كان مهرجان أفينيون المسرحي هذا العام حافلا بالعروض والمسرحيات المهمة. وقد حضره محرر (الكلمة) كالعادة، وها هو يقدم لنا هنا القسم الأول من المسرحيات الجميلة التي شاهدها فيه، وسيتبعه قسم ثان. فقد كان مهرجان 2022 غنيا بالعروض والقضايا، بعدما استعاد المهرجان حيوته وقد تعافى من جائحة كرونا.

مهرجان أفينيون السادس والسبعون (1/2)

قضايا المرأة العربية ودراما المرأة الغربية

صبري حافظ

 

استشراف مهرجان أفينيون هذا العام بعد تعثر يوبيله الماسي
يَعِدُ البرنامج الذي تلقيته قبل شهر لمهرجان أفنيون هذا العام – والذي انعقد كالعادة بين السابع والسادس والعشرين من شهر يوليو/ تموز – بأن المهرجان سيستعيد شيئا من ألقه وحيويته، بعدما تعثر لعامين بسبب جائحة الفيروس التاجي «كوفيد 19». ليس فقط لأنه استعاد موعده السنوي الثابت مع عشاق المسرح الذين يتوافدون إليه – عارضين ومشاهدين – من كل أنحاء العالم، حيث سيبدأ في السابع من يوليو وينهي عروضه في السادس والعشرين منه. وإنما أيضا لأن برنامج هذا العام يعد بالكثير. خاصة بعدما تعثر المهرجان في العامين الماضيين. وبدلا من الكريشيندو المتصاعد الذي كان يَعِد به مهرجان عام 2019 من أجل الوصول إلى يوبيله الماسي عام 2021؛ توقف كلية في أوج الرعب من الجائحة عام 2020، ثم حاول العودة لجمهوره، في العام الماضي الذي كان عامه الخامس والسبعين: أي عام يوبيله الماسي متأخرا حيث جرى بين الخامس والخامس والعشرين من أغسطس/ آب عام 2021، وليس في موعده المألوف في شهر يوليو. وببرنامج يتسم بشيء من التقشف، حيث كان شبح الجائحة لايزال مخيما عليه، يستأديه ثمنا فادحا – غريبا على طبيعته الجماهيرية الحاشدة التي تفيض بها فضاءاته المختلفة – بمراعاة شروط التباعد الاجتماعي في عروضه التي اعتاد الجمهور التزاحم عليها.

فماذا يا ترى يحمل برنامج هذا العام، وهو عام المهرجان السادس والسبعين؟ من البداية يبدو البرنامج وكأنه برنامج مهرجان متكامل من جديد، كما عودنا هذا المهرجان الذي أصبح أهم مهرجانات المسرح في أوروبا قاطبة على مد رحلته الطويلة مع التطور والرسوخ. ففيه يتجلى عمل مهرجان أفينيون على الدوام على الاهتمام بمختلف أجناس العمل المسرحي إلى جانب العمود الفقري له الذي يعتمد على نصوص مسرحية مكتوبة من مختلف الثقافات والمراحل الزمنية. لأن به تسعة عشر مسرحية، بالمعنى المألوف للمسرحية التي تعتمد على نص مسرحي سواء أكان مأساويا أو كوميديا، قديما أو معاصرا. والتي يتراوح طولها من الساعة والنصف إلى الـ 12 ساعة من العرض المتواصل في بعضها. وعمل واحد ينتمي إلى المسرح الغنائي، وليس هذا الأمر بالغريب، فقد أسرف المسرح الغنائي في النزعة التجارية والاستهلاكية – وبلغت ذروتها في المسرح الانجليزي والأميركي – التي جعلته نوعا من الترفيه أو الترويح وأوشكت أن تخرجه من دائرة المغامرة الدرامية الجادة، إلى مجال الترويح التجاري. وثلاثة أعمال يصنفها على أنها موجهة للجمهور الفتيّ، ولا أقول لمسرح الأطفال، ولكن من خبرتي السابقة عنه فهي عروض يستمتع بها الكبار والصغار على حد سواء. يعرض كل من هذه الأعمال المسرحية لعدد من المرات بين الخمسة والعشرة.

وهناك سبعة أعمال يصنفها المهرجان على أنها عابرة للنوع Indiscipline أو متعددة الأنواع – ومنها على سبيل المثال عمل للمسرحي الفلسطيني بشار مرقص ومحترفه الشهير في حيفا، والذي أبهر جمهور مهرجان العام الماضي بعمله (متحف) الذي يمزج فيه اليومي بالوثائقي والحضور المشهدي التمثيلي بالمقاطع السينمائية المصورة سلفا، وغيرها من أشكال الفرجة المسرحية. وفي المهرجان أيضا ثمانية أعمال من الرقص الحديث. فله تاريخ طويل مع الاهتمام بالرقص الحديث باعتباره أحد أهم التجليات الراهنة لجماليات الحركة المسرحية والقدرة على التعبير دون استخدام الكلمة، كما كان الحال في القرن التاسع عشر مع فن الباليه الكلاسيكي. فقد أصبح الرقص الحديث، الذي سعى إلى كتابة ما يمكن دعوته بباليه القرن العشرين من خلال الحركة المحسوبة وتصميم الرقصات الدقيق «كريوجرافيا» من حيث التشكيل البصري والحركي والإيقاع إلى أحد الصيغ المسرحية التي يهتم المهرجان بتقديم أفضل ما في جعبتها سنويا، بل ويفرد لها أحيانا قمة فضاءات العرض فيه، وأقصد ساحة الشرف المهيبة في القصر البابوي.

وهناك جنس مسرحي أو مشهدي جديد يسميه «موسيقى/ شعر Musique – Poésie» نجد منه ثلاثة عروض أبرزها هذا العام، بالنسبة للقارئ العربي خاصة، عرض «والأرض تورث كاللغة» المأخوذ عن أشعار محمود درويش. فقد كان الجمهور الفرنسي مغرم بمحمود درويش وأشعاره، وأذكر أن آخر أمسيات الفقيد الشعرية كانت في مدينة آرل في جنوب فرنسا، قبل أن يسافر للولايات المتحدة لإجراء الجراحة التي أودت بحياته. أما العرض الثاني فإنه يغير العنوان التجنيسي «موسيقى/ شعر» إلى «شعر/ محاضرة/ عرض Poésie – Lecture – Performance» لأنه بعنوان (شاعرات) اختارهن من عدد من البلدان العربية وأفغانستان، ويسعى عبرهن إلى طرح صوت المرأة الشعري، وسياقات فاعليته في تلك الثقافات المأزومة. وكأنه يقدم هذا العرض أمام نقيضه الطالع من قلب أوروبا وهو العرض الثالث في هذا الجنس المسرحي الجديد، والذي سيفرد له ساحة الشرف في القصر البابوي في هذه الدورة.

لأنه عرض قادم من لندن يمكن القول أنه يمثل أكثر أشكال هذا النوع من العمل المسرحي جدة وطليعية وهو للشاعرة والروائية والمسرحية الانجليزية الموهوبة كي تمبست Kae Tempest التي سبق لها أن حصلت على جائزة تيد هيوز الشعرية المرموقة عام 2013 عن ديوانها (عتيقون بالغي الجدة  Brand New Ancients)، وفي العام نفسه قامت واحدة من أهم الفرق المسرحية التي تستشرف الجديد والتجريبي في المسرح الانجليزي وهي فرقة Paines Plough بتقديم مسرحيتها الأولى (متفانون بلا أمل  Hopelessly Devoted). ثم تحول ديوانها الثاني (دعهم يأكلون الفوضى  Let Them Eat Chaos) إلى ألبوم مسموع ذائع الانتشار قبل أن يصدر كديوان شعري عام 2016. ولاقت روايتها (قوالب الطوب التي بنت البيوت  The Bricks That Built the Houses) عام 2017 اهتمام النقاد، ووصلت إلى قائمة أكثر الكتب مبيعا، وحصلت على جائزة الروائي الناشئ في العام نفسه. أقول أن هذه الشاعرة والعارضة الطليعية تمثل أكثر أشكال العرض جدة، لأنها ومنذ أن بلغت السادسة عشرة وبدأت كتابة الشعر، قررت أن تقدم شعرها كعرض شفوي مسرحي، مصحوب بموسيقى من تأليفها الخاص أيضا. وأن تدور به في المدن البريطانية المختلفة، تسعى به للجمهور، ولا تنتظر طبعه في كتاب، وطرحه في السوق إلا بعد أن يكون قد نضج أثناء هذا التفاعل المباشر بينه وبين الجمهور. وستجيئ لمهرجان هذا العام بعرض بعنوان (الخط منحنى The Line is a Curve).

وإلى جانب هذا كله هناك ما يدعوه المهرجان بـ«المعرض المشهدي الحي Exposition et performance» والذي سيحتل بيت/ أو متحف جان فيلار في أفينيون، ويقدم عرضا بصريا موازيا لعروض المهرجان، وهو معرض للمصور الفوتوغرافي Christophe Raynaud De Lage الذي عمل مصورا لعروض المهرجان طوال السبعة عشر عاما الأخيرة. في نوع من تسجيل الذاكرة البصرية القريبة للمهرجان. ناهيك عن المنتديات والندوات الفكرية التي تشغل نهارات المهرجان، والتي يدور بعضها حول قضايا مسرحية أو فكرية عامة ذات علاقة بدور المسرح في عالمنا الراهن والمتغير. فعلى سبيل المثال ستقام في مهرجان هذا العام مجموعة من الندوات عن الجدل الدائر حول البيئة، وما إذا كان للمسرح أو للعروض الحية دور في تعميقه والمشاركة فيه؛ أو دور المسرح في قضايا الهوية وتجلياتها المتعددة في الواقع المترع بصراعات الهوية القومية منها أو الدينية؛ أو اقتصاديات الثقافة المادية والاجتماعية ودورها في الإبداع؛ أو الحكي وحقوق الإنسان والخطابات المضادة؛ أو وماذا سيكون عليه حال العرض المسرحي في 2050 ... إلخ. فضلا عن اللقاءات المفتوحة للصحفيين ونقاد المسرح الذين يترددون على المهرجان مع مخرجي العروض ومؤلفيها، والحوارات النقدية المنظمة والتي تتسم بقدر كبير من العمق والجدية لأنها تدور أمام جمهور واسع عادة. إلى ورش الكتابة والتأليف المختلفة عن اشكال الحكي على المسرح أو غيرها من الموضوعات. إلى المؤتمرات الصحفية التي ينظمها المؤتمر حول بعض الأعمال التي تعرض فيه.

لكن دعنا نتريث قليلا عند افتتاحية برنامج المهرجان قبل أن نقدم للقارئ بعض عروضه التي شاقتني عبر ما ينطوي عليه البرنامج من تقديم لها، والتي سعيت لحجز مقعدي مقدما فيها. صحيح أنني كنت أتطلع منذ عامين إلى تغيير مدير المهرجان، أوليفييه بي الذي أداره للأعوام الخمسة الماضية، وتعيين بديل له، يكون أكثر انفتاحا على التجارب الأوربية الثرية، وأقل غيرة من كبار مخرجيها المبدعين، لكن البرنامج الجديد يؤكد أنه لايزال مديرا له لهذه الدورة أيضا. لأنه ينطلق في تقديمه له بأن كل جيل يشهد نهاية عالم يتداعى وبداية عالم جديد، تتسلل بعض ملامحه إلى أحلام الشباب وصبواتهم الإبداعية، وتتجلى أحيانا في خطورة الأمل في عالم مغاير كلية. وأن تلك المرحلة البينية تتسم عادة بالفوضى والتنافر والتشتت والدراما غير المكتملة. في مثل تلك اللحظة التاريخية الرجراجة والمتصفة بقدر من السيولة، تندلع الحرب حينما نعتقد أن العنف سيكتب التاريخ، وعندما ينحرف السرد ويتم تزييف التراث، ويسود الخطاب الشوفيني الضيق، والزعم بنهاية التاريخ. فهل انتهى التاريخ أو مات حقا كما يزعم البعض؟!  وإذا كان التاريخ قد مات فهل ماتت معه كل آمال العدل الاجتماعي، والتقدم الإنساني نحو المعنى؟ وهل ثمة عدل دون توفر التعليم والثقافة لمن حُرموا منها؟ وهل يمكن لأي عدل أن يتوفر في غياب الحرية؟ ويجيب على هذه الأسئلة بالأمل في عالم جديد يتيح للشباب التحقق، من خلال طرح سرودهم الجديدة ورؤاهم المختلفة على العالم، ومن خلال إتاحة المهرجان الفرصة لهم لتحقيق ذلك.

فهل يَعِد البرنامج بشيء من هذا؟ أميل إلى الإجابة المبكرة بقدر من الإيجاب. لأن البرنامج حافل بالكثير. ففي جانب الكلاسيكيات المسرحية والتي لا ينضب معينها في فتح عيوننا على التعامل مع الحاضر هناك (إيفجينيا) التي تدير عبرها آن ثيرون Anne Theron حوارا خصبا مع مسرحية يوربيديز ولكن في عالم لا آلهة فيه، وليس الإنسان مسؤولا به إلا أمام نفسه، فهل سيضحي آجاممنون بابنته من أجل الانتصار في طروادة؟ ولا يمر مهرجان دون أن يحتوى على عمل لعملاق المسرح الانجليزي وليام شكسبير أو أكثر. حيث يجيئ مسرح نانتر تحت إدارة كريستوف روك Christophe RaucK الجديدة بمسرحية التاريخية (ريتشارد الثاني) ثم يجيء المخرج الإيطالي ألساندرو Alessandro Serra ومسرحه Teatropersona بمعالجة درامية وجمالية لمسرحية شكسبير الكبيرة (العاصفة). وهناك أيضا تلك المسرحة الروسية المعاصرة لأحدى قصص أنطون تشيخوف القصيرة (الراهب الأسود). لكن الغريب أن يغيب عن مهرجان هذا العام أي أثر لكلاسيكيات المسرح الفرنسي، فليس ثمة أي عمل لموليير ناهيك عن راسين أو كورني.

أما في جانب الأعمال الجديدة والمشتبكة بقضايا الراهن، فهناك كالعادة عمل جديد لأوليفييه بي نفسه يستغرق عرضه أكثر من عشر ساعات، حيث يبدأ في الثانية ظهرا، ولا ينتهي قبل منتصف الليل بعنوان كاشف عن نرجسيته (شبابي الماجد Ma Jeunesse Exaltée) ضمن سلسلة من مسرحيات سيرذاتية عرضها في المهرجانات السابقة. أما من حيث الأعمال الجديدة التي أتوقع أن تشوق القارئ العربي، فسيعود بشار مرقص المسرحي الفلسطيني الذي استحوذ على اهتمام متابعي المهرجان في العام الماضي حينما وفد له لأول مرة من حيفا بمسرحيته (المتحف) بمسرحية جديدة بعنوان (مِلْك). وسيعود أيضا على شحرور وفرقة رقصه الحديث اللبنانية، والتي استطاع أن يبرهن بها على أن الرقص الحديث في لبنان لا يقل تطورا عن نظيره في البلدان الأوروبية المختلفة. بعد أن كان قد تردد بها على المهرجان عدة مرات في عام 2016 و2018 و2019، قدم خلالها ثلاثية من العروض شبه المترابطة حيث تدور حول طقوس الموت والدفن الشيعية في لبنان. ويجيئ هذا العام بعرض جديد بعنوان (كما روتها أمي) ينتمي كما يقول لنا لثلاثية أخرى عن الحب. وستجيئ إلى المهرجان من بيروت حنان الحاج علي بمسرحيتها (الجري تريضا Jogging) التي تتناول فيها حياة أربع شخصيات نسائية عربية تسعى عبرها إلى تبديد الصور النمطية الشائعة عن النساء العربيات.

أما المسرحي الإيراني أمير رضا كوهستاني الذي يعيش في المنفى الأوروبي، فسيجيئ لمهرجان هذا العالم بعمل يحمل اسما دالا In Transit بما يشير إليه من تلك المساحة البينية المؤقتة والوجود بين محطتين، يجمع بين السعي لمناهضة الفاشية الجديدة التي تتنامى من حولنا، حتى في أوروبا نفسها، وبين أوجاع الوضع البيني الذي يجد فيه المهاجر نفسه، بعيدا عن الحيوات المتروكة من ورائه، وفي مواجهة أشكال متنوعة من العنف العنصري والرفض المُقَنّع. كما سيعود المسرحي الصيني المرموق منج جينغهوا Meng Jinghui الذي أذهل مهرجان عام 2019 بعرضه المدهش «بيت الشاي» لأحد أبرز أعلام الأدب والمسرح الصيني لاو شي الذي استمتعت به في مهرجان عام 2019 وكتبت عنه وقتها، لأنه يقدم لنا بانوراما عريضة لتجربة الصين مع التحديث منذ القرن التاسع عشر، مرورا بالاحتلال الياباني وحتى الثورة الصينية والزحف الطويل عام 1949، تتضافر فيها عناصر المسرح والفرجة مع جدليات الفكر والتحريض. ولكنه سيجيئ هذه المرة بمسرحيته لرواية يو هوا Yu Hua (اليوم السابع) أتطلع بشغف إلى رؤيتها والكتابة عنها للقارئ العربي، لأن معرفتنا بما تنتجه الثقافة الصينية المعاصرة تحتاج إلى الكثير من الاهتمام المفقود.

لكنني ما أن قدمت إلى مهرجان أفينيون حتى أدركت أن مسرح منطقتنا، العربي منه والإيراني، وبالمعنى الواسع للعرض المرئي الحيّ، من محاور اهتمام مهرجان هذا العام. وأن الانتقاءات المحسوبة في استقدام العروض إليه استهدفت إلى حد ما تبديد بعض الأفكار المغلوطة عن المنطقة، وعن وضع المرأة فيها بشكل خاص. فقد اتسمت معظم الأعمال التي جاءت من المنطقة إلى المهرجان – العربية منها والإيرانية – بالتركيز على وضع المرأة المحوري، كمبدعة أولا، وكلاعبة لدور أساسي في حياة شعوبنا المقهورة بشكل فاعل وأساسي. ليس فقط لأن فيه أكثر من عرض عربي، تساهم فيه المرأة بدور إبداعي فعال، وهو ما جعل المرأة كموضوع محور العرضين الفلسطيني واللبناني. ولكن أيضا لأن العرض الإيراني (En Transit) لأمير رضا كوهستاني يجعل المرأة محور اهتمامه هو الآخر، بالرغم من أن موضوعه العام – وهو تناول أوروبا الكاشف عن ازدواج المعايير للمهاجرين – كان من الممكن أن يتم دونها.

مسرحيتان عربيتان :
والواقع أن عرضين من العروض العربية يأتيان من فرق مسرحية سبق لها العرض في المهرجان، واستدعاها للعودة إليه بعمل جديد، وفي طليعتها كان العرض الفلسطيني الباهر (Milk) لبشار مرقص والذي استحوذ عرضه (متحف) في المهرجان السابق على اهتمام الجمهور والنقاد معا؛ مما دعا المهرجان إلى دعوته للعودة هذا العام بعمل تفوق فيه على نفسه، وعلى ما سبق أن قدمه فيه في الدورة السابقة. أما العرض الثاني الذي جاءت به فرقة سبق أن ساهمت من قبل في المهرجان أكثر من مرة فهو عرض علي شحرور – الراقص ومصمم الرقص الحديث اللبناني – الذي يضع المرأة/ الأم في عنوانه (كما روتها أمي Du Temps ou ma Mere Racontait) ناهيك عن العرض المسرحي اللبناني – وهو من عروض الممثل/ة الواحد/ة – للممثلة اللبنانية حنان الحاج علي بعنوان (التريض جريا Jogging)، والذي يتمركز أيضا بطبيعة بنيته – بنية عرض الممثلة الواحدة – حول المرأة، وهي تهيء نفسها للتريض جريا، والجري هنا تنفيس عن تراكم الغضب الكظيم الذي تمور به النفوس المحبطة. وفضلا عن هذه العروض المسرحية، كانت هناك عروض القراءات الشعرية المصحوبة بالموسيقى، وفي مقدمتها و(الأرض تورث كاللغة) الذي أعده فرانك تورتييه Franck Tortiller وإلياس صنبر عن أشعار محمود درويش، والذي استطاع استقطاب جمهور عريض رغم غياب محمود درويش، الذي سيدوم حضوره رغم أي غياب. والإسهام العربي الملحوظ في عرض مماثل بعنوان (شاعرات) ساهمت فيه سكينة حبيب الله من المغرب ورشا عمران من مصر، وأسماء عزايزة من فلسطين.

بشار مرقص

وكان أول ما شاهدت هو مسرحية مدهشة للكاتب والمخرج الفلسطيني بشار مرقص، وعرض للمسرحية اللبنانية حنان الحاج علي. ويوشك العرضان أن يكونا من حيث منهج العرض، وطبيعة الدراما فيه، على طرفي نقيض. فقد استغنى الأول كلية عن اللغة المنطوقة، لصالح لغات العرض الأخرى والمغايرة، ومع هذا حافظ على جذب انتباه المشاهدين والاستئثار باهتمامهم طوال العرض. بينما يعتمد العرض الثاني – وهو عرض الممثلة الواحدة – على الكلمة بشكل كامل، إلى الحد الذي كانت تبيع فيه الفرقة النص بعد العرض باللغتين العربية التي تم الأداء بها والفرنسية التي استخدمت إلى حد ما في بعض مشاهد العرض، وكانت تعرض أعلى الخشبة ترجمة فرنسية لما تقوله الممثلة، بينما تمثل حنان الحاج علي فوقها. والواقع أن استغناء العرض الأول عن اللغة يبدأ من عنوانها (مِلك Milk) الذي يرفض ترجمة العنوان حتى إلى اللغة الفرنسية، وهو كلمة انجليزية بمعنى اللبن، بل إن برنامج المسرحية المطبوع لا يترجمه حتى إلى اللغة العربية، بل يكتبه بالحروف العربية بنفس نطقه الانجليزي.

لأن اللبن الذي تمتلئ به المسرحية، وهو يتسرب مدرارا من أثداء النساء، ومن عيونهن دمعا، ومن فروجهن دما، بل ومن السماء نفسها حينما تنهال دموعها مطرا مدرارا في فلسطين الحبيبة، هو نوع فريد من اللبن، غير ذلك الذي تشير إليه اللغة بالكلمة المعروفة. إنه الدم/ اللبن/ الدمع الذي يسرى في عروق المأساة الفلسطينية ويبقيها حيّة ومتقدة لا يخبو أوارها، مهما تخلى الكثيرون عنها. ويجعلها قادرة على أن تنجب الشهداء واحدا تلو الآخر من أجل هذه الأرض المغتصبة غدرا. وأن تزلزلها تحت أقدام دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وكأنها تقول بأن الأمر لن يستتب لهم فيها، وأنها ستظل فلسطينية. لكن المدهش في هذا العرض، هو مدى غنى ما استطاع أن يوصّله لجمهوره برغم تغييب اللغة – أو بالأحرى بسبب هذا التغييب. لأننا أمام عرض استطاع أن يجسد أمامنا – ولا أقول أن يخبرنا عن – طبيعة المأساة التي تعاني منها المرأة/ الأم الفلسطينية، التي يقتل الصهاينة ابناءها باستمرار وبدم بارد. وأن ردها على هذا القتل هو بصناعة الحياة، بإنجاب ابن آخر غير ذلك الذي قتلوه، ابن يملأ عليها حياتها، ويعوض الفراغ الذي تركه أخوه الشهيد.

لذلك فهو مليء بنسغ الحياة الفلسطينية الطبيعي، و بالرغبة في الدفاع عن أرضه والثأر لأخيه المغدور. عرض يقدم لنا دورات هذا العدوان المستمر، وتواريخها المترعة بالعذاب دون استخدام كلمة واحدة. ولأنه استغنى عن اللغة المنطوقة، فإنه يوظف لغات العرض المسرحي الأخرى. وأولها لغة الألوان والوعي برمزيتها. حيث يتعامل معها العرض بوعي وتقشف شديدين. فكل شيء في المشهد المسرحي ملفع بالسواد أو اللون الرمادي الكامد. في ملابس الحداد المستمر التي ترتديها الأمهات الفلسطينيات، وفي أرض المسرح وجدرانه السوداء العارية والكابية. فنحن هنا بإزاء السواد والحزن الذي يفرضه الاستيطان الصهيوني على أهل فلسطين. كما يهتم باللغة المشهدية المرئية والحركة وتشكلات الفضاء المسرحي وحركة الممثلين، فضلا عن أننا بإزاء عرض يهتم بدور التكرار والمغايرة فليس ثمة تكرار بالمعنى المعروف، وإنما تغاير الدورات برغم حفاظها على المعنى/ الجوهر نفسه، في التعويض عن اللغة الغائبة.

مشهد من مسرحية (ملك)

ويستخدم خمس نساء – خمسة وخميسة في عين العدو – استطعن بالفعل بصبرهن ومواصلة إنجاب/ إطلاق الحياة في وجه الموت والعدوان، أن ينتصرن للحق والعدل في عالم جائر. فبرغم تشابه ما يدور لكل منهن، فإن كل واحدة استطاعت أن تمنح قصتها خصوصيتها التي تتفرد بها عن الأخريات. وفضلا عن تلك التكرارات/ والمغايرات فكل منهن تفقد أبنا أو أكثر من ابن، في كريشندو يبلغ ذروته في مشهد دال توشك فيه إحدى الأمهات أن تختفى وراء جثث أبنائها الموتى وهم يتراكمون في حجرها. كما يستخدم العرض عنصرا يندر استخدامه كثيرا في المسرح، وهو الماء الذي تستحيل معه الخشبة في القسم الأخير من العرض إلى حوض من الماء/ اللبن/ الدمع. هي مخاضة يبحر فيها الفلسطيني وقد زلزل الأرض تحت أقدام المستعمر، بعدما اقتلع ألواح أرض خشبة المسرح الفلينية، وأحالها إلى أداة فعّالة من أدوات التعبير المسرحي، بإسهامها في تجسيد المشاهد وتغييرها. حيث تستحيل مرة إلى الجدار العازل الذي بنته دولة الاستيطان الصهيوني في الأرض الفلسطينية، كي يحمي المغتصبين من أصحاب الأرض. وأخرى إلى البيوت التي تدمرها الجرافات، أو ببساطة إلى قدرة الفلسطيني على زعزعة الأرض تحت أقدام مغتصبيها.

ولا أستطيع وأنا أكتب عن هذا العرض إلا أن أذكّر نفسي بأنه كلما تكاثرت العقبات والكوابح والسدود أمام الفن، كلما أرهف ذلك قدرة الفنان على الإبداع بلا حدود، ومكنه من تجاوزها واختراقها. لأننا نعرف أن سلطات دولة الاستيطان الصهيوني قد فرضت على هذا المسرح الكثير من قيودها، واعتبرته مقاوما لمشروعها البغيض في فلسطين. ولا أن أنسى في هذا المجال عرضا مسرحيا جذابا آخر غيّب اللغة كلية دون أن يفقد تأثيره على المشاهد، وهو عمل توفيق الجبالي العلامة (فهمت اللا) قبل ثلاثين عاما. بل إن عمل فريق «مسرح خشبة» الفلسطيني ينتمي إلى ما كرّسه المسرحيون التوانسة من منهج الكتابة الركحية، أي كتابة النص بالممثلين على الخشبة أثناء عمل طويل من التجارب والتدريبات قبل تثبيت نصه الدرامي، وهو بالطبع غير النص المكتوب بالكلمات بعيدا عن الخشبة؛ والذي يقوم المخرج عادة بتأويله حركيا وبصريا ووضعه على الركح/ الخشبة أمام المشاهدين. وما أن تسعى للذهاب لمشاهدة هذه المسرحية، بعد النجاح في الحصول على تذكرة لها، فقد نفدت كل تذاكرها قبل بداية المهرجان، حتى تكتشف أنهم اختاروا لها أن تكون بعيدة عن مركز مدينة أفينيون بعدة كليومترات – فقد عرضت في ضاحية L’autre Scene du Grand Avignon – Vedene – وهو أمر له دلالاته هو الآخر. فهل كانوا يعدّون المشاهدين لشيء من الحواجز اليومية التي على الفلسطيني عبورها في كل خطوة له في أرض بلاده الواقعة تحت نير احتلال دولة الاستيطان الصهيوني فيها؟

مشهد منمسرحية (ملك)

المهم أنك ما أن تدخل إلى قاعة عرض هذه المسرحية حتى تجد أمامك خشبة مفتوحة كل حيطانها وأرضيتها من الرمادي الداكن. وسنكتشف لاحقا أن أرضها قد تكونت من ألواح اسفنجية – كتلك التي تستخدم في صناعة المراتب والحشايا – صبغت هي الأخرى باللون الرمادي الداكن، كي تمتص الضوء، وتبتلع أصوات حركة الممثلين عليها. وليس على الخشبة غير كرسي ونموذج خشبي للجسد البشري من تلك التي يستخدمونها في كليات الطب لشرح نسب الجسد البشري ومفاصله، ملقى على الأرض بجوار الكرسي، بحيث بدا وكأنه جثة عارية. وعندما يظلم المسرح والصالة كلية إيذانا بابتداء العرض، تدخل خمس نساء تحمل كل منهن أحد تلك النماذج الخشبية العارية وكأنها طفلها، تهدهده كل بطريقتها الخاصة، وتبكيه في الوقت نفسه استشرافا لفقدانه الحتمي الوشيك. بحيث تبلور كل أم من البداية شخصيتها ونمط علاقتها مع ابنها/ أو بنتها. ويتصاعد تعبير كل منهن عن حبها لابنها وحزنها عليه في كريشيندو تعبيري من الهسيس والهدهدة يتنامى إيقاعه الملغوم حتى يسقط الابن على الأرض، وترتوي بدمه. وتتوالى دورات الانجاب والتربية والموت، حتى نصل في مشهد مدهش إلى أم تقدم شهيدا وراء الآخر في الدفاع عن الأرض الفلسطينية والتشبث بها، وقد أخذت النسوة يضعن تلك النماذج العارية/ الأبناء المستشهدين واحدا وراء الآخر في حجرها، وسط بكائها وصرخاتها الصامتة حتى اختفت هي كلية وراء كومهم. في مشهد تعبيري فاتن يتجاوز بجمالياته الحركية قدرة الكلمات، فيصبح الصمت معه أكثر منها بلاغة وإفصاحا.

مشهد من مسرحية (ملك)

فنحن هنا بإزاء نوع مغاير من المسرح يطوّر لغته الجديدة التي يمكن دعوتها بلغة الصمت الحركي والدرامي التي تبلور بطريقتها الخلاقة مفرداتها التعبيرية بعيدا عن اللغة المنطوقة. ويستخدم العرض الألواح التي تتكون منها الأرضية بصورة تتعدد فيها الدلالات. فبعد أن بدت الأرض ثابتة تحت أقدام النساء الخمسة، سرعان ما نكتشف أن هذا الثبات وهم. حيث تتفجر من تحت أقدامهن، بدءا من اقتلاع الألواح في نوع من حفر القبور لدفن الشهداء، والذي يسفر في الوقت نفسه عن أن الشهداء يقتلعون الأرض من تحت أقدام المحتل. وتتكشف الدلالات وقد فقدت الأرض ثباتها، حيث نكتشف معانٍ ودلالات جديدة لتلك الالواح التي تُقتلع وتتكوم في أركان الخشبة البعيدة، فتجسد مرة معاول الهدم المستمرة التي تكتسح جرافاتها بانتظام بيوت الفلسطينيين، دون أن تنجح في الإجهاز على تشبث الفلسطيني بأرضه، أو في إنهاء قدرته على مقاومة مغتصبيها. وتجسد مرة أخرى حائط الفصل العنصري الذي بنته دولة الاستيطان الصهيوني كي يفصل بين الفلسطيني وأرضه المسروقة منه عنوة في وضح النهار. في مشهد بالغ التأثير وقد تشبثت الأمهات الخمس به يريدن اجتياحه بأجسادهن القوية الضعيفة معا.

مشهد من مسرحية (ملك)

فالعمل مشغول حقا – كما يقول لنا برنامجه المطبوع – بجماليات ما بعد الكارثة/ النكبة التي يعيشها كل فلسطيني حتى اليوم «لا بأسبابها وأحداثها، ولا بنوعيتها وعواقبها، ولكن بالطريقة التي قسمت بها الزمن إلى قسمين: ما قبل وقوعها، وما بعده وخلقت جرفا بين الزمنين/ العالمين. بالصورة التي فقد فيها الزمن تعاقبه واستحال إلى ديمومة لا نهاية لها. اصبح فيها الماضي حاضرا، وفقد فيها المستقبل أي معنى خارج تكرارات الزمن اللامتناهية.» في هذا الجرف الزمني المخيف تقع الأحداث الدرامية المبنية بنسق محسوب، والتي لا يعني فيها افتقاد الكلمات إلا أن ما تريد الإفضاء به يتجاوز قدرة اللغة المنطوقة على التعبير. فليس ثمة ما يعبر حقا عما تعيشه أمهات فلسطين. فقد خانتهم اللغة، كما خانهم الكثيرون من العرب المتقاعسين عن واجبهم إزاء قضية فلسطين السليبة. لذلك يواجهون ما يدور في أرضهم المحتلة بجلد ونصاعة تعبيرية جديدة، وصمت أبلغ من كل كلام. تتدفق الحياة من بطون هؤلاء النسوة، كما يتدفق اللبن من أثدائهن بغزارة تروي الأغصان الجافة التي يزرعنها في بطون الجثث. جثث أبنائهن وبناتهن المتكاثرة، والتي يلتهمها الموت وهي في ذروة الحياة.

فالعمل مشغول أيضا بذلك الموت غير الطبيعي الذي ينتشر كالهواء في كل موقع من أرض فلسطين. موت غير طبيعي يلتهم الشباب والشابات وهن في شرخ الحياة، ويبقي الأمهات يروين باللبن المتدفق من أثدائهن وبالدمع المنهمر من عيونهن ينسال مدرارا، فتنفتح معه عيون السماء بالمطر، أرض فلسطين فتورق بشرا/ مردة يقضّون مضاجع العدو ويهزمون مشروعه. ويتحول المسرح قرب نهاية العرض، الذي لا يتجاوز طوله الساعة إلا قليلا، إلى بحيرة من اللبن المخلوط بدموع الأمهات ودموع السماء معا. وتتحول مع هذا كله المسرحية – بإيقاعاتها الطقسية المحسوبة وبنيتها التراجيدية المفعمة بالحزن – إلى طقس جمالي باذخ للحياة والمقاومة معا. تؤدي فيه جماليات المسرح الجديدة، أو جماليات التعبير عن الكارثة كما يصفها بشار مرقص، مخرج العرض ومؤلفه، دورها المهم في إرهاف وعي الجمهور بأن ما يدور في فلسطين يؤثر على المشاهدين جميعا مهما حاولوا التنصل منه. ويكشف في الوقت نفسه عن قدرات المرأة الفلسطينية/ العربية الخلاقة، حيث ينهض على أكتافها عبء المساهمة الفعّالة في بلورة هذا العمل الجميل، وفي طليعتهن خلود باسل طنّوس ومجدلة خوري وسلوى نقّارة وريم طلحمي وشادن قنبورة وسميرة قدري وسماء واكيم وفريال الجبة وبقية فريق مسرح خشبة الفلسطيني المتميز. بقيادة تلك الموهبة المسرحية الحقيقية والنادرة: بشار مرقص.

التريض جريا Jogging:
أما المسرحية العربية التالية التي شاهدتها في مهرجان هذا العام فكانت مسرحية حنان الحاج علي (التريض جريا)، وهي من مسرحيات الممثل الواحد كما ذكرت. ولأن الكلمة التي اختارتها عنوانا لعملها هي في الأساس كلمة انجليزية تستخدم في الشارع اللبناني، لوصف ذلك النوع من الجري كممارسة للرياضة، فقد أبقت العنوان بالإنجليزية دون ترجمة. وكتبته في نص المسرحية المطبوع، والذي كان يباع بعد المشاهدة بحروفه العربية (جوغينغ: مسرح قيد التطوير).  وعلى العكس من (ملك) الذي غابت عنه اللغة المنطوقة كلية، كان عرض حنان الحاج علي، والذي استخدم هو الآخر كلمة انجليزية عنوانا له بعنوان (جوغينغ Jogging) والتي تعني التريض جريا، أو الجري من أجل الجري كنوع من الرياضة، معتمدا كلية على اللغة، برغم عنوانه. وإن استخدم في البرنامج المطبوع عنوانا فرعيا بالعربية، وهو: مسرح قيد التطوير. وهو بالفعل مسرح قيد التطوير، لأنه يسعى إلى تخليق عمل مسرحي مفتوح، يمكن التحوير فيه، وإدخال مفردات جديدة مما يدور في الواقع اللبناني الذي يتمحور حول حاضره، ويتسع لاستيعاب الكثير من التنويعات والتغيرات التي تطرأ عليه، وتتيح له أن يكون تعبيرا حيّا عن اللحظة الحاضرة بمتغيراتها المتسارعة. وعن مشاكل المرأة اللبنانية مهما اختلفت تجلياتها، أو تنوعت خلفياتها.

ويعتمد هذا العرض أيضا على المرأة: مؤلفة له وممثلة لكل أدواره، لأننا بإزاء مسرح الممثل/ة الواحد/ة. حيث يقدم لنا هو الآخر عددا من النساء اللبنانيات في صراعهن مع الواقع الصعب الذي يعيشه لبنان، بمختلف طوائفه. فهناك فضلا عن الممثلة التي تطمح إلى أن تقوم بدور ميديا، لما فيه من تحديات لمن تقوم به من الممثلات، وهو طموح الممثلة/ الكاتبة نفسها فيما يبدو، المرأة الشيعية التي انحدرت من حي الميدان بالنبطية في الجنوب اللبناني وتزوجت مارونيا من شماله، وانتهى بها الأمر إلى الإقامة في فرنسا، وتشتت أبناؤها منه بين مختلف المنافي. وهناك المرأة الشيعية الأخرى التي تزوجت شيعيا، انضم هو وابنها من بعده إلى حزب الله، وما جرى لكل منهما: الزوج الذي هجرها، والابن الذي مات في سوريا. وهناك قصة إيفون التي تنحدر من جبل لبنان، والتي قامت بقتل بناتها الثلاث ثم انتحرت. وغيرها من قصص الواقع اللبناني الأكثر تعقيدا مما جرى في زمن ميديا. حيث تكشف لنا كيف يتخلق في الواقع اللبناني – الذي تتردد فيها أطياف المقولة الهاملتية الشهيرة: ثمة شيء عفن في الدنمارك، مع قتل الحريري مرة، ومع انفجار المرفأ أخرى – أكثر من نموذج لما عاشته ميديا، ودفعها لقتل أبنائها.

حنان الحاج علي

وقد اختارت هي الأخرى بالمصادفة أن تكون خشبة المسرح الذي تعرض عليه عملها باللون الأسود، وكذلك كل حيطانه، وأن تكون الإضاءة كابية وخافتة، وأن تلبس هي الأخرى رداء أسود، وتغطي رأسها بحجاب أسود. وكأنها تجسد بهذا كله السواد الذي يلف في ظلماته الشخصية والأحداث التي ترويها في آن. وحينما ندخل إلى المسرح نجدها فعلا على الخشبة، تمارس بعض التمارين الحركية والصوتية التمهيدية، بما في ذلك الغرغرة، والتدريب على حرفي الغين والخاء. وتتتابع الكلمات التي تبدأ بحرف الخاء وما يجره من أطياف الخراب والخذلان من خاب وخار وخاط وخاف وخان، إلى خبر وخبز وخبص وخرف وخبط وخبل، إلى ختل وختم وختن وخجل وخدر وخدع وخذل وخسف وخنع وصولا إلى الخراء الذي يعمر الواقع اللبناني الذي تعيش فيه، والواقع العربي الأوسع من ورائه.

وبعد تلك التمارين الكاشفة عما سيدور حوله العرض، تطلب متطوعا من أفراد الجمهور كي يقرأ ورقة تقدمها له، هي بمثابة تقديم للعرض أو تأطير له. فنعرف أننا بإزاء عرض غير شرعي Batard بنت حرام، تعرض لصنوف من العرقلة والتخريب والخسف به من السلطات اللبنانية. ثم تدخل بنا في العرض الذي تقوم فيه بأكثر من دور: أول هذه الأدوار، هي نفسها ومسيرتها كممثلة في الواقع اللبناني تريد أن يلعب المسرح دورا إيجابيا فيه. وثانيها دور سيدة متزوجة تعيش في جبل لبنان وتدعى إيفون في الثانية والأربعين من العمر، وثالثها دور زهرة – والتي استدعت إلى ذهني أثناء المشاهدة أطيافا من «حكاية زهرة» تلك الرواية المهمة لحنان الشيخ – وهي سيدة شيعية من جنوب لبنان، متزوجة في الخمسين من عمرها تبكي ولدها الذي مات في حرب «حزب الله» في سوريا. ورابعها وأهمها دور «ميديا»[i] تلك الشخصية الإغريقية بالغة الثراء والتعقيد.

و تبدأ العرض فعلا بتقديم نفسها حيث ولدت في أسرة شيعية من حي الميدان بالنبطية وتعرفنا على مسيرتها التي آلت بها إلى الزواج من ماروني، والإقامة في فرنسا، وانجاب أربعة ابناء توزعوا في شتى أرجاء المعمورة – مثلهم مثل «كل رفقاتهم» كما تقول. حيث تنطلق من الشخصي أو الفردي إلى الجمعي أو العام، وحتى إلى التجريدي والميتافيزيقي، في رحلة للكشف عن حقيقة المرأة العربية وما تتحمله من أعباء تنوء بها الجبال، في الواقع اللبناني خاصة. وهي رحلة تأخذنا إلى قصة «ميديا» الإغريقية المشهورة. صحيح أنها كممثلة تحلم بأن تلعب الأدوار الكلاسيكية الشهيرة من فيدرا وأندروماك إلى كاسندرا وانتيجوني، وحتى دور أوديب نفسه. لكن دور «ميديا» هو الذي يستحوذ عليها ويستأثر برغباتها الدفينة، وتريد أن تقوم به في عملها كممثلة. لأن دور «ميديا» «دور عظيم، فظيع، ما فيه ممثلة ما بتحلم بيه» كما تقول. وبرغم نفورها من الجانب العنيف في شخصية «ميديا»، فإنها تتذكر أنه حينما أصيب ابنها بالسرطان وهو في السابعة من العمر، وعاشت عجزها وخوفها عليه ومعاناته الرهيبة، حلمت ليلة بأنها أنهت حياته وأحست بأن «ميديا» – التي استفظعت قتلها لأبنائها في رواية يوربيديس لمأساتها – سكنتها وأصبحت قطعة منها.

مشهد من التريض جريا

منذ ذلك الزمن البعيد بدأت تفتش بمن حولها من النساء عن القطع الباقية فيهن من «ميديا». وكيف يمكن أن تعيش «ميديا» اليوم في مدينة ممزقة ومنقسمة على نفسها مثل بيروت. كلما تأملت الحياة فيها كلما استدعت كلمات شكسبير الشهيرة في (هاملت) ثمة شيء عفن في الدنمارك! لذلك كانت قصة «إيفون» هي أول من استدعت من واقع لبنان الحديث. ومن قصص حقيقية كثيرة أخرى يتم «لفلفتها» مثل قصة رأفت سليمان الذي انتهى بتذويبه في الحامض، وقصة الطفلة نيكول التي كانت تغتصب يوميا من خوري المدرسة ومن أبيها، وقصة رنا قليلات، وفضيحة بنك المدينة، وغيرها. لكنها اختارت قصة إيفون: امرأة لبنانية أصيلة من بلدة عريقة بجبل لبنان. قامت يوم 19 نوفمبر 2009 بقتل بناتها الثلاث: نورا 13 سنة، وأليسا 10 سنوات، ومريم 7 سنوات، ثم لحقت بهن بأن أكلت من نفس سلطة الفواكه المسمومة التي أطعمتهم إياها. وتركت شريطا مسجلا لزوجها اسكندر الذي يعمل في الخليج، سرعان ما اختفى كلية، ولم يعد أحد يعرف ما فيه. وحتى تعبر عما كان في الشريط المختفي تلجا إلى مقطع مفجع من صياغة هاينر موللر الحديثة لمأساة ميديا.

وهو الأمر الذي يوصلها إلى قصة أخرى، قصة زهرة الفتاة الشيعية التي نشأت بالضاحية الجنوبية لبيروت، وتعرفت في السبعينيات على محمد الذي انقلبت معه حياتها «حب ونضال، فن ويسار، قضية فلسطينية، قومية على أممية، اشتراكية على بعثية على حركة وطنية على مقاومة. مقاومة كل شيء إلا العشق. عشقت القضية وعشقت الحرية، وعشقت محمد: النبي محمد وحبيبها محمد الذي سمي على اسم النبي». وعاشت معه أفكارها حتى اعتقلوه الصهاينة في معتقل أنصار، فوقفت معه ودافعت عنه. وأنجبت منه أولادا استشهد اثنان منهما في حرب 2006 دفاعا عن أرض لبنان، فأصبحت أما لشهيدين. لكن زوجها سرعان ما تخلى عنها وتزوج من أخرى، ووسط تعاسات تخليه عنها وعن كل ما ناضلا معا من أجل، يقتل ابنها الثالث في حرب «حزب الله» بشمال سوريا عام 2013. ويبعث لها برسالة تكشف عن أنه قُتل لأنه رفض أن يقتل الأبرياء من ابناء وبنات الشعب السوري الثائر. وأن هذا الرفض أحاله إلى خائن أو عميل. وهكذا تتحول قصة زهرة إلى مأساة محلية تنهل من تفاصيل حياة المرأة اللبنانية في واقعها الراهن، وفي معاناتها مع العجز والفساد الذي يستشري من حولها كالهواء في كل موقع.