تكشف مقالة الكاتبة الفلسطينية عن أن فلسطين ستظل حية، حتى في أبعد المنافي عنها، وأن ابناءها سيستردون بلدهم من قبضة الاستيطان الصهيوني، طال الزمن أو قصر. وذلك من خلال تحليل لقصص هذه المجموعة يكشف عن رؤية مجتمعية نقدية بالرغم من تعدد المداخل للتشبث بفلسطين والتمسك بجذورهم فيها.

«وجوه وطبائع» رؤية مجتمعية نقدية

تنصف المنفى ولا تتنكر للجذور

نجمه خليل حبيب

 

وجوه وطبائع[1] هي مجموعة نصوص سردية للكاتب الفلسطيني المقيم في أستراليا، علي أبو سالم[2]، يغلب عليها الطابع القصصي. شخوصها مأخوذة من واقع الحياة اليومية لأحداث جرت ما بين الوطن الأم والمهجر، وهي على حد تعبير الكاتب، التقاط للوجوه العابرة، وما يقع في دائرة ملاحظته من تصرفات الناس من حوله، كانعكاس لطبائع النفس البشرية وتصرفاتها من خلال أدق التفاصيل (ص 10).

* * * *

وفي قولنا مجتمعية نقدية إخراج لها عن الحركة الواقعية النقدية التي عرفت في القرن التاسع عشر وتطورت إلى تيارين رئيسيين يلتقيان احياناً وينفصلان أحيانا أخرى هما الواقعية الغربية والواقعية الاشتراكية. فشخوص علي أبو سالم لم تكن كلها من الطبقة المسحوقة، ولم تمهد لثورة كما في أم سعد غسان كنفاني وأم مكسيم غوركي، ولا استنهضت الذاكرة المقاومة كما في الطبيب- الممرض راوي الياس خوري في "باب الشمس"[3] ولكنها التقت مع هؤلاء وغيرهم في بعدها الإنساني والدعوة للتثبث بالجذور.

فـ"حنين" أبو سالم[4]، لم تَلْحَق ابنها إلى المعركة، ولا غاصت في وحل المخيم، ولا لزمت سرير الفدائي الذاهب في غيبوبة؛ ولكنها حملت فلسطين بقلبها وعقلها، وحملت زوجها وحبيب عمرها على التطبع بعادات شعبها. هي لم تدر ظهرها لفلسطين كما فعل رجال الخزان في "رجال في الشمس"، ولا اختفت على الحدود كما فعل وليد مسعود في "البحث عن وليد مسعود" وإنما أدارت وجهها صوب القدس وحسمت أمرها مع الانتماء المزدوج وانحازت لفلسطين.

ولدت حنين في أستراليا. وهي لا ترى هذا البلد منفى بل وطناً جميلاً أمّن لها كل ما تطمح إليه فتاة في مثل عمرها، طفولة هانئة مستقرة وتعليماً عالياً جعل منها امرأة ناضجة مستقلة الرأي، وأتاح لها أن تمارس شرقيتها وتعيش في ملبورن وكأنها في القدس. تعلقت بكل ما هو عربي: اللغة والموسيقى والدبكة والأغاني وأنواع الطعام. اختارت شريك حياتها أسترالياً يعشق ويقدر عادات شعبها ويثمن حضارتها. ولكن كل هذا سقط فجأة عندما سألتها عمتها: "لماذا اخترتِ الزواج من أجنبي يا ابنة أخي؟ وما هي حاجتك وأنت تتكلمين العربية جيداً؟ لماذا لم تختاري زوجاً من أحد أبناء البلد يا ابنتي؟" (ص 39)

زلزل السؤال كيان حنين. فجأة صار الوطن الثاني منفى، وكل ما حققته به من نجاحات في الحب والحياة هباء.

أيقظ السؤال فيها وعياً بالذات أحست معه أنها خانت وطنها الأم في تأرجحها بين انتماءين، وبدا لها أن كل جميل عاشته في مهجرها وهم. وبعد طول صراع مع الذات حزمت أمرها. أنهت زواجها المثالي وعادت إلى وطن الأجداد في محاولة منها للعثور على الإجابة لسؤالها عن هويتها: من هي؟ وإلى أين تنتمي؟ وبماذا تؤمن؟ ولماذا تتألم؟ ومن هو المسؤول عن كل هذه التناقضات التي تعصف بداخلها؟

تنتهي القصة معلنة وصيتها:

"الغربة مرة وصعبة وخاصة عندما نحاول التشبث بالجذور والانتماء إلى الوطن، إلى جانب العيش في ظل مجتمع مفتوح ينادي بالتحرر والإباحية. . . فإما أن نبتلع كل هذا الخوف وهذه المرارة ونحكم قبضتنا عليها، وإما العكس تماماً. . . وعندئذ نفقد كل شيء، أبناءنا وأنفسنا، وقيمنا والأخلاق التي نشأنا عليها." (ص 43)

ما لم يقله النص في قصة حنين
أن نقرأ قصة "حنين" بمنظور النقد الثقافي[5]، فمعناه أن نغوص في لاشعور النص لكشف المسكوت عنه من الإشكالات الأيدولوجية وأنساق التمثيل. وعندها سنكتشف فيها دلالات ومعانٍ غير التي أرادها المؤلف. سنكتشف أن بطلة القصة ليست مجردة سائحة عشقت زيتون القدس وجمال طبيعتها، وإنما هي نموذج للبطل القومي الذي يختزن خصائص شعب. مِثْلُها مثل عاشق غسان كنفاني الذي مشى على الرماد الساخن دون أن يحس ألم الاحتراق لأن حرارة العشق لأرضه أقوى من حرارة الجمر الكامن تحت الرماد[6]. مثله أذاب حب وطنها كل حب آخر. لأجله تخلت عن كل الامتيازات المادية والمعنوية التي يؤمنها لها موطنها الثاني أستراليا. تخلّت عن حب عمرها ونعمة الدفء العائلي وعادت وحيدة الى الوطن الجريح المحتل، فلسطين، المبتلى بأشرس أنواع الاستعمار وبكثير من السلبيات التي لا ضرورة لذكرها.

قد تكون شخصية حنين وجهاً من وجوه الواقع أو مزجاً بين الواقع والمتخيل شاءها الكاتب دلالة على مأزق الذات المغتربة في تأرجها بين انتماءين؛ أما باطن النص فيقول غير ذلك. نحن نعلم أن فلسطين وطن احتلته العصابات الصهيونية عام 1948 ومحت اسمه من الوجود، واستبدلت أسماء المدن والقرى والشوارع العربية بأخرى عبرية. عملت وما زالت تعمل على طمس الحقيقة التاريخية والحضارية لفلسطين بتزوير المعالم الأثرية والسعي على تهجير ما تبقى من شعبها. وعودة حنين إلى القدس هي فعل مقاومة: مقاومة الإمحاء بالحضور، ومقاومة الطمس بالإصرار على ذاكرة المكان.

"أحزان العم ديب" نص وجداني يمتع ويلذ
يمثل العم ديب نموذجاً لجيل النكبة الذي أورثه انهزامه اكتئاباً لازمه تلازم عمر النكبة. فحكاية هذه الرجل العجوز يكاد لا يخلو منها بيت فلسطيني وأحاسيسه هي أحاسيس جيل بكامله تتلخص بالندب والتحسر على ما ضاع ولـمـّا يعد بعد.

يروي العم ديب قصة تهجيره من بيته في يافا لشباب القرية التي هجر إليها كلما جمعتهم به جلسة مسائية هادئة، يتحسر فيها على أيام شبابه في يافا وينتقد جيل الشباب الذين يتسكعون في الشوارع والحارات لاهون عن تحرير وطنهم. وعكس الكثير من القصص الفلسطينية التي أدان بها الأبناء آباءهم واتهموهم بالسذاجة والاتكالية ونسبوا إليهم مسوؤلية ضياع فلسطين[7]، يتعاطف أبو سالم مع بطل الرواية ويقيم له مستمعين من جيل الشباب يحاولون تخفيف أحزانه بطمأنته وتهدئة روعه مؤكدين له أن يافا ستعود والشعب لن يفرط بشبر من الأرض، ولن يرضى بحقوق منقوصة، وما دام هناك أطفال يحملون حجراً فستظل ثورة الشعب وحجارتهم هي الأمل الذي يبدد اليأس. . . ولكن العم ديب لا تغريه هذه الآمال فـ"يهز رأسه بحزن وأسى، بدون أن ينبس ببنت شفة، صمت يلف المكان .. هواجس مؤرقة تعاوده من جديد باعثة حزنه القديم." (ص 127)

تتميز قصة "أحزان العم ديب" بصورة شعرية ثرية الدلالات:  "في المقهى .. وفي الشارع .. وفي دوائر العمل، لا حديث للناس إلاَّ وشوشات مصفرّة عما يدور هناك .. هلع صامت .. خوف كامد يوحد اصفرار الوجوه، ورعشة الأيدي في المقاهي والشوارع والبيوت..والخوف فعل إنساني راق يجمع ويُوحد، ربما أكثر مما تجمع الشجاعة". . . منذ أيام زرته، كان الحزن يرسم مساحات ثقيلة على وجهه المرهق. . . قال مشيراً بيده.. أنظر الى هؤلاء الاطفال، كيف يواجهون الموت اليومي..لا يعبأون بالجنود. قلت: " نعم يا عم...إنهم كفراشات اكتوت بنور متوهج، وطن يجز بهم اشتعالاً، وجمرة تتألق للخلاص." (ص 124)

يأسرنا هذا النص الوجداني بنكهة كلماته وجرسها ومناخات صياغتها وضجيج أصواتها وطراوة ملمسها. ويأخذنا إلى فضاءات الماضي وأيديولجيته التي تفيض بالحزن وانكسار الأصوات في تجارب شديدة الوطأة مغروزة في ذاكرة الكتابة[8].

"مجنون يكتب وعاقل يفهم"
يغلب على نهج "مجنون يكتب وعاقل يفهم" الطابع التفسيري والنقدي حيث يمسي السرد أكثر ذاتية وأقل موضوعية، وهذا ما يخرجه من دائرة القصة ويدخله في دائرة المقالة. وليس قولنا مقالة انتقاصاً من قيمة النص الفنية فالمقالة، ليس بالفن السهل كما يظن كثيرون، وهو على أرض الواقع لا يقل قيمة عن أي من ضروب الأدب الأخرى كالقصيدة والقصة والرواية، لأنه من تلك الفنون التي تخفي جمالياتها ومقاصدها على النظرة العابرة، فكثرة هم من ينجحون في كتابة القصة والقصيدة، وقلة هم من يجيدون كتابة المقالة على حد تعبير منيرة المبدل. وحيث أن المقالة أدب فكرة، فهي تميل في الأعم الأغلب للكتابة التقريرية المباشرة بغية إيصال الفكرة إلى ذهن المتلقي بأيسر الطرق وأوضحها[9].

ليس في هذا النص حدث وشخصيات تتحاور ولغة شعرية ذات دلالات ورموز. فموضوعه فكرة، وسارده شخصية واحدة هو الراوي، يحدد المشكلة ويعطي رأيه فيها، ثم ينهيها مقترحاً حلاً. وأسلوبه مباشر لا صور شعرية تقطع انسيابية المعنى: "كثيراً ما قرأت وسمعت كلمات الاحتجاج والنقد بل والنقمة على الشباب، من الرعيل الأول ، من كبار السن، الكل يتذمر ويحتج على ما آلت إليه أمور مجتمعنا من سوء هذه الأيام .. وبأننا في الطريق إلى الاسوأ، يرافقنا الشيطان في كل خطوة نخطوها، هذه هي النهاية…"، (تحديد المشكلة، ص 127-128).

". . .لذلك أقول بأنه لا داعي لتحميل شبابنا مسؤولية هذا الحقد وهذا الكره والوضع الذي نحن فيه من تخبط عشوائي وضياع. ولا أريد بذلك أن أدافع عنهم، بل يجب توقيع العقوبات على كل من يخطئ منهم بحق المجتمع وبحق نفسه أولاً، ولكن لنأخذ بعين الاعتبار بأنهم مازالوا جدد في هذه الحياة وعلى هذا المجتمع، ولا يعرفون جيداً ماهية المطبات والشباك المنصوبة لهم، فتراهم يقعون في شباك النصب والاحتيال دون إرادة وإدراك....." (أسبابها ومسباتها، ص 134)

"على عاتقنا كأولياء أمور، تقع مسؤولية لعب الدور الصحيح والمفروض علينا أن نقوم به، وبالتالي المجتمع ككل، حتى نعطي هؤلاء الأطفال التعاليم السليمة وتوجيههم لما فيه خيرهم ومن ثم خير المجتمع، حتى يكونوا بدورهم أولياء أمور صالحين في المستقبل." (الحل ص 137-138)

غربة ومنفى رحيم في: "العبور جنوباً"
منذ أن فعّل "غولْف وِتْلِم" رئيس وزراء أستراليا سياسة التعددية الثقافية عام 1973[10]، صار البلد ملجأ لكل طالب حرية ومظلوم وفقير من مختلف البلدان والأعراق والثقافات. حضنهم واعترف بهم مواطنين أسوياء لهم ما لغيرهم من حقوق وواجبات. أمّن لهم ما حرموه في أوطانهم من حرية ومساواة وحماية من عاديات الزمان من خلال برامج رعاية اجتماعية كالطبابة والتعليم ومعاش الشيخوخة. حفظ المهاجرون هذا الجميل لأستراليا فأعلوها فوق أوطانهم الأصلية فتغنَّوا بأفضالها، وكتب أدباؤهم من شعراء وروائيين وقصاصين وإعلامين يشيدون بنظامها وطبيعتها. وهذا ما نراه واضحاً في المؤلف الذي بين أيدينا وجوه وطبائع. هو قوي ومباشر في قصة "العبور جنوباً"، ويأتي ضمناً في "عازفة الأكورديون" و"قدر العم حسن".

"العبور جنوباً"، قصة طفلة اسمها سعاد تيتمت من والدتها ورفضتها زوجة أبيها فدفع بها أبوها إلى بيوت أحد الأغنياء لتعمل خادمة (عبدة على حد ما وصفت به حالها). غرقت في أعمال البيت الكثيرة المنهكة من تنظيف وترتيب وطبخ وخدمة أولاد سيدة القصر القاسية الطباع التي لا تنفك تعنف الطفلة وقد تضربها إذا ما قصّرت في أدنى واجباتها. نضجت الطفلة وصارت امرأة جميلة فبدأت ربة البيت تغار منها وهي تلاحظ اهتمام زوجها المتزايد يوماً بعد يوم فقررت ان تتخلص منها بإبعادها إلى أستراليا

عملت سعاد منذ وصولها إلى أستراليا بجد وتصميم، وتغلبت على الصعاب التي واجهتها، ولم تنس أيام القلق والحرمان. تزوجت وبنت مع زوجها بيتاً جميلاً . في هذا الوطن الجديد لن يصبح أبناؤها خدماً وعبيداً كما كانت هي في طفولتها. واكتملت سعادة سعاد عندما تمكنت من إحضار أخيها وعائلته إلى أستراليا، فصار للأبناء خالاً وأبناء أخوال.

تنتهي القصة معلنة هدفها وحكمتها فتقول: "الكثيرين ممن هم مثل سعاد، ذاقوا طعم الذل والعبودية، وخلاصهم الوحيد كان بالعمل الجاد ، والدؤوب، حيث استطاعوا تغيير مجرى حياتهم، وشقوا طريقهم الجديدة، بحرية في هذا البلد المضياف والجميل أستراليا، كمواطنين أحرار يتمتعون بدفء هذه الأرض وحنانها، لمن يبادلها هذا الحب وهذا الحنان." (ص 123 )

يتابع علي أبو سالم إعلان امتنانه لأستراليا وفخره بنظامها الديموقراطي وعدالتها الاجتماعية وتركيبتها الديموغرافية التي تتفوق بها على كثير من البلدان العريقة في حضارتها، ولكنه لا ينسى أن ينوه بمثالب ثقافة الفرد السائدة فيها ودورها في تغريب الانسان وانفراط العقد الاجتماعي. ومن خير نماذجه في هذا الشأن قصة "عازفة الأكورديون".

غربة واغتراب في عازفة الأكورديون
وعازفة الأكورديون سيدة في السبعين من عمرها تعيش في دار للمسنين التقاها الراوي (الكاتب) في إحدى شوارع ملبورن تجلس على مقعد تعزف على أكورديون قديم، فتحت قلبها له عندما عرفت أنه من بيت لحم. حادثها فعرف أنها مولودة في برزبن لأبوين عربيين وأن أبناءها تخلّوا عنها، وهي تعزف لتنسى حزنها وتجمع ما يجود به المارون عليها من قروش لتشتري بها هدية لحفديتها التي حرمت من رؤيتها. عاد في اليوم التالي ليراها ويستمتع بعزفها فكان مكانها خالياً فاستنتج أنها ندمت عما كان من أمر انفتاحها عليه فتركت المكان كي لا يتجدد اللقاء.

كانت عازفة الأكورديون السيدة لطيفة تعيش حياة هانئة متصالحة مع غربتها وقامت بدورها كأم على أكمل ما تكون الأمومة، لم يدر بخلدها أن أبناءها سيرمونها في العراء عندما تنقضي حاجتهم إليها. وهذا ما أدى بها الى الاكتئاب والانسحاب من الحياة. "لا يهم يا بني، كيف تعيش ومع من تعيش، بعد أن فقدت أعز الناس إلى قلبك، بعد أن رموك في الشارع بدون رحمة. فلم يعد بإمكانك العيش بين معارفك وأصدقائك وأقاربك، فتجر أذيال خيبتك وحزنك وترحل بعيداً… حيث لا يعرفك أحد." (ص 87-88)

قد نتساءل، لماذا غرّب هذا الفعل عازفة الأوكورديون إلى هذا الحد وهي المولودة والمتربية في بلد تسود فيه ثقافة الفرد التي لا ترى في تصرف أبناء لطيفة استهجاناً ولا غرابة.

لو أمعنّا قليلاً في السرد لتبيّن لنا أن اغتراب لطيفة لم يبدأ في سن السبعين، بل منذ طفولتها حيث ربتها والدتها على موروث ثقافي عربي تسود فيه ثقافة الجماعة وتقوم العلاقات الأسرية على التعاون والتضحية والالتزام الشامل غير المحدود. فالآباء يرعون أبناءهم ويعيلونهم طالما هم بحاجة إلى الإعالة حتى إذا هرموا أخذ الأبناء دور المعيل والراعي. وكل من تخلى/ت عن والديه اعتبر عاقاً ونبذه المجتمع. وهذا معناه أن لطيفة عاشت كل حياتها مغتربة عن المجتمع الذي ولدت وتربت فيه. لقد توقّف بها الزمن عند نقطة محددة من عمرها وتعاملت مع أبنائها بنفس الأسلوب الذي تعاملت به والدتها معها. وهنا بدأ تغريبها. تشرنقت في ثقافتها الشرقية عميت عما يحدث في بيوت الجيران والأصدقاء وحتى الأقارب من أبناء جاليتها. وطبعاً عمّا يحدث في نفوس وعقول أبنائها، إلى أن كان الحدث الذي ثقب شرنقتها وفجّر اغترابها المكبوت الذي راحت تداويه بعزف ألحان من بلدها الأم الذي أدى إلى تعرّفها على الراوي الذي صادف انه من نفس البلد، وقد كان يمكن لهذا اللقاء أن يكون بوابة العبور من التغرب إلى حياة المجتمع والناس، إلا أن لطيفة أغلقت هذه البوابة فلم تأتِ إلى مكانها المعهود عائدة إلى شرنقتها محتيمة بها من شرور هذ العالم الذي تغزوه الفردانية ليس في الغرب فحسب بل في الشرق الذي بدأت تغزوه هذه الأنوية وتظهر فيه أنماط كمحجوب عبد الدايم الذي يعتبر البر بالوالدين شر إذا عاق سعادة الابن، بل كل ما يعوق سعادة الفرد شر[11].

واغتراب لطيفة ليس من النوع الهدام الذي يسيئ به المرء لذاته ومجتمعه. فهي تغضب ولكنها لا تحقد. تكره ولا تُنْكِر. لم يمنعها غضبها على أبنائها من محبة أحفادها. وهي في ومضات ذهن صافية تحن إلى التواصل مع الناس ولو أنها في النهاية تجهضه: فهي عندما علمت أن محدثها من بيت لحم "انتفضت من مكانها، وسرت رعشة في جسدها النحيل، عيناها اللتان بدتا وكأن الحزن هو الساكن الوحيد فيهما، ومضتا، وكأن لمسة دفء دخلت إلى نفسها". 

لقد نجح عليّ أبو سالم في هذا النص بالخروج من الخاص إلى العام، وما لطيفة إلا نموذج لكل مهاجر/ة قذفتها الظروف بعيدة عن وطنها:

 "كلنا نشترك في هذا الحزن وهذا الألم، فلقد انطلقنا نجوب القارات، ونعيش تجارب البشر المختلفة، ونذوق طعم الغربة، كاليتيم الذي فقد أبويه، في محاولة الحصول على لقمة خبز، ولحظة سعادة، مفروشة بالأشواك والصعاب، ومرارة الوحدة ونحن نحاول انتزاعها من أحضان الغربة، والألم يتربص بنا في كل خطوة تخطوها..." (ص 92)

يقول لوكاش:

"إن ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبرى، بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الاحداث. وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والانسانية التي أدت بهم الى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي"[12]

وهذا ما فعلته مجموعة علي أبو سالم، وجوه وطبائع

 

سدني أستراليا

 

 

[1] علي أبو سالم، وجوه وطبائع، طبعة الكترونية، ملبورن- أستراليا 2021

[2] الدكتورعلي أبوسالم أكاديمي فلسطيني يعيش في أستراليا، وهو مؤسّس مجلّة "الجذور" الفصلية الالكترونية ورئيس تحريرها منذ 1999. تسعى المجلة للاحتفاء بالأعمال الأدبيّة والفكريّة والفنيّة المتنوّعة. مؤهلاته في هذا المجال، دكتوراه في الإعلام من جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا، و"دبلوم الصحافة المتقدّم". بعنى أبوسالم بقضايا التعدّدية الثقافيّة، وقد حصل من ولاية فيكتوريا على جائزة لتميّزه في هذا المجال، كما رشّحته الولاية، عام 2004، لجائزة أستراليّ السنة. وهو ناشط في تقديم الندوات التي تعني بالتعديدة الثقافية في عدد من الجامعات الأستراليّة. شغل مناصب في مجالس إدارية وأكاديميّة، وترأس بعض الأقسام، وعميداً بالإنابة لقسم التعليم في كليّة إدارة الأعمال الأستراليّة. كما أشرف على طلّاب الدراسات العليا، بما في ذلك سبعة مرشّحين للدكتوراه. حاصل من جامعة وسط كوينزلاند على: "ماجستير في التعليم المهني"، و"ماجستير في إدارة الأعمال" ، و"دبلوم دراسات عليا في إدارة الموارد البشريّة"، و"شهادة في الإدارة".

[3] لمعرفة المزيد، ينظر في:

نجمة خليل حبيب، قراءات نقدية في الشعر والرواية، "دلالات العودة وطقوسها في الروية العربية، باب الشمس وعودة الطائر إلى البحر نموذجاً"، ط/1، بيرووت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2017، ص 203-215

[4] "حنين" هو النص الثاني والقصة الأولى من مجموعة وجوه وطبائع، وهو أيضاً اسم بطلتها

[5] النقد الثقافي، حسب تري إنغلتن، هو "أحوال من الانفعال والتقويم والإدراك الحسي والاعتقاد، تتسم جميعها بأن لها علاقة برعاية وانتاج السلطة الاجتماعية". للمزيد ينظر في؛

خضر محجز، إميل حبيبي الوهم والحقيقة، ط/1، دمشق: قدمس للنشر والتوزيع، 2006، ص 37

[6] غسان كنفاني، الأعمال الكاملة، الروايات، مج/1، ط/3، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1986، ص 423-424

[7] نذكر منها رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، ورواية سحر خليفة "عباد الشمس"

[8] التعبير مسنوحى من مقالة بعنوان "المؤلف الراوي البطل في القصة القصيرة العراقية في المنفى" لعبد جاسم الساعدي.

[10] ألغي قانون أستراليا البيضاء عام 1966 وفعّله غولف ويتلام Gough Whitlam رئيس وزراء استراليا (1972-1975) عام 1973 وأْنشيء مكانه سياسة التعددية الثقافية في دولة هي الآن، موطن لمهاجرين من حوالي 200 دولة مختلفة

https://www.nma.gov.au/defining-moments/resources/end-of-white-australia-policy

[11] محجوب عبد الدايم شخصية رئيسية في رواية نجيب محفوظ القاهرة الجديدة

[12] أورده صلاح فضل، لذة التجريب الروائي، ، ط/13 القاهرة: أطلس للنشر والتوزيع والانتاج، 2005، ص 34