بعد أن يقدم الباحث المغربي مفهوم الهوية السردية الذي بلورة بول ريكور في سفره الضخم «الزمان والسرد» يكشف لنا كيف تنهض عليه هذه السيرة المغربية الجديدة لبنكراد والتي يلتقي فيها الاجتماعي بالطموح الشخصي والسياق التاريخي والرّغبة في النجاح، بالرغم من القيود الاجتماعية الضاغطة بسبب الفقر.

بناء الهوية السردية

في «وتحملني حيرتي وظنوني» لسعيد بن كراد

إدريس الخضراوي

 

على سبيل التقديم
تسعى هذه الورقة(*) إلى الإمساك بمفهوم "الهوية السردية"، أو التأويل السّردي للهوية، بوصفه واحدًا من المفاهيم النقدية الحديثة التي برزت في الحقل النقدي العربي منذ مطلع الألفية الثالثة في خضمّ التحول الذي ما فتئ النقد الروائي العربي يشهده بتأثير من المثاقفة العربية الغربية على مستوى مناهجه النقدية ومرجعياته الفكرية مستفيدًا من الهزات العميقة التي طاولت النظرية الأدبية في زمن العولمة، وأيضًا في سياق التبدّل الذي طرأ على مفهوم "الأدب" منذ تسعينيات القرن الماضي بعد الأزمة التي طاولته إبّان الستينيات والسبعينيات، التي طبعها تصور مفاده أن المعرفة الموضوعية بالسرد الأدبي لا تتحقق إلا بالنظر إليه بوصفه عملًا مكتفيًا بذاته. مستقلًا عن الشروط الاجتماعية، وليس بكونه كلامًا أي لغة تستعمل في سياقات ثقافية ملموسة.

لقد أدرك المشتغلون في النظرية الأدبية أنها لم تعد قادرة على تقديم معرفة جديدة بموضوعها. وهكذا، ظهرت محاولات عديدة لتوسيع حدودها في مسعى لوضع النصوص في العالم، وربطها بسياقاتها السيرذاتية، أو الاجتماعية، أو التاريخية. وتعدّ الصرخة التي أطلقها تودوروف سنة 2007 بكتابه "الأدب في خطر" منعطفًا حاسمًا من حيث التأسيس لمرحلة مختلفة في النقد الأدبي العالمي. ومع ذلك، يبدو أن هذا السياق الذي ظهرت فيه أعمال مختلفة تنطوي على طروحات جديدة ترمي إلى إخراج الدراسة الأدبية من أزمتها، لم يخفف من الشعور بالضيق الذي اشتد في السنوات الأخيرة في حقل النقد الأدبي ونظرية الأدب، ذلك الضيق الذي يبدو في كثير من الأحيان أنه مرتبط بالحاجة إلى التفكير من منظور مغاير في المقاربات النقدية الممارسة، ولا شكّ في أن تزامن الشعور بهذه الحاجة مع عودة ظهور مسألة الأخلاق في مختلف الميادين العلمية والاجتماعية ليست عرضية، بل تنطوي على أبعاد ودلالات عميقة.

وفي هذا السياق، تعدّ جهود الناقد الروسي، ميخائيل باختين، شديدة الأهمية والجدّة، لأنها أبرزت الطابع متعدد الأصوات للسرد، فضلًا عن البعد الحواري للذات، كما أن عمل المفكر الفرنسي، بول ريكور، يعدّ رائدًا في إعطاء السّرد أبعادًا جديدة تتخطى الحدود التي استقرّ عليها في الدرّس الأدبي مع المناهج البنيوية والتفكيكية التي راهنت على أن "لا خلاص خارج النص". ومن منظور ريكور، "لا يمكن اختزال المعنى في دلالة لسانية بنيوية، لأن هنالك النص، وهنالك ما هو خارج النص. وما هو خارج النص هو ما يجعل كل خطاب خطابًا "منفتحًا" بلا نهاية."(1)

لا شكّ في أن النقد الروائي العربي سيستفيد من جهود بول ريكور في تجديد المعرفة بالأشكال السردية، وخاصّة الشكل السّردي بوصفه الأنموذج الأمثل لبناء الهوية السّردية(2)، غير أن هذا التلقي يظلّ محدودًا قياسًا إلى الوعد الذي يقدّمه عمل هذا الفيلسوف من أجل معرفة أعمق بالسرد، ومن أجل "النفاذ إلى "فهم الذات" الثاوي في ما يقال(3). وثمة سؤالان يعدّ طرحهما محوريًا في هذه الورقة؛ كيف فكّر بول ريكور بالهوية السردية؟ وإلى أي مدى يسعفنا تصوره للإمساك بالهوية السردية التي يبنيها سعيد بنكراد في كتابه: (وتحملني حيرتي وظنوني) الصادر عن المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2021؟

1ـ مفهوم الهوية السردية:
من المعروف أن مفهوم الهوية السردية يرتبط بالفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005) الذي قدّم محاضرة بهذا العنوان سنة 1987 في إطار اليوم الدراسي الذي خصصته لأعماله المجلّة الفرنسية الشهيرة Esprit. غير أنّ مؤّلف "الذات عينها كآخر" كان قد تحدّث عن الهوية السردية في خاتمة الجزء الثالث من مؤلفه "الزمان والسرد" (1983 ـ 1985)، وقد صدرت الترجمة العربية لهذا الكتاب سنة 2006. ففي الرحلة الختامية في "الزمان والسرد" يَتساءلُ بول ريكور عما إذا كانت هناك تجربة أساسية تدمج بين السّرد التاريخي والسرد الخيالي، مفترضًا أن "الهوية السردية"، سواء أكانت للفرد، أم لجماعة تاريخية، تتعيّن بوصفها هوية الشيء الذي يظل نفسه في التغيير وخلاله، فهي الموقع المنشود لتفاعل السرد والخيال. وبهذا المعنى، تتعين الهوية السردية بوصفها ذلك الضرب من الهوية الذي يكتسبه الإنسان من خلال وساطة الوظيفة السردية(4).

وبحسب ريكور، فإن "السرد يؤلف الخواصّ الدائمة لشخصية ما، هي ما يمكن أن يسميها المرء هويته السردية، ببناء نوع من الهوية الدينامية المتحرّكة الموجودة في الحبكة التي تخلق هوية الشخصية"(5). وعلى هذا الأساس، يمثل الشكل السّردي النموذج الأمثل لبناء الهوية السردية. ومن المعروف أن ريكور فصّل القول في هذا المفهوم في كتابه "الذات عينها كآخر"، الذي نقله إلى العربية اللبناني جورج زيناتي سنة 2005.

من بين الفرضيات الأساسية التي يقوم عليها تصور ريكور للهوية السردية، أن الحياة البشرية تغدو أكثر قابلية للفهم والإدراك حين يتم تأويلها في ضوء القصص التي يرويها الناس عنها، كما أن محكيات الحياة بدورها تصير قابلة لأن تفهم عندما يطبق عليها الإنسان النماذج السردية المستمدة من التاريخ والخيال. فالنماذج السردية هي التي تضفي التماسك والانسجام على الهوية السردية كما تتجلى في السيرة الذاتية مثلًا، حيث يحرص كاتب السيرة الذاتية على منح هويته شكلًا معقولًا ومتماسكًا. ومن هنا، يشدد مؤلّف "صراع التأويلات" على أن بعض الأنواع الأدبية، كالرواية والسيرة الذاتية، تعزز هذا الحدس بقوة.

لنقل إن "الهوية السردية" تقوم على فكرة مفادها أن كل فرد يمتلك نفسه، بل يشكلها في سرد ذاتي متجدد باستمرار. هكذا لا يتعلّق الأمر، إذًا، بقصة موضوعية، وإنما بالقصة التي "أنا" أرويها لنفسي، بوصفي كاتبًا وقارئًا لحياة هي حياتي أنا. وعليه، تتشكل الهوية الشخصية من خلال المحكيات التي تنتجها، وتلك التي تدمجها باستمرار. وعند قيام المرء بالسرد يتم تحويل الـ"أنا" ليس فقط من خلال السردية الخاصة، ولكن أيضًا من خلال المرويات المنقولة عن طريق التقاليد، أو الأدب، مما يؤدي باستمرار إلى إعادة بناء التاريخ الشخصي بأكمله.

إن السرد هو أحد الأدوات الأساسية لفهم الذات والآخر. فالوجود الإنساني، كما يرى الفيلسوف فيلهلم شاب، هو وجود مورّط في السرد. "إن اتصالنا بالعالم هو اتصال موسط بالسرد، فهو لا يتم إلا عبر وساطته. والعالم والقصة التي نحن مورطون فيهما يتقاطعان. لا يوجد العالم إلا في القصص التي نرويها، إنه موجود في القصص التي يكون الإنسان طرفًا أساسيًا فيها، فاعلًا أو منفعلًا"(6). وعلى هذا الأساس، تبدو الهوية السردية، إذًا، ديناميكية وهشة. فهي ليست مستقرة، وليست ثابتة، وإنما هي معرّضة دائمًا لفقدان الاستقرار بسبب التنويعات الخيالية. إنها نتيجة بحث غير نهائي أبدًا، دائمًا قيد الإنشاء (إعادة البناء). وبالتالي فهي تشهد على التوازن غير المستقر بين امتلاك الذات وضياعها. "توجد حياتنا في فضاء من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها إلا من خلال رواية القصص المتماسكة"(7).

وانطلاقًا من مفهوم الهوية الذاتية الذي يجد أساسه في نقد الكوجيطو الديكارتي، وفي فكرة الانفتاح والكائن المقذوف في العالم لدى هايدغر، يقودنا ريكور في اتجاه مفهوم الهوية المرنة والديناميكية التي تحصّن وتحمي ضد خطر العودة نحو الذات المتصلبة التي تُفهم على أنها جوهر ثابت لا يطاله التغيير. وبما أن "الهوية لا تعطى بل تشكّل وفقًا لصراع تأويلات"(8)، فإن الهوية السردية التي هي ليست بالهوية الساكنة، لأنها تستمر في خلق ونقض نفسها، تشكّل هدفًا أخلاقيًا في عصر لم يعد فيه للأصالة من دلالة كبيرة، فهي تنطوي على الانفتاح على الآخر والعالم، وعلى المعاملة بالمثل والاحترام المتبادل، وكذلك الحوار في المجال العام، وغيرها من القيم التي تجعل من الممكن الجدال والتفاوض في السرد وبواسطته، كما يعلمنا هومي بابا(9).

2ـ إعادة بناء الهوية في محكي الحياة
يتميز نصّ "وتحملني حيرتي وظنوني"، للكاتب المغربي، سعيد بنكراد، بالغنى، وبالخاصية الحوارية متعددة الأصوات. فهو ليس مقالًا، ولا هو سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق. إنه نصّ هجين، يجمع بين المحكي الذاتي الذي يتم التركيز فيه على المسار الفكري للمؤلّف، والمؤثرات التي تعرّض لها والتحولات التي مرّ منها، واللوحة الاجتماعية للفئات الشعبية في مغرب الخمسينيات والستينيات التي يرسمها المؤلف للقرية التي عاش فيها، وهي قرية العثامنة، التي تبعد كيلومترات قليلة عن مدينة بركان (شمال شرقي المغرب)، فضلًا عن الظروف السياسية التي عاشها المغرب في عقدي الستينيات والسبعينيات، والصراع الذي طبع العلاقة بين المخزن والحركة اليسارية في هذه المرحلة.

لا شكّ في أن هذا العمل هو سيرة ذاتية فكرية، كما يدلّ على ذلك العنوان الفرعي: "سيرة التكوين"، ويصفه المؤلّف بأنه "بوح فكري" يستند فيه إلى السّرد لتشخيص المعرفة وتحويلها إلى فرجة(10). هذا البوح هو نتاج أو محصّلة نظرة إلى الوراء يسلطها سعيد بنكراد على حياته، متخذًا قراره بالكتابة عنها، أو إدخالها في نصّ أو خطاب يعرّف بها تعريفًا أصيلًا. فالكتابة كما تقول الباحثة التونسية جليلة الطريطر "هي الأداة التي تمكن "المترجم لذاته" من استقراء حياته، وإعادة تركيبها وفق منظور ما بعدي متكامل، تتقاطع فيه أزمنة الحياة كلّها"(11). ورغم أن المؤّلف لا يشير بشكل صريح إلى أن ما يرويه هو سيرة ذاتية، ويشير إلى اسم العلم في الفصل الأول بعنوان: لماذا يبكي سعيد؟ وأيضًا بصورة غير مباشرة في معرض حديثه عن شعوره باليتم، وهو في قاعة الدّرس عندما أشار إليه المعلم: سعيد يتيم(12)، مما يعزّز التطابق بين الـ أنا في السرد، واسم العلم الذي يحمله غلاف الكتاب.

ذلك التطابق الذي عده فيليب لوجون محددًا للنوع وحاسمًا في تصنيف النصوص(13) فإن المقدّمة التي وضعها بنكراد لكتابه، وهي ذات قيمة ميتانصية، لأنها تتخذ من النّص موضوعا لها، تنطوي على قوة تعاقدية، إنها تؤشر إلى ذلك الالتزام الذي يتخذه السارد إزاء القارئ. كما أن إقرار المؤلّف بأن هذا النّص، فضلًا عن المصادفة التي هي وحدها ما جعله يخرج إلى الوجود، قد أتى استجابة لطلب من طالب سعودي، يخرج عمل السيرة الذاتية من سياج الذاتية الذي يؤطره إلى رحابة الاستجابة الجماعية. وهذا الشكل من التدخّل في النص يعدّ سمة مميزة للكتابة عند سعيد بنكراد في هذا العمل السيرذاتي. ومما لا شكّ فيه، كما يقول الناقد عمر حلي، أن "كل نص من نصوص السيرة الذاتية يسائل حدوده داخل كتابته نفسها، كما يلقي الضوء على خيوط تواصله مع قارئه الممكن"(14).

إذًا، بموجب هذه الرؤية الاسترجاعية لتاريخه الخاص، ولذكرياته الراسخة، وأيضًا بموجب ترجمة هذه الذكريات في كلمات، فإن قصّة الحياة تتعيّن ههنا بوصفها إعادة بناء، أو إعادة تشكيل. الكاتب يعيد بناء أو تشييد قصّة حياته متكئًا على المواد التي كانت قبل الكتابة فاقدة للشكّل، أو بكماء، أو خرساء، يمزّقها التنافر(15)، والمعرفة بها ضبابية غائمة مبعثرة(16)، لكن وظيفة التوسّط التي ينهض بها السرد والطريقة الخاصّة في إدراكها واستخدامها واختيارها وتنظيمها، كلّ ذلك يعطيها شكلًا متماسكًا. إن المؤلّف بنكراد يعيش هذه القصّة من جديد بوصفه "قارئ هذه الحياة وكاتبها معًا"، كما يقول مارسيل بروست، كما أنه يفسح لها مجالًا للعيش بشكل مستقل عنه من خلال حياتها في عالم القرّاء المحتملين.

إن عملية التأليف هاته لا تكتمل ولا تكتسب معناها إلا من خلال القارئ. وبما أن السرد يؤلّف بين المتنافرات، وفيه "يتشكّل الفرد والجماعة من خلال الاستغراق في السرود والحكايات التي تصير بالنسبة لهما تاريخهما الفعلي(17)"، فإنه يتعين بوصفه وسيطًا بين الإنسان والعالم، وبين الإنسان والإنسان، والإنسان ونفسه(18). من هنا، يتبيّن أن هوية المترجم لذاته كما نجدها في النّص هي هوية أعيد بناؤها، ولذلك فهي هوية سردية استنادًا إلى التعريف الذي قدّمه ريكور: "الهوية السّردية هي التي تتشكّل على امتداد السرد. إنها ثمرة الحياة الممتحنة بالعناء. والحياة الممتحنة بالعناء هي، في الجزء الأكبر منها، حياة تطهرت وصقلتها آثار التطهير، في السرود والحكايات، سواء أكانت تاريخية، أم قصصية، التي تنقلها ثقافتها"(19).

إن قراءة كتاب "وتحملني حيرتي وظنوني" تمكننا من التعرّف على مسار شخصية أكاديمية ذات شهرة واسعة في الحقل الثقافي العربي. وبينما السّرد في السيرة الذاتية يتركز على الوقائع والأحداث التي أثرت في حياة المترجم لذاته، نلاحظ في السيرة الفكرية تركيزًا واضحًا على الجوانب الفكرية والظروف التي جعلتها ممكنة، حيث يتعرّف القارئ إلى أستاذ ومثقف وسيميائي من طراز خاص، قدّم للثقافة العربية وللحياة الأكاديمية مجموعة من الأعمال التي شاركت بقوة في رسم الانعطافة التي شهدها النقد العربي المعاصر منذ ثمانينيات القرن الماضي.

يعود السارد إلى قرية العثامنة التي رأى فيها النور، وقضى طفولته مع والدته وإخوته من دون الوالد (وكان فلاحًا بسيطًا) الذي رحل باكرًا، وأيضًا مع أقرانه من أبناء القرية. كما يصف المترجم لذاته الحياة اليومية لأقربائه، ولأهل القرية، حيث النشاط الفلاحي هو السائد، بالإضافة إلى عالم الناس البسيط المليء بالرموز والعادات والقيم الإنسانية الإيجابية. ويتركز السرد على مغامرات النجاح الأكاديمي، بدءًا من الولوج إلى المدرسة مصادفة، ووصولًا إلى التتويج العلمي.

إن الكاتب وهو يتلمّس سنوات التكوين الأولى، في مسعى لاستعادة الوسط الذي رأى فيه النور، يأخذ مسافة واضحة. فرغم أنه يجعل من نفسه متحدثًا باسم القرية التي عاش فيها، والناس الذين احتكّ بهم، وتشكّل وعيه بالتفاعل معهم، فإنه يبحث في الكتابة السردية، ومن خلالها، عن الجمع بين العودة إلى الأصل، وإمكانية تجاوزه. وعندما يروي بنكراد قصة حياته، خاصّة النشأة في القرية، والعلاقة مع الأم والإخوة والأقرباء، نلاحظ من خلال هذه الاستعادة كيف تأخذ الذكريات المتعلقة بهذه النشأة موقعًا خاصًا: (الارتباط الشديد بالأم والإعجاب بالأقرباء: العم برمضان وزوجته العمة برنية).

وما نلاحظه ههنا هو أن الذات المركزية للكاتب أقل حضورًا قياسًا إلى الحضور الذي يتميز به العالم الذي نشأ فيه والأفراد الذين يسكنونه. إن القصّة المستعادة في حاضر الكتابة، وهو 2020، زمن كورونا، أي بعد ستين عامًا، أو يزيد، على ولادته، أعطت أهمية خاصّة للجوانب السلوكية، وللمواقف، أكثر منه للمزاج الخاصّ بالمترجم لذاته. لا يعني هذا أن هذا المزاج غائب عن قصّة الحياة، وإنما مرتبط بسياق اجتماعي تاريخي محدد، وبفضاء خاص بعلائقه الاجتماعية هو الفضاء الذي نشأ فيه واحتكّ به خلال أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات.

يقول سعيد: "كنت آخر العنقود، لذلك كنت شديد الارتباط بوالدتي في سنوات عمري الأولى. كنت أتبعها أينما ذهبت، ولا أستطيع تصوّر وجودي من دونها. كنت أجلس بجانبها في الحفلات والأعراس والمآتم. وكانت النساء يتحدثن عن أبنائهن، وعن استعدادهن للحاق بالحقول، وللعمل مع الآباء في الأرض. كان أغلب سكان المنطقة فلاحين صغارًا، أو يعملون في الحقول. وكانت أمي تمسك بأصابعي وتتوجه إلى نظيراتها قائلة: أصابع ابني خلقت للقلم، وليس للفأس، أو المحراث. ولا أعرف لحدّ الآن من أين جاءتها الحكمة. فلا شيء في محيطنا، أو في عائلتنا، كان منذورًا لحياة المدرسة" (الكتاب، ص25).

رغم الصعوبات التي واجهها الطفل، والمحن التي مرّ بها، فقد استطاع أن ينجح اجتماعيًا، قياسًا إلى إخوته، أو أطفال القرية. لقد تغلّب على هذه الصعوبات، وصار أستاذًا جامعيًا في كلية الآداب في جامعة المولى إسماعيل، ومنها انتقل إلى كلية الآداب في الرباط، التي اشتغل فيها إلى أن أحيل على التقاعد قبل سنتين. كثير من المقاطع من نصّ السيرة الذاتية نرى فيها كيف أن سعيد بنكراد يشكّل صورة ذاتية للباحث تختلف عما نجده في مجموعة من السير الذاتية التي غالبًا ما يعمل المترجم لذاته على تكثيف عوامل النجاح فيه هو بمفرده. سعيد بنكراد لا يختزل كلّ الفضل في قصّة نجاحه في شخصه هو لأنه تغلب على العقبات، حتى وإن كان يشير في مناسبات عديدة إلى ذكائه، واعتراف أساتذته بذلك.

هكذا يقوم السّرد بتنسيب هذا النجاح للتأكيد على الدور الهام لتدخلات بعض الناس، سواء في المرحلة الابتدائية، باكتشافه عالم الكتب، وهو الذي ولد في أسرة لم يكن في المنزل التي تقطن فيه جناح للكتب، لذلك سيتعرّف على سحر الكتاب بفضل معلم كان اسمه (العموري البكاي)، وسيجد في أخته خير سند، لأنها كانت تزوده ببعض المال لشراء الكتب، أو في باريس عندما سجلّ في أشهر جامعاتها، وهي "جامعة السوربون/ باريس 3"، أو في المغرب من خلال المبادرات التي قام بها بوصفه باحثًا جامعيًا ومثقفًا، مثل مجلّة علامات، و"أربعاءات الأكاديميا". وهذا التنسيب يتعزز أيضًا بالعتبات التي استهلّ بها السارد قصة حياته، ومنها بيت أبي العلاء المعري الذي يعبّر عن إدراكه استحالة الوصول إلى اليقين، وبالتالي يستبدل بالحدس والظن اليقين. وقد ذكر المؤلف هذا البيت أيضًا في (الكتاب، ص229) في سياق حديثه عن التحولات التي تطاول الإبدالات النقدية، وقول نيتشه الذي مفاده أن اليقين لا يقود إلا إلى الجنون، وبالتالي يستبدل بالشكّ اليقين. وقد ذكره المؤلف أيضًا في نهاية نص السيرة. لعلّ ما يعنيه هذا التنسيب أيضًا هو "أن كتابة المرء لسيرته الذاتية يعني خوض تجربة استحالتها"(20).
لا شكّ في أن تكوين الهوية الفردية يتجاوز مجرد إعادة إنتاج الأدوار الاجتماعية والنماذج التي تحدّد الهوية في بعديها النفسي والاجتماعي. إن وضع الكلمات وكتابة الحياة تنطوي على الذاتية، والهوية التي تقترحها قصّة الحياة تحمل حتمًا علامة التمثيل الذاتي للذات بغضّ النظر عن النية في قول الحقيقة. من هنا نعتقد أن العتبات تعزّز الهوية السردية التي يبنيها المترجم لذاته في هذا النص، وهي هوية تشكّل الرغبة في الحوار والانفتاح إحدى دعاماتها.

يتجلّى هذا النزوع الحواري من المراجعات التي أقرّ بها المترجم لذاته بشجاعة قلّما يجدها القارئ في السير الذاتية العربية، سواء تحدثنا عن المراجعة السياسية والموقف المتخذ من العمل السياسي والنقابي بعد تجربة مهمة ومؤثرة من دون أن يتنازل، أو يتخلى، عن المبادئ والقيم التي تشبت بها، وهو يكتشف العالم ويبني رؤيته الحياتية، وأيضًا النقد الموجه إلى الثقافة السياسية اليسارية التي تطالب بالديمقراطية، وتنتقد خصومها بأنهم غير ديمقراطيين، بينما تغيّبها في تدبير أمورها الداخلية، أو في علاقتها بالآخر، مما فوت على الفاعل السياسي، وعلى حقل السياسة في المغرب، فرصة تدبير الاختلافات بطريقة ديمقراطية منتجة، يعزز فيها الاختلاف وجود الذات والآخر في الآن نفسه، أو النقد الموجه للحقل الذي يشتغل فيه، وهو السيميائيات، خاصّة سيميائية غريماس، والأعمال الأولى التي تولّدت من رحم هذه الخلفية، وأيضًا تأكيده على أهمية التفكير في المعنى في دراسة الظواهر الثقافية والتفكير فيها، بما في ذلك الدين نفسه. وهنا يتجلى الانتقال في مسار الباحث إلى الاهتمام بالتأويليات.

نعتقد أن سعيد بنكراد وهو يتلمس الفجوات في مساره الأكاديمي يشخص واقعًا أكاديميًا عربيًا معطوبًا، برغم التراكمات التي تحققت فيه، وخاصّة عندما ننظر إلى الحاضر ونرى كيف يتراجع النقد، وتختنق الثقافة، وينحسر دور الأدب متأثرًا بالجمود الذي ظلّ يلقي بثقله على صدر الثقافة العربية الحديثة، وأيضًا بسبب جمود المؤسسة الأدبية وسلوكها التقليدي الذي يميل إلى الحفاظ على الوضع القائم في الواقع الثقافي والأدبي، مما يفوّت عليها فرصة الاستفادة مما يجري من حولها في العالم من ضروب التغيّر المستمر الذي يفتح الباب واسعًا لرؤى جديدة وتصورات مختلفة. ومن هذه الزاوية، يشكّل المحكي الذاتي عند بنكراد لحظة مهمة للتفكير في جينيالوجيا الحداثة النقدية في المغرب منذ الثمانينيات التي ارتبط بها طيف واسع من المثقفين والنقاد والباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، في مسعى لمجاوزة معطلاتها، والتأسيس للحوار "الذي كان وما يزال هو المتاح الفعلي لضمان عيش مشترك. (الكتاب، ص218)

يمكن أن نتبيّن من هذا الكتاب الذي يحكي قصّة حقيقية هي قصّة الحياة، لكنه يرويها بطريقة سردية مختلفة، ما يجعلها آسرة، رغم التفاصيل التي تتضمنها، أن الهوية السردية التي يبنيها بنكراد متحدرة من عوامل متعددة يلتقي فيها الاجتماعي بالطموح الشخصي والسياق التاريخي. ويتمّ التعبير عنها من خلال الرّغبة في النجاح، بالرغم من القيود الاجتماعية الضاغطة بسبب الفقر. وهذا ما يبرزه استبطان الطفل لما كانت تعبّر عنه والدته للنساء من أن أصابع ابنها خلقت للقلم وليس للفأس. ورغم إكراهات البيئة الاجتماعية، فإن المترجم لذاته يحترم المعايير الأخلاقية الناظمة لأفرادها، ويعتز بها عندما صار أكاديميًا لامعًا.

إن الهوية الأصل لسعيد يمكن وصفها بأنها هوية مركبة، فهي مزيج من التنشئة الاجتماعية في حضن الأسرة، والشكل الفكري التأملي الذي حققه لنفسه. وهذا المزج هو الذي يجعلنا نقرأ قصة حياته، بوصفها قصّة نجاح فريد ومختلف، لكنّه غير منفصل تمامًا عن معايير وقيم البيئة التي ينتمي إليها. وبخلاف السير الذاتية التي لا يدين فيها النجاح لأي سند اجتماعي، يبين سعيد كيف أنه نجح من دون أن يتنكّر لما امتاحه من البيئة التي نشأ فيها.

تركيب
لا شكّ في أن مفهوم الهوية السردية يظل من المفاهيم الرئيسة التي يمكن للبحث في السرد العربي المعاصر أن يستفيد منها، خاصّة في دراسة المحكيات الروائية والسيرذاتية، وتلمس الهويات السردية الفردية والجماعية التي تعبّر عنها مجموعة من النصوص، بالإضافة إلى ضروب هذه الهويات والقيم التي تنطوي عليها. ويمكن أن نلاحظ من خلال العديد من الدراسات كيف يفتح هذا المفهوم آفاقًا واعدة لاستكشاف العلائق المعقدة والجوهرية بين الإنسان وما يحدث له في الحياة.

ففي دراسة عميقة للباحث الروماني، توماس بافيل(21) حول رواية "مولوي" للكاتب الإيرلندي صامويل بيكيت، يبيّن انطلاقًا من بطل الرواية مولوي، المتشرد الذي يبحث عن أمه، لكنّه في الجوهر لا يبحث سوى عن نفسه، يَعبرُ المدينة، فيوقفه ضابط الشرطة طالبًا منه الأوراق التي تثبت هويته: "آه أوراقي. لكنّ الأوراق الوحيدة التي في حوزتي هي القليل من أوراق الصحف لأعتني بنفسي. تفهمون. حين أذهب إلى الحمام. أعشق القيام بذلك كلما أمكن. إنه أمر طبيعي. أليس كذلك؟ مذعورًا أخرجت الأوراق ودسستها تحت أنفه"(22).

لكن مولوي لا هوية له، كما تقول الرواية، وكما يخبر هو بوصفه ساردًا بضمير المتكلم، إنه لا منتم، ويشعر أنه في غير مكانه، لكنّه عندما يتحدث عن نفسه، أو يخبر بما يعرّف به، فإنه يستكشف أشياء أخرى مخبأة في أعماق وجوده. إن ما يعبّر عنه السرد من وجهة نظر توماس بافيل، وما يؤسسه هو هذا النوع من السرد الذي ليس سوى المظهر النفسي للشخص أو، على الأصح، الصورة الذاتية النفسية، وهي صورة ذاتية تتغير في كل مرة تنبهر بها الاكتشافات الجديدة في أعماق الذات والماضي.

 

هوامش وإحالات:

(*) قدمت هذه الورقة عبر تطبيق زوم في ندوة "الهوية السردية" التي نظمتها وحدة السرديات بجامعة الملك سعود، وقسم اللغة العربية وآدابها، بتاريخ 19/ 5/ 2022.

1- فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، منشورات ضفاف، بيروت 2013، ص161.
2- من بين الأعمال التي استفادت من جهود بول ريكور، وخاصّة تصوره للسرد والهوية السردية في دراسة السردية العربية الحديثة يمكن الإشارة على سبيل التمثيل إلى دراسة الباحثة التونسية جليلة الطريطر بعنوان: مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي (2004)، ودراسة الباحث البحريني نادر كاظم بعنوان: الهوية والسرد (2016)، ودراسة الناقد العراقي عبد الله إبراهيم: السرد والاعتراف والهوية (2011) ومحمد الداهي في دراسته: السارد وتوأم الروح (2021).
3- فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح، ص159.
4- بول ريكور، الزمان والسرد، ترجمة سعيد الغانمي، الجزء الثالث، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2006، ص251.
5- المرجع نفسه، ص260.
6 - Cécile de Ryckel, Frédéric Delvigne, La construction de l’identité par le récit, Psychothérapies, 2010, N° 4, p. 230 Psychothérapies, 2010, N° 4, p. 238.

7- فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح، ص174.
8- ـ Homi K. Bhabha, Les lieux de la culture Une théorie postcoloniale, Traduit de l’anglais par Françoise Bouillot, Editions PAYOT, Paris2019.
9- وتحملني حيرتي وظنوني، ص9.
10- جليلة الطريطر، مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي، مركز النشر الجامعي، تونس 2004، ص673.
11- وتحملني حيرتي وظنوني، ص32.
12- عمر حلي، البوح والكتابة، منشورات مجموعة البحث الأكاديمي في الأدب الشخصي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكادير 2001، ص91.
13- المرجع نفسه، ص91.
14- نادر كاظم، الهوية والسرد، دراسات في النظرية والنقد الثقافي، دار الفراشة للنشر والتوزيع، الكويت 2016.
15- جليلة الطريطر، مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي، مركز النشر الجامعي، تونس 2004، ص242.
16- ـبول ريكور، الزمان والسرد، ترجمة سعيد الغانمي، الجزء الثالث، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2006، ص251.
17- المرجع نفسه، ص372.
18-  نادر كاظم، الهوية والسرد، ص8.
19- بول ريكور، الزمان والسرد، ص370.
20- عمر حلي، المرجع نفسه، ص222.
21-  Thomas Pavel (Université de Chicago), « Suis-je un récit ? Réflexions sur la notion d’identité narrative », Fabula / Les colloques, L’héritage littéraire de Paul Ricœur, URL : http://www.fabula.org/colloques/document1889.php, page consultée le 04 avril 2022
22- صامويل بيكيت، مولوي، ترجمة محمد فطومي، دار المدى، بغداد 2018، ص25.

 

عن (ضفة ثالثة)