في تغطية الكاتب السوداني لحياة إدوار سعيد ولمشروعه النقدي والمعرفي الكبير، كان لابد من الإيجاز الشديد، خاصة وأن الكاتب لايسعى إلى تقديم مشروعه الكبير فحسب وإنما للإلمام بكل ما كتب عنه في العالمين الغربي والعربي من ناحية، وإلى التوقف عند تناول الصحافة والثقافة الألمانية له من ناحية أخرى.

شخصيات في الخاطر: إدوارد سعيد

حامد فضل الله

 

يقدم "الملتقى العربي للفكر والحوار في برلين"، محاضرات دورية حول الفكر والثقافة والأدب والسياسة، وكذلك سلسلة من الندوات بعنوان "شخصية الملتقى". بدأت السلسلة، عندما قمتُ بتقديم "شخصية هاينر بيلافيلد أستاذ الفلسفة في جامعة إرلنجن ــ نورنبرج (المانيا). وتدور الندوة الحالية حول المفكر والكاتب الموسوعي الفذ، الأمريكي والعربي الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد (1935 ــ 2003 )، وقمتُ بتقديمه أيضاً.

لقد تم تقديم صورة مكثفة عن أعماله الفكرية والنقدية في مجال النقد الأدبي والنقد الثقافي المقارن، ومواقفه من قضايا الحرية وحقوق الاِنسان، وحقوق الشعب الفلسطيني. والتركيز على كتابي "الاستشراق" و "الثقافة والاِمبريالية"، اللذين أثارا جدلاً واسعاً في العالم كله، وردود ومناقشات ودراسات نقدية. كما تم عرض أراء ناقدي سعيد من العَالمين، الغربي والعربي.

للتذكير فقط: أشير إلى أن الاستشراق لغة، مأخوذ من كلمة شرق، مكان شروق الشمس، يقول أبن منظور "شرقت الشمس تشرق شروقاً وشرقاً: طلعت، واسم الموضع: المشرق". والاستشراق هو في الأصل التخصص في الدراسات المتعلقة بالشرق من قبل الغرب، وهو علم يدرس لغات شعوب الشرق وتراثهم وحضارتهم ومجتمعاتهم وماضيهم وحاضرهم. والغربيون الذين يقومون بذلك هم المستشرقون.

يرصد سعيد في كتاب "الاستشراق" شتى مراحل العلاقة بين الشرق والغرب منذ غزو نابليون لمصر، ويتناول الفترة الاستعمارية الرئيسية ونشأة دراسات المستشرقين الحديثة في أوروبا حتى انتهاء الهيمنة الاِمبريالية، البريطانية والفرنسية على الشرق بعد الحرب العالمية الثانية وظهور السيطرة الأمريكية. ويتم ذلك عبر عرض كتابات المستشرقين (بلفور، كرومر، كيسنجر، رينان، جليدن ... ففي كتاباتهم يظهر الشرقيون والعرب على أنهم سُذج، مغفلون، وكسالى وعريقون في الكذب والدسيسة والدهاء، وعلى النقيض تماماً من العرق الأنجلو ــ ساكسوني في ذكاءه وجديته ووضوحه ومباشرته ونبله.

والكتاب يعمل على تقويض القناعات الأساسية التي يتبناها الغرب فيما يتعلق بالشرق العربي وتفكيك وفضح الخطاب الاستشراقي الذي قد اُستخدم أداة للسيطرة، وفي الوقت ذاته تم توظيفه لتثبيت دعائم الهوية الثقافية الأوروبية، وذلك بوضعها في سياق مقارنة مع ثقافة العالم العربي. كما بينَ أن تصوير الافتراضات الاِمبريالية على أنها حقائق كونية راسخة ليس سوى كذبة أنجبتها ملاحظات ذرائعية وظفت في خدمة السيادة الغربية. كما يشير إلى أراء كارل ماركس حول السياسة البريطانية الاستعمارية في الهند، وعند قضية التمثيل، ينقل سعيد قول ماركس "إنهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم، ينبغي أن يُمثلوا".

 أما في كتاب "الثقافة والاِمبريالية"، يقوم سعيد بتوسيع دائرة الاطروحات التي تم تناولها في كتاب الاستشراق. ليصف نسقاً أكثر شمولاً للعلاقات بين الغرب والأقاليم التابعة له خارج دائرته الجغرافية، ولا ينحصر في أوروبا والشرق الأوسط فقط. وتقديم أجوبة عن أسئلة أثارها الاستشراق، و أكثر تحديداً.  فيما يخص مقولات منهجية متعددة، وإبراز أولية الجغرافيا والتحليل الدقيق للاستراتيجيات الاِمبريالية وكذلك إبراز المقاومة والمعارضة ضد الإمبريالية، يقول سعيد: "إن الأعمال الجمالية، يمكن أن تكون أعمالاً عظيمة من إبداع وخيال، وتضم في نفس الوقت وجهات نظر سياسية ظاهرة البشاعة والقبح ضد الشعوب غير الأوروبية".

يستخدم سعيد في هذا الكتاب منهج القراءة الطباقية، والطباق يعني: "الجمع بين الشيء وضده في الكلام"، بمعنى قراءة السيطرة الاِمبريالية بنُظمها وأنساقها، مع قراءة موازية للمقاومة الوطنية المعارضة لهذه السيطرة، وانعكاس نظم السيطرة والمقاومة في الثقافة.

كما تعرض بالتحليل لجوانب من الأدب الغربي الذى ساهم في مقاومة النهج الاستعماري. يقول سعيد "لقد ركزت اهتمامي على الأعمال الأدبية الكبيرة، فالكتاب يقدم تحليلا للأدب الغربي، الذي بدوره تشرب بثقافة استعمارية، فتجاهل التابع ولم يناقش الهيمنة الاستعمارية وأن شكلت الاِطار الذي تجري فيه أحداث الروايات". ويقوم بعرض بعض الأعمال الأدبية الكبيرة المعتمدة، مثل روايات جين أوستن، ورواية كيم لرُديارد كبلنج، والبير كامو، وأوبرا عايدة لفيردي، ويكشف عن ملابساتها الاِمبريالية. ويقابل بها روايات المقاومة الثقافية للقوة الاِمبريالية، المتمثلة مثلاً في كتاب (المعذبون في الأرض) لفرانز فانون، وكتاب فيليب كيرتن (صورة أفريقيا)، ورواية (النهر المابين) للكاتب الكيني نغوغي واثيونغو، ورواية موسم الهجرة إلى الشمال للروائي السوداني الطيب صالح. ويقارن ويقابل سعيد الروائيتين بشكل مدهش وأخاذ مع رواية قلب الظلام لكاتبه المفضل الانجليزي -البولوني جوزيف كونراد. وكذلك مقارنة مجلد "وصف مصر"، المسرد لحملة نابليون على مصر مع كتاب عجائب الآثار لعبد الرحمن الجبرتي. كما تعرض الكتاب بالتحليل لجوانب من الأدب الغربي الذى ساهم في مقاومة النهج الاستعماري بقراءته للشاعر وليم بتلر ييتس كشاعر انجليزي قومي عظيم، ويقارن سعيد بين ييتس وإيمي سيزار وبابلو نيرودا، من زاوية فكفكة الاستعمار ثقافياً وأدبياُ وشعرياً. يقول سعيد "لقد ركزت اهتمامي على الأعمال الأدبية الكبيرة والمعتمدة التي أنتجها الغرب، وهي الأعمال التي قرأتها لا بوصفها روائع توجب على المرء أن ينظر أليها بعين الاِجلال والتقدير، وإنما بوصفها اعمالاً لابد من تمثلها في كثافتها التاريخية".

ونقطة أساسية في الكتاب هي: "الرفض المطلق للفصل بين البيض وغير البيض، بوصف هذا الفصل أسطورة من الأساطير الآثمة للإمبريالية ذاتها، فعالمنا هو عالم المشاركة والثقافات المتلاقحة التي تمتلك من الثراء الفتان ما يمتلكه التاريخ الاِنساني عينه". "ولذلك يحمل كُتّاب العالم الثالث في مرحلة ما بعد الاِمبريالية ماضيهم في أعماقهم ــ ندوبا لجراح مُذِلة، وتحريضٍ على خلق ممارسات مختلفة، ورؤيا للماضي تملك الطاقة على التنقيح وتنزع نحو مستقبل ما بعد الاستعمار. فالأصلاني، صاحب الأرض، الذي كان صامتا في السابق، يمارس حركة مقاومة شاملة ضد المستعِمر المستوطن".

موقف سعيد من فلسطين والقضية الفلسطينية، لا يحتاج إلى عرض هنا، فهو تاريخ حديث ومعروف، فقط هنا أقدم بعض الاشارات: استقال من عضوية المجلس الوطني الفلسطيني بعد 14 عاما من المشاركة، وعارض اتفاقية أوسلو 1993. ويقول عن الاتفاقيات التي تمت بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، "إن هذه الاتفاقيات بالنسبة لي ولكل فلسطيني أعرفه، تدل على الهزيمة، لا عسكرياً وإقليمياً فحسب، بل أخلاقياً." وهاجم ياسر عرفات، وكان يُوصف في إذاعة عرفات، أثر زيارته لفلسطين عام 1996" بالمستشرق سعيد". وقد أزيلت كتبه من المكتبات في غزة والضفة الغربية. ويقول نبيل شعث، "على سعيد أن يقصر اهتمامه على النقد الأدبي، فعرفات في نهاية الأمر لا يناقش أمور تتعلق بشكسبير"، أليس يذكرنا هذا ما قاله النقاد الغربيون الذين هاجموا كتاب الاستشراق. وعن حماس، يقول سعيد: "أن فكرهم حول وجود حكومة إسلامية لا تقنع أحداً يعيش في هذه المنطقة. بالنسبة لحماس والجهاد الاسلامي، يمثل الاِسلام بالنسبة لهما وسيله للاحتجاج على حالة الجمود الحالي. مطالب إسرائيل المتكررة للسلطة الفلسطينية بتضيق الخناق على حماس والجهاد الاِسلامي، رغبة من إسرائيل في إشعال ما يشبه الحرب الأهلية بين الفلسطينيين."

"ويقول ليس من قبيل المصادفة أنني في الاستشراق قد أثبتُ ما بين النزعة الاستشرافية والعداء الحديث للسامية من جذور مشتركة، أي إن الاستشراق هو الفرع الاسلاِمي للعداء للسامية". ويضيف" ويواصل سعيد قوله: "لقد قضيت وقتاً طويلاً أنتقد إسرائيل والإسرائيليين إلا أنه علينا أن نعترف أن الكثير تقع مسئوليته على الفلسطينيين. والمستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، يقوم الفلسطينيون ببنائها وكبير مقاولي المستوطنات فلسطيني، كما أن الصراع على فلسطين لا يمكن حله فعلاً بواسطة ترتيب جغرافية تقنية، تسمح للفلسطينيين بالحق أن يعيشوا في حوالي 20 في المئة من أرضهم المطوقة من قِبل إسرائيل والمعتمِدة كلياً عليها. ومن جهة أخرى، ليس مقبولاً أخلاقيا مطالبة الإسرائيليين بأن ينسحبوا من كامل فلسطين السابقة، وهي الآن إسرائيل، فيصيروا لاجئين مجدداً، مثل الفلسطينيون الآن، وليس من الحق ولا من العدل أبداً حرمانُ شعب بأكمله من أرضه وتراثه، كما أن اليهود يحملون مأساة عظيمة أيضاً، لذلك أننا لسنا إزاء قضية سهلة من قضايا "حق في مواجهة حق"، ولا يُمكن للسلام أن يوجد من دون مساواة؛ تلك قيمة فكرية بحاجة ماسة إلى أن نكررها ونشرحها ونعززها".

أما كتاب: "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية"، وهي رسالة سعيد للدكتوراه في عام 1966، و كتاب "بدايات: القصد والمنهج"، وكتاب: "العالم والنص والناقد"، فهذه الكتب الثلاثة، هي أبحاث أكاديمية، تتعلق بالفكر والأدب والنقد والثقافة، فتقديمها، ولو بصورة مختصرة يحتاج لمساحة أكبر، لا تتيحها ندوة اليوم. وبهذه الكتب وطد سعيد أقدامه كواحد من أهم الباحثين في العالم في مجال النقد الأدبي والنقد الثقافي المقارن.

كتاب "تأملات حول المنفى ومقالات أخرى"، يضم دراسات عميقة، بعضها عن الأدب الأمريكي، وبعضها عن التاريخ والجغرافيا، وعن الأدب العربي وفترة نجيب محفوظ وما بعد محفوظ وعارضا وناقدا للعديد من أعمال بعض الكتاب العرب، مثل غسان كنفاني، الياس خوري، أهداف سويف، محمود درويش، أدونيس، إميل حبيبي، حليم بركات وغيرهم، بهدف جعل الأدب العربي المعاصر معروفاً في الغرب، ومحاربة الصور النمطية السلبية للغة العربية، التي يتم ربطها بالإرهاب والأصولية والعرب والاِسلام. غالبية هذه الكتب أطلع عليها في الترجمة الانجليزية. وكتب مقالا رائعا عن الراقصة المصرية تحية كاريوكا، ويقول، "فهي ليست راقصة رخيصة وانما فنانة بحق، وتنتمي إلى النساء التقدميات ويضعها في المرتبة الثانية بعد أم كلثوم". ويشير سعيد إلى أهمية الدور الذي يلعبه الكتاب والباحثين العرب الذين يكتبون باللغة الأجنبية لشرح الثقافة والأدب والفكر العربي للعالم الغربي، ويذكر منهم محمد أركون وعبد الله العروي، وأشير هنا في المانيا إلى السوري بسام طيبي. 

أما في كتاب "تغطية الاِسلام: وكيف تتحكم أجهزة الاِعلام ويتحكم الخبراء في رؤيتنا لسائر بلدان العالم" فقد صدر في طبعتين، يتعرض فيه إلى تصوير الاِسلام في الأخبار، والاِسلام والغرب ومشاركة إسرائيل في الحملة على الاِسلام، بمساعدة المجلات والكتب والصحافة الامريكية، وإن إسرائيل من ضحايا العنف الاِسلامي. ويقول في مقدمة الطبعة الثانية: إن التقسيم المبسط (الساذج) القديم للعالم في عيون الولايات المتحدة إلى معسكرين: معسكر يناهض الشيوعية ومعسكر يناهضها، قد تحول إلى تقسيم من نوع آخر: معسكر يناصر الاِرهاب ومعسكر يناهضه.

أما في كتاب تمثيلات المثقف (أو صور المثقف) : أشير إلى الفقرة: "على المثقف أن يكون مهتماً ومفكراً بالمجتمع، عليه أن يكون مؤهلاً، لطرح الأسئلة الأخلاقية، حتى من صميم النشاط الأكثر مهنية وتقنية، فوظيفه المثقف مُساءلةُ السلطة، لا تقويضها، فمعايير السلطة غير معايير المثقف. ثم قول الحق للسلطة، هو البديل الصحيح، فالتبعية الكاملة للسلطة في عالم اليوم، أحد الأخطار على الحياة الفكرية، على المثقف أن يتذكر أنه قادر على الاختيار، بين الاِيجابي وهو تقديم الحقيقة على أفضل وجه مُستطاع، وبين السلبي: أي أن يكون مُوجهاً من قبل السلطة".

ثم الفقرة التالية: "إني كمثقف، أعرض هواجسي أمام جمهور أو جماعة معينة، لكن الأمر لا يقتصر على كيفية إفصاحي عنها، وإنما يتعدى ذلك إلى ما أمثله أنا أيضاً، من حيث كوني شخصاً يحاول ترقية قضية الحرية والعدالة. فأنا أقول هذه الأمور أو أكتبها لأنها تمثل، بعد كثير من التفكير، ما أعتقده، ولأنني أريد أن أقنع الآخرين بهذا الرأي. لذلك نجد هذا الخليط المعقد جداً بين العالمين الخاص والعام: تاريخي الخاص، وقيمي وكتاباتي، ومواقفي كما تصدر عن تجاربي، من جهة، وطريقة انخراط هذه كلها في العالم الاجتماعي الذي يتناقش فيه الناس ويتخذون قرارات في شأن الحرب والحرية والعدالة، من جهة أخرى".

وكتاب "خارج المكان" وهو عبارة من مذكرات، ساردا فيها عالم الطفولة والدراسة وتنقلاته والتعارض والتناقض بين "الرواية الفردية" التي تبنيها الذات عن ذاتها الخاصة، وتلك "الرواية العائلية" وخاصة العلاقة الحميمة مع والدته، التي زرعت فيه حب الموسيقى منذ طفولته. والمذكرات كُتبت بشفافية عالية، ويكتب سعيد في المقدمة: "أن الكتابة الصريحة عن الذات نادرة في تراثنا. وإني لآمل أن يُسهم هذا الكتاب في تنمية هذا التقليد".

أما كتاب "الأنسنية أو الأنسانوية والنقد الديمقراطي"، فهو أخر كتاب له، كتب سعيد مقدمته بنفسه، وعاجله الموت، قبل أن يعيش صدوره. والكتاب عبارة عن محاضرات يعالج فيه الأنسنية وممارستها والفيلولوجيا وكتاب "محاكاة لـ أريش آورباخ في النقد الأدبي المعاصر"، ويعكس سعيد في هذا الكتاب تطوره الفكري والأدبي والتزامه بالفكر الأنسني بمنهجه العلماني التقدمي. ويؤكد سعيد فيه على أهمية العلوم الإنسانية ونشرها في المجتمع حتى تقوم بدور يربط المعرفة بالحياة. يقول مترجم الكتاب، أنه يستخدم تعبير "الأنسنية" للدلالة على المذهب الفكري الذي يقول، أن الأنسان هو أعلى قيمة، بينما يستخدم تعبير "الاِنسانية" للدلالة هنا على الميل أو النزوع إلى الاِنسانية أو ادعائها.

أما كتاب " عن الأسلوب المُتأخر، موسيقى وأدب عكس التيار"، وهو بالفعل آخر أعمال سعيد، مما يعتبره البعض وصيته وتتويج لسيرة مهنية فكرية - ثقافية نقدية متكاملة في الموسيقى والأدب. وصدر بعد ثلاث سنوات على وفاته وكتبت المقدمة زوجته مريم قرطاس سعيد. والكتاب شديد التخصص، حيث يشتمل على دراسات في الموسيقى وحول الموسيقى، ووجد المترجم (فواز طرابلسي) صعوبة جمة لنقل مصطلحات الموسيقى الكلاسيكية إلى اللغة العربية، حيث يستطيع القارئ العربي المهتم استيعابها وتذوقها. فسعيد يقول "للموسيقى أهمية أساسية لأنها تمثل ندرة استثنائية وتفرداً مطلقاً للفن".

وعن "الأسلوب المتأخر" يقول سعيد، "أن ثمة تغيراً يحدث في مسيرة نشاط كتاب ومؤلفين وموسيقيين ورسامين كثيرين قد يرجع إلى التقدم في العمر أو رؤية جديدة تحدث في نهاية مسيرتهم، ويضيف بأن بيتهوفن أشهر مثال على هذا.

كلمات ناصعة لسعيد:

ــ  الهوية ليست ما نرثه بل ما نختاره. الهوية ليست أحادية، بل في تشكل مستمر، وتحوي أكثر من ثقافة واحدة.

ــ سعيد يستخدم مصطلح الدنيوي، مما يعني المصطلح العلماني، ويشير الى أن النزعة المتأسلمة باعتمادها على التلقين الأعمى ونفيها لكافة أشكال المعرفة المنافسة المستمدة من أصول علمانية وحديثة، تؤدي إلى غياب الاجتهاد وإلى اختفاء الفكر النقدي، أو أي إعمال مستقل للعقل في شؤون عالمنا المعاصر. وهو يدعو إلى ممارسة خطاب دنيوي علماني عقلاني ، باعتبار النصوص، دنيوية أرضية واقعية، ولأنها جزء من العالم الاجتماعي والحياة البشرية، ولأنها جزء من اللحظات التاريخية.

ــ يقول سعيد: أن دراستي للاستشراق قد اقنعتني، بانه من المحال الفصل بين تفهم ودراسة المجتمع وتفهم ودراسة الثقافة الأدبية ــ فالثقافات بالغة التداخل، ومضمون كل منها وتاريخه يتفاعلان تفاعلاً بالغاً مع غيرهما، إلى درجة يمتنع فيها "النقاء العنصري" لثقافة ما. كما يرفض سعيد الفصل بين الأدب والسياسة، رغم اعترافه بالخصوصيات العامة جداً للأدب.

أود هنا أن أشير إلى ما يسمى بالدراسات ما بعد الكولونيالية أو ما بعد الاستعمار، وهو اتجاه في التحليل النقدي يرى أن التحرر من الاستعمار التقليدي يفرض على الباحث نوعاً جديداً من التحليل يناهض الصورة التي رسمها المستعمِر للشعوب التي هيمن عليها، وتبنتها تلقائياً هذه الشعوب، وذلك بتحفيز المكونات المضادة الكفيلة بتعزيز الهويات الوطنية والتخلص من تأثيرات الهيمنة، والتعامل مع الآخر بندية. ويعد خطاب ما بعد الاستعمار رد فعل على الخطاب الاستعماري الذي تلتحم فيه القوة المهيمنة بالمعرفة والانتاج الثقافي. وقد بدأ تنامي هذه المفاهيم في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين بتأثير كتابات إدوارد سعيد وبخاصة كتابه "الاستشراق 1978 وعلى يد باحثين نذكر منهم هومي بابا وغاياترى سبيفاك، وقد مزجوها بحقول معرفية أخرى كالتفكيكية، والتحليل النفسي والمنهج النسوي.

والآن إلى النقد، الذي تعرضت له أعمال سعيد، وخاصة كتابه الرائد "الاستشراق". وأبدأ بأهل الدار، أعني النقد العربي: ونذكر هنا بعض رموز التيار الماركسي، المُمثل في المفكرين هادي العلوي (العراق)، ومهدي عامل (لبنان)، وصادق جلال العظم (سوريا)، ونجمل نقدهم بصورة مكثفة:

ــ عندما يقول سعيد بأن الغرب الإمبريالي يجد عملاء شرقيين يحكمون بلدانهم بالوكالة عنه، فسعيد يفصل ظاهرة العمالة عن منحاها الطبقي ويجردها من المصالح الطبقية، فالغرب لم يجد الا التجار والمثقفين وعامة الأغنياء، هم الذين كانوا في خدمة الغرب.

ــ وسعيد يغدق على الباحث الدبلوماسي الفرنسي ماسينيئون المديح وينسب إليه من اجازات كبيرة وهامة، وهو معروف بأحكامه العنصرية وصلاته الاستعمارية، ودراسته عن اللهجة العامية في العراق عند زيارته لبغداد لا تخلو من غرض.

ـــ وقول سعيد بان العالم ينقسم إلى شرق وغرب، وان لكل منهما خصائص جوهرية وطبائع أزلية ثابتة تميز بينهما. كالتمييز بين الجنس السامي والجنس الأري، والزعم مثلا ان الاول روحاني والثاني عقلاني. يعود بنا سعيد إلى فكرة الخصائص الجوهرية والطبائع الأزلية الثابتة. وهنا لا تعود ظاهرة الاستشراق وليدة شروط تاريخية معينة واستجابة لمصالح وحاجات حيوية، بل تأخذ شكل الافراز الطبيعي العتيق المستمر. ــ ويشير (مهدي عامل): إن الشرق الذي يجرى عليه الكلام في كتاب الاستشراق ليس الشرق نفسه، بل هو شرق ينتجه الفكر الاستشراقي على صورته، ملائما للثقافة السائدة الطاغية، وهي الثقافة البرجوازية المسيطرة، لكن النص الاستشراقي لا يحدد طابعها الطبقي التاريخي، بل يكتفي بالقول إنها ثقافة الغرب، لا من حيث هي الثقافة البرجوزازية المسيطرة، وبانتفاء طابعها الطبقي التاريخي في تحديدها الاستشراقي هذا، تنفي إمكانية وجود نقيضها نفسه، فتكتسب، بهذا الانتقاء طابعا شموليا تحتل به كامل الفضاء الثقافي وتظهر بمظهر الثقافة الواحدة بالمطلق. وأن سعيد جرد ماركس من فرادته الفكرية والطبقية والمقاومة بعبقرية منهجية لأبناء ومفكري وسياسي أوروبا في ذلك الوقت إلا أن سعيد يدخله حسب منهجه المثالي في زمرة الاستشراقيين بلا هوادة. فنظرة سعيد المثالية، هي بطبيعة الحال معادية لأي نظرة أو منهج طبقي تاريخي اجتماعي مثل المنهج الماركسي.

ــ كما يؤخذ عليه، عندما ناقش سعيد دور الاستشراق في الهند والسلطة الاستعمارية البريطانية وكذلك مناقشته وأشارته لقول ماركس عن الهند " إنهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولابد أن يمثلهم أحد". بأنه وضع الفيلسوف العالمي كارل ماركس ضمن المدرسة الاستشراقية. ويقارن العلوي بين ماركس كفيلسوف ومفكر في حديثه عن الشرق وهيجل في حديثه عن الفلسفة الاِسلامية، الذي يهبط عندما يتحدث هيجل عنها إلى صحفي من الدرجة العاشرة، فماركس في نظر العلوي "فيلسوف بأفق نبي" وبتمثله لمنطق البروليتاريا العالمية، لم يعد قادرا على التكلم بلسان أوروبي، فقراءة سعيد لماركس مفهومة، لأنه لا يشاطر ماركس همومه الطبقية.

ــ ويشير (صادق العظم)، بأن سعيد ختم كتابه على الطريقة الكلاسيكية النموذجية، عندما لم يجد ما يبعث على الأسى أبدا في علاقة التبعية الفكرية والسياسية بين الشرق (الشرق الأوسط) والغرب (الولايات المتحدة)، وعندما قدم نصيحته إلى صانعي السياسة الأمريكية وخبرائهم واختصاصيهم حول أفضل الأساليب لتمثيل الأسس التي يمكن أن تستند إليها التوظيفات (الاستثمارات) الأمريكية في الشرق الأوسط وأفضل الطرق لتحسين شروط علاقة التبعية المذكورة. (هذه الفقرة فجرت خلافاً حادا حيث فسرها البعض، بأنها اتهام صريح بالعمالة للمخابرات الأمريكية وللسياسة الأمريكية اجمالاً. هذه تهمة غليظة بلا شك، وربما شطط وتجاوز في التأويل ليس بريئا، بهدف تصفية حساب أيضاً.

لم يرد سعيد على ناقديه الماركسيين، بل وصفهم بالدوغمائيين والعقائديين. لا أدري لماذا ضاق صدر سعيد بهذا النقد، وخاصة أن هادي العلوي بنبرته الهادئة مقارنة بالعظم، واشارته إلى عمق التحليل واللغة الحية المتدفقة لكتاب الاستشراق، كما أن إدوارد سعيد أثني من قبل على أعمال أنور عبد الملك وسمير أمين وكلاهما من الرموز الماركسية. ولقد تعرفنا عليهما هنا في برلين.

يقول عزالدين المناصرة الباحث الفلسطيني، الذي فقدناه قبل شهور قليلة: إذا كان ماركس قد وقع تحت تأثير الاستشراق، فأن سعيد وقع تحت ثقافة الحرب الباردة، حين أوحى أن الاستشراق في روسيا وأوروبا الشرقية، يتطابق مع جملة ماركس التي اقتنصها سعيد وصاغ حولها تأطيراً نظرياً، ربما كان مبالغاً فيه، وهناك فرق بالطبع بين ماركس وبين الاستشراق الروسي. ومتجاهلاً الفارق الجوهري بين الاستشراق الاِمبريالي وبين الاستشراق الروسي والألماني.

ويكتب الناقد الأدبي والباحث في اللسانيات السوداني، عبد المنعم عجب الفيا: اذا كان إدوارد سعيد يفترض أن الاستشراق، نشأ لخدمة الأهداف الاستعمارية لأوروبا، وذلك استنادا إلى نظرية "المعرفة تساوي السلطة".: "لا شك فأن الإدانة المطلقة للاستشراق انطلاقا من مقولة كل معرفة سلطة، وان معرفة أوروبا بالشرق عبر الاستشراق، قادت الى السيطرة عليه، قول ينطوي على تعميم مخل. "ولكن هل يمكن أثبات أن ابحاث المستشرقين مهما تميزت بها من رصانة، بأنها ليست متورطة في السياسة، وإنها ليست هي السند الذي يساعد الدول الاستعمارية في مواصلة سياستها من اضطهاد واستغلال"؟

ويعارض عبد المنعم نقد الماركسيين فيما يتعلق بفكرة الخصائص الجوهرية والطبائع الأزلية الثابتة، فيقول "من الصعوبة ان تجد لها سنداً قوياً، فكتاب الاستشراق حسب قراءتي يعارض مذهب الجوهرية".

ويكتب صبري حافظ (أستاذ الأدب العربي والأدب المقارن في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن سابقاً، ورئيس تحرير المجلة الاِلكترونية الشهرية "الكلمة"، مقالا بعنوان "ميراث إدوارد سعيد الثقافي في العالم العربي*":

لا بد لنا، كي نفهم ميراث إدوارد سعيد الثقافي، ومشروعه الثقافي، وأثره في المشهد الثقافي العربي، من أن ندرك إدراكاً ثاقباً هذا "الخليط المعقد جداً" ــ المقصود هنا الخليط بين العالمين الخاص والعام ــ فالخليط الذي تدخل في صنع هذا الفرد المميز كان جذابا لأسباب كثيرة وعلى مستويات متعددة، للمثقفين العرب، ومكنهم من أن يعتزوا بالتفاعل مع مشروعه الثقافي ... كانت هذه فقرة الاستهلال لمقال صبري الطويل والعميق، والذي يمكن أن نلخصه:

"يذهب الكاتب إلى أن سعيد كان مثقفاً عربياً ـ غربياً، وارثاً للتفاعل المعقد والمؤلم في كثير من الأحيان بين العالم العربي والغرب. ويتناول التربية الغربية التي عاشها، وكتاب "الاستشراق" الذي أدخل سعيد إلى العالم العربي، ونظريته في "سَفَر النظريات"، ومخاطبته السلطة بلسان الحقيقة إحياءً لتقليد عربي في الخطاب. ويخلص الكاتب إلى أنه، في مواجهة الانكفاء والقنوط في العالم العربي، جاء سعيد بنفحة من الهواء المنعش بنقده العلماني ونفاذ بصيرته وشجاعته".

تقول فريال جبوري غزول (عراقية، أستاذة الأدب الانجليزي في الجامعة الامريكية - القاهرة): "لقد قدم سعيد صورة سلبية عن المستشرقين، وهذا ينطبق على واقعهم إلى حد كبير. لكنني أرى أن علينا أن نجد آليات معرفية لغربلة الاستشراق بحيث نستفيد من البعد العلمي فيه (التحقيق) الترجمة، التصنيف، القواميس إلخ والانصراف عما هو إيديولوجي وعنصري."

تقول أمينة رشيد (كلية الآداب جامعة القاهرة): "أن الكشف عن دور النص في الصراع السياسي الثقافي بوصفه الأرض التي يدور فوقها هذا الصراع، هذا الكشف هو واحد من أهم  منجزات إدوار سعيد، والذي لا يلجأ منهجيا للمفهوم الماركسي السائد عن الصراع الطبقي، بل يتسلح بمفهوم الخطاب، حسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، ومفهوم الهيمنة كما جاء في كتابات الفيلسوف الماركسي أنطونيو جرامشي، بحيث يصيغ الفرضية الأساسية لكتاب "الاستشراق"، على نحو يوضح أن هناك خطاباً للهيمنة يقوم بفرض تصوره، أو تمثيله، للآخر التابع الذي لا يملك خطابا يستطيع أن يمثل نفسه عبره."

وتكتب هدى وصفي (جامعة القاهرة): "لقد قدم سعيد خدمة هائلة عبر تفكيكه للنص الكولونيالي، وهو ما لم ينجزه أي مثقف عربي، فكتاب "الاستشراق" يقدم قراءة كاشفة للممارسات الاستعمارية التي تختفى خلف خطاب العلوم الاِنسانية، بينما كتاب "الثقافة والإمبريالية" يربط بين ممارسات أشد فظاعة مثل الرق والاضطهاد العنصري والاِخضاع الاِمبريالي من جهة وبين الشعر والرواية والفلسفة التي ينتجها المجتمع الذي يقوم بهذه الممارسات من جهة أخرى.".

والآن إلى النقد الغربي:
يقول بعض ناقديه من الغرب: الذين اعتبروا عمل سعيد مضللاً وظالماً مثل دينس بورتر القائل، أن سرد سعيد غير مترابط تاريخيا وأن فهمه للقومية والصراعات الدائرة حولها أعقد من فهم سعيد وما يدعيه من معرفة عنها. ويرى جاك بيرك أن سعيد قد أدى خدمة مضادة لمواطنيه، حيث جعلهم يعتقدون أن هناك تحالفاً غربياً ضدهم. ويقول روبرت يونج، سعيد مخلوق رومانسي مغترب عن وطنه ونقده نابع من هذا المنطق ليس أكثر. وتقول الناقدة البريطانية فاليري كينيدي: "سعيد كناقد أدبي وثقافي وكمعلق اجتماعي، شخصية عظيمة جداً وأحياناً شخصية جدلية في الحياة الثقافية المعاصرة، وهو واحد من أولئك الذين أجبروا الغرب على الاعتراف بالصلة بين ثقافته الخاصة الميتروبوليتية والعالم غير الغربي ، والقبول بالحقائق التاريخية والملابسات المستمرة لماضيه الاِمبريالي، وسعيد هو صوت المحيط المهمش في المركز الغربي ونموذجاً حياً ومثالا يحتذى عن المثقف الملتزم في أواخر القرن العشرين. فلقد ساعد على تغيير الطريقة التي يتم من خلالها فهم وتمثيل الوضع في الشرق الأوسط في المجتمع الثقافي وفي وسائل الاِعلام في الولايات المتحدة الأمريكية. علاوة على ذلك، لم يقتصر دفاع سعيد عن الضعفاء والمضطهدين والمحرومين وعلى الفلسطينيين، ولكنه دافع عن فكرة حقوق الاِنسان العالمية، بعيداً عن الارتباط الحصري المعتاد لهذه الفكرة بالفكر الأوروبي."

يقول المؤرخ الفرنسي المعروف ، كلود كاهين: "كتاب الاستشراق قائم على هيئة النبرة الجدالية والمماحكات، ويتضمن بعض الأفكار المهمة عن العلاقات بين الاستشراق والاستعمار. ولكن نظراً إلى أن المؤلف غير مطلع بشكل دقيق على انتاجات كل بلد أوروبي في مجال الاستشراق، ونظراً لأن اطلاعه متفاوت القيمة على هذا الانتاج، ونظراً لأنه لا يميز بالشكل الكافي بين الأدبيات الاستشراقية المبتذلة أو الصحفية ، وبين بحوث العلماء الحقيقيين، فأنه يرتكب أخطاء فاحشة ويقع في ظلم عظيم."

يعلق مكسيم رودنسون العالم الفرنسي على كتاب الاستشراق بطريقة غير مباشرة و دون ذكر أسم سعيد: "بأننا إذا ما دفعنا قليلاً ببعض تحليلاته وصياغاته وقعنا في أحضان عقيدة مشابهة تماماً للعقيدة الجدانوفية (نسبة للباحث والمفكر الروسي اندريه جدانوف) القائلة بوجود عِلمين: عِلم بورجوازي وعِلم بروليتاري. في الواقع أن كلا العِلمين، اللذين تحدث عنهما جدانوف واتباعه ومقلدوه كان قد حددا بشكل مختلف طبقاً للتحيزات الأيدولوجية والأهداف السياسية والأصول الاجتماعية."

يقول بيرنارد لويس، إن الممثل الأكبر لمناهضي الاستشراق في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم هو إدوارد سعيد: فالمحدوديات الزمانية والمكانية والمضمونية التي يفرضها سعيد بالقوة على موضوعه، تسهل عليه عملية إدانة الاستشراق. بل تبدو ضرورية لتحقيق هدفه، فمثلاً عندما نتمعن في أسماء المستعربين وعلماء الاِسلاميات، الذين ذكرهم، نجد كثيراً من الشخصيات الكبرى مهملة وغير مذكورة على الاِطلاق.

 من الأهمية الإشارة هنا بأن بيرنارد لويس يعتبر واحداً من أهم المستشرقين في العالم الأنغلو - ساكسوني، غزير الأنتاج، وقدم خدماته للكولونيالية البريطانية والأمريكية وقوي التأثير، خاصة على تيار المحافظين الجدد، الملتفين حول جورج بوش الأبن.  وبرنارد لويس يهودي صهيوني متعصب وتأويلاته مغرضة ويجعل منها حقائق ثابتة ليرسخها في عقول القادة والمواطنين في دول الغرب. ويكفي أن نشير بأن صموئيل هنتجتونن صاحب كتاب "صراع الحضارات" هو تلميذ لويس، وفرنسيس فوكوياما، صاحب كتاب "نهاية التاريخ وخاتم البشر" هو تلميذ هنتجتون. وكما يقول المثل "النار تلد الرماد".

وإرنست جيلنر، الذي يقول كان يجب على سعيد أن يبدي على الأقل الشعور بالامتنان الذي لعبته الاِمبريالية في نقلها للحداثة.

ويقول مصطفى مارتوش مثلا: أن نقد الغربيين لسعيد يستمد ثقله من انتسابهم للأكاديمية الغربية، لكنه في حقيقته عبارة عن سباب وشجب وإدانة لأفكاره دون فحص ومحاولات حقة لفهمه. ولعلني أضيف، بأن سعيد أشار إلى المنجزات الفذة لبعض الباحثين من أمثال جاك بيرك ومكسيم رودنسون.

والآن لننظر ما يقوله أهلنا الألمان عن سعيد:

واقدم هنا بعض أراء بعض الكتاب الالمان بتوسع، حيث القارئ العربي قليل الاطلاع على ما ينشر باللغة الألمانية، كما أن سعيداً لم يتعرض للاستشراق الألماني، بالرغم من أشارته إلى الصيت المدوي الذي اكتسبته البحوث الألمانية في نحو منتصف القرن التاسع عشر والاشارة إلى بعض كبار الباحثين مثل مولر، بيكر، ونولدكه. الاستشراق الألماني سوف يكون أحد موضوعات ندواتنا القادمة.

 أولاً: كتاب "الاستشراق بعد صدور الترجمة الالمانية الثانية (2009).

يكتب فولفغانغ غنتر ليرش، الذي درس العلوم الاِسلامية والفلسفة، في صحيفة فرانكفورتر الجمانية بتاريخ 30 سبتمبر 2003. ان الكتاب الكلاسيكي (الاستشراق) لـ إدوارد سعيد وضع السياسة والعلم في حالة من الفوضى. أن نظريته، بان الشرق ما هو الا اختراع أيديولوجي غربي، لا تزال تثير استفزازا كما في السابق. هل ساهم الباحثون الغربيون، وايضا الكتاب والشعراء والفنانون، أثناء فترة الامبريالية والاستعمار، في خلق الشرقيين (شرقنة الشرق)، بهدف الهيمنة عليهم، وبالتالي التمكن بسهولة من اضطهادهم؟ إن الطبعة الجديدة سوف تنعش النقاش بين المستشرقين وعلماء الثقافة، خاصة مع تفاقم الاوضاع بعد "11 سبتمبر / أيلول 2001". لقد رسم الفرنسيون والبريطانيون- حسب وجهة نظره – خصائص جوهرية تمثل "نحن" "وهم" (الذات والآخر) ". فخلافا للأوروبي، الذي يتعامل بفعالية، يفكر منطقياً وماهراً، يتفاعل المرء مع الشرقي ليس كعاطفي حالم فحسب، بل ايضا لا يفكر بعقلانية، علاوة على ذلك متقلب ويتعامل بأسلوب حدسي والذي لا يستطيع ان يحكم بنفسه، الا من خلال الاستبداد الشرقي، وفي عين الوقت يؤمن بالقضاء والقدر، كسول، وينزع الى القسوة واللذة الحسية – تصور يعود الى الجدالات المسيحية في العصور الوسطي. ان التعليقات الأكثر أهمية لهذا النص الكلاسيكي، تشير الى فقرات للمؤلف، التي وجدت ترحيباً كبيراً من العناصر الإرهابية المتطرفة في العالم الاسلامي، فالمنطقة التي تفكر بأسلوب المؤامرة وجدت تفسيرات مريحة ومبررات لتخلفها التاريخي، فينسبون فشلهم الذاتي الى مكائد الآخر الخبيثة.

وكتب فالتر لاكُور، ــ وهو مؤرخ وناشر أمريكي من أصل الماني يهودي ــ مقالاً بعنوان "هجمات سعيد ضد الغرب" في صحيفة دي فلت بتاريخ 26 سبتمبر 2009: "لم يشهد سعيد نجاحه الساحق، مع صدور الترجمة الألمانية لكتابه الكلاسيكي "الاستشراق". كما لا يوجد خبير يعطي أي اعتبار لنقد هذا الفلسطيني من طرف واحد ضد أوروبا والغرب. ورغم ذلك فالكتاب من أكثر الكتب مبيعا في الغرب. دَرَسَ سعيد أساسا الاستشراق الأكاديمي وايضا انطباعات واوصاف السياسيين الاوروبيين والرحالة والكُتاب ولكن ما قاله، ليس فيه الكثير من الخير. ركز سعيد بشكل حصري تقريبا على البلدان العربية. لا يجد القارئ في كتابه، الا القليل أو لا شيء عن الهند أو شرق – ووسط آسيا او تركيا أو إيران. وهذا مما يدعو لِلاِستغراب، فسعيد كان سيجد حتما المزيد لأطروحاته في الوثائق الهندية، مقارنة بالبلدان العربية. لقد كانت الهند تحت السيطرة البريطانية لمائتي عاما تقريبا وأكثر من خمسمائة عام تحت السيطرة الاسلامية، بينما كان تأثير الامبريالية الغربية على البلدان العربية ــ التي كانت تنتمي الى الامبراطورية العثمانية ــ لعقود قليلة فقط. لقد ظهرت في السنوات الأخيرة مجموعة من الدراسات، التي قدمت نقداً صارخاً لكتاب سعيد، كمثال روبرت أرفين، ووصفه بـ "معرفة خطيرة"، ولكن توجد مجموعة من العلماء الذين يحترمون ويقدرون سعيد أيضاً، وهم ينتمون الى جيل المستشرقين الشباب وعلماء الثقافة وكذلك القوميين العرب والأصوليين الاسلاميين الذين استقبلوا الكتاب بحماس في ذلك الوقت. فسعيد لم يكن قومياً عربياً "ناصرياً" ولا اسلامياً متعصباً. لقد أظهر سعيد استياءه من الترحيب القومي العربي والإسلاموي، وقد أُسيء فهمه، حسب قوله، كما جاء  في إصداره الأخير (1993 و 2003 ). ولكن يرى فالتر لاكور، أن هذا خداع النفس، فغالبية القراء أولوا نصوصه تماماً كما جاءت في كتابه. ويواصل، لقد كان سعيد في الواقع شخصية منقسِمة (منفصمه) وربما مأساوية. فبالرغم من جميع انتقاداته للغرب، فهو يعلم بأنه ينتمي إليه. موسيقاه، أدبه، فلسفته ذات طابع غربي. لقد أظهر سعيد قليلا من الاهتمام بالأدب والموسيقى والفلسفة الشرقية مقارنة بالمستشرقين الذين حط من قدرهم.

في ذكرى إدوارد سعيد كتب يورج لاو وهو باحث في قضايا الهجرة والاندماج والاِسلام في أوروبا، مقالاً في صحيفة دي سايت بتاريخ 25 سبتمبر 2003 بعنوان "تأثير قوي ومثير للجدل" جاء فيه: "لقد كان سعيد مثقفاً مؤثراً بقوة ومثيراً للجدل في المجال العام. ارتبط عمله العلمي جنبا الى جنب مع التزامه السياسي. لقد فضح الخطاب الغربي عن الشرق، كأداة للإمبريالية والاستعمار. وكتابه الأشهر "الاستشراق" كشف عن تأثير هائل. لقد أصبح الوثيقة التأسيسية لاتجاه خاص في الدراسات الثقافية، دراسات ما بعد الاستعمار (ما بعد الكولونيالية). لقد رفع عنهم عبء شرح البؤس الثقافي والسياسي والاجتماعي، الذي عمَّ أجزاء عديدة من العالم العربي بعد عقود من نهاية الاستعمار. ان تحميل الغرب كل مشاكل العالم الاسلامي، ونقد سعيد إجمالياً للتراث الكبير والقيم والخير للاستشراق ودمغه كحامل لقوى ظلامية للتاريخ، الحقت ضرراً كبيراً في العالم الفكري للشرق الأوسط. لقد انتقد سعيد الأنظمة العربية، وهاجم ياسر عرفات بعنف، وأدان الطغاة مثل صدام حسين وحافظ الأسد، وشَهَّرَ وشَنَعَ بالخميني في قضية سلمان رشدي. ان وضعه في نيويورك، اتاح له الحرية، التي يحلم بها المثقفون في أوطانهم.

ربما يتساءل بعض قراءة نصوص سعيد، كيف استطاع أن يصبح ــ في هذه الثقافة الغربية السادرة في غيها ومع ضيق أفقها!! ــ استاذاً في جامعة كولومبيا وواحد من أبرز المثقفين (المفكرين )، وشخصية مؤثرة ومرموقة، أكاديميا وعلى الحيز العام. سيبقى تراث سعيد السياسي في النهاية متناقضاَ، وهذا لا ينطبق بالطبع مع التزامه الحقيقي في التعاون مع صديقه دانيال بارنبويم. لقد حاول الأثنان مراراً من خلال الندوات والحفلات الموسيقية مع فرقة سيمفونية من الشباب الفلسطيني والاِسرائيلي ــ استخدام الفن كجسر للتفاهم بين الجبهات المتصارعة. وكان سعيد نفسه عازف بيانو ماهر ومتخصص وبحماس جارف في النقد الموسيقي. ويختتم لاو مقاله: "وربما يستطيع الأمل في الموسيقى كقوة روحية قادرة على شفاء النفوس بأن يحيي الاعتقاد الاِنساني بإمكانية التفاهم بين البشر، ذلك الاعتقاد الذي كان إدوارد سعيد قد فقده في لحظة ما خلال مسيرته".

ثانيا: "كتاب الثقافة والاِمبريالية"
يكتب فرانز نوشيلر، أستاذً السياسة الدولية والمقارنة في جامعة دويسبورغ إيسن سابقا، بعد صدور الترجمة الألمانية لكتاب الثقافة والاِمبريالية في عام 1994 مقالا في صحيفة فرانكفورتر الجماينه تسايتونج | 27 يونيو 1995 بعنوان: "الثقافة ساحة معركة أيديولوجية، إدوارد سعيد عن الخيال والسياسة في عصر القوة الإمبريالية"

تكتب صحيفة واشنطن بوست: مع هذا الكتاب بدأت "مرحلة جديدة يمكن فيها للدول الصناعية أن تفهم نفسها حول ممارستها الجغرافية السياسية والثقافية للسلطة". ويقول نوشيلر، سوف تكون قيمة الكتاب الأمريكي المترجم  إلى الألمانية بالكاد، لو أقتصر على إثراء معرفة تاريخ الإمبريالية الأوروبية أو حتى استخدام عصا الدعاية للنقد الماركسي للإمبريالية فقط. ما الذي يميز هذا الكتاب؟ المؤلف عربي من مواليد القدس، وبعد دراسته في جامعتي هارفارد وييل المرموقتين، يقوم الآن بتدريس الأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك - وهو متجول بين "عالمين دون أن يكون في بيته بالكامل في أحدهما أو الآخر"،  لكنه لا يزال عربيًا يفسر الإمبريالية من منظور الشعوب والثقافات الأجنبية.

سعيد ليس مؤرخًا، وإنما عالم في الأدب، ولكنه درس بدقة التاريخ الأدبي للإمبريالية البريطانية والفرنسية والأمريكية. لذلك فهو يتجول أيضًا بين علمي التاريخ والأدب. بالنسبة له، تعني الإمبريالية في البداية الخضوع والهيمنة والوصاية أيضاً. لكنه ليس مهتماً جداً بحكم حفنة من القوى الاستعمارية الأوروبية على أكثر من 85 في المائة من سطح الأرض، والذي تم إنشاؤه بالجنود والمدافع، ولكن بالإمبريالية الثقافية المزروعة في رؤوس الحاكمين والمحكومين بالأفكار والصور، والتخيلات، "بادرة تدجين حضاري". فموضوعه هو العلاقة بين السلطة والثقافة، أو الأفضل: استخدام الثقافة لتأسيس وتبرير والحفاظ على السلطة. إن موضوع بحثه، الذي يحاول به تعقب آليات العمل الدقيقة للإمبريالية الثقافية العنصرية، هو الأدب وخاصة الرواية، التي يوليها أهمية كبيرة في تطوير المواقف الإمبراطورية. لكن السؤال الذي لا يزال يجب طرحه، هو ما إذا كان عالِم الأدب لا يبالغ في تقدير مهنته كوسيلة للتنشئة الاجتماعية ذات التأثير الجماهيري.

"الخيال والسياسة في عصر القوة "- هذا هو العنوان الفرعي لكتابه – يركز سعيد على بعض الروايات على أنها" نتاج خيال إبداعي أو تفسيري" ثم يصف مكانها في شبكة العلاقة بين الثقافة والهيمنة. هذا البحث عن آثار أنماط الفكر الإمبراطوري في روايات ديكنز ، وكيبلينج ، وكونراد ، كامو أو لـ أوبرا عايده لفيردي. الذين قرأوا هذه الروايات، سوف يضطرون إلى إعادة قرأتها من جديد، بحثا عن ما لم يكتشفوه من قراءتهم السابقة وكشفها لهم سعيد "لفتة للتدجين الحضاري". أي شخص قرأ الفصل العبقري من عايده لفيردي، سوف يستمع ويشاهد أداء الأوبرا بشكل مختلف الآن.

هذا البحث عن الآثار جزء لا يتجزأ من إعادة بناء عميقة للتاريخ الأدبي والفكري للقرنين التاسع عشر والعشرين، الغني بالأفكار الأصلية حول الحساسيات العقلية للقوى والإمبراطوريات الثلاث فرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة. هذا التائه العربي بين العالمين يضع أمامهم مرآة تتبلور فيها الغطرسة الثقافية. ويكتشف طبقات من سوء الفهم والأحكام المسبقة التي تعتبر مهمة لفهم أعمق للتاريخ الاستعماري وما بعد الاستعمار. لا تعني الثقافة، بالنسبة له، مجالاً لسُمو ونبالة أبولونية (من أبوللون/ أبولو/ أبوللو)، بل تعني نوعًا من المسرح الذي يمكن أن يصبح ساحة معركة للخلافات السياسية والأيديولوجية. يجب على أي شخص يرغب في المشاركة في مناقشة سيناريو صموئيل هنتنغتون لـ "صدام الحضارات"، يجب عليه أن يقرأ بالتأكيد الجزء الثاني من الكتاب، الذي يكشف الجدل بين السلطة والمقاومة بشكل أعمق بكثير من جدل هنتنغتون. والذي يرغب في فهم "الانتفاضات ضد الحداثة" والبحث عن الهويات الثقافية ، فعليه قراءة كتاب سعيد، فهو يسعى بحساسية إلى التفاهم بين الثقافات. لذلك فإن نهاية الكتاب ليست مفاجئة: لا يرى العرب الذين يعيشون في أمريكا أي سبب للإصرار على "انفصال الثقافات وعدم قابليتها للمقارنة": "أن البقاء على قيد الحياة مرتبط بالصلات بين الأشياء".

إنه يرى إنجازًا تاريخيًا عظيمًا للإمبريالية، في توطيد مزج الثقافات والهُويات في جميع أنحاء العالم، و يرى في عين الوقت بأنها تقوم بفعل أثم، حيث أنها تجعل الناس يعتقدون بأنهم، بشكل أساسي أو حصري، إما أنهم "بيض أو سود، أو أنهم غربيون أو شرقيون" فقط. قد يجادل المرء في بعض الأطروحات أو حول بعض التفسيرات التاريخية في الكتاب. ولكن سوف يواجه علماء الأدب ً قبل كل شيء ، تحدياً، ويسألون أنفسهم عما إذا كانوا قد فسروا بشكل صحيح، على سبيل المثال، "كيم" كيبلينج في الفضاء والزمان (الهندي). كما يتم تشجيع المؤرخين على تضمين روح العصر في الروايات بشكل أوثق في تفسيراتهم للسياسة الإمبريالية. يستطيع علماء السياسة والسياسيين أن يعيدوا قراءتهم بدقة، عن كيف تصبح الثقافة في خدمة السلطة. هذا الكتاب الذي ألفه متجول بين الشرق والغرب هو قبل كل شيء تحفة تعليمية للتفاهم بين الثقافات.

يصبح أي كتاب ذا قيمة عندما تتعلم منه شيئًا. يمكن للمرء أن يتعلم الكثير من كتاب سعيد: حول تاريخ الإمبريالية والتاريخ الروائي، وحول التفاعلات بين الاثنين، وحول قدرة المرء على التعرف على مثل هذه التفاعلات. إنه كنز دفين من الاعتبارات الأصلية ليس للمؤرخين وعلماء الأدب فحسب،  بل لكل من يتعامل مع الثقافة والسياسة، إنه يجعل من السهل فهم ما يجري والذي قرئ هنتنغتون إلى رسم سيناريو حرب ثقافية دولية. كتاب سعيد مفيد للغاية وغني بالمعلومات، ويشكل تحديًا، وعلى الرغم من صعوبة قراءته في أجزاء منه، ولكنه مثير في عين الوقت.

ـ وإلى ملاحظتين قصيرتين:
الأولى:
ــ يكتب ستيفان فايدنر الباحث في العلوم الاِسلامية والمترجم الرصين، معلقا على الترجمة الألمانية لكتاب "الاستشراق"، أن أول نقل ألماني لهذا الكتاب ليس خالياً من العيوب، وللأسف فإن الترجمة الجديدة ليست أفضل من تلك. لقد تمت بإهمال مذهل وجمل غير مفهومة تماماً، أنه نص مشوه، هذه الترجمة لا تليق بهذا العمل الفريد والهام ولا بمؤلفه عالِم الأدب الفلسطيني الأمريكي الجليل.

الملاحظة الثانية" ــ صدر في مجلة ميركور الألمانية للفكر الأوروبي عدد 865 يونيو 2021، مقالا بعنوان: "تاريخ نشأة كتاب الاستشراق لاِدوارد سعيد، والمقال المترجم عن الانجليزية، مأخوذ من النسخة الأولية لكتاب قيد الطبع بعنوان "أماكن العقل: حياة إدوارد سعيد، لتيموثي برينان، أستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية في جامعة مينيسوتا/ مينابولس.  لعلني أضيف، على الرغم من مرور 43 عاماً على صدور كتاب "الاستشراق"، و18 عاماً على رحيل سعيد، لا يزال الكتاب وكتابات سعيد الأخرى تشغل العالم الفكري والأدبي والثقافي في أمريكا.

ما قدمته، ما هو إلا مدخل إلى عَالم العِالم الاِنساني الفذ إدوارد سعيد. وهو القائل في نص معبر " أقصى ما يمكن أن يحققه المرء الرضا المهني، الذي لا يلبث أن ينازعه الشك، والحاجة إلى إعادة الكتابة إعادة العمل التي تجعل النص غير قابل للسكنى، ويواصل هذا أفضل، على أية حال من الخلود إلى الرضا بالنفس وإلى حتمية الموت".

ولعلني أختتم: يقول توني تنر أستاذ الأدب في جامعة كيمبردج، عندما سمع، بأن إدوارد ينوي العودة إلى مسقط رأسه القدس، ليعيش هناك، أنني لا أشك في صدقه أو في حبه لفلسطين، بل لأن إدوارد سعيد يحتاج إلى مدينة لا تقل حجما عن نيويورك، حتى تستوعبه، وإلا فستكون حياته أشبه بحياة السمك خارج مياه البحر.

قيل للروائي السوداني الشهير الطيب صالح ، بعد مرور أقل من عام على رحيل إدوارد: إن إدوارد سعيد أسطورة جميلة، فرد الطيب على الفور: وستزداد الأسطورة جمالاً مع الأيام.

ظهر في خمسينيات القرن المنصرم فنان شاب “مغني” سوداني، جاء مثل الوعد الصادق ومر كالبرق وغاب كسحابة صيف وخلد اسمه بأغنية بعنوان “كان بدري عليك” كان يؤديها بعنفوان صوته الشبابي الشجي وبنبرته الحزينة الحنونة. وانا اقول:

إدوارد سعيد يا عصفور فلسطين: كان بدري عليك وعلى وداعك، رحلت ولن يخبو شعاعك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

ــ أعمال إدوارد سعيد:

ــ الاستشراق ص. 70،409. والثقافة والامبريالية، ص 269، 270، 292

ــ المثقف والسلطة ص 21 و 198.

ــ عن الأسلوب المتأخر، موسيقى وأدب عكس التيار: ص 8 المقدمة.

ــ فاليرى كينيدي، إدوارد سعيد، مقدمة نقدية. المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016،  ترجمة ناهد تاج هاشم

ــ مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد 64 صيف 2004 ص.101، 106، 124، 146، 149، 188، 189 .

ـــ  صادق جلال العظم،  ذهنية التحريم، سلمان رُشدي وحقيقة الأدب، دار الساقي، 1992

ــــ هاشم صالح (إعداد وترجمة)، الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، دار الساقي 1994

* صبري حافظ، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 15، العدد 59 (صيف 2004).

- Timothy  Brennan, die Entstehungsgeschichte von Edward Said „Orientalismus“, Merkur ,Juni 2021, Nu. 865

*ولد إدوارد وديع سعيد في القدس في فلسطين عام 1935 وتوفي في 25 ايلول \ سبتمبر2003.    بدأ حياته الدراسية في القدس والقاهرة وبيروت، ثم الذهاب في سن مبكرة إلى أمريكا، هناك أكمل الدراسة الجامعية، ليصبح بعد ذلك أستاذا للغة الانجليزية وآدابها والأدب المقارن في جامعة كولومبيا حتى رحيله.