تتناول هذه الدراسة كيفية كتابة النص الأدبي لخطاب المذابح فى الشعر والرواية، وتتساءل هل يتغير هذا الخطاب من نوع أدبي إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى؟ واختارت فترة احتلال ألمانيا لفرنسا واحتلال فرنسا للجزائر بالنسبة للشعر، وأحداث الإرهاب في الجزائر في التسعينيات بالنسبة للرواية الحديثة المكتوبة بالفرنسية.

خطاب المذابح في النص الأدبي

غـراء مـهـنا

 

كيف يكتب النص الأدبي خطاب المذابح؟ وهل هذا الخطاب يتغير من نوع أدبي إلى آخر أو من فترة زمنية إلى أخرى؟

للإجابة على هذه الأسئلة تتناول هذه الدراسة خطاب المذابح فى الشعر فى فترة احتلال ألمانيا لفرنسا واحتلال فرنسا للجزائر، علمًا بأن الشعراء المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية أمثال مالك حداد وهنري كريأه تأثروا بالشعراء الفرنسيين مثل لويس أراجون وبول إليوار وكانوا جميعهم يعتمدون على الرمز ويستخدمون الصور الشعرية البلاغية من استعارة وكناية وتشبيه ويكتبون المسكوت عنه. ثم نتناول، بعد ذلك، خطاب المذابح فى نوع أدبي آخر وهو الرواية الحديثة المكتوبة بالفرنسية ويصور  الخطاب الروائي الواقع، وهو أدب شهادة يحكي الكُتَّاب فيه ما سمعوا وما رأوا وما عاشوه فى التسعينيات أثناء مذابح الإرهاب فى الجزائر. فهل يختلف  خطاب الجيل المغاربي الأول عندما كان يحكي عن مذابح المستعمر الفرنسي أيام الاحتلال عمَّا يكتبه الروائيون عن واقع عاشوه ومذابح تعرض لها كثيرون من الذين يكتبون بالفرنسية فى الجزائر؟ وهل الخطاب الشعري شبيه بالخطاب الروائي أم أن لكل واحد منهما أساليبه ولغته؟

أولاً: الخطاب الشعري:

الشعر هو النوع الأدبي الأمثل الذي يُسْتَخْدَم فى وقت المحن والحروب، فهو الشكل الأدبي المُفضَّل للنضال بالكلمة حيث يربط ثورة المشاعر وعنفها بثورة الكلمات عندما يكون الإنسان مقهورًا مذلولاً، ويكون الشعر فى هذه الحالة رمزيًا يعتمد على الكلمة المُغَطَّاة والرمز المُنقَّب، هو الكلمة المحسوبة والإشارة المُغلَّفة، هو اللفظ مزدوج المعنى، الواضح والرمزى فى آن واحد.

الجزائر وفرنسا إبان الاحتلال الألماني، بلدانِ تعرَّضا لحدث تاريخي واحد هو الاحتلال واستعملتا لغة واحدة للتعبير وهي اللغة الفرنسية، وتلعب فرنسا دورًا مزدوجًا، فهي البلد المحتل أيام الاحتلال الألماني وهي قوة الاحتلال فى الجزائر.

وأصبح الشعر كما يقول الشاعر الفرنسي لويس أراجون هو "المشاعر المُحرَّمة بألفاظ مسموح بها". وفى الجزائر لم تكن هناك "البندقية" فقط ولكن "الكلمة" أيضًا كما يؤكد الشاعر مالك حداد. وإذا كانت الأفكار تتكوَّن من الكلمات، والكلمة تخدم الفكرة وتُعبِّر عنها فإن الكلمات والألفاظ والتعبيرات والرموز والصور الشعرية المُسْتَخْدَمة هي نواة لشرح أيديولوجية كاملة.

ولأسباب منهجية رأينا أن تقتصر الدراسة على تحليل اللغة للوصول إلى الطريقة التي تؤثر بها الأحداث السياسية والاجتماعية فى اللغة.

إن الدراسة تبرز أهمية الكلمة ودورها وتطلعنا على سرها....وتصبح القصيدة مرتبطة بالحدث تعبر عنه فى صدق وواقعية.

نقوم بدراسة عدد من الكلمات المترادفة والمتكررة فى هذا الشعر مثل: إنسان، محتل أو قوة احتلال، فرد، أو جماعة، والنبات المغطى بالدم وهو نبات طُفيلي من أكلة لحوم البشر يرمز تارة إلى المستعمر وتارة إلى شهداء المذابح والحروب.

ويلعب التضاد دورًا مهمًا، فكل كلمة تتطلب وجود عكسها: الموت / الحياة، الحب / الكراهية، النور / الظلام......

والدلالات الإيحائية لها معانٍ سياسية واجتماعية وتاريخية: الحيوان يكون أحيانًا رمزًا للمحتل: ( الذئب ــ الوحش ــ النسر) وأحيانًا أخرى هو رمز للشعب (الحمل ــ الطيور.....).

إن الدلالة الإيحائية، بما هي المعنى المُضَاف أو المكتسب أو الثاني، ترتبط بالتاريخ والأدب والتراث الأدبي والشعبي؛ فكلمة نبات على سبيل المثال تتكرَّر فى عدد من النصوص الشعرية مِمَّا يجعل دراستها ذات أهمية وذات معنى، فالنبات أحيانًا يحمي الشعب من المغتصب وأحيانًا يكون مجرد إطار للأحداث أو مشاركًا فيها، والعلاقة وثيقة بين النبات والإنسان؛ فكل إنسان يلتف فى خضرة النبات وكل نبات يشيرإلى الإنسان وعادة ما يكون النبات أحمرَ مصبوغًا بالدم.

وبعد دراسة دور الشعر فى تصوير المذابح ننتقل إلى نوع أدبي آخر وهو الرواية فهل لها نفس خصائص الشعر؟

ثانيًا: كيف تتحدث الرواية عن المذابح والعنف والقتل؟

عندما يكتب الكاتب الجزائري ياسمينا خضرا (وهو اسم مستعار ) عن المأساة الجزائرية فى التسعينيات التي صورها فى رواياته مُؤكِّدًا أن الرواية يمكنها التعبير عن الحقيقة المطلقة.

وعندما يكتب بوعلم صنصال فى روايته "شارع دروين" التي حصلت على جائزة الرواية عام 2011 مُشيرًا إلى أن كل شيء مؤكد فى الحياة: الخير ـ الشر ـ الله ـ الموت ـ الزمن، إلا الحقيقة  فهو يناقض ما قاله ياسمينا خضرا.

ولقد كان بوعلم شاهدًا على عدة حروب، حرب الجزائر، وحرب الاستقلال، وحرب الحدود، وحرب الأيام الستة وحرب 73 ويؤكد أنه عرف هذه الحروب ولكنه لم يعشها فهو ليس شاهدًا على الحدث مثل ياسمينا خضرا الذي كان ضابطًا فى الجيش الجزائري.

فهل الكتابة الروائية هي الحقيقة من وجهة نظر المؤلف وتُمثِّل تفسيرًا فرديًا للأحداث؟

وعندما تكتب مايسة باي قصصًا قصيرة من الجزائر، حيث تُصوِّر الواقع الجزائري والأحداث الدامية فى التسعينيات تؤكد:

"عندما تبتعد الحقيقة حولك عن كل منطق وتصبح غير قادر على تحملها فعليك إيجاد كلمات وتكوين جمل بهذه الكلمات، وخلق عالم خيالي ولكنه قريب قريب جدًا من العالم الحقيقي".

وهكذا تبدو الرواية حين تتناول الحدث فى نقطة إلتقاء الخيال باللواقع لأن "التاريخ من عمر ذكرياتي" كما يؤكد ياسمينا فى "بأي شيء تحلم الذئاب" ( 1992 )، إذ تسرد الرواية الحرب الأهلية فى الجزائر والمواجهة العنيفة بين الجيش والإسلاميين فى نهاية الثمانينيات، ولقد دفع الكثير من الكُتَّاب الجزائريين حياتهم ثمنًا لنشر هذه الروايات.

الكتابة عن هذه الحقبة الزمنية من تاريخ الجزائر أكثر واقعية من الكتابة الروائية المتخيلة لفترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، ففى رواية "ما يدين به النهار لليل" التي كتبها ياسمينا خضرا وحصلت على أفضل كتاب روائي فى فرنسا (بلد المحتل) عام 2008، يحكي عن أسرة جزائرية عاشت الاحتلال الفرنسي عام 1930، وما فى الحرب الجزائرية من عنف وخيانة ودم حتى الاستقلال عام 1962. يكتب ياسمينا خضرا عن أحداث 1930 وهو من مواليد عام 1955، فهو يكتب إذن عن المتخيل الذي لم يعشه ولم يره.

وكذلك عندما تكتب آسيا جبار عن حرب التحرير حيث تدور أحداث روايتها    "أطفال العالم الجديد" فى هذه الفترة وتسلط الضوء على بطولات المرأة ودورها فى معالجة جرحى الحرب فى الجبأيل، كانت صغيرة فى هذا الوقت لتعايش هذه الأحداث (فهي من مواليد 1936)، والرواية شهادة عن الجزائر المُحتَلَّة تحكي ما عاشه الناس وما تعرَّضوا له من آلام فى نضالهم ضد المحتل الفرنسي: تحكي الرواية ما حدث فى يوم مُحدَّد من شهر مايو 1956 من أحداث مأساوية شاهدها سكان مدينة صغيرة من عنف ضد المجاهدين فى الجبال.

لقد تأثر الأدب الجزائري بالأحداث الجزائر الدامية فى حرب التحرير وفى التسعينيات أيضًا، وأثبت أن الحدث التاريخي يؤثر فى الكتابة الأدبية وتمثيلاتها المختلفة، كما أكد انتقال العنف إلى الأدب؛ فكتابته ترتبط بالذاكرة التاريخية والهوية، فاللغة الفرنسية التي كتب بها كل من عبد القادر علوله وطاهر دجاؤت والشاعر يوسف سيبتي ورشيد ميموني كانت سببًا فى تعرضهم للقتل ولكل أشكال العنف.

إن اللغة الفرنسية محملة بثقل الاستعمار ومصبوغةبالدم ولكنها تظل سلاحًا حارب به هؤلاء الكتاب المستعمر الفرنسي مستخدمين لغته.

 سنبدأ بتحليل خطاب المذابح فى اللغة الشعرية. وهذا التحليل اللغوي يسعى إلى الغوص فى عمق النصوص من أجل اكتشاف رموزها وإشاراتها وشفراتها:

النموذج الأول: الشعر الفرنسي إبان الاحتلال الألماني لفرنسا:

نجد أن الشعر يلعب دورًا مهمًا منذ هجوم الألمان على أسبانيا واغتيال فردريكو جارسيا لوركا وبعد ضرب مدينة جرنيكا بالقنابل وذلك قبل الاحتلال الألماني لفرنسا حيث تضامن الشعراء الفرنسيون مع هذه الأحداث فكتب الشاعر الفرنسي لويس آراجون قصيدة " أسبانيا فى القلب" وأهداها إلى الشهداء وكتب إليوار "انتصار جرنيكا".

وعند دخول الألمان فرنسا عام 1940 بدأ النضال بالكلمة واللفظ وأصبح الشعر رفضًا للاحتلال يقاومه ويدينه، يكون تارة تعبيريًا ينقل ما يحسه الشاعر والشعب أو إخباريًا يعمل على نقل الأحداث أو يدعو للحركة والرفض وهو يستلهم أفكاره من الواقع والأحداث وينقل المسكوت عنه وكيفية تأثيرالأحداث فى اللغة، ويؤكد دوره فى الصراع مع العدو.

النموذج الثاني: بدأ الشعر الجزائري المكتوب بالفرنسية يلعب دورًا فى فضح المُسْتَعْمِر وممارساته ضد الشعب ويُعبِّر عن إرادة وطن يرفض أن يختفي ويصمد ويقاوم. هؤلاء الشعراء الذين يتحدثون بالفرنسية دون أن يفهمهم عامة الناس كانوا يؤكدون أنه ليس من المهم الكتابة بلغة بعينها ولكن بأي لغة تكون وسيلة للتعبير وتساعد على خروج المحتل..... المهم أن يتهم ويدافع، يقاوم ويناضل ويثور.

ولدراسة هذين النموذجين من شعر المذابح سواء الفرنسي أو الجزائري ننطلق من الكلمة والتعبيرات والألفاظ الأساسية التي تتكرَّر كثيرًا أى الكلمات المفتاحيه لربط هذا التكرار بالمعنى العام للقصائد.

وهي محاولة لاستنطاق النص ليبوح بالدلالات الكامنة داخله والمعاني المستترة والضمنية مستخدمًا الرمز.

وأكثر الكلمات تكرارًا فى هذه النصوص الشعرية كلمة إنسان وهو يمثل المحتل الغاصب ويتكاثر ويتعدَّد ليصبح الشعب فهو أحيانًا فردًا أو جماعة محتلاً أو قوة احتلال، وهو يفقد أحيانًا إنسانيته ويتحول إلى حيوان مفترس يعيش على القتل والدماء أو يكون شعبًا خاضعًا ذليلاً أو يكون أحيانًا أخرى رمزًا للشهداء.

1 ــ الإنسان:

أ ــ الإنسان رمزًا للمحتل: تكون الإشارة غالبًا له" هم "دون تحديد، يكتب إليوار فى قصيدته "نفس اليوم للجميع":

"السيف الذي يُغْمَد فى قلب الأسياد المُدانين يُغْمَد فى قلب الفقراء والأبرياء" (.....) علينا أن نعرف كيف نحميهم"

ثم يضيف:

الظلم يضرب فى كل مكان (......)

الظلم يضرب الأبرياء والأبطال (.......)

وهكذا نجد إشارات غامضة للمحتل، فهو تارة "الظلم" وتارة "السيف"، وأحيانًا قليلة توجد إشارات أكثر وضوحًا للمحتل دون ذكره صراحة: يكتب أراجون  عنهم "اللصوص، القتلة، الخونة" ويقول فى موضع آخر "جاءوا ليأخذوه:

هم يتكلمون الألمانية"

ويكتب أيضًا عن المحتل:

رجال خضر وصقور

جاءوا ليظلموا نهارنا

قالوا لنا ستجوعون

وأخذوا الخبز من أيدينا

وقالوا لنا إلقوا بكتبكم

الكلب عليه أن يتبع سيده   (....... )

قالوا لنا عينكم فى الأرض

عليكم الطاعة والصمت (..... )

ألقوا البعض فى السجون

وأخذوا الآخرين إلى ألمانيا

تؤكد هذه القصيدة على ما يفعله المحتل فى الشعب كما أن الأمر: (عينكم فى الأرض وعليكم الطاعة والصمت) يدل على الإهانة والإذلال.

ويكرر كيريأه استخدام الضمير "هُمْ" إشارة إلى المحتل:

"هُمْ جاءوا والسُّم فى يدهم

والموت فى طرف أذرعهم

والنوم غير موجود

هُمْ دفعوا بنا تجاه الحائط

هُمْ أعمونا بالنار

وسحقونا تحت الحديد

هُمْ نشروا الدموع

هُمْ أدموا الوديان "

إن استخدام صيغة الجمع والعدد والتعدد يكون أحيانًا إشارة لجنود الاحتلال أو للشعب.

ونجد عبارات بلاغية لها دلالات على ما يعانيه الفرنسيون من قسوة المستعمر، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

"هنا الشارع له طعم الدم"

"الذين رأوا أصدقائهم يموتون"

ويتحدث  أراجون فى هذا الديوان La Diane Française  عن الدم الذي يسيل والألم والقتل ويؤكد أنه "لا يريد أن يبكى لأن البكاء يسلبه سلاحه".

ويكرِّر هنري كيريأه فى "الثورة والشعر شيء واحد" كلمة إنسان:

"نعم أيها الكوكب عاش الإنسان فيك من الإنسان

قتل، أكل الإنسان

ارتدى الإنسان

ولكن الإنسان ينتظر الذين خلقوه

هو الذي حطم كثيرًا قبل أن يظهر"

أصبح الإنسان يعيش من الإنسان يقتله، يأكله، يرتديه وتزداد الأدبيات غموضًا فالإنسان ينتظر "الذين خلقوه" وهو "حُطِّم قبل أن يظهر".

ويكتب أراجون أيضًا عن الإنسان:

" الإنسان أين الإنسان، الإنسان، الإنسان

خدع، هرس، طعن، قتل  (...... )

يساق كالبهائم

يساق كالبهائم إلى المذبحة    La Diane Française

ويكتب مالك حدَّاد فى Le Malheur en Danger  ( الشقاء فى خطر ):

"أعد أصدقائى

أصدقائى ماتوا

أتوقف عن العد"

ويقول مالك حدَّاد عن الشهداء:

" سيصبحون أسطورة

والأسطورة تفتح لهم ذراعيها"

ويؤكد أراجون أنهم شهداء مجهولون:

"هم موتى ولا أحد يعرف أسمائهم"

ويؤكد أنهم بلا أسماء:

"اسم كالدم السائل من جرح

  اسم بسيط لكى نستطيع أن نتذكره"

والشعب يشار إليه بالضمير هو:

هو شعر بالربط يخنقه

هو شعر بضربة السلاح

هو شم رائحة دمه وهو

يسيل على جسده

ينهمر كالماء الساخن (هنري كيريأه)

والإنسان هو العين التي ترى والقلب الذي يشعر لذلك تتكرَّر هذه الكلمات كثيرًا؛ فالشاعر يقول ما يراه وما يشعر به، والتكرارمن خصائص هذا الشعر ويكون أحيانًا شكليًا أو صوتيًا أو خطيًا وهو يلقى الضوء على الكلمة ويبرزها.

ويتخلى الإنسان عن آدميته ويصبح سفاحًا مُفترسًا (المحتل) أو إنسانًا فقيرًا بائسًا.

يكتب أراجون  عن الشهيد Gabriel Péri قصيدة تحمل اسمه يقول فيها:

"مات رجل لم يكن لديه للدفاع

سوى ذراعيه المفتوحين للحياة

مات رجل لم يكن لديه طريق

سوى حيث يكره البنادق

مات رجل يستكمل النضال

ضد الموت والنسيان"

ونلاحظ التناقض بين كلمتي الموت والحياة؛ فالشهيد لا يموت والمقاومة موت أو حياة والموت هو النسيان.

ويكتب إليوار أيضًا عن الشهداء:

لأنَّى كنتُ أسمعهم يضحكون

فى دمائهم وفى جمالهم

فى بؤسهم وفى عذابهم

يضحكون ضحكة قادمة

ضحكة للحياة ويولدون عند الضحك"

أن كل كلمة تطلب عكسها: التضاد بين الموت والحياة وأيضًا بين الدماء والجمال / البؤس والعذاب والضحك، ويظل الإنسان فى جميع حالاته ومسمياته، شعبًا كان أو مُحْتَلَّاً أو شهيدًا مركزًا لهذا الشعر وعاملاً أساسيًا فى تكوينه.

كما أن الإنسان ليس فقط الآدمي ولكن باريس تصور على أنها إنسان تشعر وتبكي وتضحك فيكتب إليوار:

"باريس جائعة تشكو من البرد، تلبس الملابس البالية تنام وهي واقفة ولكن لا تستسلم لليأس" ولم تعد باريس مدينة وإنما كائن حي يعيش مأساة شعبه.

ويضيف إليوار: "لكي ترى الأرض يجب أن ترى الإنسان وأطفاله خارج الزمن. ليس لأحد اسم أو سلطان"

ويكتب أراجون:

"انظروا انظروا على أرضنا

القدم الثقيلة للأجنبي" إشارة أخرى إلى جنود الاحتلال.

كما يقول:

"أكتب فى بلد انتشر فيها الطاعون (..... ).

أكتب فى بلد حيث يوضع الرجال فى القاذورات،

 والعطش والصمت والجوع

أكتب فى بلد يغير الدم شكل وجوهها" (...... )

أكتب من بلد تتألم من آلاف الموتى

أكتب من بلد يذبحها الجَزَّارون".

2 ــ وننتقل إلى لغة الألوان ورمزيتها:

فى هذا الشعر تختلط رمزية الألوان فالأبيض والأسود عادة ما يكونان نقيضين يرمز الأبيض إلى الصفاء والطهارة، والثاني إلى الحزن والظلام واليأس، ولكننا نجد عند أراجون "الليل أبيض" و "الثلج أسود" والغابة تارة سوداء وتارة بيضاء. هو شعر متعدد الألوان حيث يغير العالم من ألوانه" ويصبح الفم واليد لونهما أزرق والفاكهة حمراء وسوداء ويكتب أراجون : "قلبى أسود ورأسى بيضاء" فهل هذا يدل على الكره الذي يكنه فى قلبه للمحتل والشيب الذي بدأ يصبغ شعره ومرور الزمن؟

ويكتب مالك حدَّاد:

"أتيتُ فى ليلة العميان البيضاء"

ويتلون الإنسان عند هنري كيريأه:

" سواء كان أسودَ أو أبيضَ

سواء كان أحمرَ أو أبيضَ"

وهو يرمز هنا للشعوب المختلفة، للإنسان فى كل مكان.

ولكن الأحمر يسيطر على الألوان كلها لأنه لون الدم والمذابح؛ فيكتب أراجون: "كل شيء ملونبالدم" وهو يتحدث عن أهم ثلاثة ألوان لون السماء والثلج والدم وهي ترمز إلى العلم الفرنسي أزرق وأبيض وأحمر.

والألوان نوعان فى هذا الشعر:

أ ــ ألوان الأشياء المختلفة عن لونها المعتاد:  

الليل الأحمر (كيريأه)

الشفاه الزرقاء (إليوار)

وجه السماء الأحمر (كيريأه)

سنابل القمح الزرقاء(إليوار)

ب ــ تلوين الأشياء التي ليس لها لون فى الواقع:

التجاعيد الزرقاء

ألوان الأمل

لون الحرية (عادة ما يكون أحمر عند هؤلاء الشعراء فهي تتحقَّق بالدم)

هذه الألوان التي لم نرها من قبل ترتبط بعالم الشعر الخيالي.

يتضمن الشعر تواصل وتراسل وتطابق وتناظر بين الأشياء والألوان.

ونلاحظ أن الشعراء الفرنسيين والجزائريين أو المغاربة بشكل عام يستخدمون لغة واحدة للتعبير فى قصائدهم، لا نقصد اللغة الفرنسية فقط ولكن المفردات والألفاظ والصور الشعرية والرموز والتعبيرات كما سنرى أيضًا فى رمزية النبات:

3 ــ النبات:

إن الدلالات الإيحائية لكلمة نبات لها أكثر من معنى وتتكرَّر فى جميع النصوص الشعرية.

يلعب النبات دورًا إيجابيًا فى حماية الشعب وفى حياة الإنسان أو يكون مجرد إطار للأحداث، ولكنه بلا شك يضيف سياقًا جديدًا ويساعد على تفسير الشعر. وهو كثيرًا ما يرمز إلى الإنسان فالشعب هو الشجرة والجذور.

والأطفال هم الزهور والمحتل هو النبات الطفيلى الذي يتغذى على باقى النباتات وهو كثيرًا ما يكون مصبوغًا بدم الشعب.

وتتنوع الأشجار ومدلولاتها فشجرة التين تحتفظ بصبرها الطويل والتين الشوكي هو المحتل:

"اليد قطعتها

شجرة التين الشوكي"  (كيريأه)

ويؤكد مالك حدَّاد أن "الأمل فى شجرة فاكهة بحجم الجرائم"

والزيتون رصاص الغدر الذي يقتلع حياة المحاربين:

"الحبات السوداء

التي اقتلعت حياتنا

الحبات السوداء

أصبحت زيتونًا

        (نادية جندوز)

ولون الزهور الحمراء هو دم الشعب الذي ينزف:

"وتنزف الوردة ويبعثر الهواء

أوراقها فى أركان الكون الأربعة"

(عبد الله بن سماعين)

وعندما يرمز النبات إلى المستعمر يصبح نباتا طُفيليًا من أكلة لحوم البشر:

"لقد كنت فريسة النباتات آكلة لحوم البشر"     (كيريأه)

وعند الشعراء الفرنسيين يكون المحتل الغاصب أحيانًا ذئبًا أو وحشًا أو أسدًا أو أفعى تمتص الدماء أو غير ذلك فى حين أن الشعب يرمز إليه بالخروف والغزال والطائر واليمام:

4 ــ الحيوان: يحمل الحيوان إشارات سلبية أو إيجابية يُصوِّرها خيال الشعراء:

المحتل يكون عادة وحشًا مفترسًا:

"يوجد شعب ألقي به إلى الوحوش

فى سيرك هذا الكوكب

(هنري كيريأه)

وهو أيضًا مصاص الدماء:

" لن تكونوا أبدًا فى مأمن

من العطش إلى الدم

سُحُب من مصاصي الدماء

هجموا علينا منذ مائة وثلاثين عامًا"

(كيريأه)

والذئب هو الخائن:

"رأيت سنابل القمح تحني رأسها

والحِمْلان يحبون الذئاب"

والشعب هو الخروف، الحيوان الذي تم التضحية به فى اللاشعور الجماعي وهو رمز للبراءة والغزالة هي الجزائر التي تتألم عند مالك حدَّاد:

"اِحكوا لي عن الغزالة التي قتلوها

اِحكوا لي عن الوردة التي ليس لها حديقة

اِحكوا لي عن الخوف الذي يشعر به أسود المنفى

واحكوا لي أساسًا كيف حال الجزائر".

إن اللغة كوسيلة للتعبير فى مواجهة ثقافتين وحضارتين تبقى كما هي فى تعبيراتها وألفاظها المختلفة والتحليل اللغوي للصور الشعرية يؤكد ذلك.

فهل تختلف الرواية عن الشعر هذا ما سنحاول الإجابة عليه:

ثانيًا: الرواية:

فى روايته "بأي شيء تحلم الذئاب" التي تدور أحداثها  فى الجزائر أواخر الثمانينيات وهي فترة الحرب الأهلية بين الإسلاميين والجيش التي اتسمت بأيلعنف والوحشية والقتل والمذابح، نقرأ ما كتبه ياسمينا خضرا "كان السيف يضرب بعنف والفأس يسحق والسكين يبتر. وكل من صراخ النساء والأطفال يغطي على صوت الرياح. وكانت الدموع تنهمر مع الدم، وكلن القتلة يذبحون دون عقاب ودون رحمة" ( ص 263 ).

ولهذا المقطع عدة دلالات منها القتل والذبح بأي سلاح يستيطيعون الحصول عليه سواء سيف أو فأس أو سكين، ولا يهتمون بصراخ النساء والأطفال فقلوبهم بلا رحمة ولا ينالون أى عقاب.

ويستطرد ياسمينا خضرا:

"وتكوَّمتْ الجُثث فى الفناء واحمرت تجمعات مياه المطر بلون الدم" ( ص 263 )

الرواية على العكس من الشعر الذي يلجأ إلى الرمز ليُصوِّر الواقع المعيش. والمؤلف ياسمينا خضرا استخدم اسمًا مستعارًا بدلاً من اسمه الحقيقي (محمد مولسهول) وصوَّر الحرب الأهلية الجزائرية وبشاعتها والعنف والمذابح ولقد كان ضابطًا بالجيش لذا فإن ما يكتبه عاشه ولمسه بنفسه.

ويؤكد الراوي فى رواية "بأي شيء تحلم الذئاب" أنه هو نفسه قتل وأزهق روحًا لذا فهو لا ينسى اليوم والساعة التي قام فيها بهذه العملية:

"قتلتُ أول إنسان يوم الأربعاء 12 يناير 1994 فى الساعة السابعة و35 دقيقة، كان قاضيا " ( ص 15 ) ولا ينسى ابنته ذات السنوات الست التي كانت تسبقه، يصف ضفائرها ولون شرائطها التي تعقد بها شعرها وحقيبتها المدرسية على ظهرها: وبعد أن أطلق الرصاص بمسدسه على الأب خشى أن يكون قد قتل إنسانًا آخر لذا سأله عن اسمه وهو يحتضر، مما يؤكد أنه يقتل إنسانًا لا يعرفه لتنفيذ أمر صدر إليه. ثم يصف ندمه والإعياء والغثيان الذي أصابه فيقول: "كل طلقة نار كانت تحرقني من رأسي إلى قدمي ولم أستطع أن أتوقف عن إطلاق النار". ويؤكد أنه بفعله هذا "دخل جسدًا وروحًا فى عالم موازٍ لن يعود منه أبدًا" ( ص16 ) لقد أصبح قاتلاً ولن تعود حياته إلى ما كانت عليه من قبل.

وتسرد الرواية الأحداث الدامية فى الجزائر فى نهاية الثمانينيات والمواجهة بين الجماعات الإسلامية التي كانت تتنافس على الزعامة مع الجيش.

وفى روايته "ما يدين به النهار لليل" الحائزة على جائزة أفضل كتاب روائي فى فرنسا عام 2008 يحكي عن الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي والحرب وما فيها من دم و خيانة وعنف: "اعتداءات على المدن والقرى، إطلاق النار على المنازل والبنايات، وتسقط الأجساد على الأرصفة، ويهرب الناس من الشوارع كما تهرب جنود المحتل بعد قتل ضحاياها. ويبقى الناس فى منازلهم لا يخرجون منها" ( ص 338 و 339 ).

كان هؤلاء الضحايا وهذا القتل والعنف وهذه الدماء التي سالت أيام الاحتلال الفرنسي سبب أي فى حصول الجزائر على استقلالها.

وقد يكون ذلك هو تفسير عنوان الرواية ما يدين به النهار ( الاستقلال ) لليل (ليل الاحتلال).

وفى رواية "اللعبة" يتحدث رشيد ميموني عن الإرهاب فى الجزائر فى التسعينيات ومحاولة السيطرة على البلاد بالعنف والدم حيث يقتل المسلم أخاه؟

وتحكى آسيا جبَّار فى "أطفال العالم الجديد" عن حرب التحرير حيث تدور أحداثها عام 1956 وتسلط الضوء على دور المرأة الجزائرية وشجاعتها وصمودها وهي تعالج جرحى الحرب. وفى روايتها "إمرأة بلا كفن" تُقدِّم شهادات ووثائق عن هذه المرأة التي ضحت بحياتها، ولكن آسيا جبار تعتمد على الخلط بين الواقع والخيال: الواقع الذي جمعت أحداثه من أسرتها ومعارفها.

ونلاحظ وجود نوعين من الروايات: الأولى تعتمد على الواقع مثل كتابات ياسمينا خضرا، الضابط السابق فى الجيش الجزائري الذي كان شاهدًا على الحرب المدنية وأحداث العنف والقتل والمذابح. وهو يمتلك الكثير من الأسرار عرفها أثناء خدمته فى الجيش وشاهد جرائم وأعمال عنف وقمع، لذا فهو يؤكد أن كل ما يقوله حقيقي.

والثانية هو ما تكتبه آسيا جبار التي تعتمد أحيانًا على الوثائق التاريخية ولكن بها أيضًا مساحة شعورية وعاطفية. وهي تعيد تشكيل الأحداث وتعتمد على رؤيتها الخاصة لها.

ورواية محمد خير الدين "أسطورة وحياة أجون شيش" هي محاولة كتابة الماضي ولكن كلمة "أسطورة" فى العنوان تضع الرواية فى إطار النص السردى المتخيل وكلمة "حياة" تضعها فى إطار التاريخ الفردي.

وفى رواية "الباحثون عن العظام" التي تحكي عن بحث البطل عن جثمان أخيه أو ما تبقى منه من عظام و فى أثناء تنقله من مكان إلى مكان يلتقى بأناس شاهدين على الأحداث ويستعين أيضًا بشهادات رجال السلطة، ويرصد التغيرات التي حدثت فى المجتمع الجزائري منذ الاحتلال وحتى الاستقلال.

وفى "الحياة المستوية" لرشيد بوجدرا يحارب الكاتب الإرهاب ويتم تهديده بالقتل لذا يعيش Rac  بطل الرواية فى الخفاء وهو صورة لأي مواطن جزائري آخر. ويتحدث عن المسكوت عنه والصمت عن الكثير من الحقائق التي لا يستطيع التعبير عنها نتيجة الظروف التي تمر بها البلاد وخوفًا، من السلطة.

ويؤكد بوعلم صنصال فى "شارع دروين" التي تتناول عددًا من الحروب، حرب الجزائر وحرب الأيام الستة وحرب أكتوبر.... أنه" عرف الحرب ولكن لم يعشها".

الكاتب الروائي إنسان أولاً له عائلة وبلد وهو مُوزَّع بين الواقع والخيال وبين التاريخ الفردى والجماعي.

وإذا كانت الرواية التي تتحدث عن فترة الاحتلال الفرنسي وعن النضال ضد المحتل الغاصب، وهو أمر مشروع؛ فإن الرواية التي تتحدث عن الحرب الأهلية والمذابح والقتل هي تصوير لقتل الأخ لأخيه ولجزائري مثله فهو صراع بين أبناء الوطن الواحد لذا فإن هذه المذابح غير مشروعة وغير مقبولة.

رواية الحرب والمذابح سياسية تتحكم فيها الأفكار والمعتقدات وهي رواية شهادات ووثائق كما أنها رواية واقع متخيل أو حقيقي أو الاثنين معًا وهي رواية العنف ورواية المسكوت عنه، تتعرض للمناطق المُحرَّمة وهي تستدعي المعايشة الذاتية أحيانًا أو الجماعية أحيانًا أخرى.

إن اللغة ودلالاتها المختلفة تلعب دورًا مهمًا فى أدب المذابح شعرًا كان أو نثرًا، لكل كلمة عدد من الدلالات والمعاني.

هذه الكتابة الأدبية هي نتاج أحداث سياسية واجتماعية وهي كثيرًا ما تدخل فى نطاق أدب الشهادة وهي فى أغلب الأحيان رمزية تختفي الكلمة وراء كلمة أخرى،

وهي الإشارة المُغلَّفة والتعبير المُنقَّب أحيانًا والواضح أحيانًا أخرى، هو الواقع الذي حدث والمتخيل فى آن واحد، هو الحقيقة والمسكوت عنه، ولعل ذلك يتفق مع ما تقوله مايسة باي فى مجموعتها القصصية "قصص قصيرة من الجزائر" وهي تصوير واقعي للأحداث الدامية فى التسعينيات:

"عندما تبتعد الحقيقة حولك عن أي منطق وتصبح غير قادر على تحملها فعليك إيجاد كلمات وتكوين جمل بهذه الكلمات وخلق عالم خيالي، ولكنه قريب، قريب جدًا من العالم الحقيقي".

فقد يلجأ المؤلف إلى تجميل الأدب بقناع بلاغي من الاستعارات والصور، ويخلق بالكلمات عالمًا يشبه الواقع وأحيانًا أخرى يقدم شهادات حقيقية من الواقع ويحكي الأحداث بصدق.

وأخيرًا وبعيدًا عن مذابح الاحتلال ومذابح الإرهاب والحرب الأهلية نعطي مثالاً لمذابح وعذاب السجون، وهو ذبح معنوي لا يقل بشاعة بل إن أثره على الإنسان قد يفوق المذابح السابقة.

ثالثًا: الذبح المعنوي:

نعطي مثالا لمذابح السجون كما صوَّرها الطاهر بنجلون فى روايته "تلك العتمة الباهرة" والتي يؤكد أن كل أحداثها واقعية فهي مستلهمة من شهادة أحد معتقلي سجن "تزمامارت" بالمغرب: "حيث كان الليل قد كف أن يكون هو الليل، فما عاد له نهار، كنا نحن الليل وإلى الأبد ليلية أجسادنا وأنفاسنا وخفق قلوبنا...". ( ص 9 ).

ويصف بنجلون كيف يكون "الموت حيًا": كما أن مراسم دفننا قد تمت (..... ) فالريح تمنحنا ما يكفي لأن نبقى بعيدًا عن الحياة وعلى مقربة من الموت " (ص9) كما يُصوِّر الآلام التي يتعرض لها المسجون: "كم أرغمني برد الأسمنت الرطب على استبدال وضعية رقدتي بأخرى (.....) مُؤْثِرًا وجع الجنبين على وجع اليدين. كانت لنا إذًا خيارات التفضيل بين وضعين" لقد كان على الجسم أن يتوجع" ( ص 9 ـ 10 ). كان الجسم يتلقى كل ضروب العذاب الممكنة وكان عليه أن يبقى حيًا لكي يتلقى" عذابات أخرى". ( ص 10 ).

وقد يكون الألم عاملاً مساعدًا للتحمل والصمود: "ولشدة ما تألمتُ ولشدة ما تعذَّبتُ، تمكنتُ، شيئًا فشيئًا، من الإنفصال عن جسدي" ( ص11 ) وفي مشرحة المستشفى" لم يجر بعد فرز الأحياء عن الموتى، كان البعض يئن، والبعض الآخر يضرب الحائط برأسه، لاعنا القدر والجيش والشمس".

تتكرَّر كلمتا حياة وموت في كل صفحات الرواية تقريبًا: الحياة في الموت والموت في الحياة. عالم تسوده الظلمة والليل والسواد كما يسوده الدم "الدم على أغطية الموائد والدم على عشب الحديقة" استحالت الألوان مزيجًا فُجَائيًا. الأزرق ما عاد في السماء، والأحمر ما عاد في الأجساد. وكانت الشمس تلحس الدماء بسرعة غير معهودة" ( ص 14 ) وأصبحت العيون بيضاء والحياة ظلامًا دامسًا كالموت، استطاع السجناء أن يروا نور الشمس بعد 47 يومًا من الظلمات عند دفن أحدهم:

"أرادوا أن يرموا الجثة في حُفْرة بلا مراسم، بلا صلاة، بلا تلاوة قرآن" وكانت المقاومة والمطالبة بدفن شرعى لائق.

كان عليهم إذن أن يحتفظوا بهذا النور وهذا الضياء، يقومون بتخزينه حتى لا ينسوه وحتى يسترجعوه في ظلامهم الدامس:

"طوال ساعة أو أقل، أبقيتُ عيني مفتوحتين، وفمى فاغرًا، لكي أتجرع ما أمكن من الضوء، لكي أتنشق الضياء وأختزنه داخلي" ( ص 19 ).

واجتمع كل من الموت والحياة مع الشمس والظلام:

"استحال الموت شعاع شمس بهيًا ( ص20 ).

"كنا نبصر في الظلمات أو نظن أننا نبصر ( ص8 ).

"النهارات والليالي قد تمازجت وأنها تتشابه في كنافها المقيت ( ص 23 ).

"حين رفعوا العُصَابة عن عيني لم أر سوى العتمة، ظننتُ أني فقدتُ البصر"

"سجن شُيِّد لكي يبقى إلى الأبد غارقًا في الظلمات ( ص 35 ).

كل هذا التناقض والتضاد بين الموت والحياة والنور والظلام يشير إلى عنوان الرواية الأصلية المكتوبة بالفرنسية "هذا الضوء الغائب الذي يعمي الأبصار"

" Cette  aveuglante  absence de  Lumière ".

إن الذبح يقضي على حياة الإنسان في لحظة ولكن العذاب مستمر حتى الوفاة قد يكون أيامًا أو شهورًا أو سنة أو أكثر:

"كان فلاح قد أصبح عاجزًا عن التبول، فتوفى إثر أوجاع لا تُحتَمَل. توقف عن الكلام، صار يهذي مُردِّدًا كلامه، يتمتم، يصرخ، يضرب الباب بقدميه ثم آخر الليل سكتت الضوضاء" ( ص 210 ) لقد مات.

وفي النهاية خرج الراوي من السجن إنسانًا حيًا وميتًا في آن واحد وتم هدم السجن كأنه لم يكن، كأنه قصة خيالية:

"أطرق عظامك، أهرس لحمك، أرميك في قبر، أدعك تموت بجرعات قليلة بلا نور بلا حياة ثم أنكر كل ذلك. هذا كله لم يحصل. ماذا؟" ( ص 238 ).

وسواء كانت المذابح جسدية أو معنوية في الشعر أو في الرواية فمن الصعب إحصاء الأعمال الأدبية التي تناولتها في الأدب العربي أو الفرنسي أو الأجنبي بصفة عامة، ولكنها تظهر الدور البارز للأدب في فضح هذه المذابح و تصويرها والتعبير عنها. إن وجود أدب مناهض للحرب والمذابح كان نتيجة حتمية للأحداث البشعة التي أدت إلى إسالة الدماء والإبادة الجماعية مثل مذبحة دنشواى وصبرا وشاتيلا ومذابح الثورة الفرنسية وغيرها. تأثر كثير من الأدباء والشعراء بالمجازر والمذابح وكتبوا أعمالهم الأدبية التي لم تكن مجرد تعبير عن الأسى لموت الأبرياء وإزهاق الأرواح وإسالة الدماء بل رسم صورة نمطية وعرض ملاحم بطولية. كتبت رضوى عاشور "الطنطورية" وصوَّرت المأساة الفلسطينية وتعرض القرية التي تحمل الرواية اسمها لمذبحة قام بها الصهاينة، وكتب بهاء طاهر "الحب في المنفى" وتناول مذبحة صبرا وشاتيلا وكتب أحمد شوقي عن مذبحة دنشواي وكتب محمود درويش "أزهار الدم" ليُصوِّر مأساة كفر قاسم وغيرها وغيرها.

إن خطاب المذابح يتغير من نوع أدبي إلى آخر فهو رمزيًا في الشعر وأكثر واقعية في الرواية إلا أنها كلها تُعبِّر عن ارتباط الأدب بالحدث ودوره في تصوير المذابح وإبرازها والدعوة لمناهضة الحرب والصراع سواء كان سياسيًا أو أيديولوجيًا.

  • قامت الباحثة بالترجمة من الفرنسية لجميع الاستشهادات  والعناوين المكتوبة بالفرنسية.

 

قائمة المصادر والمراجع:

أولاً: الشعر:

Aragon , Louis , Les Yeux d’ Elsa , Seghers , 1942

La Diane  Française , Seghers , 1946

Eluard  Paul , Oeuvres complètes , Gallimard , La Pléiade , 1968

Poèmes pour tous , 1917 _ 1952 , Les éditeurs  français , réunis    , 1952

Guendouz , Nadia , Algérie in Espoir  et Paroles  de  D. Barrat , Seghers , 1963

Haddad , Malek , Ecoute et je t’ applle , Maspéro , 1961

Le Malheur en danger , La Nef de Paris , 1956

Kréa , Henri , Liberté  première , P. J. Oswald , 1957

La  Révolution et la  Poésie  sont  une seule et même chose P. J. Oswald , 1960

 

 ثانيًا: الرواية:

Ben Jelloun , Taher , Cette aveuglante  abscence  de  Lumière , Seuil, 2001

تلك العتمة الباهرة، ترجمة بسام حجار، المركز الثقافي العربي 2015.

Boudjedra , Rachid , La vie à l’ endroit  , Grasset  , 2014

Djaout , Taher  , Les Chercheurs d’ os  , Cérès , 1984

Djebar , Assia , Les  enfants du nouveau monde , Points , 1962

La Femme sans  sépulture , Points , 2012

Khadra , Yasmina , A quoi rêvent  les Loups ,  Julliard , 1999

Ce que le jour doit à la nuit  , Julliard , 2008

Khair  Eddine , Légende  et vie  d ‘ Agounchich , Seuil , 1984

Sansal , Boualem , Rue Darwin , Gallimard , 2011