يرى الناقد المصري أن الأمر يبدو وكأن النخبة الحاكمة قد استشعرت أنه من المتعذر إعادة تخطيط القاهرة، أو معالجة مشكلاتها الحضرية، أو تجنب ما يكمن فيها من مخاطر. ومن ثم فالحل هو تركها بالقاطنين فيها ومشكلاتهم ومشكلاتها يلقون مصيرهم معًا. لا سبيل، إذًا سوى استراتيجية الإزاحة والتباعد والمُمَاسَفة.

تأملات حول مدن السور والعاصمة الإدارية الجديدة

طارق النعـمان

 

إن قاطني مدن السور ينتقلون من فضاء هيتروتوبي، إلى فضاء هيتروتوبي آخر على مدار أيامهم، إذ يخرجون من مدنهم المُسوَّرة الحصينة، في سياراتهم الفارهة المكيفة بنوافذها المعتمة والمغلقة هي الأخرى، يمخرون بها عباب التلوث، متجنبين هواء المدينة الفاسد وضجيجها الموتِّر، ليذهبوا إلى شركاتهم أو مكاتبهم الخاصة الموجودة بدورها في أبراج أو بنايات حصينة يحميها أفراد أمن يتبعون  شركات الأمن الكبرى في المدينة، وحين يغادرون سياراتهم ينتقلون إلى المصاعد، أي إلى فضاء هيتروتوبي آخر، ومنها إلى مكاتبهم المغلقة المكيفة ليلاقوا مستخدميهم أو بعض نظائرهم ممن يقطنون نفس العالم وينتمون إلى نفس الطبقة، كما أنهم في غير أوقات العمل غالبًا ما لا يغادرون الفضاءات الهيتروتوبية، إذ إنهم إمَّا في نواديهم الخاصة الملحق بعضها بمدنهم أو المنفصلة عنها، أو في اجتماعات داخل قاعات بعض الفنادق، أو يتزاورون فيما بينهم داخل مدينتهم، أو منتقلين من مدينتهم إلى مدينة أخرى شبيهة أو مثيلة من مدن السور، أو في البارات والملاهي الخاصة بهم، أو في سينماتهم التي هي أحلى على حد تعبير إحدى المعلنات عن مشروع مدينتي، أو أنهم في مدنهم الأخرى في الساحل الشمالي، أو في العين السخنة أو الجونة في الغردقة، أو في يخوتهم أو طائراتهم الخاصة، أو يمارسون التزحلق على الماء. أما أبناؤهم وبناتهم، فهم إمَّا في مدارس داخل هذه المدن ذاتها، أو في جامعات على أطراف هذه المدن وبجوارها، أو في النوادي والملاعب التابعة لتلك المدارس والجامعات، أو في المولات أو سينمات هذه المدن أو سينمات الفنادق أو سينمات المولات، أو يقضون عطلهم مع أهاليهم في مدنهم الساحلية المُسوَّرة أيضًا هي الأخرى، أو في هيتروتوبيات أخرى خارج البلاد. من هيتروتوبيا إلى أخرى، ومن فضاء هيتروتوبي إلى فضاء هيتروتوبي آخر.

لقد اختلفت صورة أبناء هذه الطبقة عن تلك الصورة التي رسمها أحمد فؤاد نجم في قصيدة التحالف لتنابلة حي الزمالك؛ حيث يقول:

یعیش التنابله

في حي الزمالك

وحي الزمالك

مسالك مسالك

تحاول تفكر تهوب هنالك

تودر حیاتك

بلاش المهالك

لذلك

إذا عُزت توصف حیاتهم

تقول الحیاة عندنا

مش كذلك

وممكن تشوفهم في وسط المدینة

إذا مر جنبك

أتومبیل سفینه

قفاهم عجینه

كروشهم سمینه

جلودهم بتضوي

دماغهم تخینه

سنانهم مبارد تفوت في الجلید

مافیش سخن بارد

بیاكلوا الحدید

ما دام نهر وارد

وجاي م الصعید

تزید الموارد

كروشهم تزید

وتسمع وتسلم

بأن التنابله

أو الأكَّالین

حیسمح كبیرهم

و یعمل مقابله

مع الفلاحین

ویحصل تحالف

ما بین الجمیع

و نملا المصارف

بدم القطیع

أطیع الخلیفه

أطیع التنابله

دا مفروض علیك

وتزرع وتبعت لحي الزمالك

وحي الزمالك

مسالك مسالك (استنزاف المدينة للقرية)

تحاول تفكر تهوب هناك

تودر حیاتك

بلاش المهالك

لذلك

إذا حد جاب لك سیرتهم

تبسمل تكبر

وتهتف كذلك

ویعیش التنابله

یعیش یعیش یعیش

یعیش أهل بلدي

لم تعد الزمالك ونظائرها من أحياء أخرى مثل جاردن سيتى وسواها مما كان يطلق عليها منذ الحقبة الاستعمارية الأحياء الراقية، بمن فيها من بقايا إقطاعية وأرستقراطية تنتمي إلى العصر الملكي ممن تتضخم ثرواتهم من عرق وجهد الفلاحين تناسب طموح وأذواق وثروات طبقات عصر الانفتاح، وما بعد عصر الانفتاح التي تضخمت إلى حد مذهل وأصبحت تتطلب أشكالاً أخرى من الاستثمارات العقارية، أشكالاً أكثر أمنًا مما تتيحه القاهرة بكل ما فيها من مخاطر محتملة ومرتقبة. لقد ضاق فضاء المدينة العجوز على ثروات هؤلاء الأثرياء الجدد وأصبحت تتطلب فضاءات أخرى أكثر اتساعًا وأمنًا وحماية، أكثر جمالاً ونقاء وابتعادًا عن عيون المتطفلين والحاسدين. كما لم يعد أبناء تلك الطبقة في احتياج أو حاجة للتودد أو حتى إلى التواصل مع عمالهم ومستخدميهم على هذا النحو الذي يُصوِّر فيه أحمد فؤاد نجم علاقة التنابله بفلاحيهم، والتي يبدو فيها التنابلة وكأنهم يتوددون إلى أولئك الفلاحين، ولو حتى على سبيل الخداع، من أجل المزيد من استغلالهم. لا لم تعد الصورة على هذا النحو لقد تغير المشهد، وأصبحت حتى رؤيتهم في قلب المدينة متعذرة ونادرة، يمكنك أن ترى الأتومبيلات السفينة، نعم، ولكنهم محجبون داخلها وراء نوافذها المُعتمة، ثم هم في حصونهم الحصينة هناك على أطراف المدينة، في مدنهم الخاصة، ووراء بواباتها وأسوارها المنيعة. كما لم تعد الغالبية من أبناء هذه الطبقة من ذوي الكروش السمينة على هذا النحو الذي كان عليه تنابلة نجم، بل أصبحت لديهم ثقافة جسدية مغايرة مستمدة من وعي تلك الطبقة العالمية الجديدة بضرورة رعاية وصيانة أجسادها، ومن مشاريع الصالات الرياضية المُعمَّمة على مستوى العالم والملحقة بنوادي ومدن هذه الطبقة، ذلك أن صيانة تلك الأجساد تعني ضمن ما تعني صيانة أموالهم. كما لم يعد قلب المدينة كما تشير قصيدة نجم هو المجال الحيوي لأبناء هذه الطبقة على نحو ما كان للأرستوقراطية القديمة، بل إن مفهوم قلب المدينة، أو وسط البلد، ذاته قد اختلفت دلالته عما قبل، ولم يعد له ذلك البريق الذي كان له قبل صعود طبقة ما بعد الانفتاح. إذ تراجعت مكانة وسط البلد تراجعًا شديدًا، ولم تعد لها تلك الدلالات الساحرة التي كانت لها على مدار عقود عديدة ولم تعد تمثل الفضاء المثالي لأبناء تلك الطبقة أو الفضاء المشترك الذي كان يجمع في رحابه بشرًا من كل الطبقات، لقد أصبح وسط البلد فضاء للطبقة الوسطى والطبقات الدنيا والفقيرة. أما أبناء مدن السور فلهم فضاءات أخرى، بعيدة عن ذلك الفضاء.

هكذا ينتقلون من فضاء آخر إلى فضاء آخر سواه، من هيتروتوبيا إلى هيتروتوبيا أخرى، وهكذا تصبح المدينة بالنسبة لقاطني هذه المدن هي الفضاء الآخر، وتصبح الهيتروتوبيا بالنسبة إليهم هي الفضاء الاعتيادي، الحميم المألوف، وكأنهم قد أصبحوا خارج المدينة تمامًا، وكأنهم قد أزاحوا المدينة وأقصوها بمن فيها. وحتى حين يحدث، ونادرًا ما يحدث، ويتحركون فيها، في المدينة، تتحرك معهم فضاءاتهم الأخرى، مدنهم الأخرى، أسوارهم الحصينة، تتحرك معهم هيتروتوبياتهم، أو يتحركون هم بها وفيها. وبهذا المعنى تنقلب الفضاءات، وتنقلب أدوارها؛ فتصبح فضاءات المدينة الاعتيادية، بالنسبة إليهم، هي الهيتروتوبيا، هي الفضاء الآخر، وتصبح الهيتروتوبيات هي أماكنهم الاعتيادية المألوفة والحميمة. وفي مقابل هذا الانتشار اللافت للفضاءات الهيتروتوبية، تتراجع الفضاءات العامة وتتقلص، فلا يبقى منها سوى الشوارع، وبعض الميادين الصغيرة النائية؛ إذ أصبحت هذه الأخيرة تشكل خطرًا؛ مما فرض تصغيرها وتحويرها ورقابتها ونشر قوى الأمن على أطرافها وآلات التصوير من  فوقها. كما لم تعد الجامعات تمثل فضاءات عامة وإنما تقلَّصت هي الأخرى لتصبح فضاءات ذات طابع تكنوقراطي خالص، تتناثر فيها الكاميرات في كل مكان، ويتناثر فيها المخبرون من كل الفئات أساتذة وطلابًا، إلى جانب قوى الأمن، وحُرَّاس البوابات بالمعنى الحرفي وبالمعنى المجازي. مثلما يتراجع الطابع العام للمدرسة في ظل خصخصة التعليم، وخصخصة الرياضة، إذ تتراجع المدارس الحكومية لصالح المدارس الخاصة المحلية، والعالمية: البريطانية والأمريكية والفرنسية والألمانية؛ مدارس تُدفَع رسومها بالدولار والاسترليني واليورو، مدارس هي عبارة عن هيتروتوبيات بكل معنى الكلمة، بملاعبها ومطاعمها ومعاملها، وعياداتها، ومسارحها وسينماتها، مدارس أشبه ما تكون بعالم مواز لعالم مدن السور.

كما تتراجع مراكز الشباب والساحات العامة لصالح النوادي الخاصة، والصالات الرياضية الخاصة المعروفة باسم الجِّم، مثلما تتراجع وتنزوي قصور وبيوت الثقافة لصالح مشاريع ثقافية خاصة سواء على أرض الواقع مثل ساقية الصاوي، أو عبر الفضاء الإلكتروني. كما تحتل نوادي الهيئات السيادية وبعض النقابات والمؤسسات بأسوارها ضفاف النيل من الجانبين، بما يحرم من لا ينتمون إلى هذه القطاعات من إمكانية أن يأنسوا بالنيل، أو أن يصحبوا النيل، أو أن يصحبهم النيل في سيرهم، كما كان يحدث من قبل. هكذا تتمدد الأسوار في المدينة، وكأنها تحاصرها، فالأسوار لم تعد كما كانت على أطراف المدينة لتحميها، وإنما في داخل، وفي قلب المدينة، وكحد فاصل بين قاطني تلك المدن وقاطني هذي المدينة، لم تعد الأسوار من أجل حماية المدينة وإنما من أجل إزاحة المدينة وإقصائها لصالح طبقة بعينها، وجماعات مُحدَّدة لها امتيازات ليست لسواها. كما يُساهِم في تحجيم وتقليص المجال العام أو الفضاء العام الانتشار المتزايد للتقنيات الرقابية، وتناثر آلات التصوير والتسجيل في الفضاء العام؛ الأمر الذي يُخَلْخِل ويُربِك مفهوم الفضاء العام ذاته، ويُحِد من إمكانية حركة الأفراد والجماعات داخل هذا الفضاء. ناهينا عن قانون الطوارئ الذي يمثِّل قيدًا آخر وتقليصًا إضافيًا للفضاء العام وإمكانية الحركة فيه، والذي ظل يحكم البلاد على مدار أربعة عقود متصلة.

بل إن هذه الإزاحة للمدينة قد بلغت ذروتها واتخذت شكلها الأقصى في إنشاء مدينة أخرى بديلة، تنوب عن العاصمة التاريخية للبلاد، مدينة لا تُخفي منافستها الصريحة لتلك المدينة، بل على العكس تعلن تفوقها وتميزها المبدئي على هذه المدينة العجوز، مدينة تسم نفسها بالجدة وبأنها مقر الحكم الجديد، ألا وهي ’’العاصمة الإدارية الجديدة‘‘، وهنا تبدو التسمية نفسها موضع سؤال وتساؤل، لماذا لم تتم تسمية هذه المدينة الجديدة؟ ولماذا يستبدل بتسميتها وسمها بالوظيفة وأنها مجرد مقر للمؤسسات الإدارية للدولة؟ وهل هي فعلاً مجرد عاصمة إدارية فقط، ولن تكون عاصمة سياسية ومقرًا للحكم، أي هل هي فعلاً مجرد تجمع إداري، على نحو ما قد يوحي هذا الاسم الوظيفي الطويل نسبيًا؟ إن المدن في الغالبية العظمى تُسمَّى بكلمة واحدة القاهرة، بغداد، بيروت، دمشق، الخ فلماذا مثلاً لم يُطلق على هذه المدينة الجديدة لفظ واحد فقط ليكن مثلاً ’’الظافرة‘‘ أو حتى ’’المحروسة‘‘ اسم التدليل القديم للقاهرة والمُحمَّل بدلالات التمني والحب والدعاء والتفاؤل، أو أي اسم آخر سوى ذلك؟ لماذ هذا الاسم الطويل الثقيل؟ والمُؤلَّف من ثلاث كلمات: العاصمة، مما يعني أن ثمة تحولاً عن العاصمة السياسية التاريخية على مدار القرون، ثم وصفين وصف يبدو وكأنَّه يُلطِّف من صدمة إطلاق لفظ العاصمة على غير القاهرة، في ظل كل ما لها من رصيد وجداني على الصعيد الوطني والإقليمي والعالمي، وهو وصف ’’الإدارية‘‘، وكأنه يقول ضمنًا إن القاهرة لن تُسْلَب منها كل أدوارها، وكأنها ستظل عاصمة سياسية واقتصادية، وأن المكان الآخر، ليس إلا من قبيل التخفيف عنها، عن القاهرة فحسب، ثم لدينا بعد ذلك وصف ’’الجديدة‘‘ الذي يشير ضمنًا إلى أن ثمة عاصمة أخرى قديمة، على الضد من العاصمة الجديدة، هي القاهرة إلا أنها قد شاخت وعجزت، وكأنها لم تعد صالحة كيما تكون العاصمة.

أما فيما يتعلق بثقل الاسم وطوله فإنه غالبًا ما سيتم اختزاله في التداول اليومي إلى مجرد العاصمة وسيُحذف الوصفان التاليان لاحقًا. هكذا يبدو هذا الاسم الثلاثي لهذه المدينة الأخرى مُرتبِكًا، وكأنه يحاول أن يُخفي شيئًا ما، يبدو وكأنه يريد أن يزيح القاهرة عن مركزها، ما لم نقل أن ينبذها ويدفعها إلى الظل، إلا أنه في الوقت ذاته ولأسباب عديدة يخشى من إعلان هذا صراحة، بحكم كل ما لها من تاريخ وثقل، قاهرة المعز، قاهرة صلاح الدين، والملك الصالح، وشجرة الدر، وقطز وبيبرس، قاهرة محمد علي، واسماعيل، قاهرة مصطفى كامل، ومحمد فريد، قاهرة ثورة 19 وسعد زغلول، قاهرة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، قاهرة عبد الناصر، وعبد الحليم وصلاح جاهين، قاهرة حداد نور الخيال وصنع الأجيال والمسحراتي، قلب العروبة النابض، قاهرة هنا القاهرة، وصوت العرب، قاهرة الكعكة الحجرية، وانتفاضة الخبز في 17 و18 يناير 1977، وقاهرة 25 يناير 2011، وميدان التحرير.

هكذا يبدو الأمر وكأن النخبة الحاكمة قد استشعرت أنه من المتعذر إعادة تخطيط القاهرة، أو معالجة مشكلاتها الحضرية، أو تجنب ما يكمن فيها من مخاطر، كان تمثيلها الأجلى في الخامس والعشرين من يناير. ومن ثم فالحل هو تركها بالقاطنين فيها ومشكلاتهم ومشكلاتها يلقون مصيرهم معًا. ذلك أنه في ظل ما تعانيه من مشكلات متنوعة ـــ مشكلات على مستوى البنية الأساسية، وعلى مستوى الزحام المتفاقم، وارتفاع معدلات الإنجاب وتزايد الكثافة السكانية، والهجرة المطردة من الريف والبادية وما ينتج عنها من عمليات ترييف وبَدْوَنَة للمدينة، وما يحيط بها ويتخللها من أحزمة سكنية غير رسمية، أو، على حد التعبير الشائع، ’’عشوائية‘‘، وما فيها من جماعات وخلايا  متطرفة، فضلاً عن التلوث، والفوضى، والقذارة، وما ينتج عنها جميعًا من توتر وعبوس ونفاد صبر جماعي، على نحو أقرب ما يكون إلى تلك الصورة التي تجسدها عبارات عبد المنعم رمضان في رسالته الأولى إلى مها:

’’حلمتُ بك أنا عبدالمنعم رمضان، شاعر يعيش في مدينة أصبحت عاجزة، وشَعْرُها أصبح مليئًا بالقمل، وسماؤها بغير نجوم، وترابها فقد نعومته، وهواؤها انكمش، اسمها القاهرة‘‘ (رمضان، الأعمال الكاملة، ص 173)

وما يمكن أن تؤدي إليه كل هذه العوامل مجتمعة من انفجار يُهدِّد مؤسَّسات الحكم والدولة إذا ما اندلع وهو ما يتجاوب مع استعارتين بالغتي الدلالة على هذه الوضعية وهما استعارة ’’القاهرة بوصفها قنبلة‘‘ و’’القاهرة بوصفها مقبرة‘‘، و’’القاهرة بوصفها قنبلة في مقبرة‘‘ على حد ما يصرح به بعض مسئولي التخطيط العمراني، وبغض النظر عما يمكن أن يوجد من تناقض ظاهري بين استعارة القنبلة بكل ما فيها من طاقة وقوة وعنف، واستعارة المقبرة التي تشير ضمنيًا إلى سكنى المقابر وتماثل بين قاطنيها وبين الموتى الذين يجاورونهم ويشاركونهم أماكنهم، وتعميم تلك الصورة وسحبها على الغالبية العظمى من سكان المدينة المستسلمين لأوضاع لا تختلف كثيرًا عن سكنى المقابر،أقول على الرغم من هذا التناقض الظاهري إلا أن كل استعارة من الاستعارتين لا تتناقض بالضرورة مع الأخرى بل إن ما تنطوي عليه استعارة المقبرة من موات وجمود وركود قد يكون هو ذاته ما يطلق فتيل القنبلة ولعل هذا تحديدًا هو ما حدث في الخامس والعشرين من يناير 2011 (حول كل من صور القنبلة، والمقبرة، وقنبلة في مقبرة، انظر نزار الصياد ضمن القاهرة مدينة عالمية ص ص 963-967 ) ـــ في ظل كل هذا، وفي ظل الجبن المعتاد لرؤوس الأموال، بدا لتلك النخبة الحاكمة أنه من قبيل المُخاطرة ضخ استثمارات محلية وأجنبية أكثر من ذلك في تلك العاصمة التي بدا لهم في الخامس والعشرين من يناير أنها لم تعصمهم ولم تعصم النظام بما يكفي. ومن ثم فلا بد من البحث عن عاصمة أخرى بديلة، عاصمة تعصم، رؤوس الأموال وأصحابها، من أي احتمالات مثيلة أو شبيهة بأحداث يناير.

لا سبيل، إذًا، لضمان هذا سوى استراتيجية الإزاحة والتباعد والمُمَاسَفة، استراتيجية الفضاء الآخر، المدينة الأخرى أو المدينة البديلة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل كان يمكن التفكير في مثل هذه العاصمة الإدارية الجديدة لو لم تكن قد سبقتها بعقود تجربة مدن السور، وما تزامن معها من إنشاء المتحف المصري الكبير، ليُنقَل إليه ما يمكن نقله من الآثار المصرية، داخل القاهرة وخارجها، وهو ما تعزَّز في ظل ما شهده المتحف المصري إبان أحداث الخامس والعشرين من يناير، من تعرض للاقتحام والتخريب وسرقة بعض المقتنيات، إذ لا ينبغي للسياحة الأثرية أن تكون موضع تهديد. وإذا كان لا يمكن نقل شوارع ومبانٍ أثرية بأكملها فلا مناص من الحفاظ على ما في القاهرة من أصول أثرية ثابتة يستحيل نقلها على نحو ما هو في القاهرة الإسلامية: الفاطمية، والأيوبية، والمملوكية، أو العثمانية والخديوية، كما أنه لا ينبغي أيضًا لمؤسسات الدولة أن تعيش مرة أخرى خبرة شبيهة بخبرة الخامس والعشرين من يناير. وبدلاً من التفكير في الإصلاح الاجتماعي وإزالة الأسباب والعوامل التي أدت للخامس والعشرين من يناير، ويمكن أن تؤدي إلى لحظات شبيهة، وجدنا تلك الاستراتيجية الجديدة، استراتيجية التنائي، استراتيجية إزاحة المدينة وإزاحة من فيها من خلال إنشاء فضاء آخر، عاصمة هيتروتوبية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل لو لم تكن ثورة يناير قد نشبت، ولو لم تكن تجربة مدن السور قد سبقت، هل كان يمكن التفكير في مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، تلك المدينة الجديدة، عاصمة المال والأعمال، ومقر الحكم الجديد، المُتنكِّر تحت اسم بيروقراطي، أم أن هاتين التجربتين كانتا معًا هما العنصر المُحفِّز لفكرة تلك العاصمة؟ ليس لدي جواب قاطع إلا أنه يبدو لي أن الأحداث الثلاثة على متصل، إذ يمكن القول إن أحد مُحرِّكات ثورة الخامس والعشرين من يناير لم تكن بمنأى، لدى أغلب القطاعات المشاركة فيها، عمَّا فعله المنتمون إلى مدن السور بالبلاد، وبالمدينة. ولعل فيلم ’’نوارة‘‘ للمخرجة هالة خليل يكشف عن تورط المنتمين إلى مدن السور فيما آلت إليه أحوال البلاد على نحو واضح. كما أن ثورة الخامس والعشرين من يناير كشفت وعرَّت مؤسَّسات الدولة وعجز الأمن عن حمايتها وعلى رأسها المُؤسَّسة التي كان يُفترَض فيها أن تكون هي المُؤسَّسة الحامية لما عداها من مؤسسات، وما حدث لها هي ذاتها وفيها.