كان مهرجان أفينيون المسرحي هذا العام حافلا بالعروض والمسرحيات المهمة. وقد حضره محرر (الكلمة) كالعادة، وها هو يقدم لنا هنا القسم الأول من المسرحيات الجميلة التي شاهدها فيه، وسيتبعه قسم ثان. فقد كان مهرجان 2022 غنيا بالعروض والقضايا، بعدما استعاد المهرجان حيوته وقد تعافى من جائحة كرونا.

مهرجان أفينيون السادس والسبعون (1/2)

قضايا المرأة العربية ودراما المرأة الغربية

صبري حافظ

 

استشراف مهرجان أفينيون هذا العام بعد تعثر يوبيله الماسي
يَعِدُ البرنامج الذي تلقيته قبل شهر لمهرجان أفنيون هذا العام – والذي انعقد كالعادة بين السابع والسادس والعشرين من شهر يوليو/ تموز – بأن المهرجان سيستعيد شيئا من ألقه وحيويته، بعدما تعثر لعامين بسبب جائحة الفيروس التاجي «كوفيد 19». ليس فقط لأنه استعاد موعده السنوي الثابت مع عشاق المسرح الذين يتوافدون إليه – عارضين ومشاهدين – من كل أنحاء العالم، حيث سيبدأ في السابع من يوليو وينهي عروضه في السادس والعشرين منه. وإنما أيضا لأن برنامج هذا العام يعد بالكثير. خاصة بعدما تعثر المهرجان في العامين الماضيين. وبدلا من الكريشيندو المتصاعد الذي كان يَعِد به مهرجان عام 2019 من أجل الوصول إلى يوبيله الماسي عام 2021؛ توقف كلية في أوج الرعب من الجائحة عام 2020، ثم حاول العودة لجمهوره، في العام الماضي الذي كان عامه الخامس والسبعين: أي عام يوبيله الماسي متأخرا حيث جرى بين الخامس والخامس والعشرين من أغسطس/ آب عام 2021، وليس في موعده المألوف في شهر يوليو. وببرنامج يتسم بشيء من التقشف، حيث كان شبح الجائحة لايزال مخيما عليه، يستأديه ثمنا فادحا – غريبا على طبيعته الجماهيرية الحاشدة التي تفيض بها فضاءاته المختلفة – بمراعاة شروط التباعد الاجتماعي في عروضه التي اعتاد الجمهور التزاحم عليها.

فماذا يا ترى يحمل برنامج هذا العام، وهو عام المهرجان السادس والسبعين؟ من البداية يبدو البرنامج وكأنه برنامج مهرجان متكامل من جديد، كما عودنا هذا المهرجان الذي أصبح أهم مهرجانات المسرح في أوروبا قاطبة على مد رحلته الطويلة مع التطور والرسوخ. ففيه يتجلى عمل مهرجان أفينيون على الدوام على الاهتمام بمختلف أجناس العمل المسرحي إلى جانب العمود الفقري له الذي يعتمد على نصوص مسرحية مكتوبة من مختلف الثقافات والمراحل الزمنية. لأن به تسعة عشر مسرحية، بالمعنى المألوف للمسرحية التي تعتمد على نص مسرحي سواء أكان مأساويا أو كوميديا، قديما أو معاصرا. والتي يتراوح طولها من الساعة والنصف إلى الـ 12 ساعة من العرض المتواصل في بعضها. وعمل واحد ينتمي إلى المسرح الغنائي، وليس هذا الأمر بالغريب، فقد أسرف المسرح الغنائي في النزعة التجارية والاستهلاكية – وبلغت ذروتها في المسرح الانجليزي والأميركي – التي جعلته نوعا من الترفيه أو الترويح وأوشكت أن تخرجه من دائرة المغامرة الدرامية الجادة، إلى مجال الترويح التجاري. وثلاثة أعمال يصنفها على أنها موجهة للجمهور الفتيّ، ولا أقول لمسرح الأطفال، ولكن من خبرتي السابقة عنه فهي عروض يستمتع بها الكبار والصغار على حد سواء. يعرض كل من هذه الأعمال المسرحية لعدد من المرات بين الخمسة والعشرة.

وهناك سبعة أعمال يصنفها المهرجان على أنها عابرة للنوع Indiscipline أو متعددة الأنواع – ومنها على سبيل المثال عمل للمسرحي الفلسطيني بشار مرقص ومحترفه الشهير في حيفا، والذي أبهر جمهور مهرجان العام الماضي بعمله (متحف) الذي يمزج فيه اليومي بالوثائقي والحضور المشهدي التمثيلي بالمقاطع السينمائية المصورة سلفا، وغيرها من أشكال الفرجة المسرحية. وفي المهرجان أيضا ثمانية أعمال من الرقص الحديث. فله تاريخ طويل مع الاهتمام بالرقص الحديث باعتباره أحد أهم التجليات الراهنة لجماليات الحركة المسرحية والقدرة على التعبير دون استخدام الكلمة، كما كان الحال في القرن التاسع عشر مع فن الباليه الكلاسيكي. فقد أصبح الرقص الحديث، الذي سعى إلى كتابة ما يمكن دعوته بباليه القرن العشرين من خلال الحركة المحسوبة وتصميم الرقصات الدقيق «كريوجرافيا» من حيث التشكيل البصري والحركي والإيقاع إلى أحد الصيغ المسرحية التي يهتم المهرجان بتقديم أفضل ما في جعبتها سنويا، بل ويفرد لها أحيانا قمة فضاءات العرض فيه، وأقصد ساحة الشرف المهيبة في القصر البابوي.

وهناك جنس مسرحي أو مشهدي جديد يسميه «موسيقى/ شعر Musique – Poésie» نجد منه ثلاثة عروض أبرزها هذا العام، بالنسبة للقارئ العربي خاصة، عرض «والأرض تورث كاللغة» المأخوذ عن أشعار محمود درويش. فقد كان الجمهور الفرنسي مغرم بمحمود درويش وأشعاره، وأذكر أن آخر أمسيات الفقيد الشعرية كانت في مدينة آرل في جنوب فرنسا، قبل أن يسافر للولايات المتحدة لإجراء الجراحة التي أودت بحياته. أما العرض الثاني فإنه يغير العنوان التجنيسي «موسيقى/ شعر» إلى «شعر/ محاضرة/ عرض Poésie – Lecture – Performance» لأنه بعنوان (شاعرات) اختارهن من عدد من البلدان العربية وأفغانستان، ويسعى عبرهن إلى طرح صوت المرأة الشعري، وسياقات فاعليته في تلك الثقافات المأزومة. وكأنه يقدم هذا العرض أمام نقيضه الطالع من قلب أوروبا وهو العرض الثالث في هذا الجنس المسرحي الجديد، والذي سيفرد له ساحة الشرف في القصر البابوي في هذه الدورة.

لأنه عرض قادم من لندن يمكن القول أنه يمثل أكثر أشكال هذا النوع من العمل المسرحي جدة وطليعية وهو للشاعرة والروائية والمسرحية الانجليزية الموهوبة كي تمبست Kae Tempest التي سبق لها أن حصلت على جائزة تيد هيوز الشعرية المرموقة عام 2013 عن ديوانها (عتيقون بالغي الجدة  Brand New Ancients)، وفي العام نفسه قامت واحدة من أهم الفرق المسرحية التي تستشرف الجديد والتجريبي في المسرح الانجليزي وهي فرقة Paines Plough بتقديم مسرحيتها الأولى (متفانون بلا أمل  Hopelessly Devoted). ثم تحول ديوانها الثاني (دعهم يأكلون الفوضى  Let Them Eat Chaos) إلى ألبوم مسموع ذائع الانتشار قبل أن يصدر كديوان شعري عام 2016. ولاقت روايتها (قوالب الطوب التي بنت البيوت  The Bricks That Built the Houses) عام 2017 اهتمام النقاد، ووصلت إلى قائمة أكثر الكتب مبيعا، وحصلت على جائزة الروائي الناشئ في العام نفسه. أقول أن هذه الشاعرة والعارضة الطليعية تمثل أكثر أشكال العرض جدة، لأنها ومنذ أن بلغت السادسة عشرة وبدأت كتابة الشعر، قررت أن تقدم شعرها كعرض شفوي مسرحي، مصحوب بموسيقى من تأليفها الخاص أيضا. وأن تدور به في المدن البريطانية المختلفة، تسعى به للجمهور، ولا تنتظر طبعه في كتاب، وطرحه في السوق إلا بعد أن يكون قد نضج أثناء هذا التفاعل المباشر بينه وبين الجمهور. وستجيئ لمهرجان هذا العام بعرض بعنوان (الخط منحنى The Line is a Curve).

وإلى جانب هذا كله هناك ما يدعوه المهرجان بـ«المعرض المشهدي الحي Exposition et performance» والذي سيحتل بيت/ أو متحف جان فيلار في أفينيون، ويقدم عرضا بصريا موازيا لعروض المهرجان، وهو معرض للمصور الفوتوغرافي Christophe Raynaud De Lage الذي عمل مصورا لعروض المهرجان طوال السبعة عشر عاما الأخيرة. في نوع من تسجيل الذاكرة البصرية القريبة للمهرجان. ناهيك عن المنتديات والندوات الفكرية التي تشغل نهارات المهرجان، والتي يدور بعضها حول قضايا مسرحية أو فكرية عامة ذات علاقة بدور المسرح في عالمنا الراهن والمتغير. فعلى سبيل المثال ستقام في مهرجان هذا العام مجموعة من الندوات عن الجدل الدائر حول البيئة، وما إذا كان للمسرح أو للعروض الحية دور في تعميقه والمشاركة فيه؛ أو دور المسرح في قضايا الهوية وتجلياتها المتعددة في الواقع المترع بصراعات الهوية القومية منها أو الدينية؛ أو اقتصاديات الثقافة المادية والاجتماعية ودورها في الإبداع؛ أو الحكي وحقوق الإنسان والخطابات المضادة؛ أو وماذا سيكون عليه حال العرض المسرحي في 2050 ... إلخ. فضلا عن اللقاءات المفتوحة للصحفيين ونقاد المسرح الذين يترددون على المهرجان مع مخرجي العروض ومؤلفيها، والحوارات النقدية المنظمة والتي تتسم بقدر كبير من العمق والجدية لأنها تدور أمام جمهور واسع عادة. إلى ورش الكتابة والتأليف المختلفة عن اشكال الحكي على المسرح أو غيرها من الموضوعات. إلى المؤتمرات الصحفية التي ينظمها المؤتمر حول بعض الأعمال التي تعرض فيه.

لكن دعنا نتريث قليلا عند افتتاحية برنامج المهرجان قبل أن نقدم للقارئ بعض عروضه التي شاقتني عبر ما ينطوي عليه البرنامج من تقديم لها، والتي سعيت لحجز مقعدي مقدما فيها. صحيح أنني كنت أتطلع منذ عامين إلى تغيير مدير المهرجان، أوليفييه بي الذي أداره للأعوام الخمسة الماضية، وتعيين بديل له، يكون أكثر انفتاحا على التجارب الأوربية الثرية، وأقل غيرة من كبار مخرجيها المبدعين، لكن البرنامج الجديد يؤكد أنه لايزال مديرا له لهذه الدورة أيضا. لأنه ينطلق في تقديمه له بأن كل جيل يشهد نهاية عالم يتداعى وبداية عالم جديد، تتسلل بعض ملامحه إلى أحلام الشباب وصبواتهم الإبداعية، وتتجلى أحيانا في خطورة الأمل في عالم مغاير كلية. وأن تلك المرحلة البينية تتسم عادة بالفوضى والتنافر والتشتت والدراما غير المكتملة. في مثل تلك اللحظة التاريخية الرجراجة والمتصفة بقدر من السيولة، تندلع الحرب حينما نعتقد أن العنف سيكتب التاريخ، وعندما ينحرف السرد ويتم تزييف التراث، ويسود الخطاب الشوفيني الضيق، والزعم بنهاية التاريخ. فهل انتهى التاريخ أو مات حقا كما يزعم البعض؟!  وإذا كان التاريخ قد مات فهل ماتت معه كل آمال العدل الاجتماعي، والتقدم الإنساني نحو المعنى؟ وهل ثمة عدل دون توفر التعليم والثقافة لمن حُرموا منها؟ وهل يمكن لأي عدل أن يتوفر في غياب الحرية؟ ويجيب على هذه الأسئلة بالأمل في عالم جديد يتيح للشباب التحقق، من خلال طرح سرودهم الجديدة ورؤاهم المختلفة على العالم، ومن خلال إتاحة المهرجان الفرصة لهم لتحقيق ذلك.

فهل يَعِد البرنامج بشيء من هذا؟ أميل إلى الإجابة المبكرة بقدر من الإيجاب. لأن البرنامج حافل بالكثير. ففي جانب الكلاسيكيات المسرحية والتي لا ينضب معينها في فتح عيوننا على التعامل مع الحاضر هناك (إيفجينيا) التي تدير عبرها آن ثيرون Anne Theron حوارا خصبا مع مسرحية يوربيديز ولكن في عالم لا آلهة فيه، وليس الإنسان مسؤولا به إلا أمام نفسه، فهل سيضحي آجاممنون بابنته من أجل الانتصار في طروادة؟ ولا يمر مهرجان دون أن يحتوى على عمل لعملاق المسرح الانجليزي وليام شكسبير أو أكثر. حيث يجيئ مسرح نانتر تحت إدارة كريستوف روك Christophe RaucK الجديدة بمسرحية التاريخية (ريتشارد الثاني) ثم يجيء المخرج الإيطالي ألساندرو Alessandro Serra ومسرحه Teatropersona بمعالجة درامية وجمالية لمسرحية شكسبير الكبيرة (العاصفة). وهناك أيضا تلك المسرحة الروسية المعاصرة لأحدى قصص أنطون تشيخوف القصيرة (الراهب الأسود). لكن الغريب أن يغيب عن مهرجان هذا العام أي أثر لكلاسيكيات المسرح الفرنسي، فليس ثمة أي عمل لموليير ناهيك عن راسين أو كورني.

أما في جانب الأعمال الجديدة والمشتبكة بقضايا الراهن، فهناك كالعادة عمل جديد لأوليفييه بي نفسه يستغرق عرضه أكثر من عشر ساعات، حيث يبدأ في الثانية ظهرا، ولا ينتهي قبل منتصف الليل بعنوان كاشف عن نرجسيته (شبابي الماجد Ma Jeunesse Exaltée) ضمن سلسلة من مسرحيات سيرذاتية عرضها في المهرجانات السابقة. أما من حيث الأعمال الجديدة التي أتوقع أن تشوق القارئ العربي، فسيعود بشار مرقص المسرحي الفلسطيني الذي استحوذ على اهتمام متابعي المهرجان في العام الماضي حينما وفد له لأول مرة من حيفا بمسرحيته (المتحف) بمسرحية جديدة بعنوان (مِلْك). وسيعود أيضا على شحرور وفرقة رقصه الحديث اللبنانية، والتي استطاع أن يبرهن بها على أن الرقص الحديث في لبنان لا يقل تطورا عن نظيره في البلدان الأوروبية المختلفة. بعد أن كان قد تردد بها على المهرجان عدة مرات في عام 2016 و2018 و2019، قدم خلالها ثلاثية من العروض شبه المترابطة حيث تدور حول طقوس الموت والدفن الشيعية في لبنان. ويجيئ هذا العام بعرض جديد بعنوان (كما روتها أمي) ينتمي كما يقول لنا لثلاثية أخرى عن الحب. وستجيئ إلى المهرجان من بيروت حنان الحاج علي بمسرحيتها (الجري تريضا Jogging) التي تتناول فيها حياة أربع شخصيات نسائية عربية تسعى عبرها إلى تبديد الصور النمطية الشائعة عن النساء العربيات.

أما المسرحي الإيراني أمير رضا كوهستاني الذي يعيش في المنفى الأوروبي، فسيجيئ لمهرجان هذا العالم بعمل يحمل اسما دالا In Transit بما يشير إليه من تلك المساحة البينية المؤقتة والوجود بين محطتين، يجمع بين السعي لمناهضة الفاشية الجديدة التي تتنامى من حولنا، حتى في أوروبا نفسها، وبين أوجاع الوضع البيني الذي يجد فيه المهاجر نفسه، بعيدا عن الحيوات المتروكة من ورائه، وفي مواجهة أشكال متنوعة من العنف العنصري والرفض المُقَنّع. كما سيعود المسرحي الصيني المرموق منج جينغهوا Meng Jinghui الذي أذهل مهرجان عام 2019 بعرضه المدهش «بيت الشاي» لأحد أبرز أعلام الأدب والمسرح الصيني لاو شي الذي استمتعت به في مهرجان عام 2019 وكتبت عنه وقتها، لأنه يقدم لنا بانوراما عريضة لتجربة الصين مع التحديث منذ القرن التاسع عشر، مرورا بالاحتلال الياباني وحتى الثورة الصينية والزحف الطويل عام 1949، تتضافر فيها عناصر المسرح والفرجة مع جدليات الفكر والتحريض. ولكنه سيجيئ هذه المرة بمسرحيته لرواية يو هوا Yu Hua (اليوم السابع) أتطلع بشغف إلى رؤيتها والكتابة عنها للقارئ العربي، لأن معرفتنا بما تنتجه الثقافة الصينية المعاصرة تحتاج إلى الكثير من الاهتمام المفقود.

لكنني ما أن قدمت إلى مهرجان أفينيون حتى أدركت أن مسرح منطقتنا، العربي منه والإيراني، وبالمعنى الواسع للعرض المرئي الحيّ، من محاور اهتمام مهرجان هذا العام. وأن الانتقاءات المحسوبة في استقدام العروض إليه استهدفت إلى حد ما تبديد بعض الأفكار المغلوطة عن المنطقة، وعن وضع المرأة فيها بشكل خاص. فقد اتسمت معظم الأعمال التي جاءت من المنطقة إلى المهرجان – العربية منها والإيرانية – بالتركيز على وضع المرأة المحوري، كمبدعة أولا، وكلاعبة لدور أساسي في حياة شعوبنا المقهورة بشكل فاعل وأساسي. ليس فقط لأن فيه أكثر من عرض عربي، تساهم فيه المرأة بدور إبداعي فعال، وهو ما جعل المرأة كموضوع محور العرضين الفلسطيني واللبناني. ولكن أيضا لأن العرض الإيراني (En Transit) لأمير رضا كوهستاني يجعل المرأة محور اهتمامه هو الآخر، بالرغم من أن موضوعه العام – وهو تناول أوروبا الكاشف عن ازدواج المعايير للمهاجرين – كان من الممكن أن يتم دونها.

مسرحيتان عربيتان :
والواقع أن عرضين من العروض العربية يأتيان من فرق مسرحية سبق لها العرض في المهرجان، واستدعاها للعودة إليه بعمل جديد، وفي طليعتها كان العرض الفلسطيني الباهر (Milk) لبشار مرقص والذي استحوذ عرضه (متحف) في المهرجان السابق على اهتمام الجمهور والنقاد معا؛ مما دعا المهرجان إلى دعوته للعودة هذا العام بعمل تفوق فيه على نفسه، وعلى ما سبق أن قدمه فيه في الدورة السابقة. أما العرض الثاني الذي جاءت به فرقة سبق أن ساهمت من قبل في المهرجان أكثر من مرة فهو عرض علي شحرور – الراقص ومصمم الرقص الحديث اللبناني – الذي يضع المرأة/ الأم في عنوانه (كما روتها أمي Du Temps ou ma Mere Racontait) ناهيك عن العرض المسرحي اللبناني – وهو من عروض الممثل/ة الواحد/ة – للممثلة اللبنانية حنان الحاج علي بعنوان (التريض جريا Jogging)، والذي يتمركز أيضا بطبيعة بنيته – بنية عرض الممثلة الواحدة – حول المرأة، وهي تهيء نفسها للتريض جريا، والجري هنا تنفيس عن تراكم الغضب الكظيم الذي تمور به النفوس المحبطة. وفضلا عن هذه العروض المسرحية، كانت هناك عروض القراءات الشعرية المصحوبة بالموسيقى، وفي مقدمتها و(الأرض تورث كاللغة) الذي أعده فرانك تورتييه Franck Tortiller وإلياس صنبر عن أشعار محمود درويش، والذي استطاع استقطاب جمهور عريض رغم غياب محمود درويش، الذي سيدوم حضوره رغم أي غياب. والإسهام العربي الملحوظ في عرض مماثل بعنوان (شاعرات) ساهمت فيه سكينة حبيب الله من المغرب ورشا عمران من مصر، وأسماء عزايزة من فلسطين.

بشار مرقص

وكان أول ما شاهدت هو مسرحية مدهشة للكاتب والمخرج الفلسطيني بشار مرقص، وعرض للمسرحية اللبنانية حنان الحاج علي. ويوشك العرضان أن يكونا من حيث منهج العرض، وطبيعة الدراما فيه، على طرفي نقيض. فقد استغنى الأول كلية عن اللغة المنطوقة، لصالح لغات العرض الأخرى والمغايرة، ومع هذا حافظ على جذب انتباه المشاهدين والاستئثار باهتمامهم طوال العرض. بينما يعتمد العرض الثاني – وهو عرض الممثلة الواحدة – على الكلمة بشكل كامل، إلى الحد الذي كانت تبيع فيه الفرقة النص بعد العرض باللغتين العربية التي تم الأداء بها والفرنسية التي استخدمت إلى حد ما في بعض مشاهد العرض، وكانت تعرض أعلى الخشبة ترجمة فرنسية لما تقوله الممثلة، بينما تمثل حنان الحاج علي فوقها. والواقع أن استغناء العرض الأول عن اللغة يبدأ من عنوانها (مِلك Milk) الذي يرفض ترجمة العنوان حتى إلى اللغة الفرنسية، وهو كلمة انجليزية بمعنى اللبن، بل إن برنامج المسرحية المطبوع لا يترجمه حتى إلى اللغة العربية، بل يكتبه بالحروف العربية بنفس نطقه الانجليزي.

لأن اللبن الذي تمتلئ به المسرحية، وهو يتسرب مدرارا من أثداء النساء، ومن عيونهن دمعا، ومن فروجهن دما، بل ومن السماء نفسها حينما تنهال دموعها مطرا مدرارا في فلسطين الحبيبة، هو نوع فريد من اللبن، غير ذلك الذي تشير إليه اللغة بالكلمة المعروفة. إنه الدم/ اللبن/ الدمع الذي يسرى في عروق المأساة الفلسطينية ويبقيها حيّة ومتقدة لا يخبو أوارها، مهما تخلى الكثيرون عنها. ويجعلها قادرة على أن تنجب الشهداء واحدا تلو الآخر من أجل هذه الأرض المغتصبة غدرا. وأن تزلزلها تحت أقدام دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وكأنها تقول بأن الأمر لن يستتب لهم فيها، وأنها ستظل فلسطينية. لكن المدهش في هذا العرض، هو مدى غنى ما استطاع أن يوصّله لجمهوره برغم تغييب اللغة – أو بالأحرى بسبب هذا التغييب. لأننا أمام عرض استطاع أن يجسد أمامنا – ولا أقول أن يخبرنا عن – طبيعة المأساة التي تعاني منها المرأة/ الأم الفلسطينية، التي يقتل الصهاينة ابناءها باستمرار وبدم بارد. وأن ردها على هذا القتل هو بصناعة الحياة، بإنجاب ابن آخر غير ذلك الذي قتلوه، ابن يملأ عليها حياتها، ويعوض الفراغ الذي تركه أخوه الشهيد.

لذلك فهو مليء بنسغ الحياة الفلسطينية الطبيعي، و بالرغبة في الدفاع عن أرضه والثأر لأخيه المغدور. عرض يقدم لنا دورات هذا العدوان المستمر، وتواريخها المترعة بالعذاب دون استخدام كلمة واحدة. ولأنه استغنى عن اللغة المنطوقة، فإنه يوظف لغات العرض المسرحي الأخرى. وأولها لغة الألوان والوعي برمزيتها. حيث يتعامل معها العرض بوعي وتقشف شديدين. فكل شيء في المشهد المسرحي ملفع بالسواد أو اللون الرمادي الكامد. في ملابس الحداد المستمر التي ترتديها الأمهات الفلسطينيات، وفي أرض المسرح وجدرانه السوداء العارية والكابية. فنحن هنا بإزاء السواد والحزن الذي يفرضه الاستيطان الصهيوني على أهل فلسطين. كما يهتم باللغة المشهدية المرئية والحركة وتشكلات الفضاء المسرحي وحركة الممثلين، فضلا عن أننا بإزاء عرض يهتم بدور التكرار والمغايرة فليس ثمة تكرار بالمعنى المعروف، وإنما تغاير الدورات برغم حفاظها على المعنى/ الجوهر نفسه، في التعويض عن اللغة الغائبة.

مشهد من مسرحية (ملك)

ويستخدم خمس نساء – خمسة وخميسة في عين العدو – استطعن بالفعل بصبرهن ومواصلة إنجاب/ إطلاق الحياة في وجه الموت والعدوان، أن ينتصرن للحق والعدل في عالم جائر. فبرغم تشابه ما يدور لكل منهن، فإن كل واحدة استطاعت أن تمنح قصتها خصوصيتها التي تتفرد بها عن الأخريات. وفضلا عن تلك التكرارات/ والمغايرات فكل منهن تفقد أبنا أو أكثر من ابن، في كريشندو يبلغ ذروته في مشهد دال توشك فيه إحدى الأمهات أن تختفى وراء جثث أبنائها الموتى وهم يتراكمون في حجرها. كما يستخدم العرض عنصرا يندر استخدامه كثيرا في المسرح، وهو الماء الذي تستحيل معه الخشبة في القسم الأخير من العرض إلى حوض من الماء/ اللبن/ الدمع. هي مخاضة يبحر فيها الفلسطيني وقد زلزل الأرض تحت أقدام المستعمر، بعدما اقتلع ألواح أرض خشبة المسرح الفلينية، وأحالها إلى أداة فعّالة من أدوات التعبير المسرحي، بإسهامها في تجسيد المشاهد وتغييرها. حيث تستحيل مرة إلى الجدار العازل الذي بنته دولة الاستيطان الصهيوني في الأرض الفلسطينية، كي يحمي المغتصبين من أصحاب الأرض. وأخرى إلى البيوت التي تدمرها الجرافات، أو ببساطة إلى قدرة الفلسطيني على زعزعة الأرض تحت أقدام مغتصبيها.

ولا أستطيع وأنا أكتب عن هذا العرض إلا أن أذكّر نفسي بأنه كلما تكاثرت العقبات والكوابح والسدود أمام الفن، كلما أرهف ذلك قدرة الفنان على الإبداع بلا حدود، ومكنه من تجاوزها واختراقها. لأننا نعرف أن سلطات دولة الاستيطان الصهيوني قد فرضت على هذا المسرح الكثير من قيودها، واعتبرته مقاوما لمشروعها البغيض في فلسطين. ولا أن أنسى في هذا المجال عرضا مسرحيا جذابا آخر غيّب اللغة كلية دون أن يفقد تأثيره على المشاهد، وهو عمل توفيق الجبالي العلامة (فهمت اللا) قبل ثلاثين عاما. بل إن عمل فريق «مسرح خشبة» الفلسطيني ينتمي إلى ما كرّسه المسرحيون التوانسة من منهج الكتابة الركحية، أي كتابة النص بالممثلين على الخشبة أثناء عمل طويل من التجارب والتدريبات قبل تثبيت نصه الدرامي، وهو بالطبع غير النص المكتوب بالكلمات بعيدا عن الخشبة؛ والذي يقوم المخرج عادة بتأويله حركيا وبصريا ووضعه على الركح/ الخشبة أمام المشاهدين. وما أن تسعى للذهاب لمشاهدة هذه المسرحية، بعد النجاح في الحصول على تذكرة لها، فقد نفدت كل تذاكرها قبل بداية المهرجان، حتى تكتشف أنهم اختاروا لها أن تكون بعيدة عن مركز مدينة أفينيون بعدة كليومترات – فقد عرضت في ضاحية L’autre Scene du Grand Avignon – Vedene – وهو أمر له دلالاته هو الآخر. فهل كانوا يعدّون المشاهدين لشيء من الحواجز اليومية التي على الفلسطيني عبورها في كل خطوة له في أرض بلاده الواقعة تحت نير احتلال دولة الاستيطان الصهيوني فيها؟

مشهد منمسرحية (ملك)

المهم أنك ما أن تدخل إلى قاعة عرض هذه المسرحية حتى تجد أمامك خشبة مفتوحة كل حيطانها وأرضيتها من الرمادي الداكن. وسنكتشف لاحقا أن أرضها قد تكونت من ألواح اسفنجية – كتلك التي تستخدم في صناعة المراتب والحشايا – صبغت هي الأخرى باللون الرمادي الداكن، كي تمتص الضوء، وتبتلع أصوات حركة الممثلين عليها. وليس على الخشبة غير كرسي ونموذج خشبي للجسد البشري من تلك التي يستخدمونها في كليات الطب لشرح نسب الجسد البشري ومفاصله، ملقى على الأرض بجوار الكرسي، بحيث بدا وكأنه جثة عارية. وعندما يظلم المسرح والصالة كلية إيذانا بابتداء العرض، تدخل خمس نساء تحمل كل منهن أحد تلك النماذج الخشبية العارية وكأنها طفلها، تهدهده كل بطريقتها الخاصة، وتبكيه في الوقت نفسه استشرافا لفقدانه الحتمي الوشيك. بحيث تبلور كل أم من البداية شخصيتها ونمط علاقتها مع ابنها/ أو بنتها. ويتصاعد تعبير كل منهن عن حبها لابنها وحزنها عليه في كريشيندو تعبيري من الهسيس والهدهدة يتنامى إيقاعه الملغوم حتى يسقط الابن على الأرض، وترتوي بدمه. وتتوالى دورات الانجاب والتربية والموت، حتى نصل في مشهد مدهش إلى أم تقدم شهيدا وراء الآخر في الدفاع عن الأرض الفلسطينية والتشبث بها، وقد أخذت النسوة يضعن تلك النماذج العارية/ الأبناء المستشهدين واحدا وراء الآخر في حجرها، وسط بكائها وصرخاتها الصامتة حتى اختفت هي كلية وراء كومهم. في مشهد تعبيري فاتن يتجاوز بجمالياته الحركية قدرة الكلمات، فيصبح الصمت معه أكثر منها بلاغة وإفصاحا.

مشهد من مسرحية (ملك)

فنحن هنا بإزاء نوع مغاير من المسرح يطوّر لغته الجديدة التي يمكن دعوتها بلغة الصمت الحركي والدرامي التي تبلور بطريقتها الخلاقة مفرداتها التعبيرية بعيدا عن اللغة المنطوقة. ويستخدم العرض الألواح التي تتكون منها الأرضية بصورة تتعدد فيها الدلالات. فبعد أن بدت الأرض ثابتة تحت أقدام النساء الخمسة، سرعان ما نكتشف أن هذا الثبات وهم. حيث تتفجر من تحت أقدامهن، بدءا من اقتلاع الألواح في نوع من حفر القبور لدفن الشهداء، والذي يسفر في الوقت نفسه عن أن الشهداء يقتلعون الأرض من تحت أقدام المحتل. وتتكشف الدلالات وقد فقدت الأرض ثباتها، حيث نكتشف معانٍ ودلالات جديدة لتلك الالواح التي تُقتلع وتتكوم في أركان الخشبة البعيدة، فتجسد مرة معاول الهدم المستمرة التي تكتسح جرافاتها بانتظام بيوت الفلسطينيين، دون أن تنجح في الإجهاز على تشبث الفلسطيني بأرضه، أو في إنهاء قدرته على مقاومة مغتصبيها. وتجسد مرة أخرى حائط الفصل العنصري الذي بنته دولة الاستيطان الصهيوني كي يفصل بين الفلسطيني وأرضه المسروقة منه عنوة في وضح النهار. في مشهد بالغ التأثير وقد تشبثت الأمهات الخمس به يريدن اجتياحه بأجسادهن القوية الضعيفة معا.

مشهد من مسرحية (ملك)

فالعمل مشغول حقا – كما يقول لنا برنامجه المطبوع – بجماليات ما بعد الكارثة/ النكبة التي يعيشها كل فلسطيني حتى اليوم «لا بأسبابها وأحداثها، ولا بنوعيتها وعواقبها، ولكن بالطريقة التي قسمت بها الزمن إلى قسمين: ما قبل وقوعها، وما بعده وخلقت جرفا بين الزمنين/ العالمين. بالصورة التي فقد فيها الزمن تعاقبه واستحال إلى ديمومة لا نهاية لها. اصبح فيها الماضي حاضرا، وفقد فيها المستقبل أي معنى خارج تكرارات الزمن اللامتناهية.» في هذا الجرف الزمني المخيف تقع الأحداث الدرامية المبنية بنسق محسوب، والتي لا يعني فيها افتقاد الكلمات إلا أن ما تريد الإفضاء به يتجاوز قدرة اللغة المنطوقة على التعبير. فليس ثمة ما يعبر حقا عما تعيشه أمهات فلسطين. فقد خانتهم اللغة، كما خانهم الكثيرون من العرب المتقاعسين عن واجبهم إزاء قضية فلسطين السليبة. لذلك يواجهون ما يدور في أرضهم المحتلة بجلد ونصاعة تعبيرية جديدة، وصمت أبلغ من كل كلام. تتدفق الحياة من بطون هؤلاء النسوة، كما يتدفق اللبن من أثدائهن بغزارة تروي الأغصان الجافة التي يزرعنها في بطون الجثث. جثث أبنائهن وبناتهن المتكاثرة، والتي يلتهمها الموت وهي في ذروة الحياة.

فالعمل مشغول أيضا بذلك الموت غير الطبيعي الذي ينتشر كالهواء في كل موقع من أرض فلسطين. موت غير طبيعي يلتهم الشباب والشابات وهن في شرخ الحياة، ويبقي الأمهات يروين باللبن المتدفق من أثدائهن وبالدمع المنهمر من عيونهن ينسال مدرارا، فتنفتح معه عيون السماء بالمطر، أرض فلسطين فتورق بشرا/ مردة يقضّون مضاجع العدو ويهزمون مشروعه. ويتحول المسرح قرب نهاية العرض، الذي لا يتجاوز طوله الساعة إلا قليلا، إلى بحيرة من اللبن المخلوط بدموع الأمهات ودموع السماء معا. وتتحول مع هذا كله المسرحية – بإيقاعاتها الطقسية المحسوبة وبنيتها التراجيدية المفعمة بالحزن – إلى طقس جمالي باذخ للحياة والمقاومة معا. تؤدي فيه جماليات المسرح الجديدة، أو جماليات التعبير عن الكارثة كما يصفها بشار مرقص، مخرج العرض ومؤلفه، دورها المهم في إرهاف وعي الجمهور بأن ما يدور في فلسطين يؤثر على المشاهدين جميعا مهما حاولوا التنصل منه. ويكشف في الوقت نفسه عن قدرات المرأة الفلسطينية/ العربية الخلاقة، حيث ينهض على أكتافها عبء المساهمة الفعّالة في بلورة هذا العمل الجميل، وفي طليعتهن خلود باسل طنّوس ومجدلة خوري وسلوى نقّارة وريم طلحمي وشادن قنبورة وسميرة قدري وسماء واكيم وفريال الجبة وبقية فريق مسرح خشبة الفلسطيني المتميز. بقيادة تلك الموهبة المسرحية الحقيقية والنادرة: بشار مرقص.

التريض جريا Jogging:
أما المسرحية العربية التالية التي شاهدتها في مهرجان هذا العام فكانت مسرحية حنان الحاج علي (التريض جريا)، وهي من مسرحيات الممثل الواحد كما ذكرت. ولأن الكلمة التي اختارتها عنوانا لعملها هي في الأساس كلمة انجليزية تستخدم في الشارع اللبناني، لوصف ذلك النوع من الجري كممارسة للرياضة، فقد أبقت العنوان بالإنجليزية دون ترجمة. وكتبته في نص المسرحية المطبوع، والذي كان يباع بعد المشاهدة بحروفه العربية (جوغينغ: مسرح قيد التطوير).  وعلى العكس من (ملك) الذي غابت عنه اللغة المنطوقة كلية، كان عرض حنان الحاج علي، والذي استخدم هو الآخر كلمة انجليزية عنوانا له بعنوان (جوغينغ Jogging) والتي تعني التريض جريا، أو الجري من أجل الجري كنوع من الرياضة، معتمدا كلية على اللغة، برغم عنوانه. وإن استخدم في البرنامج المطبوع عنوانا فرعيا بالعربية، وهو: مسرح قيد التطوير. وهو بالفعل مسرح قيد التطوير، لأنه يسعى إلى تخليق عمل مسرحي مفتوح، يمكن التحوير فيه، وإدخال مفردات جديدة مما يدور في الواقع اللبناني الذي يتمحور حول حاضره، ويتسع لاستيعاب الكثير من التنويعات والتغيرات التي تطرأ عليه، وتتيح له أن يكون تعبيرا حيّا عن اللحظة الحاضرة بمتغيراتها المتسارعة. وعن مشاكل المرأة اللبنانية مهما اختلفت تجلياتها، أو تنوعت خلفياتها.

ويعتمد هذا العرض أيضا على المرأة: مؤلفة له وممثلة لكل أدواره، لأننا بإزاء مسرح الممثل/ة الواحد/ة. حيث يقدم لنا هو الآخر عددا من النساء اللبنانيات في صراعهن مع الواقع الصعب الذي يعيشه لبنان، بمختلف طوائفه. فهناك فضلا عن الممثلة التي تطمح إلى أن تقوم بدور ميديا، لما فيه من تحديات لمن تقوم به من الممثلات، وهو طموح الممثلة/ الكاتبة نفسها فيما يبدو، المرأة الشيعية التي انحدرت من حي الميدان بالنبطية في الجنوب اللبناني وتزوجت مارونيا من شماله، وانتهى بها الأمر إلى الإقامة في فرنسا، وتشتت أبناؤها منه بين مختلف المنافي. وهناك المرأة الشيعية الأخرى التي تزوجت شيعيا، انضم هو وابنها من بعده إلى حزب الله، وما جرى لكل منهما: الزوج الذي هجرها، والابن الذي مات في سوريا. وهناك قصة إيفون التي تنحدر من جبل لبنان، والتي قامت بقتل بناتها الثلاث ثم انتحرت. وغيرها من قصص الواقع اللبناني الأكثر تعقيدا مما جرى في زمن ميديا. حيث تكشف لنا كيف يتخلق في الواقع اللبناني – الذي تتردد فيها أطياف المقولة الهاملتية الشهيرة: ثمة شيء عفن في الدنمارك، مع قتل الحريري مرة، ومع انفجار المرفأ أخرى – أكثر من نموذج لما عاشته ميديا، ودفعها لقتل أبنائها.

حنان الحاج علي

وقد اختارت هي الأخرى بالمصادفة أن تكون خشبة المسرح الذي تعرض عليه عملها باللون الأسود، وكذلك كل حيطانه، وأن تكون الإضاءة كابية وخافتة، وأن تلبس هي الأخرى رداء أسود، وتغطي رأسها بحجاب أسود. وكأنها تجسد بهذا كله السواد الذي يلف في ظلماته الشخصية والأحداث التي ترويها في آن. وحينما ندخل إلى المسرح نجدها فعلا على الخشبة، تمارس بعض التمارين الحركية والصوتية التمهيدية، بما في ذلك الغرغرة، والتدريب على حرفي الغين والخاء. وتتتابع الكلمات التي تبدأ بحرف الخاء وما يجره من أطياف الخراب والخذلان من خاب وخار وخاط وخاف وخان، إلى خبر وخبز وخبص وخرف وخبط وخبل، إلى ختل وختم وختن وخجل وخدر وخدع وخذل وخسف وخنع وصولا إلى الخراء الذي يعمر الواقع اللبناني الذي تعيش فيه، والواقع العربي الأوسع من ورائه.

وبعد تلك التمارين الكاشفة عما سيدور حوله العرض، تطلب متطوعا من أفراد الجمهور كي يقرأ ورقة تقدمها له، هي بمثابة تقديم للعرض أو تأطير له. فنعرف أننا بإزاء عرض غير شرعي Batard بنت حرام، تعرض لصنوف من العرقلة والتخريب والخسف به من السلطات اللبنانية. ثم تدخل بنا في العرض الذي تقوم فيه بأكثر من دور: أول هذه الأدوار، هي نفسها ومسيرتها كممثلة في الواقع اللبناني تريد أن يلعب المسرح دورا إيجابيا فيه. وثانيها دور سيدة متزوجة تعيش في جبل لبنان وتدعى إيفون في الثانية والأربعين من العمر، وثالثها دور زهرة – والتي استدعت إلى ذهني أثناء المشاهدة أطيافا من «حكاية زهرة» تلك الرواية المهمة لحنان الشيخ – وهي سيدة شيعية من جنوب لبنان، متزوجة في الخمسين من عمرها تبكي ولدها الذي مات في حرب «حزب الله» في سوريا. ورابعها وأهمها دور «ميديا»[i] تلك الشخصية الإغريقية بالغة الثراء والتعقيد.

و تبدأ العرض فعلا بتقديم نفسها حيث ولدت في أسرة شيعية من حي الميدان بالنبطية وتعرفنا على مسيرتها التي آلت بها إلى الزواج من ماروني، والإقامة في فرنسا، وانجاب أربعة ابناء توزعوا في شتى أرجاء المعمورة – مثلهم مثل «كل رفقاتهم» كما تقول. حيث تنطلق من الشخصي أو الفردي إلى الجمعي أو العام، وحتى إلى التجريدي والميتافيزيقي، في رحلة للكشف عن حقيقة المرأة العربية وما تتحمله من أعباء تنوء بها الجبال، في الواقع اللبناني خاصة. وهي رحلة تأخذنا إلى قصة «ميديا» الإغريقية المشهورة. صحيح أنها كممثلة تحلم بأن تلعب الأدوار الكلاسيكية الشهيرة من فيدرا وأندروماك إلى كاسندرا وانتيجوني، وحتى دور أوديب نفسه. لكن دور «ميديا» هو الذي يستحوذ عليها ويستأثر برغباتها الدفينة، وتريد أن تقوم به في عملها كممثلة. لأن دور «ميديا» «دور عظيم، فظيع، ما فيه ممثلة ما بتحلم بيه» كما تقول. وبرغم نفورها من الجانب العنيف في شخصية «ميديا»، فإنها تتذكر أنه حينما أصيب ابنها بالسرطان وهو في السابعة من العمر، وعاشت عجزها وخوفها عليه ومعاناته الرهيبة، حلمت ليلة بأنها أنهت حياته وأحست بأن «ميديا» – التي استفظعت قتلها لأبنائها في رواية يوربيديس لمأساتها – سكنتها وأصبحت قطعة منها.

مشهد من التريض جريا

منذ ذلك الزمن البعيد بدأت تفتش بمن حولها من النساء عن القطع الباقية فيهن من «ميديا». وكيف يمكن أن تعيش «ميديا» اليوم في مدينة ممزقة ومنقسمة على نفسها مثل بيروت. كلما تأملت الحياة فيها كلما استدعت كلمات شكسبير الشهيرة في (هاملت) ثمة شيء عفن في الدنمارك! لذلك كانت قصة «إيفون» هي أول من استدعت من واقع لبنان الحديث. ومن قصص حقيقية كثيرة أخرى يتم «لفلفتها» مثل قصة رأفت سليمان الذي انتهى بتذويبه في الحامض، وقصة الطفلة نيكول التي كانت تغتصب يوميا من خوري المدرسة ومن أبيها، وقصة رنا قليلات، وفضيحة بنك المدينة، وغيرها. لكنها اختارت قصة إيفون: امرأة لبنانية أصيلة من بلدة عريقة بجبل لبنان. قامت يوم 19 نوفمبر 2009 بقتل بناتها الثلاث: نورا 13 سنة، وأليسا 10 سنوات، ومريم 7 سنوات، ثم لحقت بهن بأن أكلت من نفس سلطة الفواكه المسمومة التي أطعمتهم إياها. وتركت شريطا مسجلا لزوجها اسكندر الذي يعمل في الخليج، سرعان ما اختفى كلية، ولم يعد أحد يعرف ما فيه. وحتى تعبر عما كان في الشريط المختفي تلجا إلى مقطع مفجع من صياغة هاينر موللر الحديثة لمأساة ميديا.

وهو الأمر الذي يوصلها إلى قصة أخرى، قصة زهرة الفتاة الشيعية التي نشأت بالضاحية الجنوبية لبيروت، وتعرفت في السبعينيات على محمد الذي انقلبت معه حياتها «حب ونضال، فن ويسار، قضية فلسطينية، قومية على أممية، اشتراكية على بعثية على حركة وطنية على مقاومة. مقاومة كل شيء إلا العشق. عشقت القضية وعشقت الحرية، وعشقت محمد: النبي محمد وحبيبها محمد الذي سمي على اسم النبي». وعاشت معه أفكارها حتى اعتقلوه الصهاينة في معتقل أنصار، فوقفت معه ودافعت عنه. وأنجبت منه أولادا استشهد اثنان منهما في حرب 2006 دفاعا عن أرض لبنان، فأصبحت أما لشهيدين. لكن زوجها سرعان ما تخلى عنها وتزوج من أخرى، ووسط تعاسات تخليه عنها وعن كل ما ناضلا معا من أجل، يقتل ابنها الثالث في حرب «حزب الله» بشمال سوريا عام 2013. ويبعث لها برسالة تكشف عن أنه قُتل لأنه رفض أن يقتل الأبرياء من ابناء وبنات الشعب السوري الثائر. وأن هذا الرفض أحاله إلى خائن أو عميل. وهكذا تتحول قصة زهرة إلى مأساة محلية تنهل من تفاصيل حياة المرأة اللبنانية في واقعها الراهن، وفي معاناتها مع العجز والفساد الذي يستشري من حولها كالهواء في كل موقع.

 

 

مشهد من التريض جريا

ولا تريد حنان الحاج علي أن تنهي مسرحيتها عند هذا التنويع الأخير لمأساة ميديا، وإنما تعرج على قصة انفجار شحنات الأمونيا في الميناء، وقد وجدت نفسها مجبرة على الخوض في مخاضة السياسات اللبنانية من حروب «حزب الله» في سوريا إلى تفجير مرفأ لبنان وعواقبه الدامية. وهي أمور تجبرها على الخوض في أرض مليئة بالألغام لأنها شديدة الخلافية. لذلك آثرت أن تنهي عملها على تلك التساؤلات التي تريد للمشاهد أن يأخذها معه، وأن يواصل التفكير فيها والبحث عن فك شفرات طلاسمها المعقدة، كي يكون أكثر وعيا بواقعه وأشد فاعلية فيه.

سياسات العبور بين الثقافات: أي عبور؟
في مسرحية (عبور En Transit) للكاتب والمخرج الإيراني أمير رضا كوهيستاني نجد أنفسنا أمام واحدة من أهم قضايا عالمنا المعاصر، الذي يمكن دعوته بأنه عالم المرور والعبور بين الأماكن والثقافات والهويات المتناقضة. فبعد أن حولت ثورة الاتصالات عالمنا إلى قرية كونية، فتحت شهية الكثيرين للتوق إلى استكشاف ما في تلك القرية من فضاءات. وبعد أن اتسعت الهوة بين الجنوب والشمال زادت الرغبة في رأب بعض صدوعها، وتحفيز من في قاع تلك الفجوة للبحث عن فرص أخرى وجغرافيات أخرى، وخاصة في شمالها الذي استأثر بالثروة وجني عوائد التقدم. فالعمل يصف نفسه في برنامجه المطبوع بأنه مسرح سويسري إيراني، فقد كان ميلاده الأول في مسرح «Comedie de Geneve» في شهر فبراير 2022 قبل أن يفد به إلى مهرجان أفينيون هذا العام. كما أنه مقتبس عن رواية بنفس العنوان «Transit» لأنّا سيجيرز Anna Seghers (1900-1983) وهي كاتبة ألمانية يسارية من أصول يهودية نشأت في ألمانيا، ولكنها تزوجت من جامعي مجري شيوعي عام 1925. ثم اضطرت إلى مغادرة ألمانيا، بل وأوروبا كلها مع صعود النازية عام 1940 وهاجرت – عبر فرنسا التي بقيت فيها شهورا حتى احتلها هتلر – إلى المكسيك حيث بقيت هناك حتى عام 1947.

أمير رضا كوهيستاني

بعدها عادت إلى برلين، واستقرت في ألمانيا الشرقية حيث حصلت روايتها (عبور) على جائزة جورج بوشنر الشهيرة بها. وأصبحت فاعلة في حياتها الثقافية، فقد أخرج بريخت مسرحيتها (محاكمة جان دارك في روان) بمسرحه الشهير The Berliner Ensemble عام 1950. كما أسست أكاديمية الفنون في ألمانيا الشرقية، وشاركت في تأسيس مجلس السلم العالمي، وأصبحت عضوا بارزا به، وبقيت في برلين حتى ماتت بها قبل سقوط حائط برلين الشهير. نحن هنا إذن بإزاء كاتبة عاشت تجربة العبور في أصعب ظروف القرن العشرين. لأن روايتها – التي كتبتها بالألمانية عام 1942 ولكنها ظهرت لأول مرة في ترجمة انجليزية عام 1944 – تعتمد إلى حد كبير على تجربتها الحقيقية التي عاشتها بعد أن تركت ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية إلى فرنسا. ولكن فرنسا سرعان ما وقعت في أسر الاحتلال النازي، مما اضطرها للسفر إلى مارسيليا بحثا عن تأشيرة سفر وسفينة تُقِلّها إلى المكسيك.

لأن الرواية تدور في مارسيليا في زمن حكومة فيشي. ويعتبرها هاينريش بول Heinrich Böll الحائز على جائزة نوبل للآداب 1972 من أجمل الروايات الألمانية، وأفضل ما كتبته سيجرز. كما يرى كثيرون أنها «رواية وجودية سياسية أدبية مثيرة عن الملل والنفي». بطلها وراويها اللامسمى مهاجر ألماني في السابعة والعشرين من عمره، هارب من معسكرات الاعتقال النازية، ويسعى إلى السفر من «روان Rouen» في شمال فرنسا، والتي وقعت تحت الاحتلال النازي إلى مارسيليا، علّه يجد مكانا في سفينة تغادر به البلاد. ويلتقي هذا البطل اللامسمى قبل سفره بصديق قديم له يدعى بول، يعطيه رسالة إلى كاتب في باريس يُدعى «وايدل Weidel» علّه يساعده.  وحينما يصل إلى باريس يجد أن وايدل قد انتحر، وخلف وراءه حقيبة مليئة بالرسائل وبمخطوط لرواية لم تكتمل، فيقرر أن يأخذ الحقيبة معه. ولما يصل إلى مارسيليا يجد أنه قد وصل إلى مدينة مترعة بالفوضى، ومكتظة بالمهاجرين الأوروبيين من مختلف المشارب في تلك الفترة من تاريخها. يبحث كل منهم عن وسيلة للهرب من القارة العجوز:  مدينة تعاني من شحّ الغذاء والشراب.

مشهد من مسرحية عبور

وينفق البطل معظم وقته في المقاهي المكتظة بالمنتظرين الذين لا عمل لهم سوى احتساء الخمر، وتسَقُط انباء الرحيل الذي يتوقون إليه. ومن الشخصيات الغامضة التي تطارد المقهى زوجة وايدل الهاربة – التي لا تعرف أن زوجها قد انتحر، أو أن بطل الرواية اللامسمى قد قرر وقد حصل على كل أوراقه أن ينتحل شخصيته، ويستخدم جواز سفره، كي يستفيد من تأشيرة السفر للمكسيك التي كان قد حصل عليها – والتي ترجوه أن يساعدها على الرحيل. ويقع البطل في هواها، ويحاول أن يدبر الأمور بحيث يرحلان معا. هكذا تطوّر الرواية هذا البعد المثير/ أو شبه البوليسي فيها، وهي تضفر تلك القصة بقصص عدد آخر من الباحثين عن سبيل للهرب من عصف النازية، وكيف أنهم يقدمون لنا عوالم عبثية أو كافكاوية بالغة الثراء في تعاملهم اليومي مع موظفي منح التأشيرات في المكاتب المختلفة. وقد دفع نجاح الرواية في التعبير بمهارة أدبية وعمق إنساني وموقفي عن تلك الحالة الإنسانية الثرية، حالة العبور، وما يصاحبها من مخاوف وتوترات وأشواق معا، الكثيرين إلى ترجمتها إلى لغات عدة، ليست العربية بينها كما أظن.

كما دفع المخرج الألماني كريستيان بتزولد Christiab Petzold إلى تحويلها إلى فيلم سينمائي عام 2018، ونقل قضية العبور فيها من مناخ الحرب العالمية الثانية، والهرب من النازية إلى القرن الحادي والعشرين، وقضايا المهاجرين الذين يغرقون في البحر بالآلاف؛ بينما تصدهم مارسيليا نفسها – وقد أبقى الحدث فيها، وإن استبدل العرب والأفارقة بالمهاجرين الأوروبيين في القصة الأصلية – عن شواطئها وشوارعها. وها هو أمير رضا كوهيستاني وقد اختار هذا النص من جديد ليمسرحه، ويعود به إلى مهرجان أفينيون هذا العام، يعي أن العبور قد اكتسب أبعادا ودلالات جديدة في القرن الحادي والعشرين، وخاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية. فقد اسقطت القناع عن وجه أوروبا العنصري القبيح. وكشفت عن ازدواجية معاييرها، فبعد أن كانت تشكو مرّ الشكوى من المهاجرين الذين يثقلون كاهل نظمها الاقتصادية والصحية، ها هي تفتح ذراعيها لاستقبال مهاجري أوكرانيا على الرحب والسعة، وتيسير حياتهم بها، بينما تُفَعِّل كل ما في إمكانياتها من عنف وجبروت لصد المهاجرين من أفريقيا والشرق الأوسط خاصة.

والواقع أن أمير رضا كوهيستاني، وبينما كان يفكر في تطوير عمل مسرحي يعتمد على رواية أنّا سيجيرز، عاش تجربة شخصية مماثلة لتلك التي كان يريد مسرحتها، بل قد تكون أكثر عبثية من كثير من التجارب العبثية التي تبلورها رواية أنا سيجيرز. وهي التجربة التي مكنته من أن يطور عمله على الرواية بشكل فعّال ينقل التجربة إلى مواضعات القرن الحادي والعشرين. حينما تعرض هو الآخر لمشاكل العبور بينما كان مسافرا من سويسرا إلى تشيلي للمشاركة في مهرجانها المسرحي عام 2018 بدعوة من هذا المهرجان. وألقي القبض عليه في مطار ميونخ، واحتجز في صالة ذات حوائط بيضاء تدعى صالة الانتظار. وكان بها معه آخرون يجرى ترحيلهم من أوروبا. وقد كانت معه – كما يقول في برنامج المسرحية المطبوع – رواية أنا سيجيرز (عبور) فواصل قراءتها في هذا المحتجز. وقرر أن يمزج ما يدور له في الحاضر، بما دار فيها في أربعينيات القرن العشرين دون أن يتخلى عن الجانب الزمني في الرواية الأصلية. واستطاع أن يضفر ما جرى له مع تفاصيل معالجته المسرحية للرواية مما أحالها إلى معالجة حرّة كما يدعوها.

ولابد أنه قد اطلع على المعالجة الفيلمية للرواية نفسها، لأنه يحرص على الاختلاف عنها، وإن كانت مسرحته لها تستفيد كثيرا من التقنيات الفيلمية التي طوعها المسرح للعرض في السنوات الأخيرة. وقد اختار أن يركز عمله على أربعة شخصيات: تنتمي اثنان منهما إلى زمن رواية أنا سيجيرز، بينما يمثل الأثنان الآخران تجربته هو في مطار زيورخ، وكيف أن إدارة المطار رأت أنه قد تجاوز مدة إقامته في سويسرا، وفقا لتأشيرة إقامته فيها عقب وصوله من إيران، وإن كان في الجواز تأشيرة أخرى أثار ختمها لديهم إشكالية ما، لعدم وضوح الصلة بينها وبين تأشيرة استضافة المهرجان له في تشيلي. وتجربة عبثية أخرى لامرأة من دول أوروبا الشرقية القديمة، أغرتها أسرة أمريكية بتسهيل عبورها إلى أمريكا لو اصطحبت كلبيهما اللذين لا تستطيع الأسرة العودة بهما للولايات المتحدة، بسبب تعقد مسار رحلتها، مع أن للكلبين تأشيرة عودة مباشرة إلى أمريكا. ولكن إدارة المطار وجدت مرة أخرى إشكالية في تأشيرة الكلبين، فعلقت مصاحبتهما في غرفة الانتظار.

مشهد من مسرحية عبور

وقد استطاعت ثنائية الزمن الذي تدور فيه أحداث الحاضر في ترجيعاتها المختلفة لما جرى في الماضي، أن تثري المسرحية كثيرا. لأن ذلك زود عمله بالجدل المستمر بين زمنين مختلفين: بين أربعينيات القرن الماضي حينما كان الأوروبيون يبحثون عن ملاذات آمنة، وبين الحاضر الذي تبدلت فيه المواقع. وأصبح الباحثون عن ملاذات آمنة الآن، والهاربون من أخطار لا تقل عنفا عن تلك التي هرب فيها الكثيرون من التجربة النازية، هم الآن من العرب والأفارقة. ومع الزمنان كان هناك أيضا فضاءان: ميناء مارسيليا ومطار ميونخ. وأصبحت تلك الثنائية الزمانية كاشفة عن طبيعة المكان الصفرية – لأن مكان العبور هو درجة صفر المكان – أو تحويله إلى اللامكان. وهي كاشفة أيضا عن إمكانيات هذا المكان في ردنا إلى «الأعراف» أو «المطهر» في التصور الديني للعالم الآخر. والواقع أن وعيه بأن هذه الازدواجية لها بعدها المكاني الذي يزداد ضيقا عما كان عليه الحال – زمن رواية سيجرز التي تدور في فضاء مارسيليا الواسع، بينما يدور العبور هنا في تلك المساحات الضيقة التي توفرها غرف الاحتجاز في المطارات – زود العمل بطاقة خلّاقة سعت إلى توسيع أفق المكان من خلال الصورة، وعمليات التكبير المستمرة لما يدور أمامنا.

لأن العرض يدور في مساحة ضيقة أيضا بطول الخشبة التي لا يتجاوز عرضها أربعة أمتار، في مسرح تقليدي صغير نسبيا. خشبة حوائطها وأرضيتها باللون الرمادي، وليس بها – حينما يفد الجمهور إلى الصالة سوى حقيبة سفر واحدة. وحينما يبدأ العرض تفد امرأة إيرانية تكشف لنا عن احتجازها في هذه المنطقة transit وعدم السماح لها بمواصلة ما ترى أنه رحلتها. وتروى لنا الأسباب العبثية التي ساهمت في منعها من مواصلة رحلتها واحتجازها – وهي الشخصية التي تمثل التجربة التي مر بها أمير رضا في مطار زيورخ – فنكتشف مدى واقعية تلك الأسباب، رغم عبثيتها البادية. ويستخدم العرض الجزء العلوي من حائط تلك المساحة الضيقة الخلفي ليعرض عليه الترجمة. هنا نكتشف أننا بإزاء عرض متعدد اللغات لأنه دار بالفرنسية والانجليزية والفارسية والبرتغالية. وتعدد اللغات هو الوجه المهم لتعدد الثقافات والهويات والأعراق. ويستخدم العرض أربع شخصيات – اختار أن يجعلها كلها شخصيات نسائية – لتجسيد العابرين في كلا الزمنين، ومن يمنعونهم من العبور، أو من يحققون معهم ويستجوبونهم من موظفي الحدود. وهناك أربع كاميرات في فضاء الخشبة كي تجسد بصورة مرئية أننا في عالم كل شيء فيه مراقب، لا يفلت من عيون سلطاته شيء. وقد استطاع المخرج باستخدام هذه الكاميرات الأربع في تصوير بعض ما يدور أمامنا على الخشبة وتكبيره على الحائط الخلفي للمشهد، أو حتى تشويهه، أن يفتح ما نراه على تأويلات مختلفة لما يدور خارج المشهد من أحداث واقعية كانت أو تاريخية.

مشهد من مسرحية عبور

وقد استخدم العرض ممثلاته من خلفيات قومية مختلفة. فهناك ماهين صدري Mahin Sadri التي تعيش في إيران، والتي عملت مع المخرج الإيراني – الذي يعيش هو الآخر بين إيران وسيوسرا – لأكثر من عشرين عاما. وهناك خازار ماسومي KhazarMasoumi التي تعيش في ساوباولو في البرازيل وهي ممثلة ومحامية مختصة في قوانين البيئة الدولية.   وهناك داناي داريوDanae Dario  وهي ممثلة سويسرية تعيش في لوزان وتتحدث كل اللغات السويسرية الثلاثة: الألمانية والفرنسية والإيطالية. وهناك أخيرا أجاثا ليكونت Agathe Lecomte  وهي ممثلة فرنسية. والواقع أنه منذ أن روّج بيتر بروك أثناء عرضه الشهير عن (مؤتمر الطيور) لفريدالدين العطار في قلب الصحراء الكبرى في القرن الماضي، لأهمية أن يعمل ممثلون من مختلف الجنسيات والخلفيات الثقافية والأدائية معا لإثراء العمل المسرحي وتقطير روح الدراما فيه، وكثير من المخرجين يستخدمون ذلك الأمر لإثراء أعمالهم، وليس أمير رضا كوهيستاني أولهم، ولن يكون بالطبع آخرهم. وليس هذا فقط دينه لبيتر بروك، بل هناك أيضا أهمية المكان – المساحة الخالية كما يسميها بروك – حيث تقول لنا الممثلة الإيرانية أن تدريباته لهن على المسرحية لا تبدأ أبدا من النص، وإنما من المكان. وهو الأمر الذي يجعل اللغة المشتركة – في عرض متعدد اللغات – هي لغة المسرح، بكل مكوناتها البصرية والحركية معا، وليس أي لغة من لغات العرض الأربعة.

يقول لنا أمير رضا – معد العرض ومخرجه – في حواره نشره برنامج المسرحية المطبوع «إن أحد مخاوفه المتكررة هو أن يفقد جواز سفره في مطار كبير. إنها حالة الفقدان التي ظلت ترعبه طوال سفراته المتكررة، لمعرفته بما يتعرض له أمثاله من مساءلات. ولكنه ما أن واجه هذا المأزق بحق، ودون حتى أدنى حاجة لفقدان الجواز الذي أدى ما بدا أنه تعارض تأشيرتين به إلى تغييبه، حتى أحس بشيء من الحرية، وبأن هويته تحولت إلى قدر من السيولة التي تتيح له التحرر من هذا الخوف المؤرق. ويتساءل كوهستاني: هل يمكن لمسرحية أن تؤثر على تفكير واضع القوانين، وخاصة تلك المتعلقة بالهجرة؟ ناهيك عن التأثير على الهيئات المنفذة لتلك القوانين!» ومهما كان الجواب بالنفي أو الإيجاب، فإن جماليات تلك المسرحية البصرية والحركية استطاعت بحق أن تبلور حالة السيولة تلك، وأن تحررنا من ذلك الخوف المقيم من العبور.

لأننا بإزاء مسرحية طموحة – يقول أمير رضا لنا بإزائها: «إنني أحب أن أعيد صياغة مقولة صامويل بيكيت الشهيرة: إن الشخصيات الأربع في (في انتظار جودو) تمثل الإنسانية جمعاء. فإنني لكي أمثل الإنسانية جمعاء قد أخترت أربع نساء. وبالفعل أردت أن أضيف لذلك بعد اللغة، وبعد الجنوسة كي أصل إلى عمق أكبر» وهو طموح كبير بحق. غاب عنه أن ما خلّد رائعة بيكيت تلك، ليس كثرة ما تطرحه من قضايا كما حاول أن يفعل، فعقّد مسرحيته إلى حد ما بقضايا الجنوسة واللغة، ولكن قلتها إلى حد الاختزال والتكثيف. إننا بإزاء شخصين ينتظران جودو تحت شجرة عارية، ولا يحدث لهما شيء. ويمر بهما شخصان آخران في الفصل الثاني دون أن يحدث أي شيء. وهذا اللاشيء الذي يحدث أو بالأحرى لا يحدث مرتين هو سر ما بها من عمق وتكثيف. كما أن تقشف لغتها إلى أقصى حد أحالها إلى نوع من اللعب الحر الذي يبلغ تخوم الشعر طوال الوقت. ويفتح الجمل البسيطة على آفاق واسعة من الرؤى والاحتمالات. كما أن قراره – بسبب ولعه بأن يكون للجنوسة جانب من معالجته أن تلعب كل الشخصيات نساء أربعة – قد انطوى على مجازفة حقيقية، زادت من تعقيد الأمر. لأنه أثناء أحداث المسرحية تدعو المحققة الممثلة الإيرانية التي ينهض دورها على ما تعرض له المخرج في مطار زيورخ بالسيد كوهيستاني، مما يربك التلقي، بعدما كان الجمهور بدأ يتعامل معها كامرأة، وليس كممثلة تقوم بدور رجل على الإطلاق. هذا جانب من التشويش الذي خلقته رغبة المخرج في أن يتناول في مسرحيته الكثير من القضايا. وهو الأمر الذي أكد مرة أخرى أن روعة (في انتظار جودو) هي بنت بساطتها المتناهية.

تشيخوف ومسرحة «الراهب الأسود»:
كان مهرجان هذا العام مليئا بالعروض المأخوذة من كلاسيكيات المسرح العالمي. لكن العرض الروسي الذي جاء به إلى المهرجان هذا العام كيريل سيربرينيكوف Kirill Serebrennikov لا يقل أهمية عن العرض الذي أدهشنا به في أفينيون قبل عامين والمأخوذ عن رائعة نيكولاي جوجول (الأرواح الميتة). وها هو يثبت بهذا العرض الجديد أنه أحد أبرز المخرجين في روسيا المعاصرة، ذات التاريخ المسرحي الطويل. وقد استقى عرض هذا العام من قصة شهيرة لأنطون تشيخوف، بعنوان «الراهب الأسود»، بدلا من يقوم بإخراج أحدى مسرحيات هذا الكاتب العظيم. وهو عرض وظف فيه إمكانيات خشبة فضاء ساحة الشرف بالقصر البابوي بمهارة ملأت تلك الخشبة التي تزيد مساحتها عن 500 متر مربع بالتشكيلات الجمالية والحركة المسرحية. كما استفاد فيه من خلفية الخشبة وهي جدران القصر البابوي التي ترتفع لأكثر من ثلاثين مترا. حيث كان يعرض عليها بعض صور ما نشاهده، وقد صُوّر أثناء تأدية الممثلين له أمامنا بكاميرات موضوعة بزوايا محددة، في نوع من التكبير، وإبراز جوانب بعينها في رؤية الأحداث. كي ينتبه إليها الجمهور بشكل أكبر.

كيريل سيربيرنيكوف

و(الراهب الأسود) رواية قصيرة كتبها تشيخوف عام 1893 وسمّاها بالقصة الطبية، لأنها تدور حول حالة من حالات الطب النفسي/ العقلي الذي كان مولعا بدراسته في ذلك الوقت. حيث تتناول العامين الأخيرين من حياة مثقف روسي متخيل يدعى أندريه كوفرين Andrey Kovrin يحلم بالحرية والمجد، ويعاني من أوهام العظمة delusions of grandeur. حيث تبدأ القصة بـ«أندريه» كمثقف شاب موهوب يتفانى في عمله الذي قاده لشيء من التألق في الأوساط الثقافية. لكنه يعاني من التعب والأرق – وهي الحالة التي كان يعاني منها تشيخوف نفسه حينما كتب هذه القصة – فنصحه أصدقاؤه بأن يترك المدينة ويعود إلى الريف، وخاصة إلى القرية التي جاء منها، لأنها تتميز بالجمال الطبيعي وبالحقول الفسيحة والبساتين الممتدة إلى حدود الأفق. وعاد «أندريه» إلى القرية، وإلى بيت «إيجور» وابنته «تانيا». وكان أيجور الذي يرعى أحدى حدائق القرية الصغيرة وبستانا كبيرا بها، قد ربى «أندريه» صغيرا بعدما مات أبويه وهو طفل وتركاه يتيما، ونشأ مع ابنته «تانيا» في نفس البيت كأنهما ابنيه. لكن «إيجور» وابنته ينظران الآن بكثير من الفخر والإكبار لـ«أندريه»، بعدما حققه من شهرة في المدينة وفي أوساط مثقفيها.

ولأن «إيجور» العجوز يشعر بالتقدم في العمر، وبأهمية أن يجد من هو جدير بالزواج من ابنته «تانيا»، والمحافظة معها على الحديقة والبستان، فإنه يصارح «أندريه» بأنه لا يثق في أي شخص سواه ليزوجه ابنته، كي يواصلا معا رعاية الحديقة والبستان وتطويرهما. وأن أي زوج آخر سيأخذها بعيدا عنهما، مما يعنى نهاية ما أنفق حياته فيه، وما يعتمد عليه في الوقت نفسه كثير من أهل القرية. وبالفعل يتزوجها «أندريه» ويبدأ معها في العناية بالحديقة والبستان، بما لهما من دلالات رمزية على مستوى السرد ودور المثقف في الحفاظ على كل ما هو قيّم وجميل في بلده. لكن «أندريه» يبدأ في رؤية طيف راهب أسود يعمر أحلامه، وهو طيف ملتبس استقاه تشيخوف من بعض الأساطير العربية التي قرأ عنها، حيث ينحدر هذا الراهب من الجزيرة العربية أو من سوريا. ولا يعرف الكثيرون إذا ما كان شخصا حقيقيا أم أنه مجرد سراب، أو طيف يقترب من حدود الرؤيا الروحية أو الميتافيزيقية، حيث يتحول إلى نوع من النداء الباطني الملحّ. إذ يقول له الراهب الأسود «إنني موجود في خيالك، ولأن خيالك جزء من الطبيعة، فإنني موجود في الطبيعة.» ثم يُقنع طيف هذا الراهب الأسود «أندريه» بأنه عبقري، وأن الله قد اختاره لإنقاذ البشرية.

مشهد من مسرحية (الراهب الأسود)

وتبدأ «تانيا» في القلق لسماعها هلوسات زوجها المتكررة في الليل، وحديثه المستمر مع طيف (الراهب الأسود). وتسعى لشفاء زوجها من هلوساته تلك، لكن «أندريه» يزداد تمسكا بالدور الذي يوحي له به هذا الطيف، وهو الدور الذي يؤكد له عبقريته وتميزه. وبأنه إن لم يبدأ في انقاذ البشرية فسيصبح جزءا من القطيع، و سيغرق في الجانب الحيواني من البشر، وينكفئ على نفسه، ويتحول إلى البلادة والتفاهة. وبدلا من الاستجابة لمحاولات زوجته لإنقاذه، يتمادى في العداء لها، والخلاف المستمر معها، مما يؤدي إلى انفصالهما في النهاية. وفي الوقت نفسه تتدهور صحته، بعد إصابته بالسل، ولا يجد من يعتني به سوى امرأة من القرية تقدم بها العمر. ويبدا في النزيف، بينما يواصل الراهب الأسود هدهدة خيالاته وتأكيد عبقريته، حتى يموت وعلى فمه ابتسامة مراوغة، تفتح ا لطريق أمام كثير من التأويلات.

والواقع أن كيريل سيربرنيكوف ليس أول من مسرح هذه الرواية القصيرة. فقد سبق أن مسرحها الكاتب المسرحي الأمريكي دافيد ريب David Rabe عام 2003، وحولها إيف هيرسان  Yves Hersantإلى أوبرا فرنسية عام 2005، كما حوّلها الكاتب الأميركي ويندي كيسلمان Wendy Kesselman إلى مسرحية موسيقية عام 2008. فكيف مسرحها كيريل سيربرنيكوف إذن؟ الإجابة على هذا السؤال البسيط لابد أن تكون، بأنه فعل ذلك بقدر كبير من الحرية والإبداع الخلاق. خاصة وأننا نعرف أنه سبق له أن أخرج العديد من مسرحيات تشيخوف طوال مسيرته المسرحية الخصبة في روسيا، والتي جعلته أبرز مخرجي المسرح في جيله فيها. كما أدار مسرح تشيخوف الشهير Chekhov Moscow Art Theatre في موسكو، وبالتالي فهو يعرف الكثير عن عملاق الأدب الروسي، وسبق أن غاص في أغوار العديد من أعماله. وقد اختار رواية «الراهب الأسود» لأنها كما يقول: مشهورة جدا في روسيا، ولكنها غير معروفة في ألمانيا التي بلور العرض لأحد مسارحها، وهو مسرح Thalia في هامبورج. لذلك فقد انطلق في مسرحته للنص من فهمه الخاص لتشيخوف ككاتب مشغول بصعوبة مواجهة الإنسان للحقيقة، واستحالة اكتشافه لها. وبالوعي بأن الإنسان يمضي حياته في التخبط في دوائر جحيمية لا يملك أحد معرفة الحقيقة فيها.

مشهد من مسرحية (الراهب الأسود)

كما أنه وجد أن القصة وهي تروي حكاية «أندريه» تعي عملية الجدل والصراع بينها، وبين قصص الشخصيات الأخرى فيها، وتنسج عملية تشابك مصائرها بقدر كبير من الحذق والمهارة. لهذا قرر أن يمسرح القصة لا من وجهة نظر بطلها «أندريه» وحده، وإنما أيضا من وجهة نظر الشخصيات الأساسية الأخرى – إيجور وتانيا وأخيرا الراهب الأسود نفسه – بحيث تدور أمامنا الوقائع أربع مرات. فيها شيء من التكرار، ولكن فيها الكثير من المتغيرات كل مرة تجعل فصول العرض المختلفة مرايا تنعكس عليها بقية الفصول وهي تدور أمام المشاهد، وتحفر قضاياها في مخيلته. لأننا حينما ندخل العرض، نجد أن هناك ثلاث أكواخ أو بيوت ريفية بسيطة، قد شيدت على طول خشبة المسرح – التي يزداد طولها على ثلاثين مترا. وعلى مسافات متقاربة، وبقي جزء أخير من الخشبة خاليا، مما يتيح للمثلين العمل خارج البيوت كما تتحول جدران القصر البابوي المواجهة له إلى نوع من الشاشة السينمائية التي يعرض عليها العمل بعض مشاهده.

ممشهد من (الراهب السود)

لأن البيوت هي مجرد هياكل من الخشب، ذات حوائط من ملاءات البلاستيك الشفافة، لا تحجب عنا رؤية ما يدور في داخلها. وكأنها تجسد أمامنا من البداية هدف العمل – في نوع من الوعي بمحتوى الشكل المشهدي في المسرح – وهو تعرية كل ما يدور في الداخل، سواء أكان الأمر داخل الشخصيات أو داخل البيوت المغلقة، وتمكين المشاهد من رؤيته. لأن هدف المسرح عند سيربرنيكوف هو النفاذ إلى داخل الشخصيات، وتعريتها أمام المشاهدين، والتعرف على ما يدور في أعماقها. ويدور الفصل الأول بين تلك البيوت التي نعرف أن أكبرها هو بيت «إيجور» وابنته «تانيا»، وأن أحد البيوت الأخرى هو بيت «أندريه» الذي عاد من المدينة كي يستجم فيه. ويبدأ الفصل الأول برواية الأحداث من وجهة نظر «إيجور». وما أن يصارحه «إيجور» بهمومه وانشغاله بمستقبل الحديقة، والذي لا ينفصل لديه عن مستقبل ابنته «تانيا»، بل ومستقبل «أندريه» نفسه، وبأنه لا يثق بشأنهما في أي شخص سواه، كي يزوجه ابنته، حتى يتحرك البيت الصغير، ليرتبط بالبيت الكبير فعليا على الخشبة لا مجازيا، وينفتح البيتان على بعضهما أمامنا على الخشبة تجسيدا مشهديا لعملية الزواج نفسها في الفصل الثاني الذي يروي الأحداث من وجهة نظر «تانيا».

مشهد من مسرحية (الراهب الأسود)

هكذا تجسد حركة البيوت الشفافة تلك على الخشبة عبر الفصول جانبا مهما من المعنى، أو البعد المكاني المرئي له. وتكشف إيقاعات الحركة الرتيبة في فصليها الأولين عن كيفية تحول «أندريه» إلى كائن لا يختلف كثيرا في نظره عن الأعشاب الضارة التي يقتلعها من الحديقة. كائن عادي فقد فرادته وتميزه، ناهيك عن عبقريته أو قدرته على إنقاذ روسيا. بينما تشارك كاميرات الفيديو الصغيرة التي وضع بعضها على الأرض – في الفصلين الثالث والرابع –والتي تصور لنا بعض المشاهد، وخاصة تلك التي يختلط فيها طيف الراهب الأسود بالسراب أو التخيلات، ما يدور وتعرضه على جدران القصر البابوي العملاقة. فتضيف إلى السرد الذي تدور أمامنا أحداثه المتغايرة بُعد المتعة البصرية المدهشة. بصورة توشك أن تساهم معها في جذب المشاهدين إلى فكرة أن الراهب الأسود الذي يراه «أندريه» في الفصل الثالث الذي يروي الأحداث من وجهة نظره هو، حقيقي وليس نوعا من السراب، أو الخيالات المرضية.

مشهد من مسرحية (الراهب الأسود)

لأنه وإن ظل طيفا نسمع أنه يداعب خيالاته في الفصلين الأولين ويثير كثير من المشاكل بينه وبين زوجته، فإنه الفصلين الأخيرين يجسدانه أمامنا، وخاصة الفصل الأخير الذي يدور من وجهة نظر «الراهب الأسود» نفسه. حيث تتحول المسرحية في هذا الفصل الأخير – بعد تدمير تلك البيوت أو هياكلها – إلى نوع من التشكيل الأوبرالي الإيقاعي الذي يمتزج فيه الرقص والتراتيل ورفض الموت. تشكيل أوبرالي تمتزج فيها جماليات المسرح الجديدة، مع رقص أقرب إلى رقص الدراويش الدوّارة، ومع اختيار جوانب من العرض لتكبيرها بالفيديو على الحائط كي تستحوذ على اهتمام المشاهدين. وتجعلنا نتوقع كما يقول لنا السرد قرب نهاية العمل، ظهور هذا الراهب الأسود في هذا الوقت/ الآن وقد ازدادت الحاجة إليه. ذلك لأن المخرج – كما ذكرت – حريص على أن يُدخل الجمهور إلى أعماق الشخصيات الأساسية في العمل، لا أن يراها من الخارج فقط، وهي تمارس بعض أحداث حياتها. ذلك لأنه يعي أن إمكانيات المسرح المعاصر تتيح له أن يفعل ذلك من خلال لغة المخرج التي تضيف الكثير إلى اللغة المنطوقة للعمل. صحيح أنه استخدم في العرض أكثر من لغة (الألمانية والروسية والانجليزية) كما استخدم ممثلين من جنسيات مختلفة، إلى أن أهم إضافاته المسرحية هي وعيه الحاد بما أدعوه بمحتوى الشكل المسرحي.

مشهد من (الراهب الأسود)

هكذا يتحول العرض إلى دوامات من البحث عن الحقيقية، وإلى تعبير حيّ عن هشاشة الإنسان  الذي يتخبط في دوائرها المدوخة، وتجسيد للوعي باستحالة اكتشافها. بصورة يعود معها إلى جوهر تصور سيربرنيكوف لقضية تشيخوف الأساسية حيث لا يملك أحد معرفة الحقيقة، وكل ما علينا هو السعي للاقتراب من أطيافها. وليس هناك أفضل لتحقيق ذلك من المسرح، لأنه يعي أن المسرح هو الذي يجمعنا كبشر من مختلف الجنسيات والثقافات حينما تخفق كل الوسائط الأخرى، وخاصة اللغة.

بين كلاسيكيات المسرح الكبرى وأحدث تجلياتها المعاصرة:
إيفيجينيا  تياجو رودريجيز المغايرة:

أحب دائما مشاهدة محاولات المخرجين الكبار من مختلف أنحاء القارة الأوروبية في التعامل مع كلاسيكيات المسرح الأوروبي كلما وفدت إلى مهرجان أفينيون. لأن التعامل مع النصوص الكبيرة القديمة يكشف عن قدرة المخرج في توظيف لغات العرض المختلفة في بلورة تفسيره الخاص لتلك المتون المسرحية الكبرى. ويتيح لي التعرف عن قرب على مكتشفات هذه اللغات الجديدة، وما تتيحه التقنيات الحديثة لها من إمكانيات. وهذا الأمر لا ينال من اهتمامي الشديد بمتابعة جديد المسرح الأوربي، أو العالمي من بعده، والشغف بمعرفة كتاب جدد من مختلف الثقافات التي يدعوها المهرجان. ولم يكن هذا العام استثناء بل كان غنيا بالتجارب الإخراجية المهمة لعدد من كلاسيكيات المسرح الأوروبي. وقد سعدت هذا العام برؤية عرضين جميلين: أحدهما لمسرحية يوربيديز (إفيجينيا) والثاني لرائعة شكسبير (العاصفة).

آن ثيرون

ولنبدأ بمسرحية يوبيديز، الذي أخذ المسرح الإغريقي إلى ذروة تألقه. والمثير للاهتمام هنا أنه برغم وجود أكثر من ترجمة فرنسية لإيفيجينا، بل ونسخة فرنسية منها ضمن أعمال راسين، فإن مخرجة العرض الفرنسية آن تيرون Anne Theron اختارت أن تترجم عن البرتغالية نص المسرحية الذي أعده تياجو رودريجيز Tiago Rodrigues عن مسرحية يوربيديس، وهو النص الأكثر تعقيدا لهذا العمل الذي دار بالفرنسية. والذي يعد تقديما غير مباشر لمدير مهرجان أفينيون الجديد الذي عُين ابتداء من سبتمبر 2022، بعدما انبهر مهرجان عام 2021 بإخراجه المدهش لرائعة تشيخوف (بستان الكرز) في مسرح ساحة الشرف في القصر البابوي. فرودريجيز واحد من أبرز مخرجي المسرح الأوربي المعاصرين ومن أكثرهم انشغالا بالجديد فيه. وقد شاهدت هذا العرض في مسرح الأوبرا المركزي في مدينة أفينيون، والذي فتح لأول مرة بعدما ظل مغلقا للتجديد طوال السنوات الأربع الماضية. واستعاد المسرح المبني على غرار مسرح الحائط الرابع الإيطالي التقليدي بهاءه، وكل ألوان جدرانه وممراته الزاهية. وجددت المقاعد التي أصبحت مريحة أكثر، واتسعت المسافة بين الصفوف. كما بدا أن الخشبة بستائرها التقليدية داكنة الحمرة قد استفادت هي الأخرى من هذا التجديد.

مشهد من (إيفجينيا)

وقصة إيفجينيا – وهي من القصص المستقاة من (الإلياذة) الهوميرية – معروفة. حيث تقع في أوليس Aulis عندما احتشدت مراكب أجاممنون – الملك – وأخوه مينيلاس كي تتوجه إلى طروادة لاستعادة زوجة مينيلاس الهاربة هيلين. لكن الرياح تعاند المراكب، فلا تستطيع الإبحار إلا إذا تمت التضحية بإيفجينيا – ابنه الملك وزوجته كلتيمنسترا – وفي المسرحية الأصلية تقبل أيفجينا الموت، من أجل أن ترضى الآلهة على أبيها، ولكي تملأ الرياح أشرعة المراكب اليونانية المبحرة بجيوشه المتوجهة إلى طروادة. صحيح أن الآلهة تتدخل – وفق قاعدة الإله في مركبته في المسرح الأرسطي المحكوم كله بالأقدار الإلهية – في مسرحية يوربيديس، فتنقذها أرتيميس مستبدلة بها غزالا، وتأخذها عبر السماوات إلى توريس Tauris التي ستدور فيها مسرحيته التالية عنها (إيفجينيا في توريس). إلا أن هذا التدخل لم يعد مستساغا في المسرح الحديث. بل إن راسين نفسه – وقبل أكثر من ثلاثة قرون لم يستسغه، وغير النهاية. كما أننا نعرف أن أكثر الشخصيات شجاعة وأخلاقية في مسرحية يوربيديز (إيفيجينا في أوليس) ليست شخصية أجاممنون المتردد الخائف، والأقرب إلى الجبن منه إلى الشجاعة اللازمة لقيادة جيش؛ والذي استدعى ابنته إلى أوليس بكذبة مفادها أنه سيزوجها لأخيل. وإنما إيفجينيا نفسها التي ما أن تعرف بحقيقة الأمر، وبغضب الهة الصيد والطبيعة أرتيميس Artemis على جيوش أبيها حتى تشعر بأن واجبها تجاه أبيها، وحبها لوطنها، يدفعانها إلى أن تضحي بنفسها – برغم معارضة أمها كليتيمنسترا الواضحة لأوامر الآلهة الجائرة.

مشهد من (إيفجينيا)

لكن رودريجيز ليس معنيا بتغيير النهاية، وإنما باحترام النص الذي يطوع لغته لرؤيته الفكرية والموقفية. لأن ما شاق رودريجيز في المسرحية، هو إمكانية أن يقلب منطقها رأسا على عقب؛ خاصة في عصرنا الحاضر الذي يحتاج فيه الإنسان أكثر من أي وقت مضى إلى التحكم في مصيره. وأن يفعل ذلك دون أي يضحي بالجانب المأساوي في المسرحية، أو أن يطرح في مواجهتها أي حقائق جديدة. إذ يحرص العمل على بلورة سؤال: ما الذي يقرر مصائر الأشخاص في غياب الآلهة التي تلعب دورا أساسيا في مسرحية يوربيديز؟ وماذا ستكون عليه اختيارات الشخصيات لو اعتمد الأمر على حريتهم الشخصية وإرادتهم الفردية؟ كيف تستطيع التعامل مع الماضي الذي لا تكف أطيافه عن مناوشة الحاضر؛ بل توشك أن تغرق الشخصيات في فيوضه؟ وكيف تترنح الشخصيات تحت عبء تلك المسؤولية الجديدة الملقاة على عاتقها: مسؤولية أن تكون ذاتها؟ وأن تقرر مصيرها بدلا من الاستسلام لما قررته الآلهة لها. لأن العالم الجديد الذي يضعها فيه أقرب ما يكون إلى تلك الأعراف الفاصلة بين النعيم والجحيم.

مشهد من (إيفجينيا) أجاممنون وكليتمنسترا وابنتهما

لأن رودريجيز يموضع المسرحية في عالم مفتوح على احتمالات لامتناهية، وهذا ما يجعل نصه شيقا وغنيا بالتأويلات الدرامية. إذ يفتتح المسرحية بمقولة بالغة الوضوح من الملك ميسناي Mycenae تقول «إن الآلهة هي مجرد قصص يقولها الإغريق لتبرير ما لا يستطيعون فهمه بدونها. وعلى البشر الآن أن يتحكموا في مصائرهم.» ليترك دوامات التحكم من جديد في مصائرهم وفي عواقب أعمالهم وأخطائهم الشائنة تدوّخهم وتعذبهم أمامنا على المسرح الذي تتحرك الأرض فيه باستمرار من تحت أقدامهم في نوع من التجسيد المرئي لغياب الأرض الصلبة التي يقف عليها أي منهم. ومن خلال إيقاظ ذاكرة كل منهم يعيد العمل تمحيص الأسباب التي وضعتهم في هذا المأزق، واحتمالات الخروج منه، والتعرف على اللحظات المفصلية في التاريخ التي كان يمكن فيها تغيير المسار، دون أن يسعى لإنقاذ أيفجينيا من مصيرها أو تجنيبها الموت المحقق! ولكنه هنا موت سببه البشر بتصرفاتهم الحمقاء. من رغبة مينيلاوس أن ينتقم لشرفه المنتهك وتخلي زوجته عنه وهروبها مع عشيقها؛ إلى شره أجاممنون للسلطة، ولأن يكون ملكا على الإغريق جميعا، وتمزقه بين الالتزام كملك بمطامح شعبه وبين رغبته كأب في انقاذ ابنته؛ إلى مؤامرات عوليس الذي استولى على مشاعر الجند وقلوبهم، إلى تلكوء أخيل الذي لا يحب استخدام اسمه في استدراج إيفجينيا لحتفها.

وفي مواجهة هؤلاء جميعا تقف كليتمنسترا التي تريد انقاذ ابنتها، وتغري زوجها بالتنازل عن الملك، والهرب معها هي وأبنائها بعيدا عن هذا الأمر كله. بالصورة التي استحالت معها شخصية كليتمنيسترا في المسرحية إلى المرأة القوية التي تستجوب أجاممنون وتطالبه بأن يتحمل كرجل ثمن أخطائه، بدلا من أن تحمل ابنتها وزرها. وإلى جانبها تقف إيفيجينيا التي يدفعها حبها لأبيها ولوطنها معا إلى القيام بدوره للإنقاذ حملة اليونان العسكرية، حتى لو استلزم الأمر التضحية بنفسها. إننا بإزاء عرض لتلك المسرحية من نوع جديد، يرد للشخصيات القدرة على اختيار مصائرها، بعدما تخلوا عنها – في نوع من الجبن الإرادي – للآلهة.؛ في جل التأويلات القديمة لهذا النص المعقد. لأنه يدفع شخصيات المسرحية إلى أن تعيش في عالمنا، وأن تبحث كل منها فيه عن ذاتها ودورها. عالم تتسم فيه الذات والهوية بقدر كبير من السيولة، وتحيط بها شكوك لا تحد. لكنه قبل شيء عالم خرجت فيه المرأة من تحت عباءة الرجل، وسعت للتعبير عن نفسها وتأكيد اختلافها معه وعنه. إننا بإزاء إيفجينيا جديدة، لا تقل مأساوية عما أراده يوربيديز في نصه الأصلي. ولكنها تضع المرأة في مركز الأحداث، وتحررها من قبضة الرجل، باعتبارها المعبر عن صوت المقاومة الحقيقي في عالم فاسد.

مشهد من (إيفجينيا)

وهذا هو الأمر الذي استهوى – آن تيرون – مخرجة العرض في نسخة رودريجيز من المسرحية. ودفعها إلى اختيار نسخته منها وترجمتها إلى الفرنسية لتقدمها على مسرح ستراسبورج القومي، ثم تأتي بها لأفينيون فيما بعد، بدلا من استخدام أي من الترجمات الفرنسية المتاحة، أو حتى نسخة راسين منها. لأن آن تيرون مشغولة بما يمكن للنساء أن يفعلنه إذا ما امتلكن حريتهن وإرادتهن، وكيف يمكن تجسيد رؤاهن على المسرح. بصورة منظورة – بل ومؤطرة في أفضل الصيغ البصرية والحركية. فقد استخدمت إمكانيات الخشبة الجديدة في تحريك أجزاء منها في اتجاهات متعاكسة لتموضع عليها حركة الرجال وكأن الأرض تميد بهم، وتتفلت من تحت أقدامهم؛ بينما تقف كليتمنسترا أو إيفجينيا على أرض الشاطئ الصلبة المفتوحة على الأفق، وجماليات البحر والمصير. وما يجعل هذا العرض مهما، في إخراجه المدهش واستخدامه الحاذق للكاميرا وفتح خلفيته على البحر المائج والأفق، هو أن كلا من رودريجيز وتيرون يمنحان المشاهد، ويرسخان في ذاكرته الدرامية، تصورا مغايرا لإفيجينيا غير تلك التصورات المتعددة التي سبق أن رسخها يوربيديز وراسين وجوته وغيرهم من الذين تعاملوا مع قصتها من قبل. وبإزاء نص يمنح شخصيات المسرحية جميعا أبعادا جديدا مغايرة لتلك التي عودتنا عليها المسرحية من كونهم كائنات هشة واقعة في قبضة الآلهة، وغير قادرة على الانفلات من مصيرها المحتوم.

 

[i]. ميديا هي واحدة من أكثر شخصيات الميثولوجيا اليونانية تعقيدا وثراء. فهي حفيدة إله الشمس Helios وابنة الملك آيتس، وإحدى عرافات ربة السحر هيكاتا Hecate. وهي بطلة إحدى مسرحيات يوربيديس التي يحمل عنوانها اسمها. لكنها في الوقت نفسه من أكثر الشخصيات خلافية في الاساطير اليونانية، فهي من نسل الآلهة والزواج بينهم وبين البشر، لذلك تتمتع بقوى خارقة، وتتعرض قصتها للكثير من التفاصيل المختلفة بين مختلف كتاب العصرين الإغريقي والروماني. لكن الثابت في كل الروايات أنها تلعب الدور الرئيسي في مساعدة جاسون على الحصول على الجزة الذهبية، التي تتيح له استعادة ملكه. وأن الآلهة لعبت دورا أساسيا في قصة حبها لجاسون وزواجها منه. فتهجر أهلها وتتبعه، وتستخدم قوتها السحرية لإنقاذ حياته أكثر من مرة. وبعد عشر سنوات من الزواج وإنجاب عدد كبير من الأبناء – يصل في بعض الروايات إلى عشرة - وحصوله على الجزة الذهبية يتخلى عنها جاسون للزواج بكريسا ابنة الملك كريون، الذي يأمر بنفي ميديا مع أبنائها من كورنثه. عندها يبدأ انتقام ميديا، التي شعرت بالإهانة والخداع. فترسل هدية مسمومة إلى كريسا، تنتهي بها إلى الموت هي وأبوها الذي حاول انقاذها. ثم تقتل أبناءها من جاسون الذي تبعها لاستعادة ابنائه في إحدى الروايات، أو تسجنهم في معبد كي تمنحهم الآلهة الحياة الأبدية، فيموتون فيه أحياء. وتنتهي بها الحياة وقد استعادت وضعها وكرامتها حيث تعود إلى أثينا وتتزوج من ملكها.