هذه مقالة ثانية تنعي لنا الكاتب السوري المرموق خيري الذهبي، وتكشف عن جوانب مهمة من مسيرته، الفكرية والأدبية والسياسية من ناحية، وعن الكثير من مواقفه وإنجازاته في مختلف الأصعدة من ناحية أخرى، ونتعرف عبرها على مدى الخسارة الفادحة التي لحقت الثقافة العربية بموته بينما كان في جعبته الكثير.

خيري الذهبي .. وداعا!

رواياته زاوجت رؤيةَ الأسلاف بعلوم الغرب وفنونه

عمر شبانة

 

مع خيري الذهبي، يعني أنّنا مع روائي متفرّد، وحيال مثقّف رفيع الشأن متعدّد مصادر الثقافة، العربية والغربية، وهو ذو إطلالة واسعة ومعمّقة على تاريخ العالم وحضاراته وثقافاته، آدابه وعلومه وفلسفاته، ومُولع حدّ الولَه بتاريخ سوريّة وفلاسفتها الحاملين أسماء يونانيّة، خصوصًا الفيلسوف الشاعر والروائيّ، لوقيانوس السميساطي (مدينة سميساط على الفرات، شمال سورية)، مع كتابه "مسامرات الأموات، واستفتاء ميت"، الذي سبق المعرّي و"رسالة الغُفران"، وسبق دانتي في صعوده للسّماء. ويعده خيري الروائيّ الأول في التاريخ، وليس سرفانتس، ولا "دون كيخوته".

عمّان التي جاءها "لاجئًا" من الرعب وتهديدات بالقتل لم تكن ملائمة لروحه الشاميّة، بطيورها ونباتاتها وأزهارها التي يحفظ أسماءها غيبًا. أقام معنا سنوات قليلة، مع ابنه الفارس لمدّة، ثم جاءت زوجته أمّ الفارس وظلّت معه حتى رحيلهما إلى باريس وريفها. وفي عمّان، كان ثمّة القليل من الأصدقاء السوريّين والأردنيّين يزورونه فيسهرون وبينهم الشأن السوريّ، يتابع ما يجري في العالم، ويمتلك القدرة على التحليل، وربط حوادث الحاضر بحوادث الماضي والحكايات التي يجيد سردها شفاهةً كما كتابة. ورسالته للجميع الثورة والتحرّر.

رحيل خيري الآن، وبالحال التي رحل عليها، خسارة كبيرة للأدب والثقافة السّوريّين والعربيّين. فبعيدًا عن حيّ القنوات الذي ولد فيه (1946) في دمشق/ه القديمة، وشام/ه الأليفة، وبعيدًا حتّى عن بيته في حيّ ركن الدين، حيث كنّا نزوره (البيت الذي تعرّض للاعتداء والنّهب). يرحل خيري بعيدًا عن مقهى الروضة (شارع العابد في صالحية الشام)، حيث كانت لقاءاتنا (وقتَ إقامتي في دمشق ـ مخيّم اليرموك 1997 ـ 2000)، أو مطعم "لاتيرنا" في الصالحية، حيث نتعشّى ونحتسي المُسامرات مع حكاياته التي بلا نهاية، بعيدًا عن هذا كلّه، وغيره كثير، لم يعُد هو خيري، لكنّه يرحل تاركًا تراثًا أدبيًّا لا يمّحي مع الزمن. ومن هنا نبدأ الترحال مع سيرته ومسيرته.

قبل "التحوّلات".. وبعدها
لعلّ من أبرز المحطّات التي رسمت معالم مشروعه الروائيّ، وحدّدت ملامح مسيرته الأدبيّة عمومًا، ثلاثيّته الروائيّة التحوّلات (The Metamorphosis، فقد شكّلت هذه الثلاثية: حسيبة، فيّاض، وهشام: أو الدوران في المكان، نقلة نوعية كبيرة في تجربته، مع ما كان يحبّ أن يسمّيه الرواية التي تتكئ على التاريخ، أو تستثمر التاريخ، وموهبة الحفر في المكان، ويسمّيه البعض "الحفر الروائي في التاريخ"، وما أسمّيه "الرواية التي تقرأ التاريخ القديم والمعاصر"، لكنها ليست رواية تاريخية بالمفهوم المتداول الذي نعرف .. وللذهبي في هذا الإطار تنظيرات وقراءات خاصة جمعها كتابه "محاضرات في البحث عن الرواية" (2016).
كانت هذه الرواية ـ الثلاثيّة، التي قرأتُ ما كان صدر منها (حسيبة 1987، وفيّاض 1989، و"هشام" صدرت أواخر التسعينيات) فاتحة تعرّفي شخصيًّا على هذا الروائيّ السوريّ العربيّ، يوم (19 كانون الأول/ ديسمبر 1989)، بعد تشييع جثمان الروائيّ الأردنيّ غالب هلسا من دمشق إلى عمّان، وعلاقة شخصيّة استمرّت ما بين عمّان ودمشق، حتى اليوم، رغم انقطاعات في التواصل بعد رحيله إلى فرنسا، الرحيل الذي شعرتُ أن خيري يبدو مُكرَهًا عليه، وشعرتُ أعمق بأنه لن يعود منه هو الذي بات يعاني أوجاع الجسد والروح كما لم أعرفه من قبل، وغالبًا فإنّ ما جرى للثورة السورية من انكسارات، كان السبب الأساس في هذه الأوجاع، بل في هذا الرحيل الفاجع والمبكر (76 عامًا).

قبل "الثلاثيّة"، كانت كتابات خيري لا تزال في طور التجريب، لكنّه منذ البداية تجريب خاضع لوعيٍ روائيٍّ خاصّ، كان يبحث عن شكل أصيل للرواية العربية، وكما يقول في مقال له منشور في كتابه "محاضرات في البحث عن الرواية"، إنّ علينا ابتكار روايتنا العربيّة الخاصّة "مستفيدين من الأشكال التي قدّمها الأجداد، ومن العلوم التي قدّمها الغرب المعاصر، من استخدام لعلم النفس، وعلم دراسة أصول الأجناس، بالإضافة إلى سكب هذا كله في إطار رؤية سياسية مستقبليّة واضحة".

ففي "ملكوت البسطاء" ولج باب "قراءة التاريخ روائيًّا"، خصوصًا تاريخ الدولة العثمانية. كما كانت له رؤيته الأدبية تجاه التراث، حيث تظهر في مجموعته القصصية الوحيدة "الجدّ المحمول"، بما يعنيه حمل (الجدّ وهو هنا هيكل عظميّ) مجسّدًا أعباء التراث، وما يحيل إليه من إشكالات وأسئلة. وحتّى في ثلاثية "التحوّلات"، حيث تحضر مقاومة الاحتلال الفرنسيّ، ونجد في الجزء الثاني "فيّاض"، خصوصًا، الاهتمام بالتاريخ من خلال الوقوف المتأمّل والعميق على قلعة "شيزر" وكتاب أسامة بن منقذ "الاعتبار". ويتواصل هذا الانهماك بالتاريخ والهجس به حتّى رواية "المكتبة السريّة والجنرال"، من خلال رصد تاريخ دمشق، عبر مكتبة آل اليازجي ـ الترجمان، وربط ماضي المدينة بحاضرها.

المكتبة السريّة والجنرال"
هذه الرواية (صدرت في عمّان عام 2018) هي نتاجُ سنوات طويلة من التأمّل والتفكير في ما آلت إليه سورية خلال أربعين عامًا من حكم آل الأسد، باسم حزب البعث. لكنّها تفجّرت كعمل روائي مع "الثورة السورية"، فحملت كثيرًا من ملامح هذه المرحلة ـ الثورة ومآلاتها. كما كانت (الرواية) مثار جدل بيني وبين خيري، وخصوصًا عنوانها الذي اتّخذه خيري ابتداء "المكتبة المقاتلة"، وعناوين تداولناها مثل "المكتبة المتاهة والديكتاتور/ أو الجنرال"، وغيرها. وخيري كاتب يسمح لك بمناقشته حتّى النهاية، لكنه هنا كان يصرّ على عنوانه، فهو يراها مقاتلة، بما هي تعبير عن تاريخ وتراث سوريّين ـ دمشقيّين عريقين مُهدَدَين بالإبادة، وجرى بيننا جدل كبير، ثمّ استقرّ الرأي على العنوان الذي صدرت به. فما سرّ هذه المكتبة، وما علاقتها بالجنرال، أيّ جنرال؟ ولماذا يريد مصادرتَها وإخضاعَها، أو حرقَها؟

هذه المكتبة، في الأساس، ليست مجرّد مكتبة، بل "ذاكرة بحجم مدينةٍ، متخفّيةً مستترة تحت الأرض، وخلف الجدران الساذجة"، وهي أيضًا تعبير رمزيّ عميق عن دمشق، بتراثها ومخزونها الثقافيّ والحضاريّ، والأهمّ هو وجود كتاب فيها يُدعى "الجَفر"، يتنبّأ بأن "الطائفة" الحاكمة سينتهي حكمها عند السنة الأربعين، لذا فالجنرال يريد هذا الكتاب، وهو يخاطب أحد أفراد عائلة اليازجي ورثة المكتبة، بقول مباشر يعكس ما جرى ويجري اليوم في سورية تحت شعار "الأسد أو نُحرق البلد"، يقول الجنرال لليازجي وهو يحقّق معه "المكتبة … كنوزُكم التي تعتزّون بها … إمّا أن تستسلم لنا فنتبنّاها، أو نحرقها حتى الرماد … هل فهمت؟ نحرقها". وبعد كثير من المطاردة والملاحقات لورثة المكتبة، من قبل الجنرال وأزلامه، تنتهي هذه "الكنوز" بغارة من الطيران الروسيّ "تحرقها حتّى الرماد"، تمامًا كما هدّد الجنرال!

التدريب على الرعب
وبالوقوف مع كتابه "التدريب على الرعب" (صدر في دمشق 2004، وسلّمني قبل رحلته الفرنسية الأخيرة نسخة Word منه، لإعادة نشرها في طبعة جديدة من دار "العائدون للنشر"، ومعه سلّمني مخطوط كتاب بعنوان "التدريب على الحياة"، ولا أدري إن كان قد صدر من قبل)، نجد خيري يلتقط، عبر قراءاته وتأمّلاته، التقاطات ذكية ولمّاحة، ومرعبة في الآن نفسه، من ذلك هذه الوقفة: يقول ابن الأثير وهو يستغفر ويسترحم ويتمنى لو أن بطن الأرض ضمّه فلم يعش ليشهد مأساة كهذه:
"
وكان تتريٌّ سكران قصير أعزل يمشي في ميافارقين المهزومة المستسلمة، فطرق باب مسجد فوجده محتشدًا بالرجال المذعورين المهزومين المرتجفين المستسلمين لقدرهم، نظر إليهم، وكانوا عشرات أو مئات ... فصرخ بهم التتريّ، فركعوا يطلبون الرحمة، فأمرهم بالاستلقاء ليذبحهم فاستلقَوا يستعدّون للذبح. بحث عن سكّين، سيف، نصل، فلم يجد، فأمرهم بالبقاء هكذا مستلقين حتى يعود بالسلاح. ويقول ابن الأثير: المرعب المُؤسي، ممزِّق القلب أنهم ظلّوا مستلقين على الأرض لم يحاولوا الدفاع، لم يحاولوا الهرب، لم يحاولوا شيئًا، ينتظرون عودة ذابحهم ومعه سلاح الذبح".

وفي الكتاب نفسه، وبعد رسم مشهد الدجاجات عند ذبح واحدة منها "صراخ وقوقأة وهرب وذعر. اللحام يذبح الفرّوج، يضعه في النتّافة. الزبون ينسحب، الدجاج يتوقّف عن القوقأة، ينحني على طعامه الملوّث، يأكل، ينسى صراخ الدجاجة الذبيحة، تعود الأمور إلى طبيعتها"، فيستحضر خيري عام النكبة (1948)، قائلًا: حدّثونا عن مذبحة دير ياسين، فاقشعرّت أبداننا وصرخنا، وقوقأنا، وأقسمنا على الثأر، ثم ابتعدت اليدُ الملوّثة بالدم قليلًا فصمتنا عن القوقأة، ثم غرِقنا في معالِفنا ومناكِحنا، وكلّ منّا يُتمتم بينه وبين نفسه: الحمد لله لقد نجوت هذه المرّة..".

ويواصل التساؤل: "الذابحون في صبرا وشاتيلا، الذابحون للأسرى في سيناء، أولئك الذين أمروا "دجاجاتهم" بحفر قبورهم بأيديهم قبل ذبحهم .. يا إلهي .. ما الذي حصل لهؤلاء الناس فجعلهم لا يحاولون حتى نقْر عدوّهم القادم لذبحهم. أيّ رعب، أيّ استسلام. أيّ تدريب طويل تم بينهم وبين حكّامهم، جلّاديهم لسنوات، لعقود، لقرون، أُجبِروا فيها على الانحناء، على التسليم، على الإيمان بحقّ الحاكم؟".
300
يوم في سجون إسرائيل
ونختم مع كتابه الأخير (ربّما هو الأخير، إذ لم يُطلعني على غيره بعد ذلك، فقد فتَرت همّته وحماسته في آخر تواصل معه منذ آذار/ مارس الماضي)، الذي حمل عنوان "من دمشق إلى حيفا: 300 يوم في إسرائيل" (حاز جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات، وصدر عن دار المتوسط ـ روما، ودار السويدي، أبو ظبي)، وفيه قصّة اعتقاله وهو ضابط "لفتنانت" في قوّات حفظ السلام على الحدود بين سورية والكيان الصهيوني في حرب تشرين 1973، لكنّه يعود فيه إلى محطّات سابقة من حياته قبل الخدمة العسكريّة. يروي كثيرًا من صور وحوادث التحقيق والتعذيب، ويشرح كيف حاول المحقِّقون "توظيفه" جاسوسًا، أو على الأقلّ استغلال كونه كاتبًا ومثقّفًا كي يكون وسيطًا مع النظام السوريّ، وتفاصيل مهمّة كثيرة، من بينها تخلّي الأمم المتحدة عنه، وهو أحد أفرادها، وكذلك تخلّي النظام السوري، في وقت كان يمكن مبادلته بأسرى إسرائيليّين لدى سورية.

لكن، من بين الأفكار المهمّة في الكتاب، ننتهي إلى فكرة يردّدها ضابط المخابرات الإسرائيليّ الذي يتولّى التحقيق معه، محذّرًا إيّاه من مغبّة الاستمرار في عدائه لإسرائيل. "الكولونيل يقول بصوت متعَب: لفتنانت: أحبّ أن أحذّرك، فأنت لو احتفظتَ بكل هذه الكراهية ضد إسرائيل، فستُعاني كثيرًا في حياتك، ليس على يد الإسرائيلّيين، ولكن على يد حكومتك نفسها!".

 

عن (ضفة ثالثة)