كان مهرجان أفينيون المسرحي الأخير حافلا بالعروض المهمة. وقد حضره محرر (الكلمة) كالعادة، وقدم القسم الأول من المسرحيات المهمة التي شاهدها بالعدد الماضي، ويتابع هنا في القسم الثاني والأخير تناول بقية العروض المهمة التي شاهدها، وخاصة العرض الصيني الذي يكشف عن فجوة معرفية في إلمامنا بما يدور فيها من أدب ومسرح.

مهرجان أفينيون السادس والسبعون (2/2)

إضاءات المسرح الصيني المبهرة .. ومفاجآت أخرى

صبري حافظ

 

عاصفة شكسبير وتوالي المؤامرات الخائبة:
أما المسرحية الكلاسيكية التالية التي شاهدت إخراجا جميلا وجديدا لها فهي (العاصفةThe Tempest) التي تعد آخر أعمال وليام شكسبير William Shakespeare. والتي جاء بها إلى المهرجان مسرح Teatro Stabile Torino الإيطالي. والمسرحية، كما هي العادة في تلك العروض، تقدم لنا تأويل المخرج اليساندرو سيرا Alessandro Serra وهو مخرج ومصوّر إيطالي بارز، وكاتب مسرحي سبق له أن أسس فرقته المسرحية الخاصة Teatropersona وقدم بها الكثير من العروض المميزة. وقد قام أيضا بإعداد النص الإيطالي للمسرحية وهو الإعداد الذي ساهم في بلورة رؤيته المتفردة لها. ونحن نعرف أن مسرحية شكسبير تنتمي إلى مآسي الانتقام الإليزابثية المعروفة. حيث يعيش بروسبيرو – حاكم ميلانو سابقا – في جزيرة معزولة في البحر الأبيض المتوسط مع ابنته ميراندا. وهي جزيرة نائية ومقفرة استطاع العيش فيها بفضل قوة السحر التي منحها إياه جونزالو الذي أنقذه من الموت المحقق، بعدما استولى أخوه – بمساعدة آلنسو حاكم نابولي – على سلطته ومملكته. وقد مكنته تلك القوة السحرية من التحكم في المدينة بعدما طوع كاليبان – الذي كان يتحكم فيها قبله – لخدمته هو وابنته ميراندا. كما مكنته من تخليص الجني: آريل من عبوديته، بشرط البقاء في خدمته لأثني عشر عاما. مما أتاح له هو وابنته أن يعيشا حياة مريحة على تلك الجزيرة المقفرة.

أليساندرو سيرا

وبعد أعوام عديدة على أرض هذه الجزيرة، تدفع الرياح سفينة كانت تقل مجموعة من النبلاء الذين يعرفهم بروسبيرو جيدا، إلى الاقتراب من الجزيرة. وسرعان ما يجد بروسبيرو فرصته، فيرسل آريل كي يهيّج عاصفة تطيح بالسفينة وتلقى بحطامها على شواطئ جزيرته. وبين هؤلاء النبلاء أخوه أنطونيو، وصحبه من النبلاء الذين ساعدوا أخاه في التآمر عليه، ونفيه من مملكته القديمة، وعلى رأسهم ألونسو – حاكم نابولي – وابنه فيرناندو. وهو الأمر الذي يتيح له استخدام قوة السحر التي حازها لسنوات في الانتقام منهم، أو الصفح عمن يريد أن يصفح عنه منهم – وقد أصبحوا جميعا تحت رحمته – كي يضمن مستقبل ابنته ميراندا ويزوجها من فرناندو ابن عدوه السابق آلونسو الذي تآمر عليه. ولأن على المتآمر تدور الدوائر، فإن سباستيان، أخو آلنسو يستجيب لدعوة أنطونيو– أخو بروسبيرو الذي تآمر عليه واغتصب ملكه – للتآمر على أخيه آلونسو، حاكم نابولي الذي ساعد أنطونيو في اغتصاب ملك أخيه. في تلك الدورة الحتمية لاغتصاب السلطة والخيانة. غير أن فرناندو – ابن آلنسو – وقد رمته السفينة في مكان آخر، يقابل ميراندا، ويقع في غرامها. عندئذ يجد بروسبيرو أن حرصه على مستقبل ابنته، ووعيه بألا يأخذ فرناندو بذنب أبيه، يوقظ لديه الرغبة في التسامح والصفح عمن تآمروا ضده، وقد وقعوا جميعا في قبضته. فيجرد أنطونيو من مملكة ميلانو التي سيتولاها ابنه فرناندو وقد تزوج من ميراندا، ويرد ألنسو إلى مملكته في نابولي بعدما عرى أخاه ومؤامراته ضده.

مشهد من (العاصفة)

لكن مسرحية (العاصفة) تحولت، في إعداد أليساندرو سيرا وإخراجه لها، إلى مسرحية معاصرة تتناول مشاغل عالمنا الراهن أكثر من أي شيء آخر. لأن العاصفة في رأيه مسرحية سياسية ينشغل الجميع فيها باغتصاب السلطة، والافتقار للقدرة على التسامح والغفران. كما أنها في الوقت نفسه مسرحية عن قدرة المسرح نفسه على الإدهاش والإمتاع معا. فمن الناحية الأولى ما أن يهمل بروسبيرو أمور السلطة حتى ينقض عليها أقرب الناس إليه، أخوه من لحمه ودمه، ويحكم عليه بالموت غرقا في عرض البحر. لكنها لا تكتفي بذلك، بل تكشف عن أن من غدر بأخيه، سوف يغدر أيضا بمن ساعده على الوصول للحكم. لأن الحاكم لا يحب أن يكون مدينا لأحد بوصوله للسلطة حتى، أو بالأحرى خاصة، لو كانت اغتصابا. ومن اغتصب السلطة مرة، تنفتح شهيته لتأكيد عملية السطو عليها واغتصابها، وكأنه في حاجة مستمرة لما يقنعه، بأن ما فعله من خيانة أمر طبيعي يفعله الآخرون عن طيب خاطر. أو أن الحاجة إلى اسكات صوت الضمير الذي لابد وأنه يؤرقه، تتطلب المزيد من الأفعال الشائنة التي سبق لها أن أيقظته، في تلك الدائرة الجهنمية.

أما من الناحية الثانية: وهي أهمية المسرح كفعل كاشف ومهم في حياة البشر، فإن شكسبير قد مهد الأرض لها حينما دفع جونزالو لإنقاذ بروسبيرو من الموت غرقا، ومنحه سلطة أقوى من سلطة الحكم والسياسة، وهي سلطة السحر، وتسخير قوى الطبيعة لمشيئته. فمسرحية شكسبير مشغولة بالكشف عن أن المسرح هو في جوهره نوع نادر من السحر، الذي يدور تحت أعين المشاهدين وبتواطؤهم المحسوب في الفعل المسرحي. فكل شيء فيها يدور أمام أعيننا، ونعرف أنه حدث مسرحي، ولكننا نتقبله كواقع حقيقي قادر على الإمتاع والإضاءة الفاعلة لعالمنا الذي نعيش فيه، والمغاير كلية لما يدور. وقد استطاع أليساندرو سيرا أن يحوّل المسرحية أيضا إلى مسرحية عن قدرة السحر المدهشة، ولكنه هذه المرة سحر المسرح الذي تبلغ جماليات البساطة والمساحة الخالية فيه ذروة غير مسبوقة. لأن العمل كله يدور في مساحة خالية سرعان ما تتخلق فيها – بفعل الحركة المحسوبة وإمكانيات التوهيم البسيطة – عوالم تلك المسرحية بإقناع وإيحاء معا. بالصورة التي يمكن معها الحديث عن جماليات البساطة والمساحة الخالية. فليس على خشبة المسرح الخالية تماما والتي تدور فيها كل أحداث هذه المسرحية المعقدة، سوى مجموعة من الثقوب غير المرئية التي سرعان ما تزرع فيها الشخصيات بقية مكونات المشهد البسيطة فيتغير الموقع بسهولة من القصر إلى شواطئ الجزيرة المهجورة، وبإقناع شديد مبني على تلك البساطة المتناهية.

مشهد من (العاصفة)

خاصة وأن أليساندرو سيرا يقول لنا في برنامج المسرحية المطبوع إنه «دائما ما يختار نصوصا قادرة على التعامل مع حاضرنا، على أن تتحدث لنا، لأنها تنطوي على البنى والنماذج البدئية archetypes التي تمثل المشاعر الإنسانية وتحكمها. وهذا هو سر ولعه بشكسبير، لأنه كاتب مسرحي نادر في قدرته على أن يجسد على خشبة المسرح تلك النماذج البدئية التي تعبر عن المشاعر التي تتحكم في العلاقات المختلفة بين البشر بصدق وباستخدام تقنيات شديدة البساطة. تقترب مما يدعوه بيتر بروك بالمسرح الخام raw theatre أي المسرح الصرف، العاري، والخالي من الزوائد أو التزويقات، والذي يستطيع أي مشاهد عادي أن يحس به ويفهمه، دون الحاجة لأن يكون مثقفا أو متعمقا في الفنون. بالرغم من غناه بمستويات متعددة من المعاني والدلالات.» هذا فضلا عن اهتمامه الخاص بالأعمال التي يشعر أنها قادر على التعامل مع الجانب الروحي في الإنسان، وأن تعود بنا إلى الجذور الدينوسية للمسرح، وهو أمر تأثر فيها كثيرا بأعمال جيرزي جروتوفسكي Jerzy Grotowski ومعمله المسرحي الشهير. وجعله يتعامل مع روح مسرحية (العاصفة) الدفينة، وقدرتها على تعرية النفس البشرية من ناحية، وعلى الإدهاش المستمر بالمسرح الصرف من ناحية أخرى.

مشهد من (العاصفة)

بصورة يتحول بها العرض إلى نوع من السحر المسرحي، إلى مرآة نرى على صفحتها أعماق تجربتنا، ونحقق معها نوعا من المتعة والتعالي الروحي الذي هو سر الفعل المسرحي وجوهره. لذلك سعى المخرج أن يؤطر مشاهد العمل المختلفة بطريقة ينطوي كل مشهد منها على جمالياته الخاصة، وكأنه فنان تشكيلي يعي كل مكونات اللوحة، ويبتعد بها في نفس الوقت عن التجسيد الواقعي؛ كي يحفز خيال المشاهد على المشاركة في الفعل المسرحي. فكلما ابتعد المشهد عن التجسيد الواقعي كلما انفتح على عدد من التأويلات، وأدخل المشاهد في قلب التفاعل الخلاق مع ما يدور أمامه. وكلما قل ما هو موجود على الخشبة – وتحولت إلى مساحة خالية بحق – كلما امتلأت تلك العناصر القليلة بالمعاني والرموز، وفعّلت طاقة المساحة الخالية وسحرها بالمعنى الذي بلوره بيتر بروك. ومكنت المشاهد من الاستمتاع بجماليات المسرح الصرف أو المسرح الخالص. ولهذا اختار خشبة مربعة خالية، لا تعلو إلا بعشرين سنتمترا عن خشبة المسرح الأصلية، كي تمثل الجزيرة. وبناها من ألواح من خشب البلوط القديم والمستعمل، كي تشي بأن لها تواريخها الخاصة. وأحدث فيها مجموعة من الفجوات التي تمكنه من زرع بعض ألواح الخشب فيها، كي يستخدمها في أكثر من غرض، كمائدة مرة، وبناية أخرى، ووظف هذا كله في استثارة خيال المشاهدين الخلاق، وتعزيز تفاعلهم مع سحر العرض.

مشهد من العاصفة)

اليوم السابع والمسرح الصيني:

حينما قرأت برنامج مهرجان هذا العام الذي تبعث به إدارة المهرجان لي قبل موعده بشهرين، كان أحد أول العروض التي وضعتها على برنامجي هو عرض (اليوم السابع) الذي أتي به مينغ جينغهويMeng Jinghui  إلى مهرجان هذا العام؛ بعدما استمتعت كثيرا بأول عرض جاء به للمهرجان، وهو (بيت الشاي) عام 2019. فقد عرفت من قراءتي عنه، ومشاهدتي لمسرحيته تلك أهميته في المسرح الصيني المعاصر، الذي لا نعرف عنه الكثير في عالمنا العربي. لأن هذا المخرج المولود عام 1964 والذي درس الإخراج في أكاديمية الدراما المركزية في الصين، أصبح بسرعة أحد أبرز مخرجي الصين المعاصرين، ومديرا لمسرح عش النحل Beehive Theatre في بكين. وأهم ما عرفته عنه – من المشاهدة المباشرة لعرضه (بيت الشاي) – هو تمكنه من أدوات ما أسميها بلغة العرض المسرحي، وسيطرته المدهشة على عناصر الفرجة المختلفة فيه. أما ثاني ما عرفته من قراءتي عنه، فهو أنه من المخرجين الطليعيين الذين يمزجون في عروضهم السياسة بالتهكم والسخرية وبشيء من عناصر مسرح العبث الذي قدم أو بالأحرى اقتبس للصينية أبرز مسرحيات أعلامه الكبار مثل صامويل بيكيت ويوجين أونيسكو، كما أنه قدم أيضا مسرحيات جان جينيه وداريو فو في بكين.

مينغ جينغهوي

أما حينما يقدم مسرحيات صينية، فإنه وإن قدم عددا من أعمال المسرحي الصيني الشهير تانغ شيانزو Tang Xianzu لشهرته وخلافيته؛ إلا أنه يعتمد كثيرا على مسرحة الروايات الفارقة في تاريخ الأدب الصيني وحاضره. وقد كانت (بيت الشاي) مسرحة لرواية لاو شي Lao She (1899-1966)الشهيرة، والتي تذبذبت مكانتها في الأدب الصيني من علامة فارقة في تاريخ الرواية الصينية الحديثة عقب الثورة، حينما صدرت عام 1955 إلى أن يصبح كاتبها من ضحايا الثورة الثقافية، ويضطر إلى الانتحار عام 1966 عقب اندلاعها. أما مؤلف الرواية التي أعدها هذه المرة للمسرح، فإنه لا يقل أهمية عن لاو شي. إنه يو هوا Yu Hua المولود عام 1960 والذي يعد من رواد التحديث فيما بعد المرحلة الماوية من تاريخ أدب الصين الحديثة. وقد بدأت هذه المرحلة – حسب مؤرخي الأدب الصيني الحديث – مع أوائل تسعينيات القرن الماضي، وظهور جيل جديد من الكتاب الذين تحرروا من سلطة الحزب القديمة على الثقافة، والكتابة وفق معاييرها. وفي نوع من تقريب عوالمهم للقارئ العربي، فإن قراءتي عنهم جعلتني أعتقد أن بينهم الكثير من التشابه في التوجهات والمنطلقات مع كثير من كتاب جيل التسعينيات المصري المجايل لهم. خاصة في تجنبهم المخاتل للسياسة، دون الإعراض عنها كلية، وشغف النساء منهم بكتابة الجسد التي تسمى هناك بكتابة الجمال، الجسدي منه والحسي، وتتسم بجرأة أكبر – تصل أحيانا حد الشبق والفضائحية – من تلك التي تتصف بها أعمال كاتبات التسعينات عندنا.

وقد تميزت كتابات يو هوا بالتجديد، ووُصفت بعض قصصه الأولى بالسيريالية في تناولها للمعاناة وشظف العيش والحيرة الأخلاقية في عصر ماو ومرحلة الثورة الثقافية. ولم يحقق قدرا من الذيوع والانتشار الواسع إلا مع روايته (الأخوة)[i] عام 2005. وهي الرواية التي يعتبرها الكثيرون مفتتح عصر روايات «الكتب الأكثر مبيعا Bestseller» وما صاحبها من تسليع الكتابة والكُتاب على السواء. فقد باعت هذه الرواية أكثر من مليون نسخة في الصين، في عامها الأول. وصاحب نجاحها ظهور حفلات توقيع الكتب لأول مرة في الصين، وارتحال الكاتب للترويج لكتابه في مناطق الصين المختلفة. والصين شبه قارة واسعة، يعقد فيها ندوات عامة وتليفزيونية عنه وقراءات منه، ويظهر في حفلات توقيع وأمامه طوابير من الراغبين في التوقيع على نسختهم من كتابه. بالصورة التي يتحول بها رأسمال يو هوا الثقافي/ الرمزي السابق، إلى رأسمال مادي في واقع الصين الثقافي الجديد، خلافا لنظرية بيير بورديو التي تميز بينهما.

مشهد من مسرحية (اليوم السابع)

وتغطي هذه الرواية – وهي من جزأين نشر أولهما عام 2005، والثاني عام 2006 –فترة تاريخية مهمة في مسيرة الصين الحديثة، تمتد لأكثر من أربعين عاما؛ من ستينيات القرن الماضي والثورة الثقافية – وهي الفترة التي شكلت تجربة الكاتب التكوينية كما يقول لنا – حتى بدايات الإصلاح الاقتصادي الصيني في أوائل هذا القرن. وهي رواية تتسم بالجرأة وعدم التورع عن استخدام البذاءة واللغة الجارحة. وتتناول الرواية حياة أخوين غير شقيقين. غرق أبو أولهما في بئر المجاري – التي كانت كلها مفتوحة وقتها، وكانت المراحيض كلها عامة، وخارج البيوت – بسبب التلصص على مؤخرات النساء في المراحيض، فوقع ومات غرقا في الغائط. بينما اضُطِهد أبو الآخر، والذي رعى الأول، وتزوج من أمه، أثناء سنوات الثورة الثقافية، ثم أُعدم. فنشأ الأخوان في فقر مدقع؛ وتوطدت بينهما أواصر الأخوة، وقربهما اليتم والمعاناة من بعضهما البعض طوال فترة الصبى والشباب التي اتسمت بالرعب المستمر من الحرس الأحمر والثورة الثقافية. حيث كانا يعيشان حياة من أضهدت الثورة الثقافية عائلاتهم، ويعانيان من الفقر وغياب المسكن في بعض الأحيان، مما اضطر أولهما إلى المبيت في شبابه في بعض الكهوف الباردة المهجورة. وتلاحقت عليهما الكثير من المصائب العائلية المتتابعة، والتي عززت علاقات الأخوة بينهما.

ثم توزعت بهما الطرق والمصائر عندما سيطر اقتصاد السوق، وأصبح الجري وراء المال عصب الحياة. وهو الأمر الذي ينقل الرواية من تصوير المرحلة التي ساد فيها جنون الثورة الثقافية وعنفها؛ إلى تجسيد جنون آخر لا يقل عنه قسوة وتسارعا في الأحداث، وهو حنون النزعة المادية، وآليات الفساد والثراء السريع. حيث يصبح أكبرهما Baldy Li بالدي لي، وهو الجريء المخاتل الذي لا يعبأ بالتقاليد ولا تردعه القيم، رجل أعمال ويحقق ثروات طائلة. بينما يبقى الأخ الأصغر، غير الشقيق سونج جانج Song Gang، المستقيم الفاضل المولع بالكتب والقراءة والذي يحبه الجميع، عاملا في مصنع تملكه الدولة، وينتهي به الأمر إلى البطالة والفقر بعد أن يتعثر المصنع، ويستغني عنه ضمن من استغنى عنهم من العمال. بعدما دمر العمل في هذا المصنع القذر رئتاه. لكن أهمية الرواية تكمن – كالعادة – في تفاصيل المسيرتين، ومدى تعارضهما وتوازيهما طوال الفترتين التاريخيتين المهمتين. وكذلك في لغتها الخشنة أو الصادمة في كثير من الأحيان – وفق نقادها الصينيين الذين يتحدثون عن بذاءتها وعدم ترددها في استخدام ألفاظ جارحة لم تدخل الأدب الصيني قبلها – وجرأتها على تناول كثير من المحرمات، أو التابوهات القديمة.

مشهد من مسرحية (اليوم السابع)

وتنهض رواية (الأخوة)، التي أصبحت من أكثر الروايات مبيعا، واعتبرها الكثير ممن قرأت لهم عنها أمثولة رمزية لحاضر الصين المعاصرة، على تصوير ما جرى لكل من الأخوين في المرحلتين، وكيف أن توزع الطرق بهم لم ينل من علاقة الأخوة بينهم. ولا تفلت الرواية من نقدها الجارح  وتعليقاتها الساخرة مرحلة الثورة الثقافية بمآسيها المتناسلة، وإن كان تركيز نقدها الأكبر على عقلية السوق، وما يدور في واقع الصين الراهن. لأن ثنائية الجانب المظلم في النفس الإنسانية والواقع الاجتماعي على السواء، والذي يمثله بالدي لي الذي تمضي به الحياة من نجاح إلى نجاح، وتسلط عليه الأضواء باستمرار. يقتضي تركيزا أكبر من ذلك الذي يناله الجانب المضيء، والمأساوي معا الذي تعيشه شخصية سونج جانج المتشبثة بالقيم والتقاليد، والتي تعتصم بضمير يقظ يساهم في تعرية مباذل أخيه. ولكن الحياة تمضي به من معاناة إلى أخرى؛ بل تدفعه إلى الظلام وكأنما تغرقه تحت أتربة مشاريع أخيه الكثيرة، والتي تعصف بجغرافيا المكان وتاريخه معا. لأن الرواية تشكل في مستوى من مستويات المعنى فيها – كما يقول أحد نقادها – علامة أساسية على التحول نحو نوع جديد من الكتابة التي تركز على الحاضر، وتكشف عورته بقدر كبير من الجرأة.

خاصة في القسم الثاني الذي يتعملق فيه دور الأخ بالدي لي/ رجل الأعمال المشغول بالجري وراء أجمل النساء، واستعراضهن في سيارته الفارهة، وتنظيم مسابقة لأجمل عذراء صينية، وما يصاحبها من رواج تهكمي لأغشية البكارة الصناعية، ولعمليات حقن وتكبير الأثداء، وغيرها من اقتصاديات المسخره الاستهلاكية التي يزداد بها ثراؤه. ويتوازى هذا مع مشروعه الضخم في إعادة بناء المدينة التي يعيش فيها، ويسيطر على اقتصادها ويشاركه بالطبع رجل الحزب القوي في مشاريعه تلك. ويتابع السرد نفاصيل هدم شوارعها ومعالمها – شارعا وراء الآخر – وإعادة بنائها من جديد. وما تطيح به عمليات الهدم الطائشة من معالم أثرية أو تاريخية، وأهم من هذا كله من قيم ومعايير. حتى امتلأ مناخ المدينة بتراب الهدم وضجة البناء المستمرين على مدار الليل والنهار. وتبدد كل ما كانت تتسم المدينة الصغيرة به من علاقات إنسانية رخية، وهدوء وجمال. وما أن يغيب الأخ الأصغر بحثا عن رزق يسد به احتياجات بيته وزوجته الجميلة لين هونغ Lin Hong حتى لا يتورع أخوه عن إقامة علاقة جنسية معها. وما أن يعرف سونج جانج بالأمر عقب عودته، وتعهير أخوه لزوجته في عيون المدينة، حتى ينتحر بإلقاء نفسه تحت عجلات القطار.