ينعي الباحث الهندي هنا أحد أبرز أعلام الفكر الإسلامي في بلده، لأنه جمع بين المنهج الإسلامي والمنهج العلمي والفلسفي، وكتب بالإنجليزية والأوردية والهندية العديد من المؤلفات المهمة. وتأثر بداية بأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي لكنه سرعان ما خالفهم وناقش علميا وفكريا ضد إيديولوجيات المودودي وغيره من المتعنتين في العديد من كتبه.

رحيل العلامة وحيد الدين خان

رجل السلام وسفير المحبة والوئام

علاء الدين محمد فوتنزي

 

المدخل:
بعد حياة مليئة حافلة بالعطاء العلمي ولائحة طويلة من  الإسهامات والتكريمات رحل عن عالمنا  صباح اليوم العاشر من شهر رمضان 1442 هـ العالم المفكر الهندي والفيلسوف الحكيم المبدع، والكاتب النحرير والداعية القدير، ورجل السلام وسفير المحبة والوئام، ومؤسس المركز الإسلامي في نيودلهي، صاحب التصانيف العديدة المفيدة، والتحقيقات السديدة الفريدة، العلامة الشيخ مولانا وحيد الدين خان، عن عمر يناهز 96 عاما، تاركا خلفه مكتبة علمية كبيرة. وللراحل مئات من الكتب، كتب بعضها باللغة العربية وبعضها الآخر بالإنجليزية، فضلا عن مؤلفاته التي تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات، ويعد كتاب "الإسلام يتحدى" أشهر ما ألفه وحيد الدين خان، كما أنه أولى اهتماما خاصا بالقضية الفلسطينية، وعندما ترجمت كتبه "الإسلام يتحدى"، و"الدين في مواجهة العلم"، و"تجديد الدين"، أصبحت حديث الناس ومائدتهم العلمية والفكرية، وكانت عونا وسندا كبيرا للصحوة الإسلامية المباركة.

وفاة العلامة هي فاجعة للمجتمع الهندي والعالم بأجمعه، وما أحوج العالم الإسلامي لمثل هؤلاء العلماء والمفكرين الذين أناروا الدنيا بعلمهم، ولقد قصر المسلمون في العقود الأخيرة ليس فقط في الدعوة إلى دينهم بل حتى في الاطلاع على حقيقته وفهم أركانه، نحن اليوم أمام عالم جليل لا يعرفه أكثر المسلمين، له إسهامات كبيرة في خدمة الدعوة الإسلامية في الهند والعالم أجمع، خصوصا أنه عاصر الاحتلال الغربي لبلدان المسلمين والهجمات الفكرية التي تعرض لها العالم الإسلامي، ولهذا فقد علم الداء والدواء لأمراض الأمة.

فهو مفكر عملاق يتصدى لمعالجة أعقد قضايا الفكر بأسلوب علمي يبهر العقول، وكانت دعوته قائمة على مهاجمة العنف وجماعات العنف المسلح، والميزة التي يمتاز بها وحيد الدين خان من بين أقرانه من مفكري العصر، إدمانه القاتل على دراسة الكتب العلمية والفكرية باللغة الانجليزية، ويمكن تقدير سعة اطلاعه وعمق دراسته من خلال مؤلفاته، ولقد أخبر بأنه لكي يستوعب الفلسفة الماركسية ظل منكبا على قراءة أهم المصادر الأساسية والأولية حتى قرأ أكثر من عشرة ألف صفحة في صميم الموضوع قبل أن يكتب عن الماركسية كتابه «الماركسية في الميزان» وعندما تصدى للرد على المدارس الفكرية الإلحادية وعلى رأسهم «برتراند رسل» الذي يعد دعامة الفكر الإلحادي في العصر الحديث قرأ كافة أعماله، ولقد أخبر عنه أيضا أنّه ربما قرأ مائة صفحة ليكتب صفحة واحدة فقط.

قامت دولة الهند بتكريمه بجائزة "بادما فيبهوشان" و"بادما بوشان" أعلى جائزة مدنية في جمهورية الهند، تمنحها الحكومة الهندية تكريما للعديد من أبطالها المجهولين الذين ساهموا ببصماتهم في مجال الفنون والتعليم والعمل الاجتماعي، ومن بينهم العلامة الشيخ مولانا وحيد الدين خان الذي يعرف عبقريا نادرا يولد في كل مليار شخص، وحاز على جوائز عديدة ومن أهمها جائزة "راجيف غاندي الوطنية للنوايا الحسنة"، وجائزة "غاندي للسلام".

نبذة تعريفية:
ولد وحيد الدين خان عام1925 م في مدينة أعظم كره بالهند وتعلم في جامعة الإصلاح العربية الإسلامية، وبدأ وحيد الدين يقدم حصيلة فكره بعد دراسات عميقة، وفي البدء انتظم في سلك لجنة التآلف التابعة للجماعة الإسلامية بالهند، وعمل سنوات معدودة، ثم أمضى ثلاث سنوات مكبا على التآلف في المجمع الإسلامي العلمي التابع لندوة العلماء بلكناؤ، ثم شغل رئيس تحرير الجمعية الأسبوعية في دلهي عام 1967 م لمدة سبع سنوات حتى أغلقت المجلة من قبل السلطات. وفي أكتوبر سنة 1976 م أصدر لأول مرة ومستقلاعن كل الهيئات مجلة الرسالة، ودأبت هذه المجلة الشهرية على الصدور حتى الآن ونالت حظا كبيرا من النجاح والقبول.

وفي عام 1992م وعندما واجه المجتمع الهندي حالة انقسام ديني حادة بسبب أزمة المسجد البابري شعر بضرورة أن يقنع الناس بالحاجة إلى استعادة السلام والوئام من أجل أن تسير البلاد مرة أخرى على طريق التقدم، ومن ثم فقد شرع في "مسيرة سلام" مع قيادات الطوائف الهندية جابت 35 منطقة هندية، كما دعا إلى لقاءات تجمع القادة الدينيين في البلاد من أجل نشر السلام والمحبة والانسجام، كما عمل على إعداد تلاميذ كسفراء للسلام ليس في الهند وحدها ولكن في العالم أجمع.

يقول الدكتور محمد عمارة: "ولقد لفت وحيد الدين خان الأنظار إلى إسهام الإسلام فى النهضة الأوروبية الحديثة، عندما أسقط الكهانة والثيوقراطية والحكم بالحق الإلهي، ففتح أمام أوروبا الحديثة أبواب الديمقراطية الليبرالية، وعندما قدم مبدأ تسخير الطبيعة للإنسان، بديلا عن تقديس الطبيعة، ففتح أمام العقل الأوروبى أبواب العلم التجريبي، الذى كانت تحرمه وتجرمه الكهانة الكنسية لزعمها أن العالم دنس، لا يجوز التجريب فيه! كما كان العقل الإغريقى التأملى يترفع عنه لأنه - كالعمل اليدوي - خاص بالعبيد!".

ويقول أيضا: "لقد وهب حياته كلها للدعوة الإسلامية، وتخصص في إقامة الأدلة العلمية على الإيمان الديني، فبلور علم كلام جديدًا مناسبا لعصر العلم، خاليا من جدل الفرق الإسلامية القديمة، ومتجردا من محاكاة الفلسفة الإغريقية القديمة، ولقد أعانته ثقافته العلمية الواسعة على أن يقدم في هذا الميدان أعمالا فذة غير مسبوقة، وكانت باكورة أعماله الفكرية سنة  1950 م كتابه (على باب قرن جديد)".

وحيد الدين خان: المجدد الفريد:

ونظرا لقوة نفوذ الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية وتأثيرها في بعض الأوساط العربية، فلقد أحاطت مؤامرة الصمت الشهير والطعن بوحيد الدين خان، في نفس الوقت الذي فتحت فيه الأبواب أمام شخصيات دينية ذات مستوى سطحي في التفكير، ونالت من الاهتمام والدعاية ما لا يتناسب مع مواهبه الفكرية، والسبب في ذلك – كما هو ظاهر – أن وحيد الدين لا ينتمي إلى أية مؤسسة أو جماعة دينية تقليدية تدشن مكانته الدينية، وتكون سندا لشهرته ولو كان صاحب موقف وعقل مفكر نادر وموهبة قلمية بارعة ظهرت من خلال مؤلفاته المبكرة، مثل كتابه (الإسلام يتحدى) و (الدين في مواجهة العلم) و (الإسلام والعصر الحديث)، إن مثل هذه الكتب القيمة التي ألفها لتعكس بوضوح اتساع ذهنيته ومستوى اطلاعه على فكر العصر ومقدرته الفائقة على الرد على المدارس الغربية للفكر المعاصر بأسلوب عملي تحليلي ليس له مثيل في الفكر الإسلامي المعاصر، فمن هو المفكر أو الكاتب الذي تمكّن أن يطلع بعمق على الفلسفة المعاصرة ويفهم جوهر التحدي الحضاري والمستوى الفكري المعاصر، أو تمكن أن يكتب ردا على التحديات في المستوى العلمي والعصري، أو قام بعرض تعاليم الإسلام بأسلوب علمي تحليلي. إن الأسلوب الذي درج عليه معظم الكتاب هو الأسلوب الإنشائي والعاطفي والأدبي، كما أن هناك كتابا قد نالوا شهرة واسعة ليس لأن صلاحيتهم ومواهبهم العقلية تؤهلهم لذلك، بل لأنهم ينتمون إلى جماعات دينية تقف وراء شهرتهم والدعاية لهم.

ولكن أهم من ذلك كله أن وحيد الدين يعد المجدد الحقيقي لدين الله في هذا العصر، بل هو المجدد الفريد الذي أظهر عمل النبوة من جديد وهو الدعوة إلى الله، إذ لم يظهر أي مفكر وهب حياته لهذه الرسالة كما فعل وحيد الدين خان، وعندما قامت جهود المصلحين والمفكرين المسلمين المعاصرين على أرض التقليد وردود الفعل فإن وحيد الدين خان قامت جهوده على أساس الاكتشاف لعمل النبوة والسير على منهجها الوضاء، وتقدم مؤلفاته الحل لقضية التجديد في العصر الحديث هذا بصرف النظر عن عدم وعي المسلمين بذلك، والحقيقة التي اكتشفها من خلال دراسة متواصلة لمؤلفاته أنه المفكر الإسلامي الوحيد الذي درس بعمق قضية العصر الحديث التي يواجهها الإسلام، وعيّن بعمق نوعية الرد على هذه التحديات ووضع منهجية تفكير شرعية وعصرية لإحياء دين الله في الأرض، وبذلك يعد بحق صانع سلم التجديد في العصر الحديث، ويشعر كاتب هذه السطور بالفضل الكبير لهذا المفكر، ليس فقط من خلال النصوص الوافرة المدعمة لقضيته بل أكثر من ذلك هو اكتسابه من خلال مؤلفات وحيد الدين الوجهة الصحيحة للتفكير، وهذه مسألة هامة فلا يمكن أن ينجح العمل إذا افتقد هذا الأمر، ولعل أزمة العمل الإسلامي في جوهرها لا تخرج عن نطاق هذا التحليل، وهو فقدانه الوجهة الصحيحة للتفكير، وأؤكد بكل ثقة وبعد خبرة نظرية وعملية أن مؤلفات وحيد الدين خان تستطيع أن تقدم الحل لهذه الأزمة، وبالتالي تحويل تيار العنف والمواجهة السياسية إلى العمل الإيجابي البناء الداخلي والخارجي.

أسلوبه البديع الذي جمع بين السهولة واليسر:
لقد انتهج الكاتب الشهير الشيخ مولانا وحيد الدين خان نهجا جديدا في كتابه "الإسلام يتحدى" ولعل كثيرا من القراء العرب يعرفون وحيد الدين خان من مؤلفه المشهور "الإسلام يتحدى" ولكنه من المؤسف مازال مجهولا على الصعيد الفكري المنهجي بسبب تأخر ترجمة مؤلفاته إلى اللغة العربية، ومن عرف وحيد الدين المفكر المنهجي سوف يجد أمامه نوعية فريدة من الفكر الإسلامي الإيجابي. جمع وحيد الدين بين المنهج الإسلامي والمنهج العلمي والفلسفي، وبهذا المنهج كان يحاور الملحدين واللادينيين في العديد من كتبه. تتميز مؤلفاته بأنها تجمع بين البساطة والعمق وبالتالي تناسب مختلف أنواع القراء، وتأثر كثيرا بأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي في أول نشأته، ثم خالف وناقش علميا وفكريا ضد إيديولوجيات المودودي في العديد من كتبه.

وتمتاز كتاباته بالأسلوب العلمي والتحليلي، فهو أحد المفكرين المسلمين القلائل الذين تمكنوا من استيعاب ثقافة العصر، وربما وصل اطلاعه على الفكر المعاصر درجة لم يصلها مفكر مسلم من قبله وفي نفس الوقت فهو متمكن من العلوم والدراسات الإسلامية في أدق خفاياها وكما جاء في وصفه: "وحيد الدين خان أحد المفكرين المسلمين القلائل الذين جمعوا بين ثقافة العصر في أعمق ظواهرها وأعقد تشعبانها، وبين ثقافة الإسلام الخالدة في أدق خصائصها وأشمل معطياتها وهي ميزة؟ قلما وجدت بين مثقفي هذا العصر." (مجلة الأمة القطرية ذو القعدة 1405هـ)

يرى الكثير من المثقفين أن كتبه عموما وكتابه "الإسلام يتحدى" خصوصا، كان له أكبر الأثر على الملايين الذين اطلعوا عليه، فهو نجح بأسلوب ساحر في أن يثبت وجود الله سبحانه وتعالى عبر قوانين الإحصاء والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء، والغريب أن وحيد الدين خان استند إلى بعض أبحاث ونظريات اللادينيين والملحدين العلمية وقلبها بأسلوب علمي لصالح إثبات وجود الله.

إسهاماته الجلية ومؤلفاته الزاخرة:
وترك العلامة الشيخ مولانا وحيد الدين خان وراءه كتبا قيمة وتراثا فكريا غزيرا وفريدا وخلف إرثا إبداعيا سيظل مصدر فخر واعتزاز ومدرسة للأجيال القادمة، وقد تجازوت مؤلفاته مئتى كتاب، ومنها وحيد الدين خان كتب بالإنجليزية والأوردية والهندية، وترجمت كتبه إلى العديد من اللغات، وترجم ابنه ظفر الإسلام خان إلى العربية قرابة 40 كتابا من كتبه، الإسلام يتحدى، الدين فى مواجهة العلم، فلسطين والإنذار الإلهي، رسول السلام، تعاليم النبي محمد، الجهاد والسلام والعلاقات المجتمعية في الإسلام، أيديولوجيا السلام، حاضرنا ومستقبلنا في ضوء الإسلام، قضية البعث الإسلامي، حكمة الدين، الإنسان القرآني، شرح مشكاة المصابيح، يوميات الهند وباكستان، تجديد الدين ،الإسلام والعصر الحديث، الإسلام ، وكل هذه المؤلفات ترجمت إلى العربية ومن المؤلفات الهامة التي لم تترجم له: "محمد رسول الثورة"، "ظهور الإسلام"، "الله أكبر"، بالإضافة إلى تفسيره للقرآن "تذكير القران" إلى غير ذلك من المؤلفات التي تربو على خمسين كتابا، وآلآف المقالات المنشورة وغير المنشورة. يقول الدكتور محمد عمارة: "وحيد الدين خان كتب بالإنجليزية والأوردية والهندية، وترجمت كتبه إلى العديد من اللغات، كما قام بطباعة الترجمة والتفسير للقرآن الكريم باللغات الإنجليزية والأوردية والهندية، وتوزيعها بسعر التكلفة".

الخاتمة:
وفي الختام - ختامه مسك -  فإن الكاتب الشهير وحيد الدين خان ليس كاتبا محليا فقط، بل ذاع صيته في العالم العربي وخارجه بأعماله القيمة وإبداعاته الفنية، وهو نجم ساطع بدا في ساحة الهند، وهو قوام صوام، لبيب ذكي، نجيب تقي، عالم مشارك زاهد، عذب المنطق، فصيح اللسان، حسن الإيراد والإنصاف وسلامة الصدر. ويعتبر العلامة من مشاهير العلماء المشهود لهم مشرقا ومغربا بالإحاطة والمعرفة الواسعة، فكان في قمة المعرفة العلمية والاطلاع على معظم المناهج العقائدية والاتجاهات الفكرية المعاصرة، وناقشها وقارن بينها وبين الإسلام ليعلو به عليها جميعا، وناضل ضد الملحدين وجادلهم وجالدهم، وكانت معاركه دائما رابحة، برحيله انطفأ سراج أنار دروب علم العقائد والسنة المطهرة، رحل العلامة الشيخ مولانا وحيد الدين خان تاركا وراءه خزائن مئات المجلدات في العلم والثقافة العربية الإسلامية التي يعتمدها علماء العرب، فكيف ننسى تلك القولة المشهورة  "إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء.. فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل ..ولأنه لا عدل في الدنيا ..فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.".

 

كاتب وباحث أكاديمي – جمهوية الهند