يتناول الكاتب الفلسطيني هنا أنماطا من المثقفين المستسلمين للراهن، والمبررين لكل ما هو موجود، باعتبارهم فئة نموذجية للإمبريالية الثقافية. ويتوقف عند «العلمانيين الجدد» كنظير «للمحافظين الجدد» في أمريكا – مثل يوسف زيدان وسيد القمني في مصر وأحمد عصيد في المغرب - وما قدموا من خدمات مجانية للإمبريالية الثقافية وللرواية الصهيونية وللتطبيع معها.

الإمبريالية الثقافية و«العلمانيون الجدد» ودور المثقّف

إيـاد البرغـوثي

 

حصلت معظم دول الشرق «الإسلامي» على استقلالها «الرسمي» (الشكلي) في النصف الأول من القرن الماضي. إلا أن ذلك الاستقلال لم يوقف محاولات القوى الإمبريالية للإبقاء على هيمنتها على تلك الدول والتأثير في شعوبها، ليس فقط من خلال إظهار القوة الخشنة وإقامة القواعد العسكرية، إنّما أيضاً من خلال القوى الناعمة التي تستخدمها تلك الدول وتتمثل في السياسة والاقتصاد، وكذلك الثقافة، في ما يسمى بالإمبريالية الثقافية. فالإمبريالية الثقافية هي سعي الدول الاستعمارية إلى فرض هيمنتها الأيديولوجية على الدول والشعوب المستضعفة، تعيد من خلالها إنتاج تبعية تلك الدول والشعوب لها، وتسهل عملية التحكم بها وبمقدراتها، وتستطيع من خلالها توجيهها لخدمة أهدافها وبالشكل الذي تريد.

يتم ذلك بالمجمل خلال استخدام كل ما يؤثر في قناعات الناس وقيمهم عند الشعوب المستضعفة، وأحياناً غير المستضعفة أيضاً، بحيث يتم إبهار هذه الشعوب بكل ما لدى المستعمر من «منجزات» مادية وفكرية. وبقدر ما يكون ذلك، يكون جلدُ تلك الشعوب لذاتها واستصغارها لدورها ويأسها من الخروج من تخلفها، حيث تصل إلى قناعة باستحالة الخروج من الأزمة التي تعيشها، وتصل في الوقت نفسه إلى قناعة بأنها شعوب قاصرة وأنها بحاجة إلى رعاية من تلك الدول «القوية والمتطورة». وتسلّم تلك الشعوب أن قصورها هو أمر طبيعي ومعطى سلفاً، وأن حاجتها للرعاية ضرورية وبديهية، حيث تصاب تلك الشعوب بعقدة نقص، لن تجد لها حلاً إلا باللجوء إلى تلك البلدان «المتقدمة».

تعمل الإمبريالية الثقافية على الإعلاء من شأن قيم شعوبها وثقافتها واحتقار قيم وثقافة الآخرين. هي عنصرية مشهودة يسعى الغرب الإمبريالي لفرضها على العالم، ويريد من ذلك العالم أن يكون سعيداً بها، بل وممتنّاً كذلك. والغرب لا يرى عنصريته شيئاً خارجاً عن المألوف، أو أنها إساءة للإنسانية، بل يراها شيئاً طبيعياً، لذلك يسعى للحفاظ على «تفوقه» بكل ثمن، ولذلك يستغرب عندما تتحدث الشعوب المستضعفة عن ازدواجية المعايير لديه، فالطبيعي عنده أن يختلف القتل في فلسطين عنه في أوكرانيا، ويختلف اللاجئ الأفغاني عن اللاجئ الأوكراني. وطبيعي أيضاً، ولا تناقض البتة، أن يؤسس هنري دونان الصليب الأحمر الدولي، وأن يقوم في الوقت نفسه بتمويل إنشاء مستوطنات صهيونية في فلسطين.

من هذا التفوق «العنصري» يأخذ الغرب الإمبريالي الحق، ليس فقط في فرض «إنجازاته» الثقافية على الآخرين، بل وفي فرض «جنونه» وعقده أيضا. إن الكثير من المواضيع التي تُفرض على منظمات المجتمع المدني في بلادنا تندرج تحت هذا التصنيف. المشكلة أنه عند درجة من العنصرية يصبح كذب العنصري هو الصدق، وأخطاؤه هي الحقيقة، ونقائصه مزايا، وإشكالاته هي الحلول، وهو لا يقتنع بهذه «المعطيات» فقط إنما يفرضها على الآخرين على «شكل» عقلانية وحداثة وحرية وديموقراطية وحقوق إنسان. وحتى لا نقع في مربع العنصرية «المقابلة»، فإنه يجب الاعتراف بالأزمة العميقة التي يعيشها الشرق علمياً وحضارياً، وأن ما نقوله عن الغرب من سلبيات، لا يعني التنكر لدوره الإيجابي الكبير في الحضارة العالمية منذ دخول عصر الرأسمالية وحتى يومنا هذا، بخاصة في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي. كما لا ينبغي أن يقودنا ذلك أبداً إلى استنتاج أن الشرق يعيش أجمل أيامه، وأن من حقه أن «يفتخر» بهذا الوضع لدرجة أن نادى بعضنا بأحقيتنا في «أستاذية العالم».

إنّ مشكلة الغرب الإمبريالي الحالية تكمن في رغبته في توقيف الزمن، واعتبار نفسه في قمة التطور الإنساني الذي لا تطور بعده (نهاية التاريخ). هو يريد أن يقتنع أنه الأفضل، ليس فقط الآن ولكن للأبد، ويريد أن يقتنع الآخرون بذلك وأن يتصرفوا على هذا الأساس. ويستخدم الغرب كل وسائله الناعمة (وغير الناعمة إذا تطلب الأمر) للتأثير في شعوب العالم وبخاصة في الشرق، وجعلها تتبنى قيمه وثقافته ومعاييره في الحكم على الأشياء. وهو من أجل ذلك يحاول التأثير على الدولة المستهدفة بكل أركانها، النظام والمجتمع المدني بما فيه المنظمات غير الحكومية، ومختلف طبقات الشعب وفئاته.

وهو يستخدم كل الوسائل المؤثرة في بناء القيم، والتي تتشكل أساساً من التعليم حيث تتدخل الدول الإمبريالية في مناهج التعليم في البلدان الضعيفة بشكل مباشر، وتملي عليها تغيير ما لا تراه مناسباً في تلك المناهج، وكذلك الدين والمؤسسة الدينية التي يجري تدجينها وإفراغها من كل ما هو وطني، ثم الإعلام الذي يلعب دوراً استثنائياً في توجيه الناس والتأثير في عقولهم وإيصال الصورة والخبر لهم بالشكل الذي تريده الدول الاستعمارية.

من خلال هذه الوسائل تدخل الإمبريالية الثقافية من أجل خلخلة البنية الفكرية للشعوب المستضعفة، وتحديد أطر تفكيرها، وتوجيهها نحو أجندات ليست لها علاقة بالمشكلات الحقيقية التي تواجهها تلك الشعوب، وتنشر بينها قيم الفردانية المتحللة من كل التزام يتعلق بالشعب وبالوطن. وأكثر الفئات الاجتماعية التي تستهدفها الإمبريالية الثقافية هم مثقفو الشعوب المستضعفة، لما لهم من أهمية في التأثير على بقية الطبقات والفئات الشعبية، ولكونهم الفئة المرشحة لحمل مشروع الأمة التي يمثلونها، وكذلك للاحتكاك القائم بين هذه الفئة والغرب. فالمثقفون هم حملة مشروع الأمّة، من جهة، وهم الأقدر على وأد ذلك المشروع وإحباطه من الجهة الأخرى، والأمّة بلا مشروع هي ليست أكثر من «لا شيء»، هي ليست أمّة، فالفرق بين الأمّة والدهماء هو وجود المشروع. إن أي اختراق لفئة المثقفين سيسهّل على الإمبريالية الثقافية عملها.

وتعاني فئة المثقفين في البلدان العربية، وفي الشرق عموماً، من كثير من المشكلات تجعلها «صيداً» سهلاً للإمبريالية، وتبعدهم عن رسالتهم المفترضة التي تتمثل أساساً في التنظير لمشروع الأمّة في التحرر والوحدة والتنمية والتقدم. وبسبب نظام الإنتاج الموروث من حقبة الاستعمار المباشر، يشكّل جهاز الدولة البيروقراطي المتضخم عادة، المستوعب الأكبر للقوى العاملة في دول المنطقة، ومن ضمن هؤلاء نسبة كبيرة من المثقفين. كما أن نسبة لا بأس بها من هؤلاء المثقفين، وبسبب تعقيدات الوضع المعيشي في هذه البلدان، دخلت بشكل مباشر أو غير مباشر في عالم البزنس أو في منظمات المجتمع المدني. هذا الوضع، أي الارتباط المباشر بالدولة أو بمنظمات المجتمع المدني وبأنواع معينة من البزنس، يفترض علاقة «حميدة» بالغرب ويجعلها أقرب إلى القيم الغربية والفكر الاستهلاكي بصورة عامة.

هذه التعقيدات، وغيرها بالطبع، تخلق تبايناً واضحاً يتراوح بين فئات المثقفين المختلفة تجاه الهيمنة الثقافية للغرب على شعوب المنطقة، يتراوح بين القبول المطلق والرفض المطلق. فهناك المثقف «المعجب» بالقيم الغربية من دون تحفظ، يحتقر الشرق «الإسلامي» ولا يعتبره متخلّفاً فقط بل التخلّف نفسه. هذا النوع من المثقفين لا يرى غضاضة في «التبعية» للغرب بل يراها مقياساً للتقدّم وإنجازاً كبيراً ويدعو للتشبث بها. وهو بذلك لا يرى ضرورة أن يكون للمنطقة مشروعها الخاص، وإن كان لا بد من ذلك، فليكن بتعميق التواصل مع الغرب وبمزيد من «الغربنة».

يقابل ذلك، ويدعمه عملياً، ذلك المثقف الشرقي الذي يرى الغرب الشر المطلق الذي تجب إدارة الظهر لكل ما عمل ويعمل، ويرى في الشرق «نموذجاً» يجب على الغرب وغيره الاحتذاء بكل ما جاء به، وأن بعض المشكلات الموجودة في الشرق ما هي إلا بسبب ابتعاد الشرقي عن شرقيته الأصلية. هذا النوع من المثقفين قد يكون حاملاً لمشروع للأمّة، لكنه مشروع أصولي انعزالي، معلن للحرب سلفاً على كل الآخرين، وهو صورة شرقية لفوكوياما ونهاية التاريخ الغربية. إلى جانب المثقف المتأثر مباشرة بالغرب الإمبريالي والمندمج معه والمعجب به والمتبني لمشروعه، توجد شرائح من المثقفين الشرقيين الذين «يسهلون» (وإن كان ذلك بتقديري من دون أن يدركوا ذلك) الاختراق الثقافي الغربي لشعوبهم.

من هؤلاء المثقف المنعزل وغير الشاعر بأية مسؤولية تجاه وطنه وأمّته وليس لديه مشروع إلا مشروعه الخاص. والمثقف المحبط واليائس والمهزوم الذي يرى الهزيمة قدراً فيتماهى معها، بل ويصل درجة الاستثمار بها أحياناً (مثقفو التطبيع على سبيل المثال)، هذا النوع من المثقفين المستسلمين للراهن، والمبررين لكل ما هو موجود، والفاقدين حتى للحلم بأي تغيير، هم فئة نموذجية للإمبريالية الثقافية. وإذا ما أضفنا إلى هؤلاء الناقد السلبي للأوضاع؛ ذلك النوع من المثقفين الذين يتحوّل نقدهم بمرور الوقت إلى «نق» من دون الإبقاء على أي فسحة للتغيير الإيجابي، إضافة إلى أولئك المثقفين الذين لا يرون كامل المشهد، ويذهبون إلى التفاصيل، ويغوصون في اليومي على حساب الاستراتيجي، ويخلطون بين الأهداف السامية الثابتة، والوسائل المتغيرة، كل هؤلاء، إضافة إلى المثقفين المتعصبين لكل الهويات التي تحول دون تقارب مكونات الأمّة من بعضها، يشكّلون القاعدة الأكبر لدخول الإمبريالية الثقافية إلى بلدان الشرق.

«العلمانيون الجدد» في العالم العربي:

لكن أسوأ تلك الفئات السلبية هي «العلمانيون الجدد». وليس هنا مجال للانتصار لأي من الدين أو العلمانية، ولا للمفاضلة بينهما، كذلك هو ليس للبحث في السياق الذي ظهرت فيه العلمانية بأشكالها المتعددة، ولا في الارتدادات التي تحدثُ في كثير من الأحيان من أشكال معينة من الإيمان- أو اللاإيمان- بحيث تنعكس سلباً على العلاقات الاجتماعية بين الناس. إنه مقال يحاول تشخيص حالة يذهب فيها المثقف «العلماني»، هذه المرة، بعيداً من جوهر مهمته في الدفاع عن حرية الاختيار إلى نوع من الأدلجة تحمل ضرراً فادحاً على الشعب والأمة، حالة يبدو فيها المثقف الذي يفترض فيه الحرص على قضايا شعبه الكبرى رأس حربة في تمييع، وربما ضياع، تلك القضايا.

تجلّت العلمانية لدى روادها في المنطقة العربية تاريخياً بمواقف تجاه قضايا ربما كان التديّن، والموقف من الدين إجمالاً، أقلها حضوراً. فالعلمانية أساساً هي موقف من الدولة، أو حالة للدولة يصفها كثيرون بالمدنية، بحيث تساوي بين مواطنيها ولا تفرق بينهم خاصة لاعتبارات تتعلق بإيمانهم الديني. وهي في هذا المجال موقف مضاد للنظام الذي يلجأ أحياناً لاستخدام الدين في تثبيت شرعيته وفرض هيمنته وممارسة استبداده.

وهي، أي العلمانية، موقف من الحرية، أو حالة ارتبطت بالحرية، بخاصة الحرية الدينية وحرية المعتقد. وهي حالة ارتبطت بحركة التنوير، والموقف المنحاز للعقل والعقلانية والتحرر من الأوهام في العلوم والمواضيع التي تتطلب ذلك. كما ارتبطت بالانفتاح على الثقافات الأخرى. هي ليست أيديولوجيا ولا ينبغي لها أن تكون، تماماً كما هو الدين. بالتالي فهي تجارب وثقافات مختلفة من دولة لأخرى في تلك الدول التي تعتبر علمانية، بخاصة في علاقتها مع ظاهرة التدين. فعلمانية فرنسا التي تعاملت مع مظاهر التدين بشكل حاد، اختلفت عن التجربة الإنكليزية التي يعتبر الملك فيها رأساً للكنيسة الإنجليكانية، كما اختلفت عن التجربة اليابانية التي يعتبر فيها الإمبراطور إلهاً بشكل أو بآخر.

العلمانيون الأوائل
منذ نشأة الحركة العلمانية في المنطقة العربية في أواخر القرن التاسع عشر، لم تأخذ موقفاً محدداً من الإيمان الديني، بل كان الموقف الأبرز هو رفض نظام الحكم المتمثل في الاستبداد السياسي، وأدى إلى صدام مع حكومات ومؤسسات (بما فيها مؤسسات دينية) ليس على قاعدة قبول الدين أو رفضه إنما على قاعدة سياسية بالأساس. عند النظر إلى أهم العلمانيين الأوائل أو حتى من أولئك الذين شكلوا جيلاً ثانياً وثالثاً من العلمانيين العرب من أمثال علي عبد الرازق، فرح أنطون، سلامة موسى، طه حسين، أحمد لطفي السيد، قاسم أمين، أنطون سعادة، محمود أمين العالم، والجابري وعبدالله العروي، وكثيرين غيرهم، نجد اختلافاً كبيراً في مواقعهم من الدين؛ منهم رجل الدين ومنهم غير المتدين، منهم المسلم ومنهم المسيحي، إلا أن ما جمعهم أنهم كانوا أساساً دعاة لنهضة الأمة، وآمنوا بوحدة الأمة وقضاياها، وتبنوا حقوق الإنسان، بما فيها حقوق المرأة وحرية الفكر، وتبني العقلانية، وشكّلوا، كل بطريقته، حركة تنويرية ترفض الدولة المغلقة، وتدعو للدولة المدنية ولعلاقة «سليمة» بين الدين والسياسة.

رواد من أمثال الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وفي مرحلة لاحقة مفكرون من أمثال الدكتور حسن حنفي، استندوا إلى خلفيتهم الدينية في محاولة لإيجاد حركة إصلاح ديني تنحاز للإنسان وترتقي به. وحتى مفكرون وناشطون من أمثال رفعت السعيد وفرج فودة الذين اشتهروا بنقدهم للمؤسسة الدينية وسلوكها السياسي والاجتماعي، وكذلك لبعض حركات الإسلام السياسي، ولم يذهبوا للحديث عن إيمان الناس وتدينهم ومقدساتهم ورموزهم الدينية، هؤلاء جميعاً تعاملوا مع مواضيع الإنسان والنهضة والتقدم والحداثة، ومع الدولة والحرية والعلم، وحتى الدين، بأخلاق وباحترام للتعددية وتفهم للتجارب المختلفة للبشر. كما أن مواقف أولئك الذين عاصروا القضية الفلسطينية منهم كانت مع الحق الفلسطيني، وكانوا ضد إسرائيل كدولة صهيونية تشكل رأس حربة للإمبريالية في المنطقة.

العلمانيون الجدد
تسمية «العلمانيون الجدد» ليست لها علاقة بجيل معين من العلمانيين في الفضاء العربي، بقدر ما هي محاكاة لتسمية «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة الأميركية أساساً، لها مدلول فكري أيديولوجي أكثر من علاقة بزمن معين، وهي تتحدث عن فئة من العلمانيين انفصلت عن النهج التقليدي لرواد العلمانية في المنطقة، ومثلت «أصولية» علمانية في مقابل أصولية دينية، حيث ساهم الطرفان معاً في ضرب العقلانية والوطنية بشكل أو بآخر. من المهم التوضيح أن كثيراً من العلمانيين الآن ما زالوا على نهج أسلافهم الأوائل ديموقراطيين وطنيين «مسؤولون». قلة من العلمانيين الآن هي من ذهبت باتجاه العلمانية «الجديدة» التي تخلت عن الصفات السابقة للعلمانيين الأوائل وذهبت نحو «ليبرالية» وضعتها في مكان آخر مختلف.

قبل الحديث عن مآخذنا على بعض أفكار هؤلاء العلمانيين الجدد لا بد من الإقرار أن لدى كثيرين منهم إنتاج فكري يستحق الاهتمام، وأحياناً التقدير، إلا أن بعض الطروحات والأفكار والمواقف اللافتة، جعلتهم يختلفون عن العلمانيين التقليديين الذين حملوا مشروع نهضة الأمة، ليكونوا «أدوات» في مشاريع مضادة، أرادوا ذلك أم لم يريدوا. على عكس العلمانيين «التقليديين» الأوائل الذين لم يتطرقوا إلى الدين في ذاته، ولم يعتبروا العلمانية أيديولوجيا مطلوب من المجتمع أن يتبناها ويؤمن بها، ذهب العلمانيون الجدد إلى أدلجة العلمانية، وإلى دعوة الأفراد لتبنيها بدل أن تكون دعوة لعلمنة الدولة. هذا قسّم العالم، من وجهة نظرهم، إلى مؤمنين وغير مؤمنين، متدينين وغير متدينين، وبذلك أسس لصراع أبدي بين البشر، تماماً كما فعلت التطبيقات الأصولية للأديان، بدل أن يكون التقسيم الطبيعي للبشر هو: ظالمون ومظلومون، مضطَهدون ومضطهِدون، مستغَلون ومستغِلون. لقد تأثّر العلمانيون التقليديون بالغرب لكنهم لم يتغاضوا عن وجهه الآخر الاستعماري وسعيه الدائم للسيطرة على المنطقة العربية وبقية العالم النامي.

كما فعلت بعض المؤسسات الدينية، أو أتباعها، التي «احتفلت» كلما أشهرت إسلامها «شغالة» في السعودية، يبتهج العلمانيون «الجدد» إذا تخلى متدين عن دينه. هم يتابعون بشغف ازدياد نسبة الملحدين في البلاد العربية، ويقلقون إذا ما تناقصت هذه النسبة، تماماً كما يفعل الجانب المقابل عندما يزداد المتدينون أو ينقصون. هما وجهان لعملة واحدة. هذه المسألة، ازدياد أو نقصان المؤمنين أو غير المؤمنين، ليست هي ما يشغل بال العلماني الحقيقي الذي هاجسه منسوب الحرية أكثر من منسوب التدين أو عدمه.
من أبرز مظاهر الذهاب بالأصولية الدينية إلى مداها الأقصى في الحالة الإسلامية هو ما ذهبت إليه بعض الانتلجنسيا الدينية في ما يتعلق بما سمي «أسلمة العلوم»، وهو محاولة تطبيق قواعد الفكر الديني ومعطياته على مناهج البحث العلمي، وهذا يصل بصاحبه إلى الاستنتاج أن كل ما هو مكتشف أو سوف يكتشف علمياً موجود في الدين سلفاً. في مقابل ذهاب تلك الانتلجنسيا الدينية إلى أن قوانين العلم يجب أن تكون خاضعة للدين، انشغل العلمانيون الجدد بمحاولة البرهان العقلي على «لا عقلانية» الإيمان. لقد حاول الأصوليون العلمانيون، تماماً كما حاول الأصوليون المتدينون، تجيير كل مساحة حياة الإنسان المادية والروحية لاعتباراته من دون أن يحاول أن يفصل بين آليات عمل العقل والعلم والجانب الروحي من الإنسان.

حاول العلمانيون الجدد، بل وضعوا معظم جهدهم، لإثبات «لا عقلانية» الإيمان، واعتبروا ذلك إنجازاً عظيماً، فذهبوا إلى تفاصيل التفاصيل في مسائل الأسطورة والمعجزات وناقشوا عدم معقوليتها في ضوء «المنطق» العلمي. ناقشوا الإسراء والمعراج في ضوء قوانين الجاذبية وسرعة الضوء، وناقشوا عذرية السيدة مريم بقوانين طب النساء. ربما من الضرورة بمكان أن نعود لابن رشد لمعرفة مدى ضرورة وضع العلم والإيمان كل في سياقه. إن الدراسات التي تتعلق بالظاهرة الدينية وبالفكر الديني وفلسفة الدين وسوسيولوجيا الدين، التي يقوم بها مختصون متدينون أو غير متدينين، هي دراسات في غاية الأهمية نظراً لما للدين من تأثير هائل على أعداد واسعة من الجماهير. لكن بعض العلمانيين «الجدد» يذهبون لدراسة بعض الأمور التي من الصعب فهم جدواها إلا من باب «المماحكات» الفكرية. فماذا يعني أن تدرس إن كان الخمر قد حرم في الإسلام أم لم يحرم؟ وماذا تفيد دراسة علاقة النبي بزوجاته على سبيل المثال.

لكن مثل هذه الاهتمامات، التي يغلب عليها الطابع الطفولي في الكثير من الأحيان، ليست هي الأخطر في الفكر والممارسة لدى العلمانيين الجدد. بل بالإمكان ملاحظة بعض «الخطايا» التي يتبناها وينظر لها بعض رموز العلمانية الجديدة، ومنها:
- غياب المسؤولية الثقافية لدى كثير من هؤلاء؛ فعلى المثقف الاهتمام ليس فقط بصدق أو حقيقة ما يقول، بل أيضاً بما يترتب على ما يقول وتأثير ذلك القول. ضمن ذلك يتناول العلمانيون الجدد – يوسف زيدان مثلاً – مواضيع تشكل رموزاً للأمة وينفي صحتها أو يعمل على الإساءة لها والتقليل من هيبتها، مثل قوله إن مدينة القدس ليست مقدسة، أو أن المسجد الأقصى ليس هو الذي في القدس، أو أن صلاح الدين الأيوبي وأحمد عرابي شخصان سيئان. إن التشكيك في هذه الرموز والعبث بها في العقل والوجدان الشعبي سوف يزعزع عوامل تماسك الأمة ويخدم أعداءها.

من حق كل شخص أن يعتقد ما يريد، لكن من واجب ذلك الشخص إدراك أهمية، وربما مخاطر، قد تترتب على الترويج لذلك الاعتقاد، لذلك وجب الاهتمام ليس فقط بما يقال، بل كيف يقال ومتى يقال ولمن يقال. إن العلماني الجديد عندما يشكك برموز وحدة الأمة، سواء كانت هذه الرموز واقعية أم أسطورية، حقيقية أم متصورة (كثير من عوامل وحدة الأمم حتى المتقدمة منها هي ليست أكثر من أساطير)، فهو يقوم بدور الكومبرادور الثقافي الذي يعبث بوحدة أمته، ويخدم أعداءها سواء أدرك ذلك أو لم يدرك.

كما يعادي العلماني الجديد الإسلام السياسي (وغير السياسي) من حيث المبدأ، وهذا قد يكون متفهماً، لكن من غير المتفهم هو وضع كل حركات الإسلام السياسي في سلة واحدة؛ فتصبح «داعش» و«النصرة» و«حماس» و«حزب الله» و«حركة النهضة»، وغيرها، على نفس الدرجة من «السوء». كذلك، فإن هذا الموقف الرافض لكل مبادئ وسلوك ورواية حركات الإسلام السياسي كافة يذهب بهذا العلماني إلى الترويج للرواية الصهيونية. لقد ذهب أحدهم لحد المطالبة بتقسيم الأقصى بين المسلمين واليهود والملحدين على اعتبار أن الرواية الإسلامية ليست «علمية».

ليس غريباً أن بعض رموز التطبيع مع إسرائيل من المثقفين هم من العلمانيين الجدد. لقد نقل هؤلاء تطبيع «الضرورة» الذي نظّر له مثقفو السلطة أيام كامب ديفيد وأوسلو إلى تطبيع الإعجاب، تطبيع الإمارات والبحرين، على اعتبار أن الصهيونية هي الحداثة وهي الغرب الذي يريدون أن يكونوه. لقد طالب أحد رموز هؤلاء (سيد قمني) بعودة الاستعمار «ليرحمنا من الإسلاميين» كما قال، ولم يأخذ في الاعتبار أن الاستعمار الذي يدعو للعودة إليه هو الذي صنع «داعش» والوهابية وكثيراً من الاستبداد الديني وغير الديني في المنطقة.

في أمور التطبيع، المثقفون العلمانيون الجدد أكثر «جرأة» و«وقاحة» من السياسيين المطبعين. ففي حين يحاول السياسي الاختباء وراء بعض المصالح والظروف نجد مثقفاً كيوسف زيدان يقول، ومنذ فترة، من «لا يؤيد التطبيع فهو جاهل.» كما يختلف موقف العلمانيين الجدد عن العلمانيين التقليديين في الموقف من السلطة. ففي حين يعتبر العلمانيون التقليديون معارضين لنظام الحكم، بشكل أو بآخر، بسبب الاستبداد، والتخلي عن القضايا الوطنية، واستخدام الدين ضد المعارضة، والتمييز بين المواطنين على أسس عقائدية؛ نجد أن العلمانيين الجدد يتحالفون مع السلطة ومع «الاستبداد» على اعتبار أن المعارضة من الإسلاميين. أكثر شيء لفت انتباه سيد قمني في السياسات التي انتهجها الرئيس السيسي هو دعوته إلى إصلاح الخطاب الديني ولم يهتم بالسياسات الأخرى كافة للرئيس.

وبخلاف العلمانيين التقليديين، الذين يحرصون على البحث عن طرق لإنقاذ أمتهم وشعوبهم من التبعية والاستبداد والتخلف، يعتبر العلمانيون الجدد أن التخلف شيء مرتبط بالأمة، لا يمكن التخلص منه. أحمد عصيد، مثلاً، يعتبر أن طريق تقدّم المغرب هو خلاصه من كل ارتباطات شرقية وتوجهه نحو الغرب، حيث قال: «على المغرب أن ينفصل عن الشرق إذا أراد أن يخرج من التخلف». كما دافع عصيد عن التطبيع مع إسرائيل بذريعة العلاقة مع اليهود المغاربة الذين «أخرجوا من أرضهم بتحريض كبير من حزب سياسي». لقد تأثّر العلمانيون التقليديون بالغرب، بالحرية والعدالة والمساواة التي تحدّثت عنها الثورة الفرنسية، وبالتقدّم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي الذي نتج من الثورة الصناعية، لكنهم لم يتغاضوا عن وجهه الآخر الاستعماري، وسعيه الدائم للسيطرة على المنطقة العربية وبقية العالم النامي.

أمّا العلمانيون الجدد، فهم مغرمون بالغرب بكل تفاصيله ومن دون تحفظ. الاستعمار، من وجهة نظرهم، هو شيء إيجابي ولولاه لما تقدّمت الشعوب التي استعمرت. قال سيد قمني في إحدى مقابلاته: «لو الأوروبيين ما راحوش أمريكا كان الهنود الحمر بيولعوا بالنار». هذا الإعجاب الشديد بالغرب تزامن مع احتقار شديد للشرق (للذات) يذكّر برد فعل بن غوريون عندما نزل من الباخرة التي أقلته إلى ميناء يافا، حيث أعرب عن اشمئزازه من الوضع هناك. يبدو أن العلمانيين الجدد اتخذوا الموقف السلبي من الإسلام ليس بصفته ديناً (فهم لم يتخذوا مثل هذا الموقف تجاه اليهودية والمسيحية) بل لارتباطه بالشرق كدين وكثقافة وقيم.

وفي السياق نفسه، سخّف بعضُ العلمانيين الجدد النضال الفلسطيني، فالفلسطينيون «باعوا أراضيهم والجماعة اشتروا» كما قال سيد قمني. وقال أيضاً إن الفلسطينيين ما تصارعوا من أجل أرض، وإنما من أجل جامع. كما وصف سيد قمني «الربيع العربي» بالطريقة نفسها عندما قال: «كل يدافع عن جامعه». العلمانيون الجدد هم الصورة المقابلة للأصولية الدينية. هم شموليون مستبدون بحجة رفض التخلف، وهم غير وطنيين بذريعة «تخلف» الوطنيين. قدّموا، بعلم أو بغير علم، خدمات مجانية للرواية الصهيونية ووقفوا بكل «فخر» إلى جانب التطبيع مع إسرائيل.

لكن ما تحتاجه شعوب الشرق، وبخاصة شعوب العالم العربي، من أجل رفع حصانتها تجاه الإمبريالية الغربية الثقافية هو ذلك المثقف الذي يحمل مشروع الأمّة لأنه بذلك يعطي للشرق معناه، وهو المثقف المسؤول الذي لديه المعرفة والإحساس بالمسؤولية تجاه قضايا أمّته الكبرى، وهو الذي يدعو إلى حوار لممثلي مكونات الأمّة من أجل تقاربها ويبعث فيها الأمل بإمكانية نجاح مشروعها، وفي الوقت نفسه يعمل على عقلنة وعي الأمة الجمعي تجاه مصيرها المشترك وضرورة تحررها.

 

أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله

 

عن (الأخبار) اللبنانية