يمنح هذا الكتاب المتلقي فرصة نادرة لمشاهدة العالم كما تراه النساء وأملاً في قدرة نصف المجتمع على إنتاج نموذج بديل للقيادة وتوجيه مستقبل البشريّة ليستند بدلاً من معايير الرّبح المادي البحت والتنافس على استنفاد موارد الكوكب حد شنّ الحروب إلى أسس من التضامن الإنساني والذّكاء العاطفي وقيمة الإنسان كإنسان.

«من النساء إلى العالم»: نريدك أقل قسوة

نـدى حـطـيط

 

بقيت الرّسائل - بمختلف أشكالها - وإلى عهد قريب واحدة من أهم أدوات التوثيق التاريخي وسجلات ثمينة لتتبع مسارات التطوّر الاجتماعي والفكري لجيل أصحابها هذا إن لم تكن المصدر الأساسي لمعرفتنا عن العالم وأحداثه في نقطة ما من تقاطع الزّمان والمكان، نقرأ في نصوصها - وما وراء نصوصها - شهادات محمّلة بمعانٍ كثيرة تفوق أحياناً عدد كلماتها، وتنقلنا بطرفة عين لنشترك في تجارب بشر عاشوا بعيداً عنا في الجغرافيا أو التاريخ أو كليهما معاً، لكننا نجد دائماً ما يجمعنا بهم بشكل أو آخر.
هذا الفنّ القديم المبجّل، كاد يندثر مع مطلع القرن الحالي، بعدما اختطف الفضاء السيبراني من الورق والبريد الجزء الأجمل من مهماتهما، ونقل مخاطباتنا - غالبها - إلى صناديق افتراضيّة باهتة تنقل بملمس البلاستيك والزجاج وبخط لا يشبه شخص كاتبها نصوصاً عمليّة تقنيّة، فيما الشخصي والحميم والمشغول بدقات القلوب انتقل إلى وسائل تواصل اجتماعي نزقة بعضها لا يتورع حتى عن مسح كلماتنا خلال يوم وليلة، أو أن يغلق حساباتنا بالكليّة إن تجرأنا وخرجنا عن خطوط مالكيها في وادي السليكون.
إليزابيث فيليبولي الصحافية والناشطة الاجتماعيّة ومؤسسة منتدى الفكر العالمي - التي تحتضنها جامعة أكسفورد - والمبادرة المنبثقة عنها «أثينا 40» التي تستهدف تعزيز فرص النساء القياديات والتعريف بمساهماتهن، استفادت بحكم شبكة علاقاتها المعولمّة بنساء مؤثرات من بيئات ومهن وخلفيّات شديدة التنوّع لتسترد لفن الرسائل بعضاً من ألق مفقود، وتطلب لمجموعة مختارة منهن أن يكتبن - دون قيود - رسائل موجهة إلى نساء أخريات كنّ ملهمات لهّن في مراحل مختلفة من حياتهّن، شخصيات تاريخية أو معاصرة من الفضاء العام أو إحدى نساء الأسرة أو حتى سيدات عاديات صنعن فرقاً في حياة من حولهن. تلك الرسائل جمعتها فيليبولي مع مقدّمة تعريفيّة ورسالة ختاميّة منها وجهتها لكل نساء العالم ودفعتها للنشر في كتاب يصدر اليوم عن دار آي بي توريس (مجموعة بلومبزري للنشر) بلندن بعنوان «من النساء إلى العالم: رسائل من أجل قرن جديد».
الكاتبات جميعهّن يحملن أسماء معروفة بمساهمات كثيرة ومتنوعة على الأقل في مجالات عملهّن، سياسيات وأميرات ومخرجات وممثلات وعالمات وكاتبات وناشطات ومذيعات، سجلت كل منهنّ في رسالتها إلى ملهمتها مشاعر شخصيّة نحوها مستندة إلى التاريخ الشخصي لهؤلاء النساء وتجاربهن القاسية أحياناً في مواجهة العالم والحياة ومرور الزّمن، مرفقات مع بوحهنّ قضايا اجتماعيّة تمثّل تحديّات لم تحسمها البشريّة رغم كل تقدمها التكنولوجي والعلمي كالتشرّد، والحروب، واللاجئين، والأنظمة الفاسدة، والاعتداءات الجنسيّة، والتفاوتات الجَندريّة، والحق في التعليم والعلاج والصحة العقليّة - النفسيّة، والتأقلّم مع التحولات الجذريّة في طرائق العمل والتواصل، والهجرة بين الأماكن وغيرها.
بكتاب مثل هذا، الأقرب ما يكون إلى باقة من الورد، يصعب بالفعل القول بأن هذي الرّسالة هي الأكثر تأثيراً بين رفيقاتها، أو تلك الأهم بينها، إذ كلّ منها خاص ومميّز وعابق بعبير مختلف، لكن دون شك سيجد كل قارئ في بعضها على الأقل جرعة محبّة وأمل وإلهام أقرب إليه أو إليها، بمن فيهم القراء العرب الذين سيجدون ثمانية من المؤثرات العربيّات بين الكاتبات، من السعودية والأردن وعُمان ولبنان وفلسطين والعراق، ولعّل هذا يكون حافزاً إلى جانب المحتوى لنقل هذا الكتاب إلى العربيّة
تكتب الروائيّة التركيّة البريطانيّة إليف شافاك إلى رئيسة وزراء نيوزلندا جاسيندا آرديرن (التي كانت أصغر سيدة في التاريخ المعاصر تتولى منصباً تنفيذياً وهي في الـ37 من العمر، وثاني سيّدة بعد الراحلة رئيسة وزراء الباكستان بينظير بوتو تلد وهي على رأس عملها الرئاسيّ) وذلك بعد حادثة الاعتداء الإرهابي على كرايستتشيرش، وتخاطب عازفة التشيلو الإيطاليّة سيلفيا تشايسا البريطانيّة الراحلة جاكلين دو بري التي كانت واحدة من أهم عازفات التشيلو في القرن العشرين قبل أن تنطفئ في قمّة عطائها، وتحادث الإعلاميّة السعودية المعروفة منى أبو سليمان شخصيّة الأفروأميركيّة مارغريت غارنر التي اشتهرت بعد أن روت توني موريسون قصّتها في رواية لها لكونها فضّلت أن تذبح ابنتها بيدها على أن تسلمّها لتجار العبيد البيض الذين لحقوا بهما بينما كانتا تفران إلى ولاية أوهايو الحرّة خلال القرن التاسع عشر، لتجنبّها حياة مثل حياتها: ملؤها الذّل والاغتصاب والضرب والمعاملة السيئة التي لا تليق حتى بالحيوانات، واختارت الممثلة اللبنانيّة الفرنسيّة ياسمين المصري أن تبعث لأمها - ممثّلة لكل النساء في عائلتها - بقصيدة شعريّة، فيما وصفت العراقيّة الأميركيّة بسمة علاوي في رسالتها إلى الممثلة الأميركيّة أنجلينا جولي مدى تأثرها كطفلة عراقيّة صغيرة بمشاهد الجولات الإنسانيّة التي ذهبت إليها النجمة العالميّة إلى أفريقيا ومناطق منكوبة أخرى وإنفاقها من عوائد عملها على مساعدة المنكوبين واللاجئين بل وتبني ثلاثة منهم للعيش مع أولادها في الولايات المتحدّة، فيما تحدّثت الأميرة الأردنيّة بسمة بنت الحسن إلى روح جدّتيها: الملكة زين الشرف - عقيلة الملك طلال ووالدة الملك حسين - وبيغام شايستا سوهاراواردي - التي تولت تمثيل الباكستان سفيرة إلى الأمم المتحدة وكانت أوّل سيّدة مسلمة تشغل ذلك المنصب في المنظمة الدوليّة وكانت إلى جانب إلينانور روزفلت - عقيلة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت - النساء الوحيدات ضمن فريق الأمم المتحدة الذي أنجز الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أما الصحافيّة اللبنانيّة الكنديّة رولا عازار فكتبت رسالة تدمي القلوب إلى خالتها الراحلة رامانا فياني التي قضت بالحرب الأهليّة اللبنانيّة الأخيرة وتصف بها حال بلادها هذه الأيّام الذي لا يسرّ صديقاً، وكتبت الأردنيّة ديما بيبي إلى السيّدة هيفاء حجّار النجار مديرة المدرسة الأهليّة للبنات بعمّان، وغيرها كثير
ولعل أصعب الرسائل على قلب القارئ قد تكون تلك التي خطتها الأوغنديّة هيلين وايسوا - مؤسسّة منظمة ريب هيرتس الأوغنديّة التي تتدخل لمساندة النساء ضحايا الاغتصاب - موجهة إيّاها إلى زهراء محمود المديرة التنفيذيّة لبرنامج ماما كاش، وهو أحد أكبر الصناديق العامّة في العالم المتخصصة بدعم النساء والفتيات وتحكي فيها عن تجربتها الشخصيّة عندما تعرضّت للاعتداء مِن قبل مَن يفترض به أن يحميها وهي لم تزل صبيّة في الحادية عشرة من العمر يحيط بها مجتمع بطريركي لا يرحم
تدافع فيليبولي عن (نسويّة) الرسائل، رغم أن القضايا المطروحة تمس كافة أبناء المجتمع ذكوره كما نسائه بإصرارها على أن وجود النسويّة بحد ذاته دلالة خلل في النظام العالمي، إذ لو كانت هناك عدالة ولو نسبيّة، لما شعرت كثيرات بالحاجة للنضال من أجل تحقيق ذواتهنّ وتحصيل حقوقهن
لا حلول يقترحها «رسائل من النساء إلى العالم» حول إصلاح مواضع الخلل والتخليّ، لكنّه يمنح المتلقي فرصة نادرة لمشاهدة العالم كما تراه النساء وأملاً في قدرة نصف المجتمع على إنتاج نموذج بديل للقيادة وتوجيه مستقبل البشريّة ليستند بدلاً من معايير الرّبح المادي البحت والتنافس على استنفاد موارد الكوكب حد شنّ الحروب إلى أسس من التضامن الإنساني والذّكاء العاطفي وقيمة الإنسان كإنسان، بغض النظّر عن لون بشرته أو جنسيته أو جندره أو عمره أو ثقافته أو عقيدته أو حالته الصحيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصادية. ربّما في النهاية سنجد أن الأمهات هنّ الأقدر على إعادة تصوّر عالم جديد أفضل لنا جميعاً.

 

جريدة الشرق الأوسط