يكشف الفنان المصري المرموق في هذا الحوار معه عن وعيه بمسيرة الفن التشكيلي المصري، وبالإضافات النوعية التي أثرتها مسيرته لها. وعن أن الفنان المهم ينطوي على مثقف واع بمسيرة الفن الإنساني ومسار الثقافة في وطنه وفي العالم من ورائه. كما يضيء لنا جوانب هامة من مشروعه الفني العريض.

عادل السيوي .. الوجْه مَلعب كَبير لحَركة الرّوح

بنيـونس عميـروش

 

لم يتردد الفنان التشكيلي المصري عادل السيوي في حسم مصيره بهَجْر مهنة الطب، وينتصر لحياة الفنان المحترف الذي عليه أن يواجه قدره الذي قاده، بكثير من الوعي والمثابَرة والإصرار، إلى أن يبصم حضوره الفني الباذخ على امتداد أكثر من أربعة عقود، بالإضافة إلى إشعاعه الثقافي والفكري الذي يحيلنا على ترجماته المختارة (من اللغة الإيطالية) لأهم أعمدة النظرية الفنية والشعر (ليوناردو دافينشي، بول كلي، جوزيبي أونغاريتّي)، وعلى توليه رئاسة تحرير مجلة "عَيْن" التي تُعْنى بالفنون التشكيلية والبصرية (1997). في هذا الحوار الشيق، يكشف لنا الفنان المائز عادل السيوي جانبا من ذاكرته المُشرِقة، وما تخلَّلَتْه من رهانات إبداعية وأسئلة جمالية، فيما يُقرِّبُنا من رؤيته الاستشرافية، وتطلعاته التي تتخذ فيها هواجس النقد الفني وما يتصل به من أنماط الخطاب الموازي حيزا هاما، لطاما شكلت مَطْلَبا عِلْمِيّاً في دائرة الفن العربي قاطبة.

بنيونس عميروش: سبق أن صرحت بكون "الحركة التشكيلية المصرية منذ تأسيسها "حركة عرجاء"، تمشي على قدم طويلة، وأخرى قصيرة، القدم الطويلة هي الإبداع والقصيرة هي المنتج النظري". نحن المتتبعون من الخارج، ربما لا نرى الأمر بهذه الصورة، خاصة وأن الخطاب الموازي للحركة التشكيلية (أكان تنظيريا أو نقديا) بدأ في النشوء منذ العقود الأولى من القرن العشرين (من لدن الفنانين أنفسهم ومن العديد من الكتاب المرموقين وقتئذ) في القطر المصري، قبل العديد من الدول العربية، كما أن الصحافة الفنية ظلت فيها متقدمة، وكان لها وقعها الإيجابي في نشر قدر من الثقافة الفنية. ألا تتفق معنا، مع ذلك، على أن الوضع في مصر أفضل بكثير من بلدان عربية أخرى في مجمل الفروع المتصلة بعلوم الفن؟

عادل السيوي: أتفق معكم بلا جدال حول أسبقية التفات المصريين المحدثين لأهمية الفنون. فقد بادر محمد علي بتأسيس مدرسة الفنون والصنائع بالقاهرة في 1838، وتحولت بعد ذلك إلى كلية الفنون التطبيقية، كما بدأت مدرسة الفنون الجميلة في عملها سنة 1908 وتخرج منها جيل الرواد، كان ذلك في سياق حركة النهوض التى تَوَّجتها ثورة 1919. عندما حرصت نخب الطبقة الوسطى الفاعلة على تحديث الواقع المصري وإخراجه من سباته الطويل. ونجحت في لفت انتباه قطاعات واسعة ودعتها للمشاركة، ووصل الأمر إلى عمل اكتتاب شعبي لإقامة تمثال محمود مختار "نهضة مصر" في 1928، والمدهش أن طلبة المدارس شاركوا بقروشهم القليلة في ذلك الاكتتاب العجيب.

الكتابة حول الفن كانت فى صورتها الأولى أقرب إلى التـأملات الأدبية، لأن ثقافتنا تمرست تاريخيا حول الكلمات وقوة العبارات والبلاغة، وكان من الصعب أن ينتقل الكتاب من مناطق تميزهم إلى عالم الصور والأشكال. ولكن جماعة الفن والحرية فى الثلاثينيات شكلت قفزة استثنائية. ويرجع الفضل في هذا التحول النوعي إلى مساهمات الشاعر جورج حنين والفنان رمسيس يونان وأنور كامل. فى المجمل، كان دور الفنانين ملموسا. ولم يكتف المبدعون بدعم الكتابة النقدية، فقد انشغلوا أيضا بالترجمة ومحاولات التأريخ بل وبالتنظير أيضا. وأعتقد أنهم كانوا يحاولون ملء الفراغ السالب المحيط بمنتجهم، والتواصل فيما بينهم.

"المسيرة العرجاء" كانت مجازا اختزاليا إلى حد كبير، كنت أحاول آنذاك الإشارة إلى تباين مخل بين طاقة الإبداع والقدرات النظرية. وأتذكر أنني قد التقيت في التسعينيات بواحد من المؤثرين البارزين فى عالم الفن الأوروبي بل والأمريكى أيضا. وهو السويسرى بيشوف برجر وكان ذلك فى القاهرة. نبهني الرجل إلى هشاشة البنية التحتية التي يتحرك فوقها عالم الفن عندنا فى مصر. كان برجر مهتما تحديدا بقاعات العرض والمتاحف والمراكز الفنية. وخلص إلى أنها ليست قادرة بإمكاناتها وكوادرها المتواضعة على إنجاز أي أدوار كبيرة. لا على المستوى المحلي ولا الإقليمى، فما بالك بالعالمى. العرج الذي أشرت إليه آنذاك لم يكن مجازا صالحا للإمساك بجوهر مشاكلنا. والأدق هو وهن الجسد بأكمله. هو تخلف عالمنا الفني، ببنيتَيْه التحتية أي البنية المادية، بنية المؤسسات: قاعات العرض والأكاديميات والمتاحف ودور النشر المتخصصة إلخ، وبِنْيتة الفوقيه من إبداعات وتجارب وفاعليات وأفكار. كان الرجل بمعايره الغربية يشك فى قدرتنا على اقتناص مساحة تخصنا على خريطة حركة الفن العالمية. تاريخ الفن الحديث في بلادنا يبدأ مع إنشاء أول أكاديمية فنية تقدم تعاليم كلاسيكية لطلابها. أي أن اللوحة والتمثال دخلا إلى واقعنا في نفس التاريخ الذى أطلقت فيه الحداثة الأوربية لعناتها على التعاليم الأكاديمية. وإذا قلنا أن لكل الحق في تصور حداثته وصياغتها وفقا لشروط تطوره، فإن المعاصرة تحاصر الجميع بطابعها الكوكبي، وتسعى لتعميم الممارسات وفقا لمواصفاتها، ولا تلتفت إلى فروق التوقيت أو اختلاف الهويات.

بنيونس عميروش: "تحتاج الحركة الفنية لمن يتحدث عن عزلة الفنان، وعن مشاكل المنتج الفني نفسه وهو يبحث عن الهوية والارتباط باللحظة معا، ينقصنا من يدرس الحركة النقدية، ليكشف عن عناصر تجاوزها لفقرها وعشوائيتها، ينقصنا أيضا مجال مفتوح للكتابة النقدية". هذه فقرة من نص تقديمك لمجلة "عَيْن" التي رأست تحريرها، والأمر يتعلق بعددها الأول الذي ينحدر إلى 1996. بعد مُضَيِّ أكثر من ربع قرن، كيف يمكن تقييم مجال النقد الفني، أو ما يتصل بالكتابة حول الفن عموما، اليوم؟

عادل السيوي: أعتقد أن الثقافة المعاصرة قد أزاحت الناقد من موقعه المركزي، لم تعد المرجعية الأهم فيما يتعلق بالقيمة. والحاصل أن الكتابة النقدية تتماهى الآن مع فصائل أخرى من كتابات تأريخية وأخرى معلوماتية أو فلسفية وبحوث أكاديمية بل وأحيانا دعائية. عالم الفن المعاصر يحتفل بكل حضور مثير ولافت. ويبدو أن جذب الانتباه اللحظي قد أصبح غاية كبرى. ولا يسعى الفنان المعاصر في الأغلب للحوار مع المشاهد وإنما لإثارته وإدهاشه أو استفزازه؛ التكبير والمبالغة والتخطي والخلط وقلب العلاقات، وتبنى التقنيات الرقمية بقدراتها المبهرة. العرض الكبير أو ما يسمى بالحدث الفني صار مربط الفرس. لا العمل ولا الفنان، العرض الباهر حيث كل شيء وربما لا شيء. وكأننا فى مسرح أوكْلاهوما العظيم الذي اختتم به كافكا روايته الرائعة "أمريكا". الانشغال بالعروض الكبرى والبحث عن الإثارة، كرَّسا معا الرؤية المتعجلة اللّاقطة التي تلمح فقط الأعلى صوتا. وسط هذا الصخب والإيقاع المُتسارع يصعب تأمل العمل الفني فى تفرده أو الالتفات إلى رؤية الناقد. ولا يمكن أن نعوض ذلك الغياب المؤلم للنصوص النقدية بشهادات الفنانين التى بدأت منذ التسعينات تصاحب الكثير من الأعمال الفنية. ولا يمكن لكتابات "الكيوراتور" ذات الطابع العملي والمشغولة بمفهوم العرض فى الأساس أن تقدم مددا كافيا. ولا بالمثل تفاعلات المشاهدين والمدونين وحواراتهم على مواقع الشبكة رغم أهميتها. والحقيقة أننا بحاجة الآن إلى الجهد النقدي أكثر من أي وقت مضى. وأقصد بالتحديد احتياجنا لما يرشح من تلك العلاقة الخاصة بالعمل الفني وبالفنان وبالتجربة وبالسياقات المختلفة. نحتاج إلى ما ينتج من تداعيات عندما ينكشف العمل الفني أمام الناقد وخبراته وقدراته، وما تولده هذه المواجهة من أفكار ونصوص. إنها لحظة النظر بعمق و"العين فى العين". سيخسر عالم الفن الكثير من استبعاد هذه الخبرات الرفيعة. ففي غيابها تصبح اعتبارات السوق هي المرجعية، وكأن اعتماد التقييم الرقمى: السعر وعدد المشاهدين ونسب المتفاعلين هو اليقين الوحيد المتاح. وفى النهاية يمكن أن أقول أن تراجع دور الناقد وبروز دور الكيوراتور يأخذنا إلى وضع بائس حيث يتم التعامل مع الأعمال الفنية بوصفها مفردات أو عناصر أولية، تنتظر لمسة الكيوراتور السحرية الذي يحدد اتجاها واحدا لفاعليتها فى جسد العرض الكبير، وهكذا يصبح العرض هو العمل الفني الأهم. ويتم التعامل مع أعمال الفنانين بوصفها مادة سابقة التجهيز كما أشار أوبرست في كتابه طرق إعداد العروض Ways of curating -ready made.

أما بالنسبة لنا، وأنا أتحدث عن مصر كمثال، فقد أصبحت الكتابة النقدية الجادة عملة نادرة. وتم استبدالها فى الأغلب بالمتابعات الصحفية. الهوة بين الإبداع والنظر تزداد اتساعا للأسف فى العقود الأخيرة، والسبب في هذا، وتراجع الاهتمام بالثقافة في مجملها، وخفوت الصوت النقدي. ربما يعود فى حالتنا الخاصة إلى حقيقة أن الكثير من مبدعينا يتبنون الآن أفكارا ووسائط وممارسات معاصرة، لا تصلح أدبيات ومرجعيات الحداثة للتحاور معها. الواقع أن أغلب المساهمات النقدية الجادة في واقعنا الثقافي المصري كانت إعادة إنتاج لمقترحات ومفاهيم الحداثة الغربية، ولكن هذه العقلية الحداثية التي ترى أن الفعل الإبداعى هو في نهاية المطاف تشكيل لمادة تم التدخل فيها وإخراجها من حيادها. وأن هذه المادة هي في الغالب كتلة النحت أو سطح اللوحة، أصحاب هذه القناعات مطالبون الآن بإنتاج كتابات نقدية عن أعمال وممارسات من قبيل المفاهيمية والرقمية والتفاعلية والعروض الحية .. الخ. أعتقد أن التحدي الكبير يتمثل فى قدرتهم على الخروج من حصونهم الآمنة. ومراجعة موروثهم الحداثي وما قبل الحداثي أيضا، كى يتمكنوا من التعامل مع هذه المُدْخَلات غير المسبوقة التى شكلت مسارا عاما في جسد الإبداع المعاصر. وهذا لا يعنى مطالبتهم بتبنيها أو الانحياز لها.

بنيونس عميروش: في السياق ذاته، كنتَ من السَّباقين إلى ترجمة متون خاصة بنظرية الفن (ليوناردو دافنشي وبول كلي) وجعلتها في متناول الفنانين والباحثين والطلبة والمهتمين عموما، ألم تعد تفكر في ترجمة كتب أخرى، علما أن الترجمة في الفنون التشكيلية والبصرية ما زالت تشكل الحلقة الضعيفة في الحقل النظري المتخصص بالعالم العربي؟

عادل السيوي: عملت على ترجمة نصَّيْ دافنشي وبول كلي كي أوفر للقارئ العربي وثيقة كاشفة للجهد الذي يبذله المبدع سواء أكان كلاسيكا أو حداثيا لتأمل العلاقة بين اللغة البصرية وآليات إبداعه من جهة، والعالم الذي يتأمله في الجهة المقابلة. قدمت التجربة الغربية تاريخها الإبداعي بقوة وكأنه التاريخ الأهم: التاريخ الممتد والكثيف والمتواصل، الذى أصبح مركزا للذاكرة، ومروية لتاريخ الإبداع الإنساني بشكل عام. لم نحتفظ نحن بمسافة لنتأمل المشهد كاملا. ولم نبحث عن مسارات تخصنا. ولكننا باستثناء تجارب محدودة، اخترنا الدَّوران حول هذا المركز وفقا لمتلازمة "النسخ الباهت والمتأخر". ويبدو أن هذا كان قدر أغلب الضواحي والأطراف Copy and Delay.

كان من حظ جيلي أنَّ وعيه تَكَوَّن في لحظة تراجع طاقة الحداثة، عندما بدأت المعاصرة تقدم مقترحاتها بقوة. وأحد إيجابيات هذه المعاصرة هي أنها فتحت مساحات أكبر لمساهمات عديدة وضم أقطاب جديدة من خارج المركز الغربى. تصورت لذلك أن مغامرتي مع الترجمة قد تكتمل بوقفة ثالثة أتعامل فيها مع اللحظة الراهنة وما تنتجه من إبداع وأفكار. وقد بدأت بالفعل في ترجمة الكثير من كتابات المعاصرين، وأنا منحاز أساسا لكتابات الفنانين، ترجمت نصوصا أثق في نصاعتها. من بينها نص جوزيف كوزوث مؤسس للمفاهيمية: فن ما بعد الفلسفة. ونصا عن الزمن كتبه فنان الفيديو الأمريكي بيل فيولا، وكتابات سوزان سونتاج عن "الحسية والتأويل" والمحاضرة النادرة لجوزيف بويز"نحت المجتمع" والعديد من النصوص الأخرى. وأفكر الآن فى كيفية نشرها. على الجانب الآخر أحاول منذ نهاية القرن الماضي وربما يكون الكلام مضحكا، ولم لا، فأنا أحاول بالفعل منذ 1998 كتابة شيء ما عن المعاصرة والمعاصرين. وبالتحديد عن مكونات عالم الفن المعاصر: الفنان، الناقد، الكيوراتور، الأفكار، أصحاب المجموعات، الممولون، العروض، السوق، المتحف الجاليرى .. إلخ، وهي مهمة مُربكة بالفعل، لأن المعاصرة حالة من التحول دائم وتبدل أوراقها وأولوياتها بإيقاعات لاهثة. ولذا تتقادم الكتابة بسرعة، لأن المستجدات لا نهائية. ولأني منشغل بعملي كمصور فى المقام الأول، تأخذ الكتابة والترجمة أزمنة طويلة ووقفات كثيرة، كي تكتمل أو لا تكتمل. وفي كل حال أكون خلال العمل عليها قد قرأت الكثير وفهمت ما لم أكن أفهمه من قبل، وهذا في ذاته أمرا ممتعا.

بنيونس عميروش: نعرف أنك تركت مهنة الطب بشكل نهائي، وحَّوْلت طريقك نحو التشكيل المفتوح واحْتِمالاته المتنوعة والمتضاربة بشكل قطعي. بعد تجربتك الطويلة واللّافتة في محراب الفن، هل ما زلت ُمصرا على صحة اختيارك؟ وهل استطعت الوصول إلى الآفاق التي رسمتها على مستوى الإبداع، وما يتصل به من ضروب الفكر والكتابة التي طالما اعتبرتها رديفا إلزاميا للتطبيق؟

عادل السيوي: لم يكن الطب اختيارا فى الحقيقة. كنت ببساطة طالبا متفوقا وحصلت على درجات تؤهلنى للالتحاق بإحدى كليات القمة. وكانت كلية الطب، ولا زالت حلم كافة طلاب القسم العلمي. ولو كانت كلية الهندسة أو غيرها تتطلب درجات أعلى لكنت التحقت بها. الحسابات الاجتماعية السائدة هي التى قادتني إلى دراسة الطب. ولكن السفر المبكر والاحتكاك بتجارب شباب من شمال المتوسط ونوع الأسئلة التى أطلقتها مواجهات الربيع الأوربي في 68، دفعتني إلى إعادة النظر فى اختياراتي وفي رؤيتي لما أريده لنفسي. ومن حسن حظي أني كنت شغوفا بالرسم فى طفولتي ومراهقتي، وفكرت فى أن هذا ربما يكون الشكل الأنسب لوجودي في الدنيا، لأنه يستند إلى شغف فطري بداخلى، ولأنه أيضا يمنحني سعادة حقيقية. ودفعني هذا التصور للالتحاق بالقسم الحر بكلية الفنون فى السبعينيات إلى جانب دراستى للطب. أبي كان رجلا متفتحا ومغامرا ولكنه رغم ذلك كان يرى أننى لم أترك الطب لكي أصبح فنانا وإنما لكي أعيش حياة لاهية وسهلة بلا مسؤوليات. لم يكن الرجل بتصور وقتها أن احتراف الفن فى غياب وفرة مادية، سوف يجبرني على الاشتباك العملي مع الواقع بكل ثقله وشروطه. هل كان ذلك قرارا صائبا أم لا، لا يقين لدي ولكنني وفي غياب هذا اليقين أرسم منذ ما يقرب من خمسين عاما. لا أعرف بالفعل قيمة ما أنتجه من أعمال. اختيار الفن لم بمنحني أي أمان. إنه جهد متواصل بلا ضمانات، من لم يكملوا مثلي دراستهم الفنية النظامية يصاحبهم طوال رحلتهم شك عميق فيما ينجزونه. حتى العظيم فرانسيس بيكون كانت شكوكه في قدراته تلاحقه دائما. لأنه بدأ متأخرا ولم يدرس أكاديميا. أرسم يوميا ولساعات طويلة، ولكن القليل مما أنتجه يدهشنى، وكأنه نتاج لحظة استثنائية كنت فيها مختلفا، أو متجاوزا لإمكاناتي المعتادة، ولهذه اللحظات المارقة سحر خاص يهز روحي بقوة. وهي رغم ندرتها ما يُبْقي على علاقتي بالرسم.

بنيونس عميروش: قلت في أطوار حوار: "أنا كمصور مصري معاصر، خليط مضطرب من هوية أكاديمية وهوية حداثية وهوية معاصرة، وجيلي كله كان نتاج هذه اللحظة"، ألا ترى أن هذا "الخليط المضطرب" قد يشكل قوة تعبيرية تتخذ فيها المهارة أحد الركائز الأساسية، في الوقت الذي نلاحظ فيه تلاشي الحرفِيَّة في الفن المعاصر الذي يتخطى المهارة (الأكاديمية بخاصة) لصالح الفكرة أو المفهوم؟

عادل السيوي: هذا ليس سؤالا، إنما غرس لأصبع في الجرح، والجراح كثيرة. ومنها تكويننا الهجين، وكأننا تجاوُرات أو تجمُّع لاحتمالات. وهذا يحدّ من اندفاعنا بقوة وراء اختيار نمضى به إلى نهايته. تدربنا على التَّساكُن والتأرجح والحِفاظ على تجاور المكونات والوصول دائما إلى حلول وسط. أصبح عالم الفن مجرة هائلة يصعب تعيين حدودها. وربما نتمكن فقط من قطع رحلة مختصرة من كوكب ما داخلها إلى كوكب آخر. هذا المجاز صاغه جيرمانو تشيلانتي مؤسس تيار الفن الفقير، هذا الاتساع الكبير يهدد وجود الفن نفسه لتعامله مع كل الممارسات بصفتها إضافات إبداعية جديرة بالتأمل. بل ويدخله إلى منطقة اللّاعَوْدَة عندما يسقط الحد الفاصل ما بين الفن واللّا الفن، ما بين العلامة والفكرة، وما بين العمل الفني والحضور المباشر للعالم وأشيائه. صحيح أن هذه المقترحات ذاتها ولدت في قلب تجربة الحداثة، ولكنها لم تتمكن من أن تشكل مسارا عاما. وقد تحولت الآن إلى رافعة كبيرة لإبداعات المعاصَرة. وهنا تأتى الإشارة الذكية في السؤال عن موقع المهارة. والمقصود كما فهمت مهارات التشكيل. وربما تكون هي المَلاذ الأخير للاحتفاظ بعلاقة بين الحسية والجمال من جهة والأفكار والمفاهيم على الضفة المقابلة. بين ما يظهر بقوة وما يتوارى خلفه، بين هواجس ما هو جسدي وشعوري، وأقصد بذلك ما يبدأ فى التشكل كغيمة مبهمة، يصوغ ملامحها الفعل الإبداعي، وما هو مفاهيمي. يبدأ من الرأس ويبحث عن شكل يخصه للظهور.

التجربة المعاصرة، وهذا مطمئن إلى حد ما، لا زالت رغم صخبها وتوجهاتها المريبة، تراهن على تعددية المسارات وتحتفظ بقسط من التقدير لفنانين يتحركون وفقا لهواجسهم الداخلية وطاقتهم الجسدية، بل ويعملون وفقا لموروث قرون طويلة من الإبداع. في مجال التصوير سنجد مصورين أمثال دافيد سال ورشتر وأنسيلم كيفر ووليم كنتريدج ومارلين دوماس. إلى جانب تيار يعتمد بأكمله على المهارة الفائقة كالهيبررياليزم، وأعمال رائعة من الفيديو آرت تأخذنا بقوة إلى هواجسنا العميقة. وتحتفل بمصورين فوتوغرافيين من عينة جيف وال ومابل ثورب المحافظ على كل الخصوصيات الموروثة لتقاليد مجالهم ويؤكدون على قوتها كشكل معاصر. أو لشاعرية الحسية التي تفاجئنا في أعمال لويز برجوا وصوفي كال وأعتقد فيما يخصنا، ونحن ما نحن عليه، ربما قد نساهم إيجابيا فى المشهد المعاصر ونفلت من قدر النسخ المتأخر، إذا ما توصلنا إلى طرق معاصرة تخصنا لاستدعاء المهارة والحس واندفاعات المشاعر.

بنيونس عميروش: هل لك أن تطْلِعنا عن مشروعك الإبداعي- التشكيلي الجديد، أو عن امتدادات (إذا صح التعبير) لما توصلت إليه من تطبيقات تشكيلية مُبتَكَرة، بعد تجربتك الطويلة والمثمرة حول "البورتريه"، وما تلاه من "صور" المفارقات بين الوجه والقناع؟

عادل السيوي: يظل الوجه نديمى المقيم. سواء الوجه كصورة شخصية: بورتريه، أوالقناع الذي يخفي الوجه ليكشف ظهورا وحيدا لا يتبدل، وقبل كل هذا الوجه نفسه كاختراع وأقصد التداخل ما بين "وجه أحد ما وجه لا أحد" كما كتب الشاعر اللبناني والصديق العزيز عبده وازن. الوجه هو مادتي الأقرب منذ بدأت الرسم فى السبعينات إلى يومنا هذا. حتى عندما استغرقت فى العمل على الجسد أو المكان والمدينة كان الوجه حاضرا، بل وظل قائما طوال سبع سنوات، انشغلت فيها بالحيوان كحضور مغلق، كحياة لا تاريخية. وعلاقته بنا نحن المتحولون فى الزمن وصناع العوالم. قرأت في شبابي نصا مضيئا للفيلسوف جورج سيميل عن الوجه، وفهمت من خلاله أبعادا لم تكن حاضرة بهذا النصوع فى عقلي. يقول الرجل ما معناه إن الروح هي علاقة تفاعل تتواصل من خلالها أي مفردات أو أجزاء منفصلة لتصبح كيانا ذاتيا. وكأنها أصبحت كلا، ولم تعد أجزاء مستقلة. وفي محاولته لتفسير هذا الحضور الكاسح للوجوه والصور الشخصية في تاريخ الفن قال سيميل أن الوجه هو الملعب الكبير لحركة الروح، فكل تغير أو تحول مهما كان ضئيلا في أي جزء من الوجه يعيد إنتاج الوجه بأكمله مجددا. كأن لهذا النص عن البورتريه تأثيرا بالغا علي ولا زلت أعاود قراءته. ولا أعتقد أن تفهمي لقيمة الوجه وعلاقته بمفهوم الروح هو السبب فى مواصلة العمل عليه. فقد أصبح الوجه في الواقع وبطول العشرة احتياجا ملحا بغض النظر عن إمكاناته. أصبح ضمانا يكفيني لمواصلة العمل، فهو جدار آمن يمكن أن أستند إليه دائما.

بلغت الآن السبعين ومُنْحَنى العمر يدفعني إلى تأمل حياتي وحضوري الذاتى، نعم، أعتقد أنني سوف أصبح أنا نفسي مادة لعملي، كنص يبحث عن خاتمة. أعمل على استعادة اللحظات والأماكن والتجارب، الإخفاقات والهزائم، ولحظات اكتمال البهجة. وأقوم بتجميع الصور والهواجس والأفكار، وأعد الرسوم التحضيرية أيضا لبناء هذه السيرة البصرية، وقطعت بعض الخطوات الفعلية ثم توقفت بعد أن رأيت أن ما أنْتجتُه أقل كثيرا مما أحاول الإمساك به. ثم عدت مجددا. ولا يقين لدي. أقول إنه "تانجو أخير" ربما أكون قادرا على النزول إلى حلبته. أو رهان على إمكانية التكيف مع الحضور الدافق للذكريات. وقد يكون محاولة للاستفادة من تداعيات الجسد ومفاجآت الحنين، وموجات العاطفة والمشاعر التي تباغت الروح الآن وتهزها بلا مقدمات واضحة.

بنيونس عميروش: كلمة أخيرة. ما معنى أن تكون فنانا تشكيليا وناقدا فنيا الآن؟

عادل السيوي: أنا مُصَوِّر [Peintre] أو رسام أولا وأخيرا، حتى وإن تورطت في الترجمة أو الكتابة أكثر مما ينبغي، وأعتقد أننا لا ننطلق في عملنا من المعنى. وفى كل حال أنا أرى أن" اللّامعنى" او غياب المعنى هو الأقرب لحالة وجودنا، لا كفنانين فقط ولكن كشرط للوجود الإنساني بأكمله، ولوجودنا وحياتنا فيه. كنت أتعامل في مرحلة الشباب مع "المعنى"، معنى أن تكون فنانا. وكأنه مرادف لتحديد الوظيفة والدور أو الغاية والضرورة والقيمة. ولكن الأمر اختلف الآن، وسأحاول الإجابة رغم صعوبة السؤال. بعيدا عن التحديات التي تواجه المجال برمته، أميل إلى أن الفنان لا يحتاج إلى معنى عام. فهو يستمد معناه من قدرته على إنتاج ما لا يمكن قياسه بالمنطق. هو منتج للنوعية. والنوعية مثل الوجه كل يتجدد دوما، النوعية حضور يصعب تعقبه، يفاجئنا ككل غير قابل للتحليل أو الاختزال. الفنان والناقد معا يدافعان عن الإبداع والتجريب كحق وكقيمة متحررة من سطوة الحياة العملية، المعنى هو أيضا تحرير طاقة الإبداع التي تحاصرها الحسابات العملية والمنطقية وكل الجبهات التى استرابت تاريخيا من قدرة الفن على التأثير الكبير فى الواقع. المعنى هنا هو غير المألوف والمعتاد، في مواجهة النظم والإجراءات المنطقية، والمقدمات التي تؤدي إلى نتائج تم تقديرها سلفا. هو الفن والفنان بوصفهما حائط صَدّ أخير يقف في مواجهة تصفية ما تبقى من حدائق الروح والدهشة والحرية والتفرد.