يقدم الكاتب واحدة من الروايات الرائدة في مجال الرد بالكتابة حيث استخدمت لغة أفريقية – تملك أفريقيا نحو 50 لغة محلية مكتوبة، من مجموع 700 لغة محكية، مؤكداً ضرورة العناية بهذا الكم اللساني الكبير، كي يمكن للقارة الخروج من معضلة الارتكاز على لغات المستعمِر للتعبير عن آدابها وفنونها.

رواية «المجند» الجسر التاريخي بين إريتريا وليبيا

كتبت عام 1927 وترجمت إلى الإنجليزية 1950 وتعد رائدة في تحويل السرد الشفاهي إلى عمل مكتوب ومحكم فنياً

محمود أبو بكر

 

تعد رواية "المجند" للإريتري غيبريسوس هايلو أول رواية إريترية، إذ كتبت في عام 1927، أثناء فترة الاحتلال الإيطالي للبلاد، وهي مكتوبة بلغة محلية "التغريبة"، صدرت للمرة الأولى في عام 1950، وترجمها إلى اللغة الإنجليزية الإريتري جرماي نقاش تحت عنوان The conscript: a novel of Libya’s anti-colonial war في حين ترجمها للغة العربية أخيراً من الإنجليزية الليبي فرج الترهوني، تحت عنوان "المجند: رواية حبشية عن حرب ليبيا ضد الاستعمار".

خصوصية الرواية وجمالياتها السردية والفلسفية:
لعل إحدى أهم الخصائص التي تتميز بها الرواية كونها كتبت في بدايات القرن الماضي، حين لم يكن الفن الروائي رائجاً في القارة السمراء؛ لا سيما أنه يعتمد على "فن البناء والتفكيك وتخليق الفضاءات والشخوص"، على عكس الفنون الأخرى التي تعتمد على البلاغة اللغوية والوصف. كما أنها تعد ربما أول رواية مكتوبة بلغة محلية أفريقية، على رغم أن كاتبها يجيد لغات أجنبية، كالإيطالية والإنجليزية، وهو ما يطرح "خصوصية اللغة المحلية وحميميتها" عند سرد تقلبات النفس البشرية. وهذا ما تفتقده معظم الروايات الأفريقية التي كتب مبدعوها بلغات المستعمر، فعلى رغم الرواج الذي يمكن أن تحققه تلك الروايات لجهة اعتمادها على لغات مقروءة بشكل واسع، فإنها تكشف في جانب آخر عن شعور الاغتراب الثقافي داخل مجتمعها المحلي.

في تبريره لأسباب ترجمتها إلى الإنجليزية يقول جرماي نقاش "ثمة أسباب موضوعية وذاتية، لعل أهمها كونها بحق رواية تستدعي الاحتفاء لحيويتها اللغوية ضمن مضارب الأدب الأفريقي". يضيف "لقد شعرت برغبة عارمة لترجمتها وتقديمها لجودتها وروعتها في عكس المعاناة الإنسانية والشجاعة في البوح بها، فضلاً عن مضمونها الفني، لا سيما أنها كتبت بإحدى أقدم اللغات الأفريقية"، فهي كما يقول مترجمها "رواية ذات طبيعة معقدة ومدهشة في كل من جانبيها. أولاً ما يخص موضوعها وشكلها الأدبي، وثانياً قصة حياة وخلفية مؤلفها غيبريسوس هايلو الذي ولد بقرية صغيرة في إريتريا بداية القرن العشرين، حيث نشأ، ليكون لسان حالها كأديب منذ نعومة أظفاره ونشأته في بيئة ريفية".

ويؤكد نقاش في ما يخص طبيعة الرواية ولغتها، "إن أهم ميزات هذه الرواية كونها انتصرت على واقع سيادة الأدب الشفاهي، حيث وثقت فنياً لمرحلة مهمة من التاريخ بطريقة مثيرة وشيقة، بتعبيرات ساخرة، كشفت بدورها عن غضب محكم وهي تصف تاريخ وتجارب العسكري المجند إجبارياً من إريتريا في جيش الاستعمار الإيطالي، خصوصاً أنه كان يحارب بجانب المستعمر في مواجهة القوى الوطنية الليبية التي كانت تناضل من أجل نيل حريتها واستقلالها الوطني".

هيلو يجر المسافة بين اللاهوت والفن:
على الجانب الآخر يقف نقاش مطولاً في تقديم الرواية حول شخصية كاتب الرواية غيبريسوس هايلو وخلفيته الاجتماعية والأكاديمية، مؤكداً أن ذلك يعيد طرح سؤال "المعاصرة والموروث" وتزاوجهما الواضح في كتابة هذا العمل. يقدم كاتب الرواية (1906-1993) "لقد بدأ حياته الأكاديمية في مرحلة مـبكرة من حياته التي أهلته بدوره للالتحاق بمدرسة سان مايكل في مدينة سقنيتي بالإقليم ذاته التي بدورها مكنته من الانضمام لاحقاً بالإكليريكية الكاثوليكية في مدينة كرن من إقليم سنحيت عام 1923؛ قبل أن يتوجه في العام ذاته إلى إيطاليا، تحديداً الفاتيكان لمواصلة تعليمه العالي. حيث تمكن من الحصول على درجة عليا في الفلسفة وعلم اللاهوت، وقدم في عام 1937 أطروحته باللغة اللاتينية للحصول على درجة الدكتوراه في علم اللاهوت في روما".

الأمر الذي يبرر القدرة العالية التي تمتع بها العمل على مستوى بنائه الفلسفي، وقدرته على طرح الأسئلة الوجودية، والتحاور العميق مع الذات، من قبل مجند بسيط في مهمة عسكرية، حيث ينجح في التقاط الخيط الرفيع بين أن تكون ترساً في آلة استعمارية كبيرة، وأن تنتصر للحق وللذات، بالتالي تقف ضد هذه الآلة بكل ما أوتيت من وهن وقوة. إذ يبدو الضعف البشري كطاقة كامنة وقادرة على التحرر بل والانتصار في لحظة فارقة. إلا أن كل ذلك لا يبدو مباشراً وتقريرياً، حيث يستخدم الراوي لغة تعبيرية في غاية الرمزية، لا تعوزها الموضوعية وهو يزاوج في نقل القارئ بين "تداخل الصور المرعبة والخلابة لمشاهد الطبيعة في الصحراء الواسعة وتجارب المحاربين وسلاح المشاة بين الوديان وقساوة الحرب".

القراءات النقدية حول المجند:
تقول لاورا كريسمان، أستاذة الأدب المقارن، رؤيتها النقدية حول عمل غيبريسوس هايلو "إنها رواية تساعد في قلب المفاهيم الخاطئة في دراسات الأدب الأفريقي من قبل الباحثين الأوروبيين الذين وقفوا عند الأدب المكتوب باللغات الأوروبية فقط". وتعقد كريسمان مقارنة بين تجربة أدباء أفريقيا الجنوبية، الذين كتبوا في ذات زمان رواية "المجند"، مثل سول تي بلاتيج الذي كتب روايته "مهدي" بين عامي 1920-1919 إذ تمت طباعتها عام 1930، ورواية "المأساة الأفريقية" التي كتبها "أر أر أر داهلوومو" عام 1929، ورواية "شاك" لجون دبلو عام 1930، وجميعها مكتوبة باللغة الإنجليزية، وتجربة غيبريسوس هايلو، لتصل إلى أن رواية المجند تتفوق على هذه الروايات لثلاثة أسباب رئيسة كونها ذات بعد نهضوي معاد للاستعمار، ولأنها كتبت بأسلوب فني حداثي، على رغم الكلاسيكية البادية عليه شكلاً، وأخيراً لمعالجتها قضية إنسانية عالمية البعد، إذ نجحت في كشف مآسي استخدام وتطويع قدرات الجندي الإريتري في محاربة قوى التحرر الليبي.

من جهته يقرأ الكاتب الإريتري إبراهيم إدريس "المجند" ضمن إطارها التاريخي، إذ يعتبرها "رائدة في مجال تحويل السرد الشفاهي إلى عمل مكتوب ومحكم فنياً". ويرى في إفادته لـ"اندبندنت عربية" أن هذا العمل يطرح "إشكالية لغة الكتابة الأدبية في القارة الأفريقية، ويعالج حالات الاستلاب، التي سقط فيها عديد من مثقفي القارة لسطوة وبريق اللغات الوافدة مع المرحلة الاستعمارية، بينما تملك أفريقيا نحو 50 لغة محلية مكتوبة، من مجموع 700 لغة أخرى محكية"، مؤكداً "إذا تمت العناية بهذا الكم اللساني الكبير، أكاديمياً وفنياً، قد يمكن القارة من الخروج من معضلة الارتكاز على اللغات الوافدة لتكون هي الوسيط اللغوي للتعبير عن آداب وفنون هذه الشعوب التي ترقد على تراث باذخ الثراء". ويشير إلى دراسة مهمة قدمتها الأديبة المصرية رضوى عاشور حول الأدب المكتوب باللغات الأفريقية المحلية.

ويؤكد إدريس "أن هايلو في عمله الروائي الوحيد نجح في خلق عوالمه الروائية استناداً إلى المخيلة الشفاهية الجماعية للمحاربين الإريتريين في ليبيا، إذ كانت الأخيرة مثلها، مثل إريتريا والصومال في ذلك العهد مستعمرة إيطالية، بالتالي تم جلب عدد من المجندين الإريتريين للمستعمرة في شمال أفريقيا". ويرى "أن هايلو نجح في وصف الطبيعة الجغرافية، وسعي الليبيين لنيل استقلالهم، فضلاً عن كشفه تناقضات الواقع وإشكالياته، بين الوطنين المستعمرين من قوة واحدة، والتي وظفها لخدمة النص ببراعة نادرة".

ولعل أهم ما تكرسه الرواية، بحسب رأيه، في ذلك الوقت المبكر جداً "أنها حفرت عميقاً في كشف الموروث الشعبي عبر دلالاته الثقافية والمجتمعية". يضيف "ما يجعل هذه الرواية في مصاف الروايات العالمية هو كيفية تعاملها واستخدامها الموروث الشعبي، سواء في مسار السرد أو تركيب أدواته التعبيرية داخل النص بكثافة، وبلغة أقرب ما تكون إلى اللغة الشاعرية".

ويأمل إدريس "أن تسهم الترجمة العربية لرواية غيبريسوس هايلو في تعريف القارئ العربي إلى جزء مجهول من تاريخ الأدب الأفريقي وخصوصياته".

 

صحافي مختص في شؤون القرن الافريقي

عن (إندبندنت عربية)