يستخدم الكاتب المغربي ضمير المخاطب، وكأنه يوجه في شرحه لوظائف الوصف والحوار في القصة القصيرة نصائحه لمن يكتب تلك القصة. وبرغم مدرسية وصفه وتبسيطيته، فلم يفرق بين الوصف والسرد الذي كتب عنه جورج لوكاتش ببراعة، فإنه يضع يده على بعض السمات المفيدة التي تستحق التريث عندها.

الوصف والحوار في كتابة القصة القصيرة

نجيب الخالدي

 

وأنت تكتب قصتك، معنى هذا أن نصك القصصي سيقوم على دعامتين أساسيتين: السرد والوصف، وهما في العمل القصصي عنصران متلازمان. وأنت تسرد، يعني أنك تحكي أحداثا وأفعالا متعاقبة في مظهر زمني، بينما الوصف فستتخذه أداة لتصف الأماكن والأشياء والشخصيات سواء واقعية كانت أم خيالية ... هكذا، فقد تهتم في مقطع بالوصف، وفي آخر بالسرد، وفي آخر بالوصف والسرد معا، أي أن تجعل الوصف مع السرد في تناوب حسب طبيعة الحدث أو الموقف أو تحولات الزمان والمكان. تفهم من هذا أن الوصف عنصر مهم في السرد، لكنه لا يمتلك القدرة على أن يحل محله فيؤدي وظيفته، كما لا يمكن للسرد أن يستغني عن الوصف، فهو مساعد له في تطور الحدث وبناء الشخصية.

وبقدر ما يكون وصفك مفيدا في السرد مطورا للحدث وملقيا الضوء عليه، بقدر ما يؤثر سلبا عليه عندما تسيء توظيفه، فتجعله مهيمنا طاغيا غارقا في بحر بلا حدود، معرقلا بذلك مسار الحدث، ومزيحا بالتالي السرد عن سكّته الأصلية ألا وهي الحكي. وعندما تصف الأشياء أو غيرها في قصتك، فأنت تتعامل مع اللغة بالدرجة الأولى، وليس مع هذه الأشياء كما هي في الواقع، أي أنك وأنت تصفها، تجردها إلى حد كبير من دلالتها الأصلية من خلال لغتك الإبداعية، التي تتم عبرها ترجمتك لهذه الموصوفات إلى أفكار ومشاعر، فهي لا تخبرك بما تعاني أو بما تفكر، لأنها في الأصل لا تعاني ولا تفكر، ولكنها تعبر عما تتركه في نفسك من أثر، وعما تحس وما تفكر به، على أساس أن ما تقدمه من أشياء موصوفة ليس كما تراه أنت، ولكن كما تراه شخصياتك.

ومن عناصر تشكيل الوصف، أن تعتمد على الحواس باعتبارها أدوات بناء الحدث وتشييد العالم الفني لقصتك، لكن توظيفها يجب أن يكون بالقدر الذي يحقق للنص وظيفته الفنية والجمالية. والحواس تستدعي محسوسات من جنسها، فالعين لا يمكن أن ترى إلا الأشياء المادية المرئية، والأنف لا يشم غير الروائح، والأذن لا تسمع غير الأصوات ... وما يجب أن يميز هذه الحواس، أن تُوظفها توظيفا إيحائيا يسهم إلى حد بعيد في تطوير الحدث والمضيّ به قدما نحو الأمام. وهذه الحواس يمكنك أن تستعملها استعمالا مجازيا، فتجعل من الأنف على - سبيل المثال- يستقطب بواسطة الشم رائحة الغدر والخيانة، والأذن تستقطب بواسطة السمع صوت المجد و الانتصار وهكذا.

ليس من الضروري أن يقتصر وصفك على ما هو ظاهري من خلال تقديمك للمرئيات اعتمادا على حاسة البصر، بل بإمكانه أن يتغلغل إلى ما وراء المرئي ليكشف عن المشاعر والانفعالات والمواقف، أي الكشف عن مكنون الشخصية وباطنها. ومن حيث طريقتك في الوصف، فيمكنك الانتقال من العام إلى الخاص، منطلقا من تقديم أوصاف عامة متوجها نحو الجزئيات والتفاصيل، كما يمكنك الانطلاق من الجزئيات والتفاصيل لتبني عليها أوصافا عامة شاملة.

أما الحوار فهو التخاطب الذي ستجعله جاريا بين شخصيتين أو أكثر من شخصيات قصتك. ويقتضي تعاقب المتحاورين على الكلام بالإرسال تارة وبالتلقي تارة أخرى. يمكنك توظيف الحوار في قصتك كما يمكنك الاستغناء عنه إذا لم يكن الغرض منه ضروريا. واختيارك للحوار يأتي لتُحقّق أغراضا، أهمها إبراز ما تخفيه الشخصيات من أحاسيس ومشاعر وأفكار ودوافع، من خلال منحها فرصة التعبير عن نفسها بنفسها لتقترب أكثر من المتلقي وهي تتكلم، وكأنها حقيقية واقعية، وليساهم الحوار أيضا في بناء الحدث في قصتك ونقله من مرحلة إلى أخرى، بالإضافة إلى أن اختيارك للحوار سيبث في نصك القصصي إيقاعا من الحركية والحيوية، بعيدا عن رتابة قد يحدثها طول السرد.

امنح كل شخصية داخل الحوار صفات خاصة بها تميزها عن باقي الشخصيات الأخرى من خلال اللغة التي تعتمدها، وهي لغة يجب أن تكون مناسبة لمستواها الفكري والثقافي والاجتماعي، علما بأن لغة الحوار ليست لغتك أنت باعتبارك كاتبا، ولكنها لغة الشخصيات التي تمثلها، فلا يجوز - مثلا- أن تجعل شخصية أمية لا تمتلك ما يدل على علاقتها بالفكر والثقافة، تتكلم لغة راقية ذات أبعاد إيحائية فكرية فلسفية قابلة لتأويلات عدة، فسيكون هذا تناقضا صارخا بين تكوينها التعليمي واللغة التي جاءت على لسانها في الحوار، بل يجب أن تجعل لغتها سهلة بسيطة قريبة ممّا يدور على ألسن الناس في حياتهم اليومية، لكن بعيدا عن الثرثرة والإسراف في الكلام الزائد، الذي لا يخدم تطورها وتطور الأحداث في قصتك. هكذا، فإن الشخصية التي تشتغل عليها في قصتك، هي لغتها التي توظفها في التعبير عن فكرها ووعيها وثقافتها وحالتها السيكولوجية.

وأنت تنسج الحوار، تجنب ما أشرت إليه وأنت تسرد، كأن تقول على لسان السارد:

قال لها بأنه سيغادر هذه المدينة لأنه لم يعد يطيقها: - لم أعد أطيق هذه المدينة، سأغادرها. تجنب أيضا السقوط في تكرار" قال، يقول"، يمكنك الدخول مباشرة في الحوار دون اللجوء إلى فعل "القول" أو ما يدل على معناه (قال لها ... وقالت له ... فردت عليه قائلة، ثم أردف قائلا...) ولتبتعد عن السقوط في المحادثة اليومية المبتذلة التي تدور عادة بين الناس، وجّه حوارك نحو التكثيف والاختزال بانتقاء المفردات والتراكيب المناسبة، ذات بعد فني إيحائي ينفذ إلى جوهر الأشياء مهما كان الحوار أمينا في نقل واعتماد لغة الواقع.

كما يمكنك توظيف الحوار الداخلي، وهو غير منطوق وغير مسموع، حوار فردي يدور بين الشخصية وذاتها، حيث تكون مرسلة ومستقبلة في الوقت نفسه، توظفه في مواقف معينة لاستجلاء الحالة النفسية والمقاصد الأكثر حميمية التي تنطوي عليها الشخصية، خاصة إذا كانت هذه الشخصية متأزمة غير قادرة على الكشف بشكل مباشر وصريح عن دواخلها من الأحاسيس والمشاعر والأفكار (الاغتراب، الوحدة، الضياع...)

علاقة الوصف بالحوار علاقة بنائية تقتضي الاهتمام في قصتك، لاسيما أن الوصف والحوار لا يتداخلان كما السرد والوصف، لهذا فتنسيقك بين الوصف والحوار ضروري حتى يظهر الوصف في مظهر مناسب للحوار لائقٍ به.

(يتبع)

 

najyb3@hotmail.com

المراجع:                                                

  • عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة، ع 240، س 1998
  • عبد اللطيف محفوظ، وظيفة الوصف في الرواية، دار اليسر للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1989
  • دراسات موصلية، العدد السابع والعشرون 2009 
  •  دراسات، المجلد 33، العدد1، السنة 2006
  • علي عز الدين الخطيب، الحواس الخمس في قصص لطفية الدليمي، دراسة تحليلية لأدوار الحواس في بناء العالم القصصي، مجلة كلیة التربیة/ جامعة واسط، العدد التاسع 2011
  •  فاتح عبد السلام، الحوار القصصي: تقنياته وعلاقاته السردية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 1999