يقدم لنا الباحث الجزائري هنا ما يدعوه بثورة الحريري في مقاماته المشهورة على كل الأوضاع المختلة في عصره، وكيف أنه تابع في ذلك أستاذه الهمذاني الذي جعل المقامة أداة نقد اجتماعي حاد، لما كان يدور في عصره من خلل وفساد. كما يتابع تأثيراتها في الآداب الأوروبية وحكايات الشطار فيها.

ثورة الحريري

مقاماته في بعدها الاجتماعي وامتدادها الأوروبي

إبراهيـم مشـارة

 

ظل النقاد العرب الذين تناولوا بالدرس والتحليل أو مجرد الشرح لمقامات الحريري يحتفون بالجانب اللغوي والبلاغي البحت، فهي بحق مدونة لغوية تحتوي شوارد العربية وألفاظها الفصيحة التي شكلت المخزون اللغوي للشعر القديم. ناهيك عن فرائدها الأدبية واستعاراتها البليغة وأمثالها وفرائد النحو والبيان. إنها باختصار ديوان شامل للأدب والثقافة العربية الكلاسيكية في عنفوانها ولهذا احتفي بها وظلت تدرس في حلق الجوامع والمعاهد الأدبية، وإذا كان ابن خلدون يقول (إن أصول هذا الفن-أي الأدب-  وأركانه أربعة دواوين وهي أدب الكاتب لابن قتيبة ، وكتاب الكامل للمبرد، وكتب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الأربعة فتابع لها وفروع عنها).

هذه الكتب أو الدواوين كما أسماها ابن خلدون وشيوخه غدت أركان الأدب وأصوله ينبغي على كل ناشئة متأدب أن يلم بها درسا واستظهارا لتستقيم له الملكة الأدبية، فإن مقامات الهمذاني أخذت نفس الاحتفاء وغدت أصلا للبيان وللإنشاء العربي ينبغي على كل متأدب سائر في طريق الكتابة أن يلم  بها درسا وفهما وربما حفظا.

ابتكر بديع الزمان الهمذاني (969م/1007م) شخصية من الطبقات الدنيا في مقاماته هي شخصية أبي الفتح الإسكندري ونحله جملة من الصفات كالاحتيال والمكر والاستهتار والانتهازية والدهاء والتكالب على الملذات – حتى المحرمة – ولكنه في ذات الوقت يملك من الذكاء والبداهة والحافظة ما يجعله مثار إعجاب من يستمع إلى مواعظه فهو يحفظ القريض ويبتكره، ويحفظ أمثال العرب وأراجيزهم وشوارد اللغة، ويعرف القرآن والحديث ويحسن الاستشهاد بهما، وله قدرة بارعة على التمثيل وتمثل مختلف المواقف النفسية والشعورية، أي له القدرة على تشكيل بؤرة تجتمع عندها العيون والقلوب والعقول، ولا تبارح مجالسها سواء أكانت في الأسواق أم في المساجد أم في البيوت. ودعم الهمذاني بطله هذا براوية هو عيسى بن هشام، وليس له من دور سوى دعم البطل في مغامراته، وكشف خفايا تصرفاته وإظهار تناقضاته وألاعيبه، كأنه بقعة ضوء كاشفة للمستور.

هذا على المستوى المباشر والسطحي ولكن في العمق تعد المقامات نصا ووثيقة تاريخية وأدبية عن الحياة في زمن الهمذاني، على طبقية المجتمع حيث الكثرة الغالبة تكدح وتعيش في الحضيض. إنها كثرة مقموعة مكبوتة يتهددها سيف السلطان وحبسه ويتعاورها الجوع والفقر. ولذا لجأ كثير من أفرادها إلى التسول واحترافه بمكر ودهاء حين مسخت القيم في المجتمع، وعرف هذا الفن بالكدية وتحدث عنه الجاحظ وصار للكدية أربابها من المتأدبين والظرفاء. يتفننون في فنون الاحتيال والمكر، ويعافون العمل لأنه غير مجز، وكل هذا عن طريق تمثيلية في شكل موعظة أو خطبة بليغة أو تمثل موقف إنساني.

وإذا كان الشعراء قد ابتذلوا الشعر لما وقفوا به على أبواب الملوك في ظاهرة التكسب، وعفروا جبين اللغة بأديم الكذب والمبالغة والرياء في حضرة الخليفة أو الأمير أو الوالي، طمعا في نواله وارتقوا بهم إلى مصاف الأرباب في مبالغات لم يعرفها أدب أمة من الأمم. ولاشك أن الخليفة أو الأمير كان يعرف أن الشاعر يكذب والشاعر كذلك ربما لا يؤمن بجدوى ما يقول ولكنه بريق الذهب ورنين الفضة حتى قال أحدهم:

مدحت امرأ يعطي على الحمد ماله *    ومن يعط أثمان المحامد يحمد

أو يقول الآخر:

إن المطايا تشتكيك لأنهــــا   *     قطعت إليك سباسبا ورمـــــــالا

فإذا وردن بنا وردن أخفــة    *     وإذا رجعن بنا رجعن ثقـــــــالا

هكذا مارس الشعراء الكذب بغية المال، وانتشى الممدوح بكلام يعرف أنه مجرد كذب ومبالغة وافتراء. ولكنه الواقع الجدلي بين شاعر فقير لا يجد غير الكذب ليضمن قوت عياله، وخليفة أو أمير تظل شرعية حكمه ناقصة لا يثبتها إلا بالدماء والإرهاب والسجن، وفتاوى حاشيته من رجال الدين، وجوقة الشرف من الشعراء الأفاكين.

وبطريقة عكسية مارس الهمذاني في مقاماته نفس الدور، ولكنه لا يمتدح الخلفاء بل يتلاعب باللغة، وبها يخلب ألباب الناس، ويمارس الكذب على الناس – أي بطله – للاحتيال عليهم وأخذ ما في جيوبهم برضاهم، مثلما يأخذ الشاعر من بيت المال برضا الخليفة. هذا البطل  الحذر المغترب، المتجول الناقم على العصر الذي يعيش فيه، وعلى ناسه، وسلم قيمه التي رفعت من لا يستحق، وأنزلت من هو أهل للرفعة والسمو حتى ألجأته الظروف إلى الاحتيال من أجل المعاش ألم يقل ابن الرومي من قبل في نفس السياق:

نحن أحياء على الأرض وقد *    خسف بنا الدهر ثم خســـــف

يسفل الناس ويعلو معشـــــر  *     قارفوا الإقراف من كل طرف

ولعمري لو تأملناهم ماعلوا  *    ولكن طفوا مثــــــــــل الجيف

وفي هذا المستور تبدو مقامات الهمذاني احتجاجا على العصر، ونقدا لما فيه من تخلخل طبقي، واختلال قيمي. وهذا المستوى هو الذي صار يهتم به الدارسون ويحاولون أن يستشفوا أسراره باعتبار النص الأدبي مثلما هو نص جمالي هو نص تاريخي يحيل على الواقع في مختلف مظاهره ومستوياته. وتفاديا لكل مراقبة ومتابعة وتضييق، أظهر الهمذاني بذكاء الجانب اللغوي والبلاغي إلى السطح، ومارس به التعمية على الرقيب ليمر النقد والاحتجاج على العصر برمته، تماما مثل حكاية "كليلة ودمنة".

وجاء الحريري (1054م/1122م) وقد رأى النجاح الذي حققه الهمذاني بمقاماته فكتب الخمسين مقامة. جعل راويتها الحارث بن همام، ونسب بطولتها لأبي زيد السروجي لكنه تجاوز في المستوى الإبداعي والرؤيا الفنية أستاذه الهمذاني. فالبطل شخصية نامية عكس شخصية أبي الفتح الإسكندري، حيث بدأ في المقامة الأولى المسماة القريضية هرما ثم نراه بعد ذلك شابا وكهلا في مقامات أخرى بلا نمو ولا تسلسل زمني. وهذا ما تفاداه الحريري الذي ظهر بطله شخصية نامية، مارست أفانين الاحتيال والمكر والانتقام من المجتمع. لتنتهي شخصية نادمة تائبة ترجو عفو ربها. وكأن ما فعلته ضرورة ملعونة من ضرورات الزمن الذي لا يرحم المتأدب والنابغة. ثم كانت التوبة في المقامة الأخيرة "الحرامية"  والتي هي الأولى إنشاء في الأصل.

يقول عبد الفتاح كيلطو في كتابه "في جو من الندم الفكري" ص10 (إن أحد الباحثين كتب قبل مدة أن مقامات الحريري كادت أن تكون رواية لو راعى مؤلفها ترتيبا زمنيا محكما، بحيث تكون مرتبطة وموصولة عضويا بعضها البعض). لقد استلهم الحريري شخصية البطل من شخصية حقيقية هي شخصية الشاعر أبي دلف الخزرجي الينبوعي مسعر بن مهلهل؛ وكان معاصرا للبديع ويبدو أنه كان ملهما لكليهما الهمذاني والحريري فقد ورد بعض شعره في مقامات الهمذاني:

ويحك هذا الزمان زور      *    فلا يغرنك الغــــــرور

لا تلتزم حالة، ولــــــكن       *     در بالليالي كمـــــا تدور

وهناك قصيدة مشهورة بالساسانية يفاخر بها أبو دلف بالتسول والاحتيال وتقلب أحوال المعيشة، وعذر الشاعر فيما ذهب إليه منها:

وما عيش الفتى إلا  *    كحــــــال المد والجزر

فبعض منه للخير      *   وبعض منه للشــــــــــر

فإن لمت على الغر  *    بة مثلي فاسمعن عذري

هكذا إذا نعثر في تاريخ الوقائع على شخصية تاريخية حقيقية كانت ملهمة للهمذاني وللحريري وهي شخصية الشاعر أبي دلف الذي تفاخر بالتسول والاحتيال، ونقم على الزمان الذي بخسه حقه، والأيام التي لم توله جميلها مع فراداته ونبوغه وهي من ألجاته إلى الاحتيال والتسول والتمثيل.

سمى الحرير أولى مقاماته بالحرامية حيث تدور أحداثها في مسجد بني حرام. وجعل البطل من سكان مدينة سروج قرب البصرة ويحدثنا التاريخ عن التدمير والنهب الذي تعرضت له المدينتان سروج والبصرة عام 494 هجرية/ المواق لـ1100 ميلادية من قبل الروم. وتدهور أوضاع الناس المعيشية، وكأن الحريري يلتمس لبطله العذر فيما ذهب إليه البطل من طريقة في العيش بعد الخراب الذي لحق بالمدينتين، فوضع هذه المقالة الأخيرة لغاية ونسب  للبطل الشعر الذي يبرر به الفعلة:

ولما تعامي الدهر وهو أبو الورى   *    عن الرشد في أنحائه ومقاصـــده

تعاميت حتى قيل أني أخو عمى     *   ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده

ولاشك أنها راجت كذلك لجانبها التعليمي. لقد صارت مطلب كل ناشئ متأدب لخفتها وثروتها اللغوية وروح الدعابة والأحابيل الموجودة فيها، وأفانين السرد والتشويق والقص والحكي. مما يجعلها متعة لمن يطالعها. إنها تظهر الشر في المجتمع حيث صار البطل ضحيته ولعنته في آن واحد ينتقم من الناس ومن الزمن ويسخر منهم ومن متعارفهم يقول الحريري (ومن نقد الأشياء بعين المعقول، وأنعم النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات في سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات عن العجماوات، ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات، أو أثم رواتها في وقت من الأوقات. ثم إذا كانت  الأعمال بالنيات وبها انعقاد العقود الدينيات، فأي حرج على من أنشأ ملحا للتنبيه لا للتمويه، ونحا بها منحى التهذيب لا الأكاذيب، وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من انتدب لتعليم أو هدي إلى صراط مستقيم).

والمقامات كذلك وثيقة تاريخية عن الغارة على البصرة وسروج من قبل الروم وتدهور أوضاع الناس وعدم استقرار أوجه النشاط البشري. فالتجارة تتعرض للغارات والصناعة قليلة الدخل، مما حدا بالبطل إلى الكدية والاحتيال.

أنا من ساكني سرو *ج  ذوي الدين والهدى

فقضى الله أن يغير  *     مـــــــــــــــاكان عودا

بوأ الروم أرضنا      *     بعد ضغن تولــــــــــدا

وترى بي خصاصة   *     أتمنى لهــــــــــا الردى

يقول محمد غنيمي هلال (وأبو زيد ينتمي إلى الزمرة الدنيا في الشعب. زمرة من يعيشون على كد غيرهم، ويرى هو أن هؤلاء ذوو حق قائم على ما شرع للفقراء في أموال الأغنياء؛ ولكنه يزعم لزمرته هذا الحق من حيث هي فئة تربطها بين أفرادها صلة يعتز بها هؤلاء الأفراد، ووشيجة مهنية وحرفة مشروعة، وإن اعتمدت على الإلحاف والإسفاف).

لبست الخميصة أبغي الخبيصة * وأنشبت شصي في كل شيصه

وصيرت وعظي أحبولـــــــــة   *     أريغ القنيصة بها  والقنيصه

لو أنصف الدهر في حكمـــــــه       *   لما ملك الحكم أهل النقيصة

وهو كما يرى نفسه ويقدمها لمن يتابع يومياته في الكدية والاحتيال والتمثيل:

أنا أطروفة الزمــــــا *ن وأعجوبة الأمــــــم

غير أني ابن حاجة  * هاضه الدهر فاهتضـم

كما أن المقامات تفضح الدجالين من رجال الدين وتكشف ألاعيبهم من أجل الحصول على المال كما تسخر من رجال القضاء، أعوان الخليفة أو الأمير والذين يحرصون على حماية مملكة الظلم والفساد:

لم يبق صاف ولا مصاف   *     ولا معين ولامعين

وفي المساوي بدا التساوي   *     فلا أمين ولاثــمين

يقول محمد غنيمي هلال (وفي حدود الإعجاب بلغة المقامات وصياغتها - لما أشرنا إليه من أسباب راجت هذه المقامات في الأدب العربي والآداب الإسلامية، والتزمت هذه الحدود ولم يطرد نموها بوصفها أدبا موضوعيا كأدب القصص والمسرحيات في الآداب الغربية. بل إنها قد انحرفت بعد الحريري إلى العناية بالصياغة وحدها، وبلغ التكلف في عباراتها أقصى مداه؛ فضعف بذلك طابعها الموضوعي، وانطمست غايتها الخلقية، ولم يعد النموذج الإنساني فيها ذا معالم محددة وأبعاد نفسية أو اجتماعية).

ولا شك أن مقامات الحريري  قد انتقلت إلى أوروبا عبر الأندلس فقد تمت ترجمتها إلى العبرية من قبل الخريزي المتوفي في الثلث الأول من القرن الثالث عشر، وذلك للتدليل على منافسة العبرية للعربية في غناها وفي جرسها. وقد حاكاها سالومون بن زقبيل وهو من كتاب القرن الحادي عشر في إسبانيا، كما تأثر بها الأدب في الأندلس. وممن تاُثروا بها ابن القصير الفقيه وأبو طاهر محمد بن يوسف السرقسطي كما شرحها عقيل بن عطية المتوفي عام.1211

وبتأثير المقامات، خاصة مقامات الحريري، ظهرت قصص الشطار في الأدب الأوروبي، ونموذجه في حياة لا ساريو دي تورمس يقول محمد غنيمي هلال (وتقوم القرائن التاريخية الأخرى على أن مقامات الحريري كانت مبعث إعجاب من كتاب إسبانيا جميعا من عبريين ومسيحيين. وقد انتشرت فيما بينهم بل يفهم من الإشارات التاريخية المختلفة أنها ترجمت إلى غير العبرية في تلك البلاد).

ومن الكتاب الإسبان المتأثرين بمقامات الحريري جوان روبس رئيس أساقفة هيتا الذي عاش في أواخر القرن الثالث عشر حتى أواسط القرن الرابع عشر الميلاديين وظهرت الآثار العربية في كتابه "الحب المحمود"؛ حيث تختلط العناصر التعليمية بالغنائية بالذاتية. على أن تأثير المقامات يظهر جليا في "حياة لاساريو دي تورمس وحظوظه ومحنه" وهي مجهولة المؤلف. وقد ظهرت طبعتها كاملة في 1554م وهي من قصص االشطار "البيكارسكا" وترى الأكاديمية الإسبانية أن لفظة picar تحتمل حياة الترحال، والبيكارو شخصية خالعة العذار شيطانية هزلية، تحيا حياة غير هنية، مما يضطرها إلى الحيلة والنصب والانتهازية. تؤثر البطالة على العمل، ولا تستنكف من التسول والاحتيال للحصول على مال الغير، وهي صاحبة شطارة وذكاء وبديهة حاضرة، تقدم المواعظ مثل أبي الفتح الإسكندري وأبي زيد السروجي مما يعكس تأثيرا عربيا كان له صداه العميق في الآداب الأوروبية.

وقد استمرأ لاساريو مهنة الاستجدا،ء وطاب بها خاطره وعرف جميع حيلها، وكان يخدم بها نفسه ويبقى على رمق سيده. فهو ذا يقول "وهكذا أشربت حب هذه المهنة مع لبن أثداء أمي، وقد لقنني الأعمى وهو الأستاذ الكبير في هذه المهنة كل أسرارها. وقد استخدمت في هذه الفرصة كل دروسه" ولا تخلو مغامراته من هجاء الدنيا والناس وطبقة النبلاء الصغار والتشفي منهم والانتقام كذلك. تماما مثل بطلي الهمذاني والحريري، موظفين رائق الشعر، وبديع الكلام وجميل الوصف، والمواعظ الجليلة.

يقول الناقد الأمريكي تيكنور (هدف المؤلف من تصويره هو هجاء كل طبقات المجتمع لعصره، ذلك أن المؤلف رآها من خلال هذه الشخصية مجردة من طلائها الزائف. فقد رآها من خلف الحواجز تلعب دورها على مسرح الحياة).

تفاعل ظاهر إذا  بين الأدبين العربي والأوروبي من خلال الأدب الإسباني كوسيط  عبر مقامات الحريري التي كان لها الأثر الطيب في الأدب العربي. لكن للأسف لم يتم الاستفادة منها لخلق الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة والرواية؛ مع وجود البذرة الأولى في هذه المقامات.