحصل على شهادة دولية معترف بها، حتى أصبح قادرة على تدريس اليوجا. أخذت فيزا من سفارة الهند بالقاهرة، على باسبوري المصري، وسافرت بالطائرة الى بومباي. بعد يومين كنت في فندق ببومباي، في الساعة الرابعة صباحاً، حين أيقظتني اهتزازات السرير الذي كنت أنام عليه، وارتعاش زجاج النوافذ، اعتقدت أنها سيارة نقل ضخمة تمر الى جوار الفندق المتواضع، ثم فكرت أنها قد تكون أرواحا شريرة تسكن الحجرة، ولا تريد مغادرتها.

واقع الأمر أن الاهتزازات كانت بسبب زلزال ضرب غرب الهند بقوة 7 ريختر في 28 سبتمبر 1993، وتسبب في انهيار مئات المنازل، ووفاة آلاف السكان الفقراء. كنت في 12 أكتوبر 1992، قد عانيت من زلزال القاهرة، في الطابق الأخير من هيلتون رمسيس، وشعرت بالمبنى المرتفع الى ستة وثلاثين طابقا يتمايل بشدة في الاتجاهين. كنّا ننزل السلالم في الفندق، في حين كان النزلاء اليابانيّون يصعدونها. الشعور الذي تولّد لديّ هو كأنني أجذب الزلازل خلفي في كل مكان أذهب اليه.

فى لقطاتي الفوتوغرافية الأولى لبومباي، يمكننا أن نرى منازل جميلة جداً، قريبة الشبه بما بناه الإنجليز والأوروبيون بشكل عام، في وسط مدينة القاهرة، في أحياء جاردن سيتى والزمالك، أوائل القرن العشرين. تدل صور المناطق التجارية فى تلك المدينة، على أنها تشبه كل مدن العالم الثالث، فشوارعها تمتلئ ليلاً ونهاراً بالآلاف من البشر، يسيرون فى الطرقات وكأنهم لا وجهة محددة لهم. جموع لا نهاية لها من الحشود البشرية. إحدى العلامات المميزة لتلك المدينة، وجود أتوبيس نقل داخلي باللون الأحمر وبطابقين، مثل ذلك الذى ما زلنا نجده في العاصمة الإنجليزية.

بعد بقائي لمدة أسبوعين في لونافلا، الواقعة الى الجنوب من بومباي، عدت الى بومباي، وسافرت بالطائرة منها الى دلهي، ثم بسيارات النقل العام من دلهي الى ريشي كيش، وهي مركز تعاليم شيفاناندا Shiva Nanda على سفوح جبال التبت، وقد اكتسبت شهرة عالمية في الستينات، عندما لجأ اليها أفراد فريق البيتلز الانجليزي بحثا عن الإلهام الفني، في الموسيقى وآلآلات الهندية مثل السيتار والطبلة والدربكّة، فأنتجوا ألبوما موسيقيا به أغنيات مثل أغنية النور الداخلي the inner light. وأغنية من خلالك وبدونك within you without you.

كان لقائي الأول مع (شاندرا) Shandra مؤثّراً جدّاً، فعندما دخلت تلك الصالة متوسّطة الحجم الّتى كان يلقي فيها دروسه ويمارس فيها تمريناته مع تلاميذه، شعرت فجأة بقوّة كبيرة تغمرني، لم يكن هذا حبّاً من النظرة الأولى كما قالت لي بعد ذلك زميلتي (كاترين)، ولكنّه كان شعوراً قويّاً وخاصاً جدّاً، كأنّ راحة كبيرة قد احتوتنيIJ[، كأنّي عثرت على شيء كان قد فقد منّي منذ مدّة طويلة، شعرت بأنّني فى أمان تام، وعندما بدأت تلك الحصة الأولى معه اكتشفت أنّ صوته عميقٌ جداً، كأنّه قادمٌ من مكانٍ آخر غير تلك الصالة التي كنا بها، وكانت لديه مغناطيسيّة مؤثّرة على كلّ من حوله بقوّة غير عاديّة.

فى نهاية الحصة قلتُ (لكاترين) شيئاً مثل (إنّه ينبغي الحذر من هذا الصبي لأنّه يعرف أنّه وسيم وجميل، بالإضافة إلى قوّة تأثير حضوره، وأنه يستطيع أن يلعب بسهولة بعواطف الأوروبيات). واقع الأمر هو أنني كنت أتوجّه بهذا الحديث إلى نفسي لا إلى كاترين، فإنّي كنت فى الواقع أخشى أن أقع فى هواه. تذكّرت ما سبق وأن قالته لى صديقتي فى القاهرة، من أن هناك مدرسي يوجا أشرار يستغلّون سيطرتهم على تلاميذهم إستغلالاً سيّئاً. خطرت على بالي هذه الفكرة رغم تأكّدى من أنّ (شاندرا) لم يكن إلا صبياً ساذجاً بالنسبة إلى واحدة مثلي، فهو لم تكن لديه خبرة كبيرة في الحياة مثلى، خاصة من الناحية العاطفيّة. في تلك اللحظة كان لديّ شعورٌ عميق قويّ بأنّي كنت قد تقدّمت في السنّ رغم أنّني لم أكن قد تجاوزت بعد الثالثة والثلاثين.

كان هناك فرقٌ كبيرٌ جداً بين (شاندرا) مدرّس اليوجا، الّذى نجد لديه كلّ مبادئ اليوجا التى علّمها (شيفا ناندا) لتلاميذه، وبين هذا الصبيّ الجميل الّذى يتخايل بقدرٍ من السذاجة فى ملابسه الهنديّة البيضاء، ويتحدّث بحماسٍ شديد فى كلّ شيء، ويتمنّى أن يحصل يوماً ما على فيل أبيض، وأن يكتشف كلّ الفِيَلَة البيضاء الّتى لا تزال تعيش فى الهند. كان الشئ الواضح فيه هو براءته الشديدة ونقاء مشاعره، والزهو والخيلاء لمقاتل يبغي القضاء على كلّ ما هو قبيح فى الحياة، شيء قريب الشبه بالأسباني (دون كيشوت) وطواحين الهواء. هو في نظري لم يكن يختلق هذه الشخصية، لكنها كانت شخصيّته الحقيقية.

أكتوبر 1993: بدأت أشعر بإرهاق شديد، إذ كنت أذهب صباحاً إلى حصص اليوجي (الشرس)، ثم أذهب بعد الظهر إلى حصص شاندرا. ثمّ بدأ اليوجي الشرس يعاملني بطريقة أكثر شراسه، بعد أن عرف أنّني أذهب إلى حصص شاندرا. كانت بينهما منافسة على اجتذاب أكبر عدد من التلاميذ. وحتّى أتخلص من هذا الإرهاق قرّرت أن أتوقّف عن حضور الحصص الصباحيّة، واستبدلت بها حصصا مسائيّة فى تعلّم الغناء الديني الهندي. ذهبت صباحاً إلى اليوجي الشرس وطلبت منه أن أتوقّف بضعة أيام عن حضور حصصه، فرفع رأسه عن الكتاب الذي كان في يده، ونظر إليّ بتركيز شديد لمدة دقيقة واحدة أو أقلّ، موجها عينيه الى عينيّ، ولم يقل أىّ شيء!

دقيقة واحدة ظلّ خلالها ينظر اليّ،

ويبحلق في عينيّ،

دون أن ينطق بكلمة واحدة.

خلال هذه الدقيقة شعرت،

وكأنّ تياراً كهربائيّاً يغزو جسمي،

يمرّ من دماغي في اتّجاهين،

إلى كتفيّ ثمّ إلى ذراعيّ،

وكذلك إلى معدتي ثمّ الى أمعائي،

وإلى الساقين والقدمين!

صرفني من أمامه دون أن يقول شيئا،

فعدت إلى الفندق،

وكنت أتحرّك سريعاً بطريقة غير معتادة،

كأن قدميّ لا يلمسان الأرض،

كأني كنت أطير قليلا فوق الأرض،

كأنّ تلك الطاقة الكهربائيّة،

الّتى دخلت جسمي،

عن طريق عينيّ اليوجي الشرس،

قد تحوّلت إلى طاقة حركيّة،

هذا هو ما لاحظته بوضوح شديد.

فى تلك الليلة لم أستطع أن أنام.

 

فى الثالثة صباحاً، زاد إحساسي بالقلق لاكتمال الأعراض! فقبل خمس سنوات، وبالتحديد في أغسطس 1988، عندما كنت وحدي فى المنزل فى باريس، أستعدّ للسفر إلى جنوب شرق آسيا على رأس مجموعة سياحيّة كبيرة، شعرت وقتها، بسبب خوفي الشديد من المسؤوليّة، بنفس هذه الأعراض، الأرق التام، ثم التيّار الكهربائي، والطاقة الحركيّة المبالغ فيها. وقد وصل بي الإحساس بالقلق وقتها إلى محاولة الانتحار بقطع شرايين يدي.

قررت في صباح اليوم التالي، أن أهرب من دائرة محيط تأثير اليوجي الشرس، بمغادرة الفندق الذى كنت أقيم فيه، والذهاب للإقامة في فندق آخر، بالقرب من المدرسة التى يعطي فيها شاندرا دروسه. جمعت أشيائي في نصف ساعة، ودفعت بقية حساب الفندق، وعبرت النهر فى المعديّة الخاصة بالأهالي، وذهبت إلى التلّ الّذي تقع عليه المدرسة، بالقرب من الغابة، وهناك وجدت الفندق الجديد الّذى كنت أبحث عنه. مع ذلك، بعد انتقالي إلى الفندق الجديد، أمضيت ليلةً ثانية بيضاء، لم يغمض لي فيها جفن! عندها نصحني الأصدقاء كاترين وكريستين والآخرون بالتوقّف تماماً عن كل شئ، والبقاء فى الفراش طوال النهار لمحاولة الاسترخاء والنوم.

عندما عرف شاندرا بعدم قدرتي على النوم، جاءني في الصباح في الفندق الجديد يسأل عن أحوالي، ثم عرض عليّ أن أقضي ذلك اليوم معه فى زيارة عمّه وزوجة عمّه، فى منزلهما الكائن بالغابة، على بعد حوالي نصف ساعة بالدرّاجة البخاريّة الّتى يقودها، عبر الطريق الذى يقطع الغابة. وافقت على الفور، وارتديت ملابسى، ولحقت به عند مدخل الفندق. تضايقت قليلاً عندما وجدت أنّ كريستين هى الأخرى قادمة معنا! ركبنا نحن الثلاثة نفس الدرّاجة البخاريّة. ساعدني قضاء ذلك اليوم فى الطبيعة على الاسترخاء قليلاً، ولكنّي كنت أشعر بالإرهاق الجسماني بسبب قلّة النوم خلال ليلتين متتاليتين.

كانت لحظات جميلة تلك التى عبرنا فيها الغابة العذراء، سويّاً على الدرّاجة البخاريّة. عندما شاهدت عمّك يا شاندرا فهمت كلّ شيء، فإن رأسه وحده يدلّ على مقدار الطيبة والسلام النفسيّ اللذين يتمتّع بهما هذا الشخص، عرفت لماذا أنت على ما أنت عليه، فأنت تشبه عمّك تماماً فى طيبته وبساطته. كان رأس عمّك رائعاً، رأسٌ صغيرٌ حليقٌ كرأس طفل، بعينين تشبهان عيون الكلاب، وأنا أعشق عيون الكلاب. عرفت منه أنّه عاش فى كندا فترة وأنّه متزوّج من كنديّة عاد بها إلى الهند. وعندما كنت أنت متعجّلاً أن تريني المنزل، كنت أنا أريد البقاء مع عمّك قليلاً لأسأله عن حياته.

في ذلك المنزل شعرت وكأنّي كنت قارباً صغيراً ضلّ طريقة فى المحيط الشاسع ثم أخيراً وجد المرفأ، كان هذا المنزل  H G هو المرفأ الذى رغبت لو أمكنني أن أستقرّ فيه إلى ما لا نهاية. كان هذا المنزل هو الدليل الأكيد على مقدار حب عمّك لزوجتهYYY، ولك ولكلّ أفراد أسرته الموجودين معنا ذلك اليوم. سعدت جداً عندما قال لي عمّك، إنّه من السهل عليه بعد دقائق قليلة من الحديث معي أن يدرك حجم الحكمة التى أتمتّع بها.

عندما صعدنا سوياً إلى الطابق العلوي المخصّص لممارسة اليوجا، وتأمّلت تلك الأحجار الصغيرة المنقوشة والمكفّته بالنحاس، التى تحيط بهيكل لعبادة إله ما لم أعرف من هو، ثم نزلنا من جديد إلى الحديقة، واستقبلتني كل تلك الحيوانات بترحاب شديد، البط والأوز والماعز والقطط والكلابöõöõ، كما لو كانوا هم أيضاً يرحبّون بي، ويريدون أن يحتفلوا بي، كنت فى قمّة سعادتي، وكان ذلك اليوم الذى قضيته معكم هناك يا شاندرا، هديّة حب جميلة قدّمتها إليّ.

كنت سعيدة جداً لحظة أن شرحت لي خطوط راحة يدك، وفيها مستقبلك، فهذا دليل على ثقة كبيرة، ولكنى لم أجرؤ على أن أُريك راحة يديّ، لأنّها أكثر جزء فى جسمي تعذّب بسببي. فهناك آثار محاولة الإنتحار بقطع شرايين اليد، وهي ما زالت واضحة فى صورة خطوط بيضاء بعرض الرسغ، مكان التئام الجروح، عندما حاولت تمزيق شرايين اليد باستعمال آلة حادة. ثم هناك أظافر أصابعي، التى تشوّهت تماماً بسبب تلك العادة السيئة التى أمارسها منذ طفولتي دون أن أشعر، عادة قرض الأظافر، وهو ما قد يدلّك على مدى الاضطراب الّذى أعاني منه. لكنّي فخورة بجسمي الرياضيّ الّذى بنيته خلال سنوات عمري بممارسة السباحة والجري، والتغذيّة السليمة. أتمنى ألاّ يكون جسمي وأعضائي الداخلية قد عانوا كثيراً من تلوّث الجو فى القاهرة، وأن يكون جهازي الهضميّ قد تأقلم مع نوعيّة الأغذية التى نجدها فى القاهرة.

أتذكّر الآن أنّه عندما رفضتُ أن تقرأ لي خطوط راحة كفّي، بدا عليك الحزن، أريد أن أوضّح لك أنّ ذلك لم يكن فقط خجلاً من منظر أظافري المقروضة، ومن العلامات التى تركتها على رسغيّ محاولة الانتحار، ولكنّي كنت أخاف كذلك أن تفضحني كفي، بأن تعلن للجميع أن حياتي مرتبطة بحياتك، أو على الأقلّ أن تكشف عن مقدار حبّي لك، رغم أنّ بداية معرفتنا لم تكن إلاّ قبل أيام قليلة.

يبدو لى الآن أنّ شاندرا كان موجوداً أثناء التحقيق، عندما إستجوبني البوليس وكنت فى حالة هيستيريّة أصرخ كالمجنونة، وأتحدّث بصوت مرتفع جداً، ثم أقوم من مكاني لأقبّل الضبّاط والعساكر وبقيّة المحجوزين! كنت أعي ما أفعل بدليل أنّي ما زلت أتذكّر ذلك بكلّ تفاصيله. يبدو لى الآن بوضوح أنّه هو أيضاً إستجوبه البوليس، لأنّي كنت كالمجنونة قد ذكرت إسمه عشرات المرّات (شاندرا قال .... شاندرا فعل .... شاندرا جاء ...... شاندرا ذهب). أنا متأكدّة أنّى شاهدت حذاءه الأحمر المنقوش بألوان ذهبية أسفل المكتب الّذى كان يجلس إليه الضابط المحقّق.

لكنهم لم يواجهوني به أبداً. ولم أستطع أن أراه. هل هذه هي الحقيقة أم أنّ هذا مجرد خيال؟ أكيد هى الحقيقة، وهذا هو السبب فى أنّه لم يحضر أبداً ليراني، لا فى قسم البوليس فى (ريشي كِش)، ولا فى المستشفى المحلي عندما انتقلت إليها، وحتّى التليفونات والخطابات التي أرسلتها إليه من المستشفى فى (دلهي) لمدّة أسبوعين لم يرد عليها. إنقطعت أخباره عنّي تماماً بسبب خوفه منّي. يجوز ان رجال البوليس قد هدّدوه بالسجن، معتقدين أن جنوني وحالتي الهيستيريّة كانت بسببه، أكيد أنه قد تعذّب بسببي، ولكن هل يخاف منّى؟ هل يعتقد انني مجنونة؟

عندما تحدّثت مع العم (راما)، سألنى بطريقة وديّة: هل أنت متزوّجة؟

قلت : نعم ولكن هناك مشاكل بينى وبين زوجي. كان العمّ راما قد عرض عليّ أن أظلّ تلك الليلة معهم فى منزل الغابة، فقلت له إنّى لست مستعدّة بعد. وعدنا أنا وكرستين مع شاندرا على درّاجته البخاريّة فى المساء. كانت هذه هي أوّل وآخر مرّة أرى فيها العم راما والمنزل الريفيّ.

آخر أكتوبر 1993: تقول كل ديانات آسيا إن الطاقة الحيويّة داخل جسم الإنسان تسير فى مسارات خاصة، قد تتبع مسارات الأعصاب التى يعرفها الأطبّاء الغربيّون، وقد لا تتبع هذه المسارات على الإطلاق. هذه الطاقة الحيويّة لها مناطق تتجمّع فيها، وهي المناطق التى يتقاطع فيها عددٌ من المسارات، وتسمى الشاكرا shakra. ثم إن قابليّة التوصيل (الاستقبال والإرسال) تزداد لدى الإنسان الذى يمارس اليوجا، حيث تتفتّح تلك المسارات بصورة غير عاديّة. هل هذا هو ما حدث لي عندما نظر اليوجي الشرس إليّ لمدة دقيقة واحدة؟ فتح مسارات طاقة جديدة شريرة مدمّرة في جسمي؟

اعتقدت أنّ المسألة مرّت بسلام، فبعد ذلك اليوم الّذى قضيته فى المزرعة، نمت نوماً جيّداً. هل كان هذا بتأثير الطاقة الايجابية لشاندرا وعمّه؟ هل كانت تلك الطاقة الايجابية أقوى من الطاقة السلبية لليوجي الشرس؟ فكّرت فى صباح اليوم التالي أنّه يمكنني أن أعود إلى ممارسة أنشطتي العاديّة من جديد، فذهبت بعد الظهر إلى حصّة شاندرا، وقلت له إنّي مستعدّة للذهاب معه من جديد إلى مزرعة العمّ راما بعد يومين، دون أن أذكر له أنّه سيكون يوم عيد ميلادي الثالث والثلاثين، وهو اليوم الذى كنت أريد أن أحتفل به معهم، ولكن دون أن أقول لهم.

بدأ لديّ هذا الاحساس بالقوة والانتشاء، بل بالقدرة على إتيان المعجزات، خلال جلسة اليوجا مع شاندرا، عندما كان يتحدّث مع كاترين، وإذا بي وحدي فجأة أقف على رأسي، وهو وضع يوجي لم أكن قد نجحت فيه من قبل، ولم أبذل أىّ مجهود ذلك اليوم في الوصول اليه، والبقاء فيه بشكل طبيعيّ جدّاً لمدّة نصف ساعة. لم أشعر بالوقت. عندما انتهيت كانت نظرات الدهشة والإنبهار تغمر وجوه كلّ المحيطين بي. جلست فى مكاني هادئة، مسترخية تماماً، كأنّي معتادة على ممارسة وضع الوقوف على الرأس منذ سنوات طويلة، عندها سمعت لأوّل مرّة داخلي، ذلك الصوت الخافت الضعيف الذى يقول لى (إطمئنّي يا طفلتي، فإنّ كلّ شيء سيعمل للأفضل، لكن عليك أن تعترفي بنقاط ضعفك وأن تتقبّليها).

كانت كرستين تتحدّث مع شاندرا عن رغبتها فى ترك (ريشي كِش)، كانت تقول إنّ ضغط المكان على أعصابها أصبح غير محتمل، ثم تحوّل الحديث بعد ذلك إلى موضوع كتابين كانت تحملهما معها، أحدهما بعنوان (السر الأخير) والآخر بعنوان (كيف توصّل من جاؤوا قبلنا إلى معرفة الطريق). كنت منبهرة تماماً بهذين الكتابين، ولكنّي تضايقت قليلاً من كرستين، إذ إنني كنت كلّما حاولت تناولهما منها، كانت تعود إلى أخذهما منّي، لتقرأ فى واحدٍ منهما فقرة من الفقرات، تتعلّق بالحديث المتصّل بينها وبين شاندرا، الّذى لم أكن أتابعه إطلاقاً، وكأنني غيرموجودة معهما فعلاً.

كنت أشعر كما لو كنت فى عالم أثيريّ، وفى لحظة ما قلت فى نفسى

(ربما أنّها لا تريدني أن أحصل على هذين الكتابين لأنّهما يحكيان قصّتي)، فقرّرت أن أبحث عنهما بنفسي، ثم قرّرت بعد ذلك بلحظة أن أبدأ صيامي الكبير، ألاّ آكل أىّ شيءٍ على الإطلاق بعد الآن، وأن أكتفي فقط بشرب الماء، بالإضافة الى مرّة واحدة فى اليوم يمكنني أن أشرب كوباً من الشاي أو من عصير البرتقال. عدت إلى حجرتي فى الفندق مساء، ورغم برودة الجو، فنحن فى أقصى شمال الهند بالقرب من جبال (التبت)، التى تغطّي قممها الثلوج طوال العام، ثم إنّنا فى آخر شهر أكتوبر، وقفت ساعة تحت دوش من الماء البارد، كما لو كنت أمارس طقوس التطهّر بهذا الماء.

خرجت من الفندق، وكانت الساعة الثامنة مساءاً، مشيت على الرصيف، ثم بعد دقيقتين لمحت ضوءاً ضعيفاً منبعثاً من نافذة كنيسة صغيرة، كنت ألمحها كلّما مررت أمامها، وتقع فى نفس الشارع الذي فيه الفندق وعلى نفس الرصيف. اقتربت من باب الكنيسة وفتحته، ودخلت لأجد عدداً قليلاً من المؤمنين راكعين أمام الهيكل، والأب الكاهن (وكان هندياً) ما زال واقفاً فى الهيكل. اقتربت منه وتحدّثت معه بالإنجليزيّة (أنا مسيحيّة وأريد أن أتناول من الأسرار المقدّسة، من جسد ودم يسوع المسيح، وهو ما لم أفعله أبداً طوال حياتي، فأنا منذ طفولتي لم أذهب أبداً إلى أيّة كنيسة، وحتّى إن كنت قد ذهبت إلى بعضها، فلم يكن هذا أبداً بغرض ممارسة أيّ طقس من الطقوس الكنسيّة، وإنّما فقط بغرض زيارة المكان). تكلّمت كثيرا لأبرّر له أفعالي، فلم يردّ عليّ الكاهن الا بجملة واحدة، طالباً منّي أن أركع على درجات سلّم الهيكل كما يفعل الآخرون، وقدّم لي الجسد والدم قائلاً شيئاً ما باللاتينيّة، وعندما لم أردّ طلب مني أن أقول آمين.

عندما خرج كلّ المؤمنين من الكنيسة، كنت لا أزال راكعة على سلّم الهيكل، فجاء الكاهن ووقف خلفي فوقفت، وتحدّثنا قليلاً عن عيد كلّ القديسين، الغد أوّل نوفمبر، قلت إنّ الأوروبيين يسمّونه أحياناً عيد الموتى، لأنّ كلّ القدّيسين المحتفل بهم ماتوا، ثم خطرت ببالي فكرة أنّهم ماتوا ولكنّهم فى ذلك اليوم يمكنهم أن يعودوا من جديد إلى الحياة، تردّدت لحظة ولم أعرف ماذا أقول. عندما سك

ت قليلاً بدأ الكاهن يتكلّم عن المسيحيين الهنود، قائلاً إنّ أغلبهم يتبع الكنيسة الإنجيليّة البروتستانتيّة، منذ أن كانت الهند مستعمرة بريطانيّة، وإنّ هناك قلّة من المسيحيين الهنود تتبع الكنيسة الكاثوليكيّة مثل تلك الّتى كنّا فيها.

لم أكن أتابع حديثه تماما، وتركت المكان دون أي تعليق، ويبدو أنّه تضايق. كنت أفكّر فى أنني يسوع المسيح الّذى ستنتهي حياته على الأرض فى عيد ميلاده الثالث والثلاثين، أو على العكس قد أكون الآن ميّتة، وأن الحياة ستعود إلى جسدي غداً من جديد. عدت إلى الفندق ودخلت فراشي فى التاسعة مساءاً، وعدت إلى الاستيقاظ فى الواحدة صباحاً، وذهبت إلى النافذة أنظر إلى القمر الذى كان بدراً. ساءنى ذلك قليلاً. عدت إلى فراشي وبقيت فيه مستيقظة حتى شروق الشمس، تشغلني فكرة أنّ القمر لم يؤثّر أبداً فى حياتي، فليس هناك أيّ داعٍ للخوف منه بدراً، ثم أنني ولدت فى برج العقرب، والنجم الصاعد فيه ساعة ميلادي هو برج الماء (آكواريوس a.q.u.a.r.i.u.s.)، أما المصريون فيسمونه (برج الدلو)، وفكّرت في أننا الآن فى بداية عهد جديد، عهد رجل الماء (أكواريوس).

فكّرت في ارتباط رجل الماء هذا بقارة أتلنتيس،

التى كانت مزدهرة جداً فى زمن ما،

ثمّ غرقت فجأة فى مياه المحيط الأطلنطيّ،

واستطاع أهل اطلنطيس أن يسبحوا إلى الشاطئ،

وأن ينجوا من الغرق،

وقد توزّعوا على القارات الأربع المطلّة على المحيط، أوروبا وأفريقيا والأمريكتين.

نجوت بنفسي إذن من الغرق،

بأن سبحت بضعة مئات من الكيلومترات،

وأنا طوال عمري سبّاحة ماهرة،

ووصلت إلى قارة أوروبا،

حيث عشت فى فرنسا،

وحيث أقيم منذ مئات السنين.

ثم كان ذهابي إلى مصر شيئاً طبيعياً جداً،

فنحن أهل أتلانتيس بناة الأهرامات.

أنا متأكّدة تماماً الآن من أنني، منذ أن كنت طفلة صغيرة، أعيش فى شقق أمي الواسعة فى مدينتي (كان) و(نيس) فى جنوب شرق فرنسا، إلى اللحظة التى وضعت فيها قدميّ فى الطائرة المتجّهة إلى الهند، أن كلّ حياتى تلك كانت عمليّة إعداد لما حدث لي فى الهند. ثم إنّ كلّ ما عشته في الهند من مشاعر فيّاضة نحو شاندرا ونحو عمّه راما، هو أفضل ما حدث لي فى حياتي. إلاّ إنّ إختفائي المفاجىء من حياتهما دون أي تفسير، حتّى دون كلمة وداع، كان شاقاً جداً. ولكن هل اعتقد أنّى مجنونة، أم أدرك أنّ كلّ ما حدث لى فى الهند لم تكن له به أيّة صلة، وإنّما هو مصيري المكتوب لى منذ قبل أن أولد.

على أىّ الأحوال أنا أعرف الآن أنّ كلّ ما حدث لى، فى الهند ومصر وفرنسا، وحتى قبل ذلك في أتلانتا حيث ولدت، كلّ هذا إيجابي، وأن كلّ الّذي ما زال يحدث لي الى الآن، يتجّه نحو تحقيق هدف إيجابيّ فى حياتى. كلّ ما أملته عليّ تلك الأصوات الضعيفة الخافتة الّتى سمعتها، والّتى ما زلت أسمعها، أدّت إلى أننى كنت أمشى منقادة دون تفكير، لكن كلّ ما فعلته لا أندم عليه، لأنّي كنت وما زلت مستعدة أن أقفز فى الهواء من ارتفاعات شاهقة، من قمّة إيفرست بارتفاع ثمانية كيلومترات، أو أن أغطس تحت الماء الى أعمق أعماق المحيط الى ثمانية كيلومترات.

1 نوفمبر 1993: الساعة السابعة صباحاً، عدت إلى الكنيسة، وكان القدّاس الأوّل على وشك الإنتهاء، وكان عدد الحضور قليلاً، وعندما ركعت على درجات سلّم الهيكل مع الراكعين، للتناول من الأسرار المقدّسة، اقترب مني الكاهن وقال لي (لا يمكن أن نحصل على الأسرار المقدّسة في يومين متتاليين) ولكنّي بقيت فى مكاني وقلت له

(إني مصرّة/ I insist). ولا أعرف حتّى الآن كيف رضخ لإلحاحي. بذلك أكون قد تناولت لليوم الثاني على التوالي من جسد ودم يسوع المسيح، وهذا لا يحدث عادة، ولكنّي بذلك كنت أتأكّد أكثر فأكثر من أنّني يسوع المسيح، الّذى دبّت فيه الحياة من جديد، وإلاّ فلماذا لا يستطيع الكهنة أن يرفضوا لي طلباً؟ لابدّ أنّهم يعرفون حقيقتي، وبذلك زاد اعتقادي بأنّ هناك مهمّة مقدّسة سأكلّف بها غداً، يوم عيد ميلادي الثالث والثلاثين، قد تكون أن أصلب من جديد حتى يغفر الله لكلّ هؤلاء المذنبين خطاياهم.

ودون تناول أي طعام منذ أمس، ذهبت إلى مكتبة (شيفاناندا) القريبة من الفندق، الّتى تفتح أبوابها فى السابعة صباحاً، لأبحث عن الكتابين اللذين شاهدتهما أمس مع كرستين، وهما الكتابان اللذان يتحدّثان عنّي وعن معجزاتي. بحثت عنهما فى كلّ الأرفف، وكلّما كنت أقترب من آخر دولاب، كنت أزداد عصبيّة وانفعالاً. عندما لم أعثر عليهما، ذهبت مهتاجة جداً الى الموظّفة الجالسة هادئة على مكتبها الصغير فى ركن المكان، أسألها كيف أنّنا لا نجد هذين الكتابين، وذكرت لها إسميهما بصعوبة، إذ أخطأت فى النطق بالإنجليزيّة (الّتي أتقنها) بسبب إهتياجي، بدأت تعتذر فازداد هياجي وطلبت منها أن أقابل (الجورو) المسؤول عن المكان، قالت وهي تقف (سأذهب لأبحث لك عنه).

عندما وجدت نفسي وحدي في المكتبة، شعرت بالتيّارات الكهربائيّة تغزو جسمي من جديد. قرّرت أن أبقى ساكنة تماماً فى أحد أركان المكتبة حيث بساط أحمر سميك، حاولت تهدئة أعصابي المضطربة باتخاذ (وضع البقرة). فى خلال دقائق، تسرّبت الكهرباء أولاً من جسمي إلى أطرافي، ثم من أطرافي إلى أرضيّة حجرة المكتبة، وفي نفس اللحظة بدأت أشعر بأن جسمي يخفّ تماماً، وبدأت أرتفع عن أرضيّة حجرة المكتبة، لأظل لحظات معلّقة فى الهواء. لم أرتعب وإنما فكّرت فى أنّ هذا يمكن أن يحدث لأيّ يوجي فى أيّة لحظة. استطعت العودة بأمان إلى الأرض من جديد.

لم أقابل الجورو المسؤول عن المكتبة، وخرجت من الباب بمنتهى الهدوء، لأذهب إلى معبد صغير، يقع فى نفس الشارع غير بعيد عن الفندق، دخلته فوجدت مجموعة من السيّدات الهنديّات الجالسات على الأرض يغنين بالهنديّة فشاركتهن الغناء:

أوم ناما / شيفا نايا ترلملم          أوم ناما / نارا نايا ترلملم

أجا نيتا / جونا رام ترلملم           أفانى نا / نا يارام ترلملم

انضمّ إلينا رجلان، واستمرّ الغناء حوالي ساعة، أغاني هنديّة دينيّة مثل تلك التّي تعلمتها فى المركز الثقافيّ الهنديّ بالقاهرة (أبو الكلام آزاد)، وكانوا قد سلمّوني كلمات الأغنيّات مكتوبة بحروف لاتينيّة، حتى أتمّكن من متابعتهم فى الغناء، وهى سهلة النطق وسهلة الحفظ، لوجود حروف متحرّكة كثيرة مع كلّ الحروف الساكنة، وكلّ الأبيات تتكوّن هكذا، من مقاطع واضحة، تحفظ بسهولة الإيقاع الداخليّ للأغنيّة.

خرجنا سويّاً إلى حديقة المعبد، وقدّمت لي سيّدة هنديّة طعاماً أكلت منه معهم. كانت هذه أوّل وجبة لي منذ أربع وعشرين ساعة. لم أكن الأوروبيّة الوحيدة الموجودة فى المكان، كانت هناك فتاة تتحدّث الانجليزيّة بلهجة أمريكيّة، وكانت هناك مجموعة من الشباب الألماني. وهكذا بدأت أستعمل اللغات المختلفة فى توجيه عبارات إلى كلّ من حولي، بالفرنسيّة والانجليزيّة والألمانيّة والإيطالية والإسبانية والعربيّة، وبعض الكلمات الهنديّة، فبدأ الجميع يتساءلون عن تلك التى تتحدّث بكل تلك الألسنة، مثل القديس بولس الذي كان يبشر في أوروبا، فيتحدث اليونانية واللاتينية والأرامية والعبرية.

خرجت وحدي من حديقة المعبد، وإذا بي أدخل المستشفى فى نفس الشارع. دخلت دون أن أتحدّث بأيّة كلمة إلى الحارس الواقف على الباب، لم يجرؤ على توجيه أىّ سؤال لي، ليعرف إلى أين أذهب، كنت لاحظت سابقاً مرات عديدة فى الهند، وفى مصر، أنّ الملامح الأوروبيّة وحدها كافية كجواز مرور إلى أيّ مكان فى هذين البلدين.

وجدت المرضى الفقراء يفترشون الأرض فى الممرّات بين الحجرات، لأنّ عدد الأسرّة لم يكن كافياً لاحتياجات المرضى الفقراء من أهل هذه المدينة، ولكن هؤلاء المرضى الفقراء كانوا يأكلون، لاحظت كذلك أنّ ملابسهم والأغطية التى يفترشونها على الأرض كلّها نظيفة، وسعدت جداً عندما أدركت إلى أىّ حدّ يهتم الجورو المسؤولون عن هذا المستشفى بالفقراء، ولا يميّزون بينهم وبين المرضى الأغنياء، لا فى الطعام ولا فى الأغطية.

سألت أحد الممرضين عن المكان الذي يترك فيه المتبرّعون المجهولون تبرّعاتهم. قال لي إنّ المكان الوحيد الصالح لهذا هو صندوق العطايـا الموجود في المعبد الكبير، أمام الهيكل، الذي لا يفتح أبداً إلاّ فى وجود كلّ الجورو المسئولين عن كلّ أنشطة المدينة، المستشفى وملجأ الأيتام والمكتبة والمعبد، وكلّها مجانيّة للفقراء. وجدت معي ثلاث ورقات فئة مائة دولار، وثلاث ورقات أخرى فئة عشرة دولارات، ووجدت أن الرقم 330 دولار قريب الشبه جدّاً من عدد سنوات عمرى، والتى سأحتفل بها غداً، 33 سنة، فتفاءلت جدا بهذه الصدفة، ثم تساءلت بيني وبين نفسي (يجوز أن عمري 330 سنة وأنا لا أدري؟)

كنت كأنني منوّمة مغناطيسيا. ذهبت إلى المعبد الكبير فى الطرف الآخر من المدينة، واستغرقت الرحلة ربع ساعة على الأقدام، ووضعت ذلك المبلغ فى الصندوق الكبير. جاءت سيّدة تقول إنّها كانت معي صباحاً فى المعبد الصغير، وأنّ هناك بائع كتب متجوّل، يبحث عن سيّدة أجنبيّة كانت تسأل عن كتابين هذا الصباح في المكتبة، وغضبت جدّاً عندما لم تجدهما، وأن هذا البائع المتجوّل قد أحضرهما لها، وسألتني إن كنت أنا تلك السيّدة الأجنبيّة فقلت (نعم) وشكرتها. خرجت إلى الرصيف أمام المعبد، لأجده قد تعرّف عليّ فى الحال، ووجدت معه الكتابين اللذين شاهدتهما أمس مع كرستين فى حصّة اليوجا، فاشتريتهما منه بما يعادل ثلاثة دولارات (صحيح أنها رديئة الطباعة جدا، وعلى ورق هش، ولكن الكتب رخيصة جداً فى الهند)،

وإشتريت منه كذلك كتباً أخرى، وكان سعيداً جدّاً بهذه الصفقة.

عرفت أنّ لديه مكتبة في مدينة قريبة، وأنّه يضطرّ أحياناً إلى التجوّل هكذا يبيع الكتب ليزيد من مكاسبه، ثم أعطاني الكارت الذي عليه إسمه وعنوان مكتبته، ثمّ أعطاني كذلك هديّة صورة بالألوان للجورو الذى يعتبره أباه الروحيّ، ويبلغ من العمر مائة وخمسين عاماً، ولا يزال بصحّة جيّدة. كان هذا البائع وكأنّه لا يريد أن يتركني، وقد عرض عليّ أن أذهب معه إلى مدينته لأقابل زوجته وأطفاله، ولأتناول معهم وجبة طعام، إلا أنني كنت مرهقة جداً فشكرته واعتذرت له قائلةً (ينبغي أن أعود إلى الفندق لأستريح قليلا). عندها توقّف عن متابعتى على الرصيف، وقبل أن أبتعد عنه كثيراً، أخرج من جيبه آلة تصوير، والتقط لي صورة!! هذا نادر الحدوث تماماً بالنسبة لشخص هندي، قلت فى نفسي (لقد أدرك أنني يسوع المسيح وأنني أجول في البلاد أصنع خيراً).

في المساء عندما دخلت الفراش تتابعت في ذهني مناظر من حياتي، وبعض أحلام وكوابيس طفولتي. الكابوس الّذى كثيراً ما راودني وأنا طفلة فى السابعة من عمري، أرى نفسي فيه وقد سقطت من شرفة المنزل الفخم الذى كنّا نسكن فيه فى (كان)، أنا وأبي وأمي، الكساندرا بالاس، أرى نفسي وقد وقعت من الشرفة فى حمّام السباحة الموجود أسفل المنزل، وظللت أصارع الماء وأغوص فيه وأطفو مرّات عديدة، وأنا أصرخ ولا أحد يلتفت إليّ، رغم وجود العديد من السيّدات والرجال والأطفال الواقفين فى النوافذ وفى الشرفات، يشاهدونني وأنا أغرق، ولا أحد منهم يفعل أيّ شئ، إلاّ أن يشير بذراعه إلى من معه على المكان الذى كنت فيه، فقط لمشاهدتي وأنا أغرق، وكنت دائماً أستيقظ مفزوعة.

كان ذلك الكابوس قد بدأ يراودني عندما كنت في السابعة، وكانت الأسرة مهدّدة بسبب إنفصال أمي وأبي، الإنفصال الذي أصابنى باكتئاب شديد، عندما اكتشفت أنّ أبي لا يعود مساءاً إلى المنزل كما كان معتاداً أن يفعل كلّ ليلة، ليداعبني ويقدّم لي الشوكولاته، ويتناول عشاءه معي ثم يحملني إلى الفراش. افتقدته بشدّة ولم تستطع أمى أن تفسّر لي سبب غيابه.

تصفحّت عدداً من الكتب الّتي اشتريتها ظهر هذا اليوم من البائع المتجوّل، فوجدت في واحدٍ منها مجموعة من الصور الملوّنة للقادة الروحيين الهنود، وكلّهم فى السبعينات من العمر، ولكلّ منهم لحية بيضاء جميلة، ويحتفظون بملامح شابة، وبشرة نضرة، وأعين يقظة، وشبه ابتسامة على الوجوه. يبدو أنني نمت قليلاً، ثم استيقظت على طرقات خفيفة على باب حجرتي، قمت وفتحت الباب، فوجدت شاندرا ومعه صبيّ جميل جدا فى حوالى الرابعة عشرة من عمره، قال إنّه أحد أولاد أعمامه، وأوضح إنّهما قد جاءا ليسألا عنى، عندما لم أحضر حصّته بعد الظهر، وعندما سأل عنّى زملائى، ذكروا له إنّ أحداً لم يرنى طوال اليوم.

أمسكت بذراعيهما وطوّقتهما واضعةً ذراعي الأيمن حول كتفيْ شاندرا، والأيسر حول كتفيْ ابن عمّه، وأجلستهما إلى جواري على الفراش، وطلبت منهما بإلحاح ألاّ يتركاني (هل كنت أشعر بالخطر القادم؟). بدا على وجه شاندرا بعض الدهشة، وحاول بإلحاح أنّ يفكّ ذراعي من حول كتفيه، فطاوعته ولكنّ ذراعي الآخر ظلّ حول كتفيْ الصبي. قام شاندرا قائلاً إنه لا يستطيع أن يبقى لأن لديه مسائل هامة عليه أن ينجزها، ثم أخذ الصبيّ من ذراعه وخرجا، بعد أن أكدّت لهما إنّ كلّ شئ على ما يرام. بعد لحظات ظهر رأس شاندرا فى الباب وقال لى مع ابتسامة خفيفة إنّه قد يعود. وكانت هذه هي آخر مرة أراه فيها. بقيت ساعة فى الفراش، وأعتقد أنني قد غفوت من جديد، استيقظت على طرقات خفيفة، فقفزت من الفراش معتقدة أن شاندرا قد عاد، ولكنّي عندما فتحت الباب وجدت الصبي الذي كان مرتبكاً جداً، يتلعثم وهو يتكلّم. أدخلته وأغلقت الباب خلفه، أخذته من يده وأجلسته بجواري على الفراش، ولكنه ترك مكانه ليركع أمامي ويقبل قدميّ، ثم يحضن ساقيّ، ثم يقبل يديّ، ثم وقف فأخذته بين ذراعيّ.

كان صبيّاً جميلاً جدّاً ذا بشرة سمراء داكنة، وشعر أسود غزير، قبّلت رأسه قبلة أمّ، وشعرت للحظة إنّه قد يكون إبني الذى فقدته فى عمليّة حمل خارج الرحم قبل ثلاث سنوات، ولكني تساءلت في لحظة كيف أنّه نما بهذه السرعة، لأنّه لو كان قد وُلد في ميعاده لأصبح الآن بالكاد في الثالثة من عمره. في لحظة خلع هذا الصبيّ رداءه، ولم يكن يرتدي أيّ شيء آخر تحته، وكان عضوه الصغير منتصباً تماماً، لم أشعر بأيّة لذّة جنسيّة معه، في واقع الأمر لم أشعر بأيّ شئ على الإطلاق، كأنّي كنت غائبة عن الوعي، لم أشعر به إلاّ وهو يقبل يديّ من جديد، بعد أن ارتدى ملابسه، وهمّ بمغادرة الغرفة. عندما وجدت نفسي وحدي على الفراش تساءلت (هل أصبحت من فتيات المعبد بسبب غنائي فيه هذا الصباح؟ هل أصبح محكوماً عليّ أن أقبل دون أية معارضة ممارسة الجنس مع كل المؤمنين الّذين سيزورون المعبد ثم يمرّون علىّ هنا فى حجرتي بالفندق القريب؟)

لم أندم لحظة واحدة على ما فعلته مع هذا الصبي، فأنا أعرف إنّه ما زال فى سن إلحاح الرغبة، مع عدم وجود أيّة محاذير فى الديانة الهنديّة فيما يتعلّق بممارسة الجنس، المحاذير التي قد تتولد لديه فيما بعد إذا كان منتمياً إلى إحدى الديانات السماويّة، التى تحظر الممارسة الجنسيّة خارج إطار الزواج، حيث يرتبط الجنس بالخطيئة الأولى، خطيئة أبينا آدم وأمنا حوّاء عندما أكلا من شجرة معرفة الخير والشر، فأدركا أنهما عاريان. فى الحضارة الهنديّة يرتبط فعل الجنس بفعل الخير، ولا يرتبط بأيّ إحساس بالحرام، أو حتّى بالعيب. قبل أن أغيب من جديد فى النوم خطرت ببالي فكرة أنّ شاندرا ما زال بتولاً لم تكن فى حياته بعد أيّة إمرأة، فهناك فئة من رجال الدين الهنود ينجحون فى التجاهل التام لكلّ رغبات الجسد، مثل الشبان الأقباط الذين يذهبون الى أديرة الصحراء لممارسة حياة الرهبنة والزهد.

2 نوفمبر 1993: أتممت اليوم عامي الثالث والثلاثين، فأصبحت مثل يسوع المسيح مؤهّلة تماما للتضحية بحياتي في سبيل أخوتي البشر. إستيقظت قبل شروق الشمس، وكنت تلك الليلة قد نمت باستغراق. أخذت حمّامي الصباحي البارد، وارتديت ملابس بسيطة بلوزة وبنطلون رغم برودة الجو، ولأوّل مرّة أخلع نظارّتي الطبيّة، وأخرج دونها، قلت فى نفسي لم أعد فى حاجة إليها، وخرجت حافية القدمين.

ذهبت إلى المعبد الصغير مشياً على الأقدام على بعد مائتي متر، لم ألمح أي شخص فى الطريق، اقتربت من البوّابة وكانت هناك ثلاثة كلاب تنبح نباحاً خفيفاً، اقتربت منّي عندما رأتني، وكانت ما تزال تنبح، ولكنّي لم أشعر على الإطلاق بأي خوف منها، فتحوّل سلوكها العدائي إلى سلوك ودّي محبّب، فبدأت تهز ذيولها، وتحوّل النباح إلى نوع من الهمهمة، وبدأت فى لعق قدميّ ويديّ، قلت فى نفسي (لابد أنّ آلهة المعبد ترحّب بي، وأنّ هذه الكلاب هي أيضاً ترحّب بي، وقد أدركت أنني يسوع المسيح).

إثر هذه الضجّة فتح أحد الحراس باب المعبد، فدخلت دون استئذان، وقلت له صباح الخير، فتركني أدخل. وجدت عدداً من الرجال والنساء والأطفال يفترشون أركان المعبد، تاركين المساحة الوسطى خالية، فالأركان أكثر دفئاً، وكانوا نياماً. أعرف أن هذا المعبد يُفتح مساءاً للحجّاج الفقراء القادمين من مسافات بعيدة ليناموا فيه، دخلت إلى ساحة المعبد المكشوفة للسماء ولحق بي الحارس يسألني ماذا أريد. لم أقل أيّ شيء ولكنّي أخذته من ذراعه في اتّجاه الهيكل حيث توجد على جدرانه الخلفيّة رسومات ملوّنة بالنحت البارز لسيّدات هنديّات راقصات.

ذكرت له بالإنجليزيّة أن هؤلاء الراقصات يشبهن آلهة الحب فى مصر القديمة، وأشرت بيدي الى واحدة من الراقصات، ثم دون أن أنتظر ردّه بدأتُ أرقص وأغنّي الأغنيّة الهنديّة الّتي تعلّمت لحنها أمس، في نفس هذا المكان، بدأت الغناء بصوت منخفض، ثم عندما ازددت حماساً أصبح الصوت أكثر ارتفاعاًّ. كان رقصي متقناً جدّاً، حركاتي وانحناءاتي كلّها سليمة حسب التقاليد الهنديّة، الكفّان مضمومان أمام الذقن، والذراعان مرفوعان إلى الجانبين، مع ثني الركبتين وفتح الساقين بزاوية منفرجة، وتحريك القدمين حركة خفيفة على إيقاع لحن الأغنيّة، وهزّ الرأس إلى الجهتين بإيقاع منتظم على إيقاع القدمين. انبهر حارس المعبد دقيقتين، لكن عندما ارتفع صوتي بدأت الرؤوس النائمة تستيقظ، وتستطلع الذي يحدث، بدأ الحارس يتضايق وأخذني من ذراعي في اتّجاه باب المعبد، عندما قاومته أصبحت قبضة يده قاسية حول ذراعي، فتوقّفت عن المقاومة، ثم وجدت نفسي خارج المعبد وقد أعاد الحارس غلق الباب خلفي.

عدت إلى الشارع من جديد، وقد تضايقت بعض الشيء وتساءلت: كيف أنّ هذا الحارس الغبي لم يدرك حقيقة شخصيّتى؟ هل أعود اليه لألعنه؟ كانت السماء لا تزال مظلمة تماماً، وأنوار الطريق خافتة جدّاً وعلى مسافات كبيرة. استطعت تلمّس طريقي من جديد، وقرّرت الذهاب إلى المعبد الكبير. عندما وصلت إليه كانت بوابته الرئيسيّة مفتوحة، فذهبت أوّلاً إلى الأحواض الجانبيّة وغسلت قدميّ من تراب الطريق. غسلت القدمين والساقين، بدأت فى غسل الرأس والعنق واليدين والذراعين، كما يفعل المسلمون فى الوضوء، وكنت أشاهدهم كثيراً فى مساجد القاهرة التى أزورها مع السيّاح، واعتقدت للحظة أنني قد تحوّلت إلى الإسلام! ثم تساءلت بيني وبين نفسي كيف إذن يمكنني أن أكون يسوع المسيح؟ وقد حيّرتني تلك المسألة قليلاً.

وأنا في المراحيض كنت أسمع صوت غناء قادم من بعيد، وعندما اقتربت من الهيكل وجدت عدداً من المؤمنين والمؤمنات يغنّون معاً واحدة من أغنيّاتي المفضّلة، وكان هناك كذلك عدد هائل من الشموع الموقدة على أرضية المعبد الرخامية، بالإضافة الى عدد منها ظلّ موقدا طوال الليل أمام عدد من صور (شيفا ناندا) الفوتوغرافيّة كبيرة الحجم، صور له فى شبابه، ثم صور أخرى عندما تقدّم به السن تظهر فيها لحيته البيضاء وعيناه اللامعتان، هناك كذلك لوحة كبيرة برسم اليد وبالألوان المائيّة أو الزيتيّة على قماش. عرفت أن اليوم هو أحد أيّام الاحتفالات الدينيّة الهامة، ولذلك فإنّ الصلوات والرقصات والطقوس المختلفة بدأت اليوم مبكّـراً جـدّاً. وحيث إن اليوم هو عيد ميلادي فقد اعتقدت أنني المقصودة بالاحتفالات، وهكذا تأكّدت بالتدريج من أنني فعلاً الصورة التي عاد فيها (شيفا ناندا) إلى التجسّد من جديد!

نسيت تماماً ولو لفترة مؤقّتة مسألة كوني يسوع المسيح. وحيث إن العيد عيدي، شاركت المحتفلين فوراً غناءهم، وأصبح صوتي سريعاً هو أعلى الأصوات، وكانوا ينظرون إليّ، وكانت وجوههم مبتسمة. فقدت إحساسي بالزمن، ولم أعد أدرك إن كنت قد بقيت ساعة واحدة أو ساعات، ولكنّي شاركتهم الغناء ثم شاركتهم الرقص عندما قامت الفتيات للرقص مع عدد قليل من الفتية، وكانت هناك شرائط موسيقيّة مسجّلة تذاع من ميكرفون داخلي، مع استمرار توافد أعداد كبيرة من الحجّاج الزوّار على المعبد، وكانت كل الفتيات اللائي يشاركنني الرقص يتساقطن من الإعياء واحدة بعد أخرى، أمّا أنا فلا، لم أشعر بأي تعب.

فجأة وحول منتصف النهار، وقد أدركت ذلك من تلاشي ظلّي تماماً من على الأرض حين كانت الشمس تسقط عموديّة، اختفوا جميعاً، انسحبوا جميعاً بالتدريج، العشرات بعد العشرات، ووجدت نفسي وحدي فى وسط فناء المعبد، ولم يعد فى أركان المعبد إلا العجائز الّذين يفترشون المكان ليلاً ونهاراً، يبدو أنّ كلّ الآخرين ذهبوا إلى النهر لممارسة طقوس التطهّر. كان كهنة المعبد منشغلين بفتح صندوق التبرعات وعدّ النقود، فلم يلاحظوا اقترابي من صور (شيفا ناندا)، ولمسها وتقبيلها، كما يفعل أقباط مصر مع صور الأيقونات.

أنا اعتقد مخلصة أن فترة إقامتي فى مصر أفادتني فى فهم طباع البشر وعاداتهم، خاصة التقاليد الدينيّة في كل من الإسلام والمسيحيّة. كما كانت شوارع مصر وحواريها وأسواقها وميادينها، وامتلاء هذه الأماكن كلّها بالبشر ليل نهار، مرحلة انتقاليّة مهمّة حتى أستطيع أن أصل إلى الهند. أعتقد أن الأوربيّين الّذين ينتقلون مباشرة من مدنهم الأوروبيّة، المثلّجة المعقّمة المجفّفة المجوّفة إلى مدن الشرق الأسيويّة في الهند مثلاً، فى بومباي أو دلهي أو مدراس أو كلاكوتا، يصابوا بصدمة حضاريّة فظيعة، أمّا أنا فوضعي مختلف حيث إنّ هذا لم ولن يحدث لي.

لاحظت أنّ عيون (شيفا ناندا) في كلّ هذه الصور تتابعني، هو ينظر إليّ وعلى وجهه ابتسامة، سواء كان ذلك في صوره شاباً صغيراً، أو في صوره عندما أصبح شيخاً عجوزاً. اقتربت من اللوحة الكبيرة المرسومة بالألوان على القماش، ولاحظت أن الشفتين تتحركان، كأنّه يتحدّث إليّ، أو يريد أن يقول شيئاً. اقتربت منه أكثر، حتى لامسته بجسمي، وحاولت وضع أذنيّ على فمه، ثم قلت له بالإنجليزيّة (لا أفهم الهندية لأعرف ما تقوله، لماذا لا تحدثني بالانجليزية التي نتقنها كلانا؟) لكنه سكت عن الكلام، وتحيّرت ماذا أفعل، وقفت أمامه وكأنني أريد أن أهزّه من كتفيه، إلاّ أنّه لا فائدة. فى تلك اللحظة ندمت بشدّة على أنني لم أبذل مجهوداً كافياً فى تعلم اللغة الهنديّة، الّتى كنت بدأت تعلّمها فى مركز أبو الكلام آزاد في القاهرة. قبّلته في أماكن مختلفه من وجهه، وفي عينيه وفي شفتيه، ثم غادرت المكان.

وقفت لحظة عند مدخل المعبد في المكان الذى تترك فيه الأحذية، ولم أجد حذائي، كنت قد نسيت تماماً أنني خرجت هذا الصباح من حجرتي حافية بدون حذاء، فبدأت أتكلّم بصوت مرتفع باللغة الإنجليزيّة (أعيدوا إلىّ حذائي المسروق يا كلاب)، وأحدثت ضجّة كبيرة جاء على إثرها شخص، ومعه حذاء خفيف مفتوح، وضعت قدميّ فيه فوجدت أنه يناسبني، أعتقد أنّ إدارة المعبد تستعدّ لمثل هذه المواقف بشراء عدد من الأحذية البديلة للإستعمال.

عندما عدت إلى فندقي، أخذت دوش ماء بارد، وتمددت فى فراشي وغبت فى نوم عميق، رغم أنني كنت أريد أن أستيقظ بعد ساعة، للذهاب إلى حصّة شاندرا بعد الظهر، ثم للذهاب معه مساءً إلى مزرعة عمّه راما، وهناك أذكر لهم أن اليوم هو عيد ميلادي. غلبني النوم وعندما رفعت رأسي من جديد كان الظلام قد حلّ بالمكان، فانزعجت بشدّة وقفزت من الفراش، وارتديت ملابسي بسرعة، وجريت إلى الصالة التي يعمل فيها شاندرا. عندما وصلت إلى هناك لم أجده، وإنما وجدت أحد أصدقائه الّذي قال لي إنّه انتظرني طويلاً حتى السابعة مساءاً، ثم غادر المكان، وقد ذكر لي كذلك أن هناك من قال له إنني كنت قد بقيت طوال الصباح أرقص فى المعبد الكبير. حزنت لأنني لم أتمكّن من الاحتفال معه بعيد ميلادي، وأنني لن أذهب معه إلى مزرعة عمّه، خسارة. حضرت كرستين فجأة بالصدفة، وذهبنا نحن الثلاثة، أنا وهي وصديق شاندرا إلى مطعم شعبي لنأكل سويّاً، وهناك كانا الوحيدين اللذين أخبرتهما بمسألة عيد ميلادي.

3 نوفمبر 1993: استيقظت فى الرابعة صباحاً، وكنت أعتقد أن اسمي هو (أطلانطا)، وأن والدي ووالدتي الحقيقييّن سيأتيان إليّ هذا الصباح من تحت الماء، لاصطحابي معهما عائدين سويّاً إلى مملكتنا البحريّة (أطلانطيس)، حيث يمكننا أن نقيم معاً إلى مالا نهاية، حتّى بعد نهاية عصر رجل الماء (أكواريوس)، الّذي بدأ منذ أيّام. وحتّى أكون مستعدّة لاصطحابهما، فقد تركت كلّ متعلّقاتي فى حجرتي بالفندق، أوراقي الشخصيّة (الباسبورين المصريّ والفرنسيّ)، وكارت الضمان البنكيّ، ونقودي السائلة. لن أستردّ كل هذا إلاّ في مستشفى دلهي ليلة عودتي إلى القاهرة، كنت أقول فى نفسي إنّ هذه الأشياء لم تعد لها قيمة، خرجت كذلك دون نظّارة، ودون ساعة، ودون حذاء.

ارتديت فقط جلباباً مصريّاً واسعاً كنت قد أحضرته معي من مصر فى حقيبتي بالصدفة، يصل إلى القدمين وبه تطريز من نقوش عربيّة وإسلاميّة حول فتحة الصدر. كنت أقول فى نفسي أنه (يسهل خلعه عندما أرى أهلي من جديد، وعندها سنقفز كلنا عراة تماما عائدين إلى الماء) ولم أكن أرتدي أسفل هذا الجلباب أيّة ملابس أخرى.

في المعبد الصغير كانت مفاجأة سارة لي أن أجد الباب مفتوحاً، وأن أجد نفس جوّ الأمس الاحتفاليّ، رغم وجود بعض النيام فى الأركان. عند الأحواض كان هناك رجل عجوز يقوم بأداء طقس الطهارة بغسل الجسم كلّه، وكان يضع منشفة حول وسطه، ذهبت إليه لأؤدّي نفس الطقس مثله، وبمنتهى البساطة خلعت الجلباب، فحوّل وجهه إليّ، ووجدت على وجهه تعبيراً ذاهلاً، ثمّ أمسك بعصا كانت ملقاه على الأرض وبدأ يضربني بها بشدّة على جسمي، تألّمت وقاومت الصراخ، وجاءت بعض النسوة وألبسنني ثوبي من جديد وهنّ مبتسمات، وأخرجني الحرّاس من المعبد بالقوة. لم أفهم سبب العنف والقسوة في الضرب وفي الطرد، تساءلت بيني وبين نفسي كيف أن هذا العجوز لم يدرك بعد نهاية عصر الخوف من العري، وبداية عصر الحب، حزنت لحاله فإنه رغم تقدّمه فى السنّ لم يكن يدرك هذه الحقائق البسيطة.

مشيت في اتّجاه الكنيسة، وجدت بابها هي الأخرى مفتوحاً، فدخلت واقتربت من الهيكل، ومن جديد عندما وجدت حوض المعموديّة، وكان ممتلئاً بالماء، خلعت الجلباب وبدأت آخذ الماء من الحوض بين كفيّ وأدلقه فوق رأسي. لم أكن أدرك تماماً ما أفعله، كنت طفلة صغيرة على شواطئ جنوب فرنسا، وكنّا نبقى عراة، حتى الكبار كانوا يخلعون كلّ ملابسهم. أحسست بحركة خلفي، ومن جديد جاءت النسوة وألبسنني ثوبى بالقوّة، قلت لهم (أنا اسمي أطلنطا) ثم أتهجّى الاسم A.T.L.A.N.T.A. (وأهلي قادمون الآن ليصطحبوني الى تحت الماء حيث كنّا نسكن لسنوات طويلة)

إلاّ أنّ أحداً لم ينصت إليّ، وحتّى إن أنصت فهو لا يفهم ما أقول. مشيت في الشارع حتى المعبد الكبير، وفوجئت بأن حراسّه يمنعونني من الدخول، رغم أنّ الأبواب كانت مفتوحة، هل إتّصلوا بهم تليفونيّاً؟

هل أخبروهم بما فعلته هناك؟ اغتظت جدّاً، وجلست على قارعة الطريق أمام المعبد، أراقب الداخلين إليه والخارجين منه بحسرة، أردت أن أقول بصوت عال (أعيدوا اليّ 330 دولارا وضعتها في صندوق نذوركم) ولكني لم أفعل.

لاحظت وجود أحد الشحاذّين جالساً على نفس الرصيف فاقتربت منه وبدأت أتحدث اليه، فنظر إليّ ولكنّه لم يرد، وعندما مرّت أمامنا عائلة هنديّة ذاهبة إلى المعبد من أب وأم وأطفال، قال لهم هذا الشحّاذ شيئاً لم أفهمه باللغة الهندية، فأخرجوا النقود وأعطوه منها، فى تلك اللحظة مددت أنا أيضاً يدي وقلت لهم بالإنجليزيّة  me too (أنا أيضاً) فابتسمت الأسرة وأعطاني أحد الأطفال قطعة حلوى، أخذتها منه وقذفتها من جديد فى وجهه، وقلت فى نفسى (لماذا يعطونني أنا قطعة حلوى فى حين أنهم قد أعطوا ذلك الرجل قطعة نقود؟). شاهدتني فتاة أجنبيّة غالبا هي أوروبيّة، فجاءت لتأخذني من يدي، قمت معها ولكنّها أصرّت على الاحتفاظ بيدي فى يدها، فنزعتها منها بعنف، وجريت فى اتّجاه الغابة المواجهة للمعبد، دون توقّف لبضع دقائق، وكنت أعتقد أنهم يجرون خلفي، إلاّ أنني عندما نظرت خلفي وجدت أن أحداً لم يتبعني.

كانت القرود تتعلّق فوق أغصان الشجر، وتنزل أحياناً إلى شوارع البلدة، ولم يكن أحد يتعرّض لها بالأذى، وهكذا كانت تتآلف مع السكّان، إلاّ أنّ دخولي الغابة جرياً وبطريقة عنيفة أزعجها، لأنّه جعلها تشعر بالخوف، فبدأت تقذفني بثمار جوز الهند الخضراء، الّتى لم تكن استوت بعد، فبدأت أعود إلى خارج الغابة. أحد تلك القرود الشريرة جرى خلفي، وأمسك بطرف ثوبي الغالي وجذبه فتمزق في يده. غشني التاجر المصري الملعون، فهذا القماش شايط (يجب أن أعود اليه في إسنا لأسترد نقودي). على الرصيف وجدت حوض ماء تشرب منه بعض الماعز، فخلعت ما تبقى من الثوب، وجلست على حافة الحوض أغسل أطرافي الملوثة (أين أهلي؟ لماذا لم يحضروا بعد لاصطحابي عائدين الى بلادي الجميلة، بلاد طفولتي وشبابي؟).

جاءت سيارة الشرطة، وألبسوني بالقوّة ثوبا من أثوابهم القذرة، واقتادوني إلى قسم البوليس، وأجلسوني على كرسي أمام المحقق، فقمت من مكاني وقبّلت المحقق على شفتيه، ولم يستطع أن يقاوم الإبتسام، رغم مظهره الجاف، وعندما أردت أن أفعل نفس الشيء مع الجنود الواقفين فى القاعة، كانوا يشيحون بوجوههم عني، ومع ذلك تمكّنت من تقبيلهم على جباههم وخدودهم. كنت أعتقد أنّهم جميعاً يعرفون أننا في بداية عصر الحب لجميع البشر.

جموع هائلة من البشر في الشوارع والحدائق، وأتى الحجّاج من كل مكان. سمعت صوت المروحيّات (الهليكوبتر)، فاعتقدت أن هذه الطائرات كانت تحمل الوفود الرسميّة القادمة للاحتفال بي، كرسولة للحب والسلام في العالم. لمحت حذاء شاندرا الأحمر المنقوش بألوان ذهبية أسفل مكتب المحقّق، فاعتقدت أنّ كلّ هذه الاجراءات هي للإحتفال بزفافي عليه، وأنّ رئيس الجمهوريّة سيأتي بنفسه لحضور الزفاف.

وجدت على مكتب المحقّق أوراقاً وأقلاماً ملوّنة، فانشغلت بها ورسمت عليها رسوما صغيرة ملوّنة لنجوم وأزهار وطيور وصلبان ورسومات هندسيّة، تشبه تلك التى كنت أرسمها عندما كنت فى السابعة من عمرى عند المحلّل النفسىّ الدكتور بلوخ، الطبيب اليهودي القذر الذي كان يعبث بجسمي، وأنا طفلة في العاشرة من عمري، ولم أجرؤ أبدا على أن أشتكي منه لوالدي، لأن والدي كان يحبه ويحترمه، لم أجرؤ، وكانت أمي تقول ان والدي يتبع تعاليم الكاباليزم cabalisme، وسينضم اليهم.

لم أكن أعرف بالضبط أين أنا؟ هل أنا في فرنسا أم في مصر أم في الهند؟ لم أكن أعرف بالضبط ما هو سنّي؟ هل أنا طفلة صغيرة في السابعة؟ أم في الثالثة والثلاثين؟ أم أن سنّي هو مئات السنين؟

ذهبوا إلى الفندق حيث أقيم، وأحضروا منّه أوراقي، وقد حيرتّهم جدّاً مسألة وجود جوازين للسفر، أحدهما مصريّ والآخر فرنسيّ، ويبدو أنّهم سألوا فعرفوا أنّ هناك اتفاقيّات بين هذين البلدين تسمح بامكانية الجمع بين الجنسيّتين، فاتصلوا بالسفارتين، إلاّ أن السفارة التي ردّت فوراً وتكفّلت بدفع نفقات انتقالي إلى مستشفى الأمراض النفسيّة فى دلهي هي سفارة فرنسا، أما سفارة مصر فلم تكلّف نفسها حتى عناء الرد، (كنت أعرف أن المصريين سيتخلّون عني في أقرب فرصة، فهم لا يحتملون صدقي وصراحتي).

بعد قسم البوليس نقلوني إلى حجرة بالفندق برفقة ضابطة بوليس هنديّة، وكذلك اثنتين من السيّدات الأجنبيّات كانت بينهما كرستين. كنّ يراقبنني جيّداً، ولم أترك بعد ذلك لحظة وحدي، كانت هناك دائماً سيّدة ما معي فى حجرتي، وكنت أتظاهر بأخذ الأدوية، التي يعطونني إيّاها، في حين أنني كنت أبصقها على الأرض، أو أخبئها فى يدي لأتخلص منها لاحقا، كنت أعتقد أنني لست في حاجة إلى أدويتهم. عندما حلّ ظلام تلك الليلة الأولى في المستشفى المحلّي، لاحظت أن نوافذ حجرتي عالية جداً، بارتفاع حوالي مترين ونصف، وأن عليها قضبان، وبذلك فهي أقرب إلى أن تكون حجرة في سجن، وكان باب الغرفة من الخشب السميك، ولم أعد أعرف إن كنت مريضة في مستشفى أم أنني مسجونة؟ وحزنت جداً لأنني لا أستطيع أن أخرج من هذا المكان الكئيب.

بدأت أخرج مع الممرّضة في ملابسها العادية وليس يونيفورم المستشفى، إلى الشوارع المزدحمة والمحلاّت التجاريّة، حتى أستعد نفسيّاً للعودة إلى الحياة الطبيعيّة. سألوني هل نحجز لك تذكرة عودة إلى فرنسا أم إلى مصر، قلت مصر وأضفت أن هذا هو بلدى. عندما خرجت من الطائرة في مطار القاهرة، أحسست بالخوف من الزحام، ومن هذه الآلاف من البشر، إلاّ أن رؤية ناجي وإحساسي بالأمان عندما أخذني فى حضنه، ثم قادني آخذا بيدي إلى سيّارته الصغيرة، جعلني أشعر بالإرتياح، كأني وصلت إلى خط نهاية سباق طوله آلاف الأميال، أو كأني كنت أغرق فى محيط لا نهاية له ثم امتدّت يد لتنتشلني من الماء.

 

نهاية العالم الآن

(1)

منذ اليوم الأول بعد عودتها من فرنسا، حيث أقامت ثلاثة أشهر في مستشفى الصحّة النفسية في مونبيلييه، لاحظت:

- أولا زيادة فى نشاطها الجسمانىّ، إنّها تنزل فى اليوم الواحد الى الشارع عشر مرّات لأسباب تافهة، مثلاً لعمل نسخ فوتوكوبى من أوراق دراسة كورس اللغة العربيّة، الذي تتابعه في معهد الآي ال آي في المهندسين، ثم تصعد إلى الشقة وتعود إلى النزول من جديد بعد ربع ساعة لشراء أقلام، ثم تصعد إلى الشقة وتعود إلى النزول من جديد بعد ربع ساعة لشراء كرّاسات، وهكذا...

- ثانيا إنّها أثناء وجودها في البيت، لم تتوقّف طوال النهار عن استعمال التليفون، فبمجرد إنتهائها من مكالمة تبدأ فى إجراء مكالمة أخرى، وتتكلّم بصوتٍ مرتفع وتقريباً دون توقّف، أعتقد إنّ أولئك الّذين تتحدث إليهم لا يجدون الوقت الكافي للرد عليها، فهي أحياناً تسأل أحدهم سؤالاً، ثم قبل أن يردّ عليها تكون قد قامت هي بذلك نيابةً عنه، ثم تسأله سؤالا جديدا، ثم إنّها تضحك كثيراً بسبب وبدون سبب أثناء إجراء هذه المكالمات التليفونيّة. أدركت أن هناك فعلا ما يدعو الى القلق.

جاءت الدكتورة إستر من مكان ما فى أمريكا اللاتينيّة، من البرازيل أو الأرجنتين لا أعرف. كأنه لا تكفينا خزعبلات المجانين المقيمين فى القاهرة، حتى تأتينا خزعبلات قادمة من بلاد أجنبيّة. أنا لم أرها إطلاقا تلك الدكتورة، ولكن حسب وصف ريتا لها فهى كاملة الأوصاف، جميلة وطويلة وانسانة وحسّاسة.

سألت (هى دكتورة فى أى شىء بالضبط؟)

قالت (لا أدري)

قلت (هل رأيتم هذه الدكتوراة مكتوبة على ورقة مطبوعة فى أى مكان؟)

قالت (هكذا أنت دائماً تشكّ فى كلّ شىء)

قلت (وهل محاضراتها تلك مجانيّة؟)

قالت (نعم، نحن لا ندفع لها الا مصاريف الطائرة وكذلك مصاريف إقامتها)

سألت (كم تدفعون؟)

قالت (لاشىء، فقط ثلاثمائة دولار مقابل محاضرات يوميّة لمدة أسبوع)

ثم أضافت (يجب أن نستفيد أقصى إستفادة ممكنة من فترة وجودها القصيرة فى القاهرة)!

عرفت أن المشتركين فى تلك الدورات المكثّفة كانوا يُقدّرون بالعشرات، وأن الدكتورة قد مدّت إقامتها إلى ثلاثة أشهر بناء على طلب جماهير المريدين، وأنّها كانت تُدرّس لهم علماً إسمه Transcendentalism، يعطي له القاموس التعريف التالى (إن الترانسندينتالية هي فلسفة تقول بإنّ اكتشاف الحقيقة يتمّ بدراسة عمليّات الفكر، لا عن طريق الخبرة أو التجربة) أو تعريف آخر في قاموس آخر (دراسة الوقائع الّتى هى وراء نطاق الخبرات اليوميّة، ولكنّها ليست وراء نطاق المعارف البشريّة). لم أفهم أي شيء. غموض شديد! كذلك كانت هناك دروس خصوصيّة لمن يريد (وكلّه بثمنه)، فى موضوع الطاقة التى تشعّها أجسامنا على ما حولها من أجسام.

وقعت فى يدى، بعد ذلك بسنوات، مجموعة من الصور الفوتوغرافيّة، كانت قد التقطت لواحدة من مجموعات مريدي تلك الدكتورة التى اشتركت فيها ريتا، تُبَيّن أفراد المجموعة وهم يمارسون التمارين مع الدكتورة فوق سطح منزل، ونستطيع أن نرى فى الخلفيّة أهرامات سقّارة، وذلك لأن أحد مريديها كان يقيم فى قصر بطريق سقّارة. في الصور هناك أيضاً أفراد المجموعة يذهبون إلى حديقة القصر، للنزول سوياً وبملابسهم في حمّام سباحة القصر، ويكون مستوى الماء منخفضاً، بحيث إنهم يقفون فى دائرة كبيرة داخل الحمّام، ويمسك بعضهم بأيدى بعض، لتنتقل الطاقة من بعضهم إلى بعض، حيث إن الماء موصِّل جيد. كان النزول إلى الحمّام، قد أعطى المبرر للتخفّف من الملابس. أرى فى الصور فتيات أجنبيات بصدور عارية.

 

(2)

تمّ بعون الله إجهاض أزمة مارس، بعد حقنة هالدول في العضل، ودخول المستشفى فقط لمدة أسبوع، عادت بعده ريتا الى حياتها العادية، الا أن أزمة جديدة كانت تقترب، وللأسف هذه المرة تأخرنا في توقيت الحقنة. نحن الآن في يوم الجمعة 2 مايو سنة 1997، وأنا لم أتركها خلاله لحظة واحدة. تهبّ ريتا فجأة من فراشها لتقفز في ملابسها ثم الى الشارع، وينبغي طبعا أن ألحق بها حتى لا تؤذي نفسها.

الساعة الخامسة صباحا: عند ناصية شارعنا جاءت تجاهنا أربعة كلاب أحاطت بنا، كلاب لا نعرفها ولا تعرفنا، بدأت كلّها فى نفس الوقت تلعق يدىّ ريتا، نظرت اليّ وقالت (هذه الكلاب أدركت ما لم تدركوه أنتم، فأنا نبيّة الحب والسلام فى هذا العالم، وتشع من جسمي طاقة حب شعرت بها هذه الكلاب). ابتعدنا عن المنزل، ومشينا في شوارع كثيرة، لكننا لم نخرج من الزمالك، وشعرت ريتا فجأة بالارهاق الشديد، الذي تمثّل في نهجان غريب، واحساس بالدوران حتى أنها تساندت عليّ، وامتقاع لون بشرة الوجه، فأوقفت تاكسي لأعود بها الى المنزل، وكانت ريتا بعد ذلك عندما استردّت أنفاسها، تقبّل الهواء، أي أنها كانت ترسل قبلاتها فى الهواء قائلة بالعربيّة (مصرجميلة، أنا أحبّها)، وكان السائق ينظر إلى الخلف متعجّباً فاضطررت إلى أن أقول له (معلهش أصل المدام بعافية شويّة). عند وصولنا أصرّت على تقبيل السائق.

الساعة السابعة صباحاً: قررت فجأة النزول من جديد، للذهاب إلى كنيسة المرعشلى، وهى قريبة من منزلنا، لم أمانع. رغم أنّها لم تمارس خلال سبع سنوات من الزواج أيّة طقوس دينيّة. لأنها لا تؤمن بأيّة ديانات سماويّة، وعندما سُئِلَتْ فى مناسبات مختلفة عن ديانتها، كانت تقول (أنا بوذيّة). أبدت إعجابها الشديد بعمارة الكنيسة وزخارفها، وبلوحة القيشاني التي تمثّل أحد المناظر الدينية، قلت (إنها من عمل الفنّان إسحق فانوس)، قالت (أنت لا تنشغل الا بالشكليّات). كانت تنظر الى الكنيسة كأنها تراها للمرّة الأولى، رغم أنه سبق لنا المرور أمام هذه الكنيسة عشرات المرات، دون أن تلفت انتباهها إطلاقاً. ركعت أمام الهيكل المقدس، كما ينبغى لأيّة رسولة حب أو نبيّة سلام أن تفعل.

الساعة الثامنة صباحا: عدنا إلى المنزل، وعلى الفور أشعلت عشرات الشموع فى كل مكان، فوق الموائد، وعلى الأرضيّات الخشبيّة، حتى أنّى خشيت من إحتراق كلّ البيت، فبدأت أطفىء الشموع، فاذا بها تنفجر فى قائلة (أنت لن ينصلح حالك أبدا، وستظل طول عمرك كافر). دخلت ريتا لتنام ساعة فنامت خمس ساعات، قلت في نفسي (نوم الظالم عبادة)

الساعة الواحدة ظهرا: قفزت من الفراش قائلة (ريرى تنادينى). هي جارتنا العجوز، وعمرها تسعة وتسعون عاماً، وتقيم فى شقّتها فى العمارة المجاورة لعمارتنا منذ حوالى سبعين عاماً، منذ جاءت إلى مصر مع زوجها الفرنسىّ فى الثلاثينيات، ثم مات وتركها تعيش وحدها فى مصر أربعين عاماً. كانت سفارة فرنسا تنوى الاحتفال بعيد ميلادها المئوىّ، كأكبر معمّرة فرنسيّة فى مصر، الاّ أنّ ريرى ماتت قبل الميعاد بشهرٍ واحد. ذهبت معها إلى زيارة ريرى، الّتى استقبلتنا فى حجرة نومها بعد أن كانت الخادمة قد فتحت لنا الباب. قدّمت لنا الخادمة وجبة طعام مما كانت تقدّمه لريري. أكلت ريتا بنهم شديد، وطلبت المزيد. سألتنى ريري عن الأولاد، رغم أنّها تعرف إننا لم ننجب. كانت قد فقدت الذاكرة.

الساعة الثالثة بعد الظهر: في تلك اللحظة من ذلك اليوم حدثت ظاهرة عجيبة، إذ أظلمت السماء تماماً، كأن الشمس قد انطفأت، هذا الأمر حدث فجأة، فى لحظةٍ واحدة تحوّل النهار إلى ليل. انتفضت ريتا فى مكانها وقالت (هذه هى نهاية العالم، نهاية العالم الآن، كنت أقول لك ذلك منذ مدّة وأنت لا تصدّقنى) جرت إلى باب الشقة، ثم إلى السلّم ومنه إلى الشارع، وحيث إنّ هذه الظاهرة الغريبة لم تستغرق الا أقلّ من خمس دقائق، لأنّها كانت بسبب عاصفة ترابيّة خماسينيّة كثيفة، غطت وجه الشمس، فإننا بمجرد نزولنا إلى الشارع كانت الشمس قد عادت إلى الظهور، بعد أن كانت قد اختفت مؤقتاً خلف التراب. نظرت إلىّ ريتا بنظرات مؤنّبة وكأنّها تقول لى (أين الظلام الذى كان هنا منذ لحظات؟) كأنّى كنت المسؤول عن تأجيل نهاية العالم.

الساعة الثالثة وخمس دقائق: عدنا إلى شقتنا وكانت ريتا فى حالة تهيّج تام للذاكرة، أجلستني أمامها وقالت (أنت شاهدي الوحيد، ويجب أن أقصّ عليك كلّ الأشياء الغريبة التى حدثت لي منذ ميلادي، فإنّه لم يعد فى العمر بقيّة، وبعد أن أموت يجب أن تسجّل كلّ ما سأقوله لك الآن كتابةً، وتطبعه فى كتب توزّعها مجّاناً على كلّ الناس، يجب أن تقسم أمامي الآن، على أنك ستنفذ وصيّتي تلك، ويجب أن تعرف أنّك إذا حنثت فى قسمك فإنّك ستموت شرّ ميتةٍ). تحدَّثَت لمدّة حوالي ساعة عن أشياء لا رابط بينها على الاطلاق، من نوع أن ملاكها الحارس الّذى كان يتبعها أينما ذهبت طوال حياتها، قد تخلّى الآن عنها، ولهذا فإن عليها أن ترحل، لأنّها لا تستطيع وحدها مواجهة كل قوى الشر فى العالم. ثم دخلت في دائرة مفرّغة من أسماء تحتوي كلها على كلمة ملاك، ظلت تعيدها دون توقف كأنها اسطوانة تلف تدور في فراغ: مدينة لوس أنجيلوس/ الدكتور ملاك أخصائي الأطفال/ الست أنجيل الخيّاطة الحريمي/ الأنجيلوس في الكنائس الشرقية/ أنجلينا جولي الممثلة/ أنجيليك بطلة سلسلة أفلام فرنسية.

تذكَّرَت فجأة مجموعة روايات أنجيليك Angelique التي تدور أحداثها، في زمن نهاية الملكية في فرنسا أواخر القرن الثامن عشر، وكانت ريتا قد اشترت الروايات الخمس في نسخ مختلفة من باريس، ثم اشترت كذلك مجموعة شرائط الفيديو كاسيت لهذه الأفلام، التي لعبت فيها ميشيل مرسييه دور البطولة مع روبير هوسين. حتى أحفظها معها منظرا منظرا، ثم كلمة كلمة.

الساعة الرابعة عصرا: بدأت ريتا في مشاهدة هذه الأفلام على مُشغّل شرائط الفيديو، وتقمصت شخصية ميشيل مرسييه في مشيتها وفي طريقة كلامها، وكان من المفروض أن ألعب أنا أمامها دور الملك لويس السادس عشر!! وقد استغرقت منها هذه المسألة عدة ساعات حتى التاسعة مساءً.

 

(3)

صباح اليوم التالي وقبل أن أستيقظ كانت ريتا قد ذهبت مع ليزا وآديلا، إلى منطقة أهرامات دهشور. زوج ليزا يمتلك استراحة على حافة الصحراء. كنت أخاف من هذه الزيارة، ولم أعرف ماذا أفعل عدا انتظار عودتها. وكنت محقّاً فى مخاوفى، إذ إنّها عادت منفعلة تماماً، ومتأثّرة إلى أقصى حد بالزيارة، واندفعت تحكى لى بهياج شديد، عن الشحنة النفسيّة الهائلة، الّتى حصلت عليها، لحظة دخولها هرم سنفرو الأحمر. (كنت أشعر كأني أعود الى رحم أمي أثناء نزولنا في الممر المنحدر الى حجرة الدفن تحت الأرض) هكذا قالت.

تذكّرتُ بمزيد من القلق كيف أنّ زيارة أهرامات الجيزة وسقّارة، كانت مرتبطة بشكل مباشر، بأزمة ريتا التى سبقت حادث سقوطها من الطابق الرابع. بعد عودتها مباشرة من تلك الزيارة، دخلت إلى حجرة نومها وأغلقت خشب النوافذ، وكنّا فى شهر مايو والشمس تضرب حجرتها بشدة طوال بعد الظهر، ونحن لم نركّب أجهزة تكييف في الشقّة، لأتها تعتقد أنها غير صحّية.

ثم بدأَتْ فى إشعال عشرات الشموع وأعواد البخور فى أركان الغرفة الأربعة، وبالتالي أطفأت مروحة السقف التي كنت قد شغّلتها. ثم وضعت قرصا مدمجا لموسيقى اسبانية مما جعلنى أتشكّك قليلا، فهى فى مثل هذه الحالات عادةً ما تضع شريطاً للموسيقى الهنديّة. خلعت كلّ ملابسها، ووضعت كلّ حليّها على جسمها العارى، السلاسل والغوايش والأساور والعقود والحلقان والخواتم، وبدأت ترقص فى دوائر حول المكان الّذى كنت أجلس فيه (ماذا تفعلين؟) قالت (أنت لم تفهم بعد، أنا أحاول إغواءك، إنّ أىّ رجلٍ آخر كان سيفهم فوراً، دون أن يكون مضطرّاً إلى سؤال زوجته حبيبته، يا خسارة على ذكائك، يا خسارة تعليمى فيك) الغريب في الموضوع هو أنني كنت فى تلك اللحظات قد وجدتها مغوية جداً ومارسنا الحب، نجحت فى ذلك رغم كل القلق الذى كان ينهشني.

عندما انتهى ذلك اللقاء السريع المتعجّل، عادت إلى المناوشة من جديد، قائلة إن هذه المرة المتعجلة لا يمكن أن تحسب، وان هذا لا يسمى حبا، وإنما يمكن تسميته (شغل أرانب). ذكرت لها أننّى مرهق ولا أستطيع المزيد، فما كان منها الا أنّ بدأت تسخر من الفراعنة، ومن آلهة الفراعنة، خاصةً الاله مين رب الإخصاب، الدائم الانتصاب. كان الموقف كلّه بالنسبة إلىّ مضحكاً ومبكياً فى نفس الوقت. لم يحدث أبداً خلال سبع سنوات من الزواج، أن إدّعيت أمامها إنتسابى إلى رب الانتصاب، ولاحتى ذكرت اسمه.

خرجت من الغرفة لأتصّل تلفونيّاً بالطبيب الذي ذكر أنه ينتظرنا فى مستشفى المقطم، قلت (أخشى أن ترفض الذهاب معى) قال (حاول أن تستعين بصديقة من القريبات منكم فى السكن)، اتصّلت بدانيال الّتى حضرت فوراً وساعدت ريتا فى إرتداء ثيابها، التي أصرّت على أن تكون ثياب سهرة، كما أصرّت على استمرار وضع قطع الحليّ، بعد ذلك مباشرة خلعت كل ملابسها من جديد، ودخلت إلى الحمام، فطلبتُ من دانيال أن تدخل وراءها، لتعود بعد دقيقة قائلة (ماذا أفعل؟ ريتا تريد أن تستعمل الماء فى أقصى درجات حرارته، وأخشى على جلدها أن يحترق)، دخلت وأخرجتها من تحت الماء بالقوّة، وألبسناها ثيابها من جديد أيضاً بالقوّة، أصرّت من جديد على الحلىّ وعلى ثياب السهرة.

 

(4)

قبل مغادرة حجرتها سكبت على ثيابها زجاجة كولونيا كاملة. خرجنا من باب الشقة. عادت إلى الدخول قائلة (نسيت شيئاً مهماً جداً) وذهَبَت لإحضار آلة التصوير، وكأنّها ذاهبة إلى رحلةٍ خلوية، وعندما أغلقت باب الشقّة خلفنا، استدارت من جديد لتلمس إسمها المكتوب بالفرنسيّة على لوحة زنكوغراف معلّقة على الباب، ثمّ لتقترب من الباب لتضع شفتيها عليه وتقبل إسمينا معاً، ثم تحرّك أصبعها مع الكتابة العربيّة التى تحمل إسمي وتقول لدانيال (أنا أشطر منِّك فى العربي).

فى الطريق تحدّثت ريتا مع سائق التاكسي عن أطفاله، وامتلأت عيناها بالدموع عندما عرفت أنّ أحد أطفاله مريض، فأرادت أن تعطيه مساعدة، وفتحت حقيبتها وأخرجت خمسمائة جنيه، فمنعتها من ذلك، فغضبت بشدة، وتدخّل السائق قائلا (لا تمنعوها من فعل الخير)، شرحت له إنّها مريضة وغير مدركة لتصرفاتها، وأنني زوجها وأن هذه النقود نقودي، وإنّنا كما سيرى بعد قليل، ننقلها إلى المستشفى، تصعّب السائق قليلا وسكت. سألَته ريتا بعد ذلك باللغة العربيّة إن كان يصلّى، وإن كان يذهب إلى الجامع، وكانت قد نطقت الكلمة بالعربيّة الفصحى المحوّرة على لسانها إلى (ماسجيد/masjid) مع تعطيش الجيم، على طريقة المغاربة، فلم يفهم السائق، فغضبَت منه قائلة (انه كاذب، حتى المسجد لايذهب اليه).

عند وصولنا إلى المستشفى قالت (مغامرة جميلة)، ثم أخرجت آلة التصوير وبدأت فى التقاط الصور. في إستقبال المستشفى بدأت فى تقبيل كلّ الموجودين، الحرّاس وموظفي الإستقبال والممرّضات، حتى المرضى الآخرين وأقاربهم، وتقبّل الجميع تصرفها هذا بالابتسام، ثم دعانا ممرّض الدكتور عاكف إلى الدخول دون انتظار الدور، فأخذت الممرّض بالحضن مما أشعره بالحرج، وأَخَذَته من يده أثناء دخولها إلى مكتب الدكتور، مما جعله يعلّق ساخراً (ما كل هذا الحب؟) فقالت وهى فى منتهى الجديّة (أنا رسولة الحب والسلام فى هذا العالم، كلّ الناس تعرف ذلك الا أنتم أقرب الناس الىّ، لقد انتهى الخوف وانتهت الكراهية، ونحن نبدأ الآن عصر جديد، عصر الحب).

عندما كنّا نشرب فناجين القهوة التى قُدّمت لنا، قلبت ريتا فنجانها فى الطبق، كما أفعل أنا أحياناً عندما تكون القهوة ساخنة، ثم لحست بلسانها كلّ ما كان قد تبقّى فى الطبق، كما أفعل أنا كذلك! ثمّ انحنت على أرض الغرفة المتربة وبدأت فى مسح أرضيّتها بيدها، ثم دعك وجهها به، كأنه نوع من أنواع الكريمات. عندما كنت فى التاكسي العائد بنا أنا ودانيال إلى الزمالك، كنت منشغلاً بالتفكير فى معنى تصرّفاتها، مثل الحمّام الساخن جداً والكولونيا، وكيف أنّها بعد ذلك تدهن وجهها بالتراب! (هى تشعر بأنّ جسدها ملوّث إلى حدّ عدم جدوى أيّة محاولات لتنظيفه؟) ما السبب في هذا الإحساس الفظيع بالقذارة؟ كانت محللة نفسية فرنسية قد قالت لي ذات مرة في باريس، أن هناك احتمال (أن يكون الأب قد اعتدى عليها في طفولتها!!).

تذكّرت كذلك عادتها التى استمرت معها وقتاً طويلاً، قبل وبعد حادثة السقوط من الطابق الرابع، وهى استعمال الحقنة الشرجيّة فى تنظيف الأمعاء، بالحاح غريب، فتظل طوال النهار صائمة عن الطعام، ثم تدخل الى الحمام لتمارس طقس التطهر! كانت دائما ما تستعمل في تلك الحالة الكلمة (كاتارسيس/catharsis ) وهي لا تعني التطهر المادي الجسماني، بقدر ما تعني التطهر النفسي أو العقلي. هناك سرٌ ما فى طفولتها أو فى عقلها الباطن لا أعرفه، يتعلق بالإحساس الدائم بالذنب. هل هو فعلا اعتداء الأب؟ هل هو شيء آخر؟ هل كانت حادثة السقوط من الطابق الرابع هى محاولة لعقاب النفس؟ ورغبة في تحطيم هذا الجسد الذي قد يكون هو السبب في انفصال والديها بالطلاق، بعد أن كانت الأم قد اكتشفت فِعلة الأب؟

 

(5)

بعد ثلاث أو أربع أزمات، سجّلت على ورقة، ملحوظاتي الخاصة بالعلامات الدالة على اقتراب ريتا من مرحلة الخطر، وصورتها بالفوتوكوبي ووزعتها على الأصدقاء والمعارف في مناسبات مختلفة، وذلك كإجراء وقائي حماية لحياتها. وعلى رأس الورقة ذكرت أنها رسالة موجهة الى كلّ من تهمه مصلحة ريتا، وأن عليه أن يلاحظ الآتي:

1 - ينبغي تجنّب الذهاب مع ريتا الى الصحراء، على ظهر الجمال أو الخيل، خاصة في الليالي التي يكون فيها القمر بدرا.

2 - يجب عدم الدخول الى بطن الأهرامات، خاصة تلك الواقعة في منطقة دهشور، مثل هرم سنفرو الأحمر، و الهرم المنحني، أو هرم منقرع في منطقة الجيزة.

3 - يجب عدم الاستماع مع ريتا الى الموسيقى الهندية، أو غناء أغاني هندية، أو مشاهدة أفلام هندية، أو مقابلة أشخاص هنود، أو الذهاب الى المركز الثقافي الهندي (أبو الكلام آزاد) بشارع طلعت حرب.

4 - يجب عدم الاستماع الى أغاني الديب فورست، أو موسيقى الباكستاني زاكر حسين، أو مشاهدة أفلام المخرج الاسباني ألمو دوفار، خاصة فيلمه (نساء على وشك الاصابة بانهيار عصبي) أو فيلمه (قيدني يا أبي واصنع معي الفحشاء) بالاسبانية atta me.

5 - عند استقبال ريتا في أي منزل، ينبغي تجنّب وضع أي صنف من أصناف البخور خاصة الهندي، وعدم استعمال الشموع حتى في أعياد ميلاد الأطفال (معلهش يا أطفال).

6 - يجب تجنب اعطاء ريتا هدايا صغيرة من نوع تماثيل فرعونية صغيرة من الشوابتي أو المومياءات، أو حتى عرائس الأطفال الصغيرة التي تعلق في ميداليات، إذ إنها كلها تتشابه مع الملائكة.

7 - عدم مشاركة ريتا في قراءة، أو اعارة ريتا كتبا، في موضوعات العلوم الخفية occult مثل (الحياة بعد الموت)، أو قصصا تدور أحداثها في عوالم أخرى، مثل رواية (لقاءات مع الملائكة) أو (كنا نعيش في أتلانتا قبل الغرق في قاع المحيط).

8 - عند زيارة ريتا أو الخروج معها في زيارات، يجب تجنّب ارتداء ملابس تعود الى زمن (وود ستك) من نوعية (البيت نك) أو (البيس آند لاف).

9 - عدم اصطحاب ريتا في زيارات الى المؤسسات الخيرية، مثل ملاجىء الأيتام والعجزة ومستشفيات مرضى الجزام، أو زيارة سجون القناطر الخيرية مع مؤسسات حقوق الانسان.

ثم كتبت ورقة أخرى موجّهة هذه المرة، لا الى أصدقاء ريتا بل اليها هي نفسها، وفيها:

1 - عدم دعوة 33 شخصا الى أعياد الميلاد.

2 - عدم اجراء أية مكالمات تلفونية بين منتصف الليل والتاسعة صباحا، ويستحسن خلال تلك الساعات فصل خط التلفون.

3 - عدم اجراء أية اتصالات تلفونية بالخارج لمدد تزيد عن عشر دقائق.

4 - مرضى الأمراض العقلية، الذين تقابلينهم داخل المستشفى، لا تقابليهم عند خروجهم من المستشفى.

5 - يجب أن تنامي على الأقل عشر ساعات كل ليلة، على أن يكون هذا بين منتصف الليل والعاشرة صباحا.

6 - لا ينبغي أبدا أن تكرري عبارة اني أشعر بالملل (أنا زهقانة)، فكلنا نشعر بالملل بين وقت وآخر.

7 - يمكن شغل الوقت بالرسم والتلوين، ودراسة اللغات الأجنبية في المعاهد الخاصة،

8 - وبعمل وجبات الطعام بالوصفات التي ترسلها اليك السيدة والدتك، ومشاهدة برامج القنوات الفضائية الفرنسية.

9 - ماذا أقول لك فيما يتعلق بالمشروبات الكحولية خاصة أثناء غيابي في الصعيد لمدد طويلة؟

10 - يجب ألا تنسي أبدا أنني أقرب شخص اليك، بعد السيدة والدتك التي تعيش على بعد 4000 كيلومتر، وأنني الشخص الذي يتحمل معك كل النتائج النفسية والعاطفية والمادية، لكل أزمة من أزماتك العقلية، وأن لي بالتالي عليك الكثير من الحقوق. انصتي اليّ في كل مرة أقول لك فيها (ريتا أعتقد أنك تقتربين من أزمة جديدة).

 

الحيّ اللاتيني

(1)

عاشت ريتا في حيّ الزمالك حوالي عشرين عاما، ورغم أنها كانت تتنقل بسهولة بين كل أحياء القاهرة، فتذهب مثلا الى السهرات في بيوت الأصدقاء في المعادي، أو في مصر الجديدة، الا أنها كانت تفضل البقاء في الزمالك، بالاضافة الى الذهاب المنتظم الى خان الخليلي، لشراء التحف الفنية التقليدية، للأصدقاء الفرنسيين المارين بالقاهرة، الذين قد نستضيف بعضهم لدينا، أو الى مقهى الفيشاوي لتدخين الشيشة، وكذلك الى أحد المقاهي في باب اللوق لنفس الغرض. كانت تذهب كذلك بصفة منتظمة وحدها أو مع الصديقات الى وكالة البلح، حيث كانت تعرف باسم (مدام كتان)، لرغبتها الدائمة في الحصول على ملابس كتانية.

كانت تسمي الزمالك الحيّ اللاتيني، لوجود العديد من الأنشطة الثقافية والفنية والطلابية به، مثل الحيّ اللاتيني في باريس، خاصة خلال فصل الشتاء، وطوال السنة الدراسية، التي كانت تشاهد فيها طلبة كليات الفنون الجميلة والتربية الفنية في الشوارع بلوحاتهم، وكانت أحيانا تجدهم في مقاهي الزمالك ومطاعمها، يحاولون بيع بعض لوحاتهم للأجانب، فكانت تشجعهم بشراء بعضها. كما أن بالحيّ كذلك كلية التربية الموسيقية، ويسهل على أي شخص يمر بين شارعي إسماعيل محمد وشجرة الدر، أن يرى طلبة هذه الكلية في حديقة الكلية، يلعبون على آلاتهم الموسيقية. كان يسعدها أن نسمع في شقتنا، التي لا تبعد الا حوالي مائتي متر عن الكلية، آلات النفخ النحاسية من كورنو وساكسوفون وترومبيت، والخشبية من كلارينيت وأوبوا وفلوت وبيكولو، أثناء تمارين الهواء الطلق للطلبة عازفي هذه الآلات.

بالإضافة الى صوت عازف وبائع الربابة، الذي كان يقف أمام اليمامة سنتر، خلال عصر ازدهار هذا المركز التجاري، وكان يتابع بإلحاح كنت أجده ممقوتا، كل الأجانب والأجنبيّات، المارين والمارات بالشوارع المحيطة، وكانت ريتا تعطف عليه أو تتعاطف معه، مما أدى الى تراكم، عدد من آلات الربابة في شرفات منزلنا، ما زلت أحتفظ بها.

قد تكون ريتا محقة في التسمية التي أطلقتها على الحيّ، فعدا تلك الكليات الفنية، هناك مثلا المعهد السويسري للآثار الشرقية، بشارع الشاعر عزيز أباظة، وكانت تحضر فيه الندوات باللغتين الفرنسية والألمانية. كما كانت تذهب الى المركز الثقافي الايطالي في شارع الشيخ المرصفي، لمشاهدة أسابيع الأفلام الإيطالية. كذلك هناك مبنى هيئة الآثار بشارع العادل أبو بكر، حيث اكتشفت ريتا وجود متجر بداخله، لبيع التحف المقلّدة، فاشترت منه لمنزلنا عشرات التحف المقلدة، مثل التماثيل الفرعونية، والأيقونات القبطية المرسومة بالألوان على الزجاج، مما كان يسمح بوضع مصدر ضوئي خلف لوح الزجاج، فيبدو تأثير الألوان قويّا.

في وقت من الأوقات كانت أنشطة ريتا قد تنوّعت بشكل غريب، طبعا أنا أتحدث هنا عن إجمالي حوالي عشرين عاما، يمكن اختزالها الى حوالي خمسة عشر عاما، لو حذفنا فترات المرض والإقامة في المستشفيات. تعود ريتا مرارا الى دراسة العامية المصرية في أماكن مختلفة، منها المركز الدبلوماسي بشارع شجرة الدر، حيث ضايقها أن يحاول المدرس الاستلطاف المبتذل معها، رغم معرفته أنها زوجة مصري.

ثم دروس تفسير العهد القديم والكتاب المقدس، التي كانت الأخت سيمون تقدمها باللغة الفرنسية، صباح الجمعة في كنيسة سان جوزيف. ثم محاولة اشتراكها في فريق الكورال، بكنيسة كل القديسين، خلف الماريوت، All saints cathedral، حيث كانوا يحفظون وتحفظ معهم، برنامج موسيقي كورالية كلاسيكية، يقدمونه في بعض حفلات نهاية العام.

أما خارج الحي اللاتيني، فقد ذهبت الى معهد جوتة للغة الألمانية، بعد انتقاله الى ميدان المساحة بالدقي، والى المركز الثقافي الإسباني في شارع بولس حنا، والى الأميديست Amideast، وهي كلمة تجمع بين أمريكا Am، والشرق الأوسط mid east، وموقعه في شارع مصدق بالدقي، لدراسة اللغة الانجليزية الأمريكية. وقد نصح الطبيب النفسي في وقت من الأوقات، بضرورة اقتصار الكورسات على لغة واحدة في الوقت الواحد، لأن كثرة النشاط العقلي قد يؤدي الى استثارة بؤرة المرض العقلي.

كانت هناك كذلك الأنشطة الرياضية، فكانت تشترك في حمام سباحة نادي الجزيرة، حين كان الاشتراك الشهري للأجنبي 70 دولارا شهريا في أوائل التسعينات، وكان سعر الدولار في ذلك الوقت لا يتعدّى جنيهين مصريين. اشتركت كذلك ولا أعرف كيف، في صالة الألعاب الرياضية بالمدرسة الانجليزية، حيث كان الشاب الصيني تشين مين يقوم بإعطاء دروس في الطاي تشي، واشتركت في ساونا مركز شباب الجزيرة، الذي كان يخصّص بعض وقته للنساء.

الا أن تجربتها في القسم الحر بكلية الفنون الجميلة، تظل هي أسوأ تلك التجارب على الإطلاق، لأنهم أولا لم يريدوا الاعتراف بباسبورها المصري الذي كان يسمح لها بدفع الرسوم المقررة على المصريين، مما اضطرها الى دفع الرسوم المقررة على الأجانب، وكانت خمسة أضعاف الرسوم المصرية، وثانيا لأنهم كانوا يضعون حوالي خمسين طالبا معا، في قاعة تضيق بهم، ليس بها الا مجموعة من الكراسي المحطّمة، التي مزّقت لها بعض أثوابها، ثم يتركونهم أحيانا دون أي إشراف أو مراجعة، خلال الساعات الثلاث المخصّصة للكورس، ثلاث مرات أسبوعيا، وهو نصب علني صريح.

أحتفظ لها من هذه المرحلة، ببعض رسوماتها بالقلم الرصاص، لرؤوس الاسكندر الأكبر ونابوليون بونابارت، ثم دراسات للطبيعة الصامتة، باستعمال ألون الجواش، في موضوعات تقليدية، مثل زجاجات مياه فارغة، وأباريق خزفية متنوّعة الأشكال والأحجام والألوان، ثم بورتريه لموديل حيّ، لرجل نوبي عجوز، بغطاء رأس تقليدي، عبارة عن شال قماش ملفوف حول الرأس.

كانت ريتا كذلك من أوائل من اشتركوا، في عضوية ساقية الصاوي، التي تحمّست لها جدا، ففي خلال الأعوام الأولى لهذه الساقية، لم تكن ريتا تسمح لأي عرض موسيقي أو فني، أن يفوتها، حتى أصبحت شخصية معروفة هناك، بفضل خفة دمها وعاميتها المصرية المحبّبة. عندما بدأت أنا في التردّد على المكان فيما بعد، كنت أقول للناس (أنا زوج ريتا)، فيظهر في ترحيبهم المفاجىء بي، الأثر الطيّب الذي كانت تتركه شخصية ريتا المرحة لديهم.

 

(2)

طبعا أنا لم أكن أستطيع أن أتدخل في القدر والمصير. الا أن الوقائع تقول إنني حتى آخر موسم سياحي لي، كنت كثير الغياب في صعيد مصر، بسبب عملي كمرشد سياحي، وأنني أثناء تواجدي في القاهرة بين مجموعتين سياحيتين، كنت كثير التردد على المركز الثقافي الفرنسي في المنيرة، وعلى محاضرات كلية الآثار. أما ريتا فبعد أن كانت قد عملت في شركة سياحة فرنسية لمدة عشرة أعوام، تخلّت عنها هذه الشركة الفرنسية عندما عادت أعراض المرض العقلي الى الظهور. وحيث إنها لم تنجب، فقد كان من الطبيعي أن تحاول شغل وقت فراغها الطويل بأكبر قدر ممكن من الأنشطة المختلفة.

ومن هنا جاء الوبال. ففي أوائل التسعينات، كانت هناك صالة ألعاب رياضية (جيمنازيوم)، في الموقع الذي تشغله حاليا مكتبة ديوان الزمالك، على ناصية أحد الشوارع الجانبية المتفرعة من شارع 26 يوليو، وأثناء مرور ريتا أمام الصالة قرأت إعلانا عن سيدة فرنسية تنظم جلسات يوجا بالانجليزية والفرنسية، للمجموعات أو للأفراد، فاشتركت فيها ريتا فورا، وأصبحت هذه السيدة، في لمح البصر، من أقرب أصدقاء ريتا اليها، وأعزهم الى قلبها.

وجهة نظري الشخصية الآن هي أن هناك عنصرين هامين، أدّيا الى سرعة ظهور المرض العقلي لدى ريتا، بالإضافة طبعا الى حقيقة أنه مرض وراثي ينتقل عبر الجينات، أولا: أن ريتا كانت تقع بسهولة تحت تأثير بعض الأشخاص الذين يتميزون بحضور قوي، وجاذبية مغناطيسية، خاصة من مدرّسي اليوجا. هذا النوع نسمّيه بالانجليزية وبالفرنسية influencable، أي قابلية أو سهولة الوقوع تحت تأثير الغير.

وثانيا: في نهاية التسعينات، اكتشفت ريتا وجود بار/pub 28 في رقم 28 بشارع شجرة الدر، وهو قريب جدا من منزلنا، دعيت اليه أول مرة بمناسبة وجود عازف أكورديون فرنسي، يقوم مساء كل يوم جمعة بعزف بعض مقطوعات من الموسيقى الشعبية الفرنسية، مما كان يجتذب جمهورا من فرنسيي الزمالك. وهكذا بدأت ريتا تتردّد على المكان، في البداية فقط يوم الجمعة، ثم وصل بها الحال، الى الذهاب الى البار تقريبا كل يوم، فإذا كانت في مزاج طيب، اكتفت بأكواب العصير، أما في حالة تدهور الحالة المزاجية، كانت تستهلك زجاجات البيرة، أو كؤوس الويسكي.

 

(3)

كان الاحتفال بأعياد ميلاد ريتا، في شقتنا بالزمالك لسنوات متتالية، التي تدعو اليها أصدقاءها، هو مناسبة هائلة للمرح والفكاهة، وأحيانا للوقاحة. تبدو لي الآن هذه الحفلات، كمقدمات حتمية للعودة الى مستشفى الأمراض العقلية، بعد أيّام قليلة في كل مرة من هذه المرات، ومع ذلك لم تكن تتعظ أبدا أو تتعلم الدرس. في كل سنة كنت أطلب منها أن تعيد النظر في مسألة الاحتفال، أو على الأقل أن تحتفل بالمناسبة، ولكن بالاقتصار على عدد أقل من المدعويين، وبكمية أقل من الخمور، ولكن هيهات.

ففي كل مرة كانت تصر على دعوة 33 شخصا، اشارة الى سنوات الاكتمال التي قضاها يسوع على الأرض، قبل صلبه (أو يجوز كما خيِّل لهم). هل كانت في تلك الحالات تعود الى الخزعبلات التي عانت منها في الهند؟ أو أنها بهذا الاحتفال تودّع العالم والماديات قبل أن تكرّس نفسها للمهمة الكبرى التي كانت تنتظرها، مهمة التبشير بديانتها الجديدة، ديانة الحب لكل البشر؟ بعد كل تلك السنوات التي قضيتها معها والتي اقتربت من العشرين، لم أتمكن أبدا من الاجابة على بعض الأسئلة.

في هذه السهرات، كانت تصر على أن يلبي مدعووها رغباتها، مثلا طلبت منهم ذات مرة ارتداء ملابس القرون الوسطى، فجاء الرجال يرتدون باروكات الشعر المستعار، والنساء بملابس سهرة طويلة ذات كرانيش وديكولتيه واسع. ومرة طلبت منهم ارتداء ملابس الهيبيز في أواخر الستينات، وتسميها ملابس الحب والسلام peace and love، فجاؤوا بملابس ممزقة من عند الركبة والكوع. واقع الأمر أنهم كانوا يطاوعونها بدون أي نقاش، وبدون أدنى تردد، كما لو أن لها فعلا تأثير قوي عليهم، وسيطرة شبه مطلقة.

الا ان من أعجب ما حدث عندما أعلنت عن حضور حفل عيد ميلادها بملابس تنكرية، أن جاء أغلب الرجال مرتدين ملابس نسائية، وأغلب النساء مرتديات ملابس رجالية. بل جاء البعض بملابس النوم أسفل المعاطف الخفيفة. كأن العقل الباطن الذي تركت له الحرية في هذه المناسبة، قد اختار الجنس المقابل، ولم أعرف بعد ان كان معنى هذا التصرف، كما يقول أطباء الأمراض النفسية، هو أن في كل ذكر توجد أنثى مختبئة، وأن في كل أنثى يوجد ذكر مختبىء؟

الملاحظ هو أنه في تلك الحالات عندما تفتتح حلبة الرقص، أن يقوم بعض الذكور بالرقص سويا، وأن يحدث هذا أيضا ولكن بنسبة أقل، بين بعض النساء، وتحدث في تلك الحالات بعض الغمزات واللمزات، وتقال بعض الجمل والعبارات بالفرنسية أو بالعربية، التي يمكن أن تفهم منها أشياء مستورة، أو أشياء مفضوحة. وطبعا مع احتساء كميات هائلة من الخمور، تقل سيطرة المخ على التصرفات، فينتهي الرقص واذا بعدد من الرجال في أحضان عدد آخر من الرجال، والمثل لدى بعض النساء، ولم يحدث أبدا أن ثار أي شخص، أو استنكر هذه الأوضاع، وأولهم طبعا أنا صاحب البيت وزوج الست، إذ كنت دائما أول من يفقد الوعي بسبب الخمر.

هناك نوع من الشراب معروف باسم سانجريا، ولا أعرف مكوناته بالضبط، وبه زجاجات النبيذ تسكب معا في اناء ضخم تضاف اليها زجاجة خمر فرنسي تعرف باسم (جران مارنييه Grand Marnier)، ويضاف كونياك (أو براندي أو ويسكي)، وبعض أنواع عصائر الفاكهة مما يجعل طعم المشروب لذيذا، ويغرف كل شخص لنفسه بمعرفته أي كمية يريدها بمغرفة شوربة، فالمشروب يبدو كما لو كان بلا نهاية. كانت هذه السانجريا هي السبب في فقد الادراك.

 

(4)

مع كل أزمة جديدة كنت أضيف بعض الملاحظات الجديدة مثل:

- أنّها استمعت الى موسيقى هندية كثيرة، خاصة ما يسمّى موسيقى الجبال والمياه والأشجار.

- أنها انشغلت طوال اليوم بفتح كل دواليب ملابسها، وتقليب الملابس القديمة، وتكويمها على أرض حجرة النوم، كأنها تستعدّ بحقيبة السفر.

- ثم أنها تتميّز بخيال شديد الخصوبة، فهي تحكي مثلا كيف أنها صانعة خيرات (يسوع المسيح كان يجول يصنع خيرا)، كأن تقول أشياء هي غالبا لم تحدث، الا في خيالها:

- ذهبت أمس مع هيئة (كاريتاس)، وهي هيئة أعمال خيرية تابعة لكنائس الكاثوليك، الى معهد السرطان لتوزيع هدايا على الأطفال المرضى.

- وأول أمس ذهبنا لتوزيع هدايا على سجناء القناطر الخيرية، ثم تؤكد أن هيئة كاريتاس معروفة على مستوى العالم كله.

- وأنها قد تناولت اليوم إفطار رمضاني، مع تاجر الفاكهة في الشارع، وكان قد دعى كل تجار الشارع، الى مائدة طعام أقامها أمام دكانه.

- وأنها غدا معزومة على افطار رمضاني آخر، عند بوّابة الفتوح، أمام ورش صانعي الأواني الخزفية والزجاجية، وستأتي قنوات النيل الفضائية لتصوير المناسبة.

ماذا أفعل؟ كنت مضطرا الى السفر فجر الغد الى الصعيد، في رحلة نيلية تبدأ من أسوان وتنتهي في الأقصر، هل أعتذر عن العمل قبل السفر بيوم؟ لا يمكن أن أفعل هذا خاصة أن الموسم الحالي سيّء جدا وأنا أنتظر هذه المجموعة منذ شهرين.

في السابعة صباحا جاءتني مكالمة من فاليري تقول (ذهبت الى ريتا مساء أمس، وفوجئت بباب الشقة مفتوحا، فذهبت لإحضار البوّاب ودخلنا سويا، لنجد أرض الشقة مفروشة بعشرات الشموع التي كانت قد تركت مشتعلة حتى انتهت، والتي كان من الممكن أن تؤدي الى احتراق كل شيء، وقد ساح بعضها وترك علامات على الأرضيات الخشبية).

ثم بعد خمس دقائق جاءتني مكالمة أخرى، مكالمة من شيرين تقول

(كنت مع ريتا بعد ظهر أمس نمشي في شوارع الزمالك، عندما قالت إن عصر الحب قد بدأ وانتهت بذلك كل مخاوف البشر، وأنها منذ تلك اللحظة المصيرية وحتى نهاية العالم ستترك باب شقتها مفتوحا، وبحركة مباغتة أخرجت مفتاح شقتها من حقيبة يدها وألقته في صندوق ضخم للزبالة كنا نمرّ الى جواره).

ثم جاءتني مكالمة من زوجة الملحق الثقافي بسفارة فرنسا، وهي تسكن شقة مفروشة في نفس العمارة التي نسكنها في الزمالك. قالت (منذ حوالي ساعة أحضر بوّاب العمارة زوجتك الى شقتي، ولم أتمكن من الاتصال بك فتلفونك طول الوقت مشغول، هي مخمورة تماما، ويقول البوّاب إنها نزلت من سيارة أمام العمارة، حوالي السابعة والنصف صباحا، الا أنها سقطت على الأرض قبل الوصول الى مدخل العمارة، هي ترتدي ملابس سهرة، فستان ساتان بحمّالات، وتضع ماكياج وجه ثقيل جدا)

قلت (أنت تعرفين كم هي مريضة)

قالت (نعم ولكن ماذا أفعل الآن؟ فهي تضحك طول الوقت وتردد جملة واحدة هي أنا ملكة الإثارة الجنسية، ثم فجأة تنخرط في بكاء حاد عنيف لا يستمر الا لدقيقة واحدة ثم ينقطع فجأة).

 

النادي السويسري

(1)

لم تكن كل ذكريات ريتا في المستشفيات العقلية تعيسة، لأنها كانت تستطيع أن تجد ما يشغلها ويرفّه عنها. ففي مرة مثلا وجدت بالطو أبيض في احدى الغرف فارتدته، ونزلت الى حديقة المستشفى، حيث قالت للمرضى الذين لا يعرفونها، انها طبيبة أجنبية، قادمة مخصوص من فرنسا لدراسة حالتهم، وقد صدّقها المرضى وتجاوبوا معها. وفي مرة عقدت صداقة مع شاب خليجي اسمه عسّاف، كانت تخمّس معه في سجائره أو سجائرها. كان هذا الشاب يعاني من الوحدة القاتلة، اذ يتركه أهله عاما كاملا دون زيارة، ولا يأتون لزيارته الا بضع مرات في السنة خلال شهر إجازتهم الصيفية في القاهرة. كان عمره العقلي خمسة أو ستة أعوام، في حين كان عمره الجسدي حوالي ثلاثين عاما. لم تقل لي ريتا أبدا إن كانت قد مارست معه علاقة جسدية، وان كنت لا أعتقد أن هذا كان يمكن أن يحدث لأن الفتى كان قادرا على افشاء السر بمنتهى البساطة.

أثناء واحدة من زياراتي لها قابلته، قالت له (أقدّم لك أبي)، فما كان منه الا أن طلبها مني للزواج، في لحظة دخول ممرضة سخرت منه أمامنا، فانطوى على نفسه فجأة، انكمش جسمه وانكفأ رأسه ليلامس ركبتيه، ولم يرفع وجهه أمامنا لمدة نصف ساعة حتى جاءت ممرضة لتأخذه الى حجرته. وبّخت ريتا تلك التي كانت أهانته. بعد ذلك اقتصرت علاقته بريتا على طلب السجائر، يأتي ليقف أمامها ويقول (سيجارة سيجارة) ثم (عسّاف عسّاف)، ثم يمشي.

أما الكلمات التي كانت تحمل أكبر قدر من الاثارة والمتعة لريتا فهي كلمات: فسحة/حفلة/اجازة/ رحلة.

الفسحة هي جولة على الأقدام لمدة ساعة أو ساعتين في الضاحية على أطراف القاهرة حيث يقع المستشفى، مع مجموعة من المرضى غير الخطرين، ومجموعة من الممرضين وطبيب واحد أو أكثر، يمكن خلالها الذهاب الى مقهى عام أو حديقة عامة. كانت أحيانا تذهب معي في جولات شبيهة على الأقدام، فكنت أشعر بحنينها الجارف الى كل الأطفال الصغار، أطفال البوابين المتروكين في الشوارع يلعبون في التراب، فكانت تنحني عليهم لتأخذهم في حضنها وتقبلهم، وكانت تفعل الشيء نفسه مع الكلاب الصغيرة والقطط.

أما الحفلة فهي سهرة غنائية راقصة تقيمها المستشفى لنزلائها، فيسمعون الموسيقى والأغاني، ويدعون للمشاركة في الرقص، غالبا الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء، وغالبا لا يدعى الى هذه الحفلات الا مرضى الأقسام العقلية، وذلك لأن مرضى الادمان يمكنهم بسهولة استغلال النساء المريضات.

والاجازة هي 24 ساعة في صحبة الزوج، بما يعني العودة الى المنزل والفراش والأصدقاء، والسهرة في المطعم، والاستماع الى مجموعة الأغاني المفضلة على الجهاز الستريو. وتلفون للأم في جنوب فرنسا، ولبنات العم في باريس. كان الخروج في تلك الأحوال على مسؤولية الزوج، فهو مسؤول عن إعادة المريضة الى المستشفى في الزمن المحدد.

وأما الرحلة فهي الى قرية هورين في الدلتا يملك أصحاب المستشفى فيها منزلا ريفيا، يمكنهم أن يدعوا اليه مرة كل شهر، مجموعة من المرضى الذين يمكن السيطرة عليهم بسهولة، فيجرون في الحقول، ويسبحون في مياه حمام السباحة، الا أن ريتا تقول إنها تعتقد، أن الليل لم يكن يخلو من بعض المداعبات الجنسية، بين النساء والنساء، وبين الرجال والرجال.

 

(2)

في المساء ذهبنا إلى النادي السويسري، بالقرب من ميدان الكيت كات، وكانت سويسرا تحتفل في ذلك اليوم، أول أغسطس، بعيدها القوميّ، وكانت ريتا قد حصلت بطريقة ما على تذاكر دعوة. بدأ الحفل بتوزيع مشروبات كحوليّة (بيرة ونبيذ وويسكي) مجاناً لمدّة ساعة، ففوجئت بريتا تحتسي الكؤوس بطريقةٍ هستيريّة، وعندما حاولت منعها من تفريغ المزيد فى جوفها، ذَكَرَت بصوتٍ منخفض كلمة فرنسيّة قبيحة!! هَدَأَت قليلاً بعد ذلك عندما ألقى سفير سويسرا خطبة قصيرة، ثم وقفنا جميعاً عند إذاعة النشيد القوميّ، إلاّ أنّه مع افتتاح البوفيه وحلبة الرقص، إندفعت ريتا من جديد بطريقة مجنونة إلى الرقص حافية، ذهبتُ خلفها لأسحبها من ذراعها، الا أنّها ضربتنى على كتفى بطريقة عنيفة، ممّ أثار بعض نظرات التساؤل فى عيون المحيطين، ومنهم بعض الأجانب (كيف يجرؤ هذا المصرى......)، لأنها حتى لو كانت زوجتي، فإن هذا المجتمع الغربي لا يقبل أن أسحبها من ذراعها بالقوة.

هل يمكن أن أقف هنا وسط هذه المجموعة من البشر اللاهين العابثين، لأقول (ساعدوني يا جماعة دي مجنونة، ناخدها نودّيها المستشفى)، لن يصدقني أحد، وستكون هي المصدَّقة على طول الخط. وقفت بعيداً أراقبها وهى تتحدّث إلى كلّ ضيوف السهرة الّذين يرقصون حولها (ماذا تقول لهم؟)، ثم عندما بَدَأَت ترفع النظّارات السوداء، عن وجوه الرجال الموجودين على الحلبة، ذهبت إليها من جديد قائلاً أننى سأغادر المكان بها أو من غيرها، قالت (اذهب وحدك، أمّا أنا فلن أغادر هذا الحفل الجميل).

 

(3)

نمنا منذ منتصف الليل حتى الرابعة صباحاً، ثم أيقظتني قائلة (كيف تنام وأنا أموت؟ .... مفيش دم؟)، لم أفهم ماذا تقصد فنظرت اليها قليلاً فى ضوء الغرفة المبهر الذي أضاءته كله، فوجدت أنّها كانت قد وضعت على وجهها كل مساحيق التجميل التى تستعملها كأنّها كانت تستعد لاحتفالٍ ما، ولأنّى معتاد على مبالغاتها عند اقتراب الأزمات فقد سألتها (ولماذا ستموتين؟).

المونولوج الثاني قصير (كان المونولوج الأول في مستشفى باريس كما تتذكّرون) ويتكوّن الثاني من جزء واحد فقط لا غير وعنوانه: أين يذهب الماء؟

(أنا أشرب خمسة لتر ماء كل يوم ... ولا أتبّول الاّ أقل من نصف لتر .... أين يذهب الماء؟ .... أنا متأكّدة أنني مصابة باحتباس بولي .... وأنت لا تباليِ .... كأننى لم أعد زوجتك ...... أو كأنّك حيوان لاتهتم الاّ بالأكل والنوم .... أنت أصبحت مثل كلّ الأزواج المصريين .... الّذين لايبالون بزوجاتهم .... ولا يتمنّون الاّ أنّ يتخلّصوا منهنّ ... ماذا حدث لك؟ .... لقد كنت أفضل من ذلك بكثير فى بداية الزواج .... أمّي معها حق ... وكذلك كلّ صديقاتي اللآئي كنّ قد تزوّجن من مصريين ثم تطلّقن منهم ..... لقد توقّعن كلّهنّ تلك النهاية التعيسة .... وحذرنني منك ولم أنصت اليهنّ)

قلت (عن أية نهاية تتحدّثين؟)

قالت (هذه النهاية، أن تنام وتتركني أموت)

قلت (ماذا تريدين؟)

قالت (أن نذهب الآن إلى مستشفى السلام بالمهندسين)

قلت (الرابعة صباحا يا ريتا، ألا نستطيع أن ننتظر ساعتين حتّى شروق الشمس؟)

قالت (سأكون قد متّ بالتسمّم البولي، وستكون أنت المسؤول).

ذهبنا إلى مستشفى السلام بالمهندسين، وأيقظنا نائب المسالك البولية، الذى فحصها، ثم قال لها (هذه ليست حالة إحتباس بولي، وشعورك بالعطش شىء طبيعي بسبب حرارة الجو، وكذلك لأنّ الأدوية التى تأخذينها يستهلك هضمها كميّة كبيرة من الماء) قالت (ولكنّي أشرب خمسة لتر ماء، ولا أتبول الاّ نصف لتر) قال (هناك كميّة كبيرة من الماء تذهب إلى الهضم، وكذلك إلى تلطيف درجة حرارة الجسم عن طريق التبخّر عبر الجلد).

كان الطبيب يتحدّث اليها بالانجليزية، وكنت أقوم بترجمة ما لا تفهمه. تحرّكت من مكانها وغادرت حجرة الكشف دون أن تردّ عليه، وعندما لحقت بها قالت (هذا ليس طبيباً، إنّه لايفهم أى شىء، كيف إنّ إدارة المستشفى لم تدرك هذه الحقيقة؟ يجب أن تتّصل بهم لتنبههم إلى ذلك، قبل أن يرتكب جريمة فى حق أحد المرضى)، قلت (حاضر). حاولت بطريقة لبقة أن أتحدّث معها عن ضرورة أخذ الحقنة المهدّئة. قالت (أنا لا أحتاج إلى هذه الحقنة، أنا لست مريضة، أنت من يحتاج إلى هذه الحقنة، فأنت تبدو قلقاً عصبياً).

عدنا الى الشقة ثم فجأة جرت الى الباب وهي تقول إنها ستذهب الى مستشفى الأنجلو، وغادَرَت الشقّة. كان يجب على أن أرتدي حذائي قبل أن ألحق بها، نزلت جرياً على السلالم، وأمام العمارة لم أجدها. لحقت بها ولم يكن صعباً أن أعثر عليها، إذ كان صراخها مسموعاً من الشارع أمام باب المستشفى. كانت تشتم الأطبّاء والتمورجيّة بكلّ ما يخطر على بالها من ألفاظ قبيحة بالعاميّة المصريّة، ممّا كان يُضحك الجميع ويُزيد من هياجها، وعندما استدارت لتصطدم بي، حاوَلَت أن تستعين بى فى ترجمة الإهانات، إلاّ أنني أنا كذلك كنت قد بدأت في الضحك، فأهانتني إهانة شديدة باللغة الفرنسيّة.

 

(4)

إنتهى بنا الأمر حوالي السابعة مساءً فى مستشفى (دولي) بالدقّي، قالت إنه على وشك التعاقد مع السفارة الفرنسيّة، لعلاج الرعايا الفرنسيين حسب نظام التأمين الصحي الفرنسي. بقينا هناك نتنقل بين التخصّصات فى العيادات المختلفة، من المسالك البوليّة، إلى أمراض النساء، إلى الأمراض الباطنيّة. انتهى بنا الطواف والتجوال داخل المستشفى، إلى قسم الأمراض العصبيّة والنفسيّة، حيث وجدنا طبيباً شاباً لطيفاً، أدرك خطورة حالتها، ونجح بلباقة فى إعطائها حقنة منوّمة، وأدخلناها سويّاً إلى حجرتها، ثم أدخلتُها مع ممرّضة إلى فراشها، وذهبت إلى المنزل لأحضر لها غيارات وخلافه. عدت بعد ساعة لأجد الطبيب الشاب يشدّ شعر رأسه، فأدركت على الفور ما حدث بسبب أنني كنت قد سمعت صراخها وشتائمها من عند باب المستشفى.

قال (لقد أفاقت من تأثير الجرعة المنوّمة بعد أقل من ساعة، وكان من المفروض أن يدوم التأثير حتّى صباح الغد)

قلت (وماذا يمكننا أن نفعل الآن؟)

قال (ألا يمكنك أن تأخذها معك؟)

قلت (وإلى أين أذهب بها؟)

قال (إلى مستشفى الأمراض النفسيّة، فمستشفانا هذا غير مؤهّل لمثل تلك الحالات)

قلت (أذهب بها الآن؟ الساعة الثانية صباحا؟)

قال (اذن سأكون مضطرّا إلى اعطائها حقنة مهدّئة أخرى).

في هذه المرة نامت حتى التاسعة صباحا والحمدلله، وكنت قد اتصلت بمستشفى المقطّم للصحة النفسيّة والعصبيّة، ولحقوا بي فى مستشفى الدقّى حوالى العاشرة صباحاً لنقلها إلى المقطّم. عندما حاول طبيب الأمراض النفسيّة المصاحب لسيّارة مستشفى المقطّم إنزال ريتا من فراشها، منعه تمورجيّة الدقّي قائلين إنّه ينبغي على الزوج أولاً أن يحضر الفاتورة موقّعا عليها من الإدارة بأنّها خالصة.

تركت ريتا مخدّرة (حقنة ثالثة) بين يديّ طبيب المقطّم، وذهبت لأغيب ساعة بين طرقات المستشفى، بين مكاتب الحسابات فى الطابق الأرضي حيث كنت قد تركت وديعة ألف جنيه تحت الحساب، استهلكها علاج ريتا خلال اثنتيّ عشرة ساعة!! دفعت الفرق صاغرا، وحصلت على فاتورة جديدة، وقّعتها وختمتها من الادارة، وعدت بها إلى حيث زوجتي لأفاجأ بضرورة الحصول على توقيع الطبيب المعالج بالطابق الخامس، والمصعد كالمعتاد عطلان.

قال الطبيب (مطلوب مئتيْ جنيه خارج حساب المستشفى) 

قلت (لماذا؟)

قال (بدون لماذا، إدفع وأنت ساكت)

أخرجت النقود من جيبي وأعطيتها له، فأنا لا أريد إلاّ أن أخرج بريتا من هنا وأصل بها إلى المقطّم، قبل أن يتوقّف تأثير المخدر.

قلت (الآن هل يمكنني أن أسألك لماذا؟)

قال (هذا هو ثمن المتابعة الطبيّة، واكراميّة الممرّضين والممرّضات فى القسم، ثم إنّ هذا هو النظام المعمول به فى المستشفى، ويمكنك أن تذهب إلى الادارة لتتأكّد بنفسك)!

حتّى فى مهنة الطب، وفى مستشفى (دوليّ!!) كبير، لاتوفّر الادارة للأطبّاء مرتّبات كافية، وانما تطلقهم على المرضى زبائن المستشفى، ليأخذوا حقّهم بذراعهم. ويبدو أن هناك إشارة سريّة قد انتقلت من هذا الطبيب إلى بقيّة أرجاء المستشفى، فبدأ التمورجيّة يخرجون من الأركان غير المنظورة للمبنى قائلين كلهم فى جوقة واحدة (حمدالله على سلامة الست)!! عن أيّة سلامة يتحدثّون؟ وهى مخدّرة ومحمولة على سرير نقّال؟ بدأ الجميع يتابعونني بالنظرات، ويحاولون الاقتراب منّي قدر الإمكان فلعلّ أن يصيبهم من الحب جانب، بعد أن كانوا قد لمحوا العملة فى يدي. شعرت كأنني حيوان جريح في غابة، تتربص به الوحوش الضارية لتنهش لحمه.

 

الرولز رويس

(1)

اتصلت بها في الحادية عشرة صباحا، لأكتشف أنها أمام هرم دهشور، في سيارة رولز رويس مؤجّرة من فندق خمس نجوم، هو فندق الفور سيزونس في أول موسم له بعد افتتاحه، فنحن في ديسمبر 2008، كان من ضمن صفقة السيّارة السائق والبودي جارد، أعطت الموبايل للسائق لأكلمه، لأنها كانت مشغولة بالحديث مع الناس المتجمّعين حولها، وهي توزّع عليهم أوراقا مالية فئة المئة جنيه والمئتي جنيه.

حاولت أن أشرح له حالتها، وطلبت منه ألا يتركها وأن يتجه بها الى المستشفى، قال (الأوامر تأتيني فقط من ادارة الفندق)، وأعطاني رقما لأتصل به. ثم سألني (من هي هذه السيّدة) قلت (فرنسية مقيمة في القاهرة منذ عشرين عاما وكانت زوجتي) قال لي شيئا كان من أعجب وألطف ما سمعته، من ابتكاراتها في أزماتها السابقة، قال (إنها تقول للناس إنها زوجة جمال مبارك)!! في الفندق قالت الفتاة موظفة الاستقبال (نعم رأيتها هذا الصباح عندما جاءت لاستئجار السيارة الرولز)، فحكيت لها الحكاية باختصار، فتعاطفت معي الفتاة، واتصلت بالأمن الذي حوّلها مباشرة الى موبايل السائق، ثم بعد أن كلّمته لمدّة بضع ثوان، سلمتني السماعة لأكلمه، فاستحلفته بالله أن يذهب بها مباشرة الى المستشفى، بدلا من العودة بها الى الفندق، على أن أقابله هناك أمام باب المستشفى، فوافق مترددا خوفا من أن تكون عدوانية معه، بعد أن عرف أنها مريضة عقلية.

سألته عن حالتها. قال (ترسل قبلات في الهواء لكل الناس عبر نافذة السيارة، وتعطي للأولاد في الشوارع عملات نقدية)، ولا أعرف كم صرفت في هذه الأزمة، لكني علمت من أمها لاحقا، إن فواتير البنك تشير الى أنها كانت تسحب من البنوك مبالغ تقدّر ب4000 جنيه، في كل مرة سحب، وهو الحد الأقصى للسحب اليومي من البنك الواحد، مضروبة في يومين تساوي 8000 جنيه، مضروبة في خمسة أيام، يصبح إجمالي المنصرف هو 40 ألف جنيها مصريا.

سألت الموظفة عن قيمة إيجار هذه السيارة الرولزرويس، قالت (هذه هي أفخر سيارة للايجار في كل فنادق مصر، وسعرها هو 3500 دولار أمريكي في اليوم الواحد)! تذكرت كيف أن ريتا في نهاية الشهر الماضي استلفت مني نصف قيمة إيجار شقتها المفروشة، لعدم توفر سيولة نقدية لديها. لم أعرف إن كان كارت الفيزا الخاص بها يمكنه أن يغطي ايجار السيارة.

ذهبت الى المستشفى أنتظرها هناك، عدة ساعات ولم تصل.عدت الى الاتصال بالفندق الخمس نجوم، فردّ عليّ من قال بطريقة رسمية جدا

(العميلة أعادت السيارة وانتهت علاقتنا بها بانتهاء التعاقد). تراجعوا عن مسألة توصيلها الى المستشفى، لأن ذلك يعني ضمنيا اعترافهم بأنها مريضة، وبالتالي تصبح غير مسؤولة عن تصرفاتها المالية، مما قد يمكننا من الامتناع عن دفع الدولارات.

 

(2)

مع ريتا كنت دائما كلاعب السيرك الذي يسير على حبل ممدود في الهواء، على ارتفاع عشرة أمتار، أي خطأ سيكلفه عمره، كان أصدقاؤها وصديقاتها يقولون، إنني لابد أن أكون قديسا نزل من السماء، حتى أتمكن من تحمل كل هذا العناء. لم أعد أتقبل هذه الفكرة، لم أعد أحتمل لعب دور القديس.عدت الى منزلي وتمددت في فراشي وأنا أرتجف. وأنا في حالتي تلك رنّ جرس الباب. وجدت شخصا لا أعرفه، سألني (هل أنت زوج الفرنسية ريتا صاحبة هذا الباسبور؟)، وكان ممسكا به في يده، إذ ما زالت تحتفظ بالباسبور القديم، الذي تنتهي صلاحيته الصيف القادم، وعليه عنوان شقتي، وكذلك كونها زوجة فلان الفلاني، قلت (نعم، أين وجدته؟)، قال (قابلتني في شارع 26 يوليو منذ دقائق أمام البنك الأهلي، وأعطتني 4000 جنيها مصريا، بالاضافة الى هذا الباسبور، ثم قبّلتني وقفزت في سيارة تاكسي، قبل أن ألحق بها)، شكرته وأردت أن أعطيه العشرة في المئة الشرعية، ولكنه رفضها قائلا (كان الله في العون).

أخذت ريتا التاكسي وذهبت به الى محل للمشغولات الذهبية والفضية، حيث تعرّفت على أحد الممثلين الشبّان، الذي سيصبح أكثر شهرة لاحقا، وكان لطيفا معها لكنه لم يدرك مرضها وكونها في أزمة. اشترت مجموعة من الحلي الفضية تمثل حيوانات مختلفة كلها من فصيلة الزواحف والحشرات مثل السحلية والبرص والعقرب وعلقتها على صدرها. ثم بتاكسي عادت الى الزمالك، لتدخل البارات المختلفة مثل دون كيشوت في أحمد حشمت وPub 28  في شجرة الدر، وبار فندق فلامنكو في آخر اسماعيل محمد، حيث شربت عددا لانهائيا من كؤوس الفودكا بعصير البرتقال، أوقفت تاكسي وطلبت من سائقه أن يقودها الى مكان به صالة للرقص، فأخذها الى فندق آمون بميدان سفنكس، حيث شغلت البيست عدة ساعات، وكان الشباب الخليجي من الجنسين يأتون اليها لالتقاط صور تذكارية معها.

عند طلوع النهار، عادت الى المنزل في شارع شجرة الدرّ، الذي تقيم في إحدى شققه، وطرقت عددا من الأبواب، طالبة من الجيران المزيد من كؤوس الفودكا بعصير البرتقال، ثم عندما لم يستجيبوا لها، ولم يستطيعوا أن يؤذوها لأنها أجنبية، خلعت ملابسها بالكامل وهي على السلم، فلم يجد البواب بدّا من ايقاظ صاحب العمارة، الذي حبسها في شقتها. في العاشرة صباحا طلب سفارة فرنسا تلفونيا، التي قامت على الفور بارسال مندوبين عنها، أحدهما فرنسي والآخر مصري، وقرّرا الذهاب بها الى طبيب السفارة، الذي نصح بضرورة عودتها الى فرنسا، لأنها طالما بقت في مصر، ستعود الى الوقوع ضحيّة لهذه الأزمات. أدخلت الى مستشفى بهمان لمدة أسبوع، ثم تمّ التواصل مع والدتها، والاتفاق على إعادتها الى فرنسا. ساعدوها في تحضير حقائبها وأوراقها، وسافرت في صحبة مرافق فرنسي، قبيل إجازة الاحتفال بأعياد الميلاد، الكريسماس ورأس السنة، الى أن تمّ تسليمها الى ابنة عمّها في مطار رواسي. ولم تعد ريتا مرّة أخرى الى مصر.

 

*كاتب من مصر