يمتد الفقد في نصوص حجازي ليشمل فقد أمكنة وبلدان ومدن وعوالم بأكملها، وفقد أحلام وآمال وأمنيات، وفقد أشخاص: أصدقاء، وأقارب، وزعماء، ونساء، وكتاب، وشعراء، وفنانين، وفقد قيم ومُثل ومعانٍ، وفقد أزمنة خاصة وعامة، بل والخوف من فقد الذات ذاتها وتشظيها وتناثرها؛ فضلاً عما يفقده الجسد ذاته من ذاته.

شذرات من تجليات الفقد في شعر حجازي

قراءة استكشافية

طارق النعـمان

 

إذا كان يمكن القول إن تيمة الفقد تشكل تيمة محورية في معظم نصوص الشعر العربي المعاصر، فلا شك في كونها تكتسب خصوصية لافتة ومتميزة في نصوص أحمد عبد المعطي حجازي. إذ يمكن القول إنها تشكل تيمة توليدية في معظم دواوينه وقصائده، بداية من ديوانه الأول ووصولاً إلى آخر ديوان له. ويتجلى هذا الحضور صريحًا في العديد من عتبات نصوصه، سواء في عناوين كل دواوينه، ما عدا أوراس، أو في عناوين العديد من قصائده أو حتى في نسيج قصائد أخرى عديدة لا تتضمن عناوينها دلالات الفقد.

وعلى مستوى عناوين الدواوين، فإن النفي في ’’مدينة بلا قلب‘‘، يحيلنا على الفقد والغياب صراحة، مثلما يحيلنا الإثبات الحاضر، من خلال أسلوب القصر أو الاستثناء المُفرَّغ، في’’لم يبق إلا الاعتراف‘‘،على غياب وانتفاء وجود الاعتراف على الرغم من ضرورته والحاجة الملحة إليه؛ مما يجعله مُرجَأ ومُؤجَّلاً، أو غائبًا ومفتقدًا. كما يُوجِز دال المرثية في ’’مرثية للعمر الجميل‘‘ دلالات الفقد دون أدنى مُواربة، وبالطبع وإذا ما تساءلنا عمَّا يمكن أن تكونه ’’كائنات مملكة الليل‘‘؛ فما عساها أن تكون سوى أشباح وظلال ليلية تطارد الشاعر ويطاردها؛ ولا أدل بالطبع على الفقد من حضور وتجلى الأشباح الحاضرة نيابة عن شخوصها وأشيائها؛ كما يتجلى الفقد أيضًا في ’’أشجار الأسمنت‘‘ بما ينطوي عليه العنوان من تنافٍ دلالي oxymoron  يسلب فيه المضافُ إليه المضافَ هويتَه وكينونته، ويُجرِّده من حياته وحيويته، أو بعبارة أخرى يمسخه ويغتاله ليصبح المضاف هنا مفقودًا تمامًا ومُسْتَلَبًا من المضاف إليه وفيه، وأخيرًا ’’طلل الوقت‘‘ حيث لا يحتاج دال الطلل لأي شرح إضافي لدلالته على الفقد وتجسيده، خاصة والطلل وبكاء الأطلال هما التيمة الأثيرة في الغالبية العظمى من مقدمات وافتتاحيات القصائد الجاهلية.

كما يتجلى حضور تيمة الفقد أيضًا على مستوى عناوين القصائد، على نحو ما هو حاضر في كل تلك القصائد المعنونة بكونها مرثية، أو رثاء، أو مراثي، أو تلك التي يتضمن عنوانها دوال تقترن بالفقد مثل الموت أو القتل أو الذبح، أو الدم والدماء، أو الصمت، أو السجن، أو الضياع، أو البكاء، أو النسيان أو الاغتيال، أو الهروب، أو المطاردة، أو الغربة أو الحنين، أو البطالة، أو الطلل الخ. ناهينا عن العديد من القصائد الأخرى التي تحفل بتيمة الفقد وتنوعاتها المختلفة، حتى وإن لم تظهر في العنوان.

  كما تتجلى أيضًا تيمة الفقد في تشكيل حبكة وبناء الكثير من تلك القصائد، وهو ما يعني أن المجال الدلالي للفقد يمتد عبر نصوصه امتدادًا أفقيًا ورأسيًا؛ مما يجعل هذه التيمة تلعب دور ’’العنصر المهيمن‘‘، على حد مصطلح الشكلانيين الروس، أو ’’البنية العميقة‘‘، بمصطلح تشومسكي، أو’’البنية المُولِّدة‘‘، وفق مصطلح لوسيان جولدمان، أو لنقل، بعبارة أخرى، إنها تمثل المبدأ المُنظِّم الحاكم والجامع لمجمل نصوص حجازي الذي لا تفتأ تنطلق منه حتى تعود دومًا إليه؛ وكأن ثمة قوى جبرية خفية ولا إرادية تدفع تلك النصوص إليه.

  ويمتد الفقد في نصوص حجازي ليشمل فقد أمكنة وبلدان ومدن وعوالم بأكملها، وفقد أحلام وآمال وأمنيات، وفقد أشخاص: أصدقاء، وأقارب، وزعماء، ونساء، وكتاب، وشعراء، وفنانين، وفقد قيم ومُثل ومعانٍ، وفقد أزمنة خاصة وعامة، بل والخوف من فقد الذات ذاتها وتشظيها وتناثرها؛ فضلاً عما يفقده الجسد ذاته من ذاته، إضافة إلى أقسى أنواع الفقد قاطبة وهو فقد الأوهام، بكل ما ينطوي عليه فقدها من صدمة ورؤى مختلفة للذات وللآخر في ظل ما تنسجه الأوهام المطمئنة دومًا من أمان ويقين زائفين؛ مما يجعل تيمة الفقد تمثل نُسْغًا تحتيًا ساريًا ومُمتدًا في مجمل نصوص حجازي، تمتح منها وتُغذِّيها بشكل متواصل ومستمر، ولكن أيضًا دون أن تستهلك أو تستنفد طاقات وإمكانيات تلك التيمة التي تبدو وكأنها تيمة غير قابلة للنفاد أو الاستنفاد، وكأنها هي تيمة الشعر، والشعرية، الأولى التي استقى، ولا يزال يستقي، منها الشعر كينونته وحضوره وحيويته. وكأنها تحمل دومًا في ثناياها دراميتها ومأساويتها الخاصة، مثلما تحمل أيضًا غنائيتها النوعية الحافلة والمُتْرَعة بالمشاعر والأحاسيس النابضة والفياضة؛ إذ تتفتح دومًا على جُرح أو جراح غير قابلة للالتئام أو الاندمال والذبول وكأن الفقد في عالم حجازي حضور دائم، حضور لايقبل الفقد قط ولا يقبل الغياب، وكأنه دم الشعر السائل الذي لا يكف قط عن النزيف والتدفق والسريان. ولعله يمكن القول أيضًا إن هذا الحضور الطاغي لتلك التيمة هو ما يمنح العديد من قصائد حجازي أبعادها الأتوبيوجرافية، أو السَّيْر ذاتية، ما دام أن السَّيْر ذاتية، كما يُنبئنا بول ديمان، هي صيغة عبر نوعية أكثر منها نوعًا منغلقًا على ذاته.

ولا شك أن تكرار حضور هذه التيمة على هذا النحو اللا إرادي أو شبه القسري، لدى حجازي، يدلف بنا إلى ما يُطلِق عليه فرويد جبر التكرار، والذي يقترن تحديدًا  بخبرة الفقد، وما يتولد عنها من صدمات وفجائع حادة وعنيفة، وهو ما يستحق بالتأكيد قراءات مطولة؛ تفصيلية وعميقة، تكشف عن كل ما يقترن بحضور وهيمنة هذه التيمة في نصوصه من ظواهر أسلوبية ودلالية مختلفة ومتعددة، كالسردية والمشهدية، والتكرار، والنفي وما يتردد من أصوات وأصداء قادمة من الماضي ومن عوالم تلك الكائنات والشخوص والمعاني والقيم الذاوية، وما يعتري نصوصه من نبرات متنوعة كالمفاجأة والدهشة والصدمة والذهول، والرفض والإنكار والاستنكار، والفشل والإخفاق والإحباط والخيبة، والألم والتفجع واللوعة والحُرقة، والندب والندم والأسى والأسف والمرارة والحسرة، والوحشة والغُربة، والبحث والاستفهام والتساؤل والمساءلة، والاغتراب والنوستالجيا،... إلخ بوصفها جميعًا من مفعولات وتجليات خبرة الفقد الغائرة في وجدان قصائد حجازي. وهو ما لن يتسع المجال له هنا بالطبع، بحكم الحيز المتاح، للوفاء به على النحو اللائق. إلا أن هذا لا يمنعنا من أن نحاول هنا تقديم مجرد إطلالة بانورامية، خاطفة وسريعة، ترصد بعض شذرات فحسب من تجليات تيمة الفقد المتكررة في نصوصه، بعد أن أوجزنا ما يقترن بحضورها من ظواهر ومظاهر؛ إذ لا يعدو مقالنا هذا أن يكون مجرد خُطاطة مقترح فحسب لإمكانية دراسة نصوص حجازي الشعرية انطلاقًا من رصد تجليات هذه التيمة لديه، ورصد اقتراناتها المتعددة والمتنوعة في نصوصه، أملاً في أن نستطيع لاحقًا، أنا أو سواي من النقاد والدارسين، الوفاء بهذا المقترح الذي أتصور أنه يمكن أن يمدنا ببعض الاستبصارات العميقة والكاشفة حول شعرية نصوصه التي تستحق العديد والعديد من الدراسات التحليلية الدقيقة والمفصَّلة.

وبداية؛ فإن تيمة الفقد تبدو على متصل مع تيمة أخرى محورية في نص حجازي، وهي تيمة السقوط. إذ كثيرًا ما يبدو الفقد في العديد من تلك النصوص وليد السقوط، على هذا النحو الذي توجزه وتكثفه صورة حصان أمين بك الطائر من فوق أسوار القلعة في قصيدة ’’مذبحة القلعة‘‘، بكل ما تنطوي عليه لحظتي السقوط والفقد، والفقد والسقوط من درامية؛ إذ وإن اتحد الفارس والفرس، في لحظة سقوط واحدة، إلا أن لحظة فقد الفرس، تبدو وكأنها تعني سقوطًا آخر للفارس من فوق فرسه أو مُضاعَفة للسقوط، أو على نحو ما يهوي ويتساقط فرسان الكلمة من الخيل على ذهب الطرقات، فيفقدوا طبع الحكمة، أو على حد ما هو ماثل في مرثية لاعب سيرك من تلازم بين السقوط والفقد. كما يبدو السقوط في حالات أخرى وليد الفقد؛ على نحو ما يتجلى في تلك الصورة الختامية من قصيدة مذبحة القلعة التي يهبط فيها حصان من القلعة وحيدًا بعد أن فقد فارسه، حيث يفضي في الصورة الأولى السقوط إلى الفقد، بينما يفضي الفقد في الصورة الثانية إلى الوحدة والسقوط، إذ يهبط الحصان وحيدًا من القلعة، وهو يمضغ أحزانه. أو على نحو ما هو في قصيدة الرحلة ابتدأت، إذ مع فقد الزعيم ’’تتراجع الأشجارُ هاربةً، وتَشْخُص حولنا الأشياءُ ثم تميلُ ساقطةً، وتُمْعِنُ في الأفول‘‘،أو كما يتكشف فقد الزعيم بعد ذلك عن أن غرناطة قد سقطت، وعن أن الزعيم ذاته سقط ولكن دون جرح ’’كما يسقط النجم دون احتراق!‘‘، وأن ’’أهل المدينة غرقى يموتون تحت المجاعه‘‘ في قصيدة مرثية للعمر الجميل، حيث الغرق والمجاعة مجليان من مجالي السقوط الذي يحمله الشاعر في خطاه ودمه ’’حاملُ في دمي نكبتي، حامل خطأي وسقوطي هل ترى أتذكر صوتى القديم،

فيبعثنى الله من تحت هذا الرماد، أم أغيب كما غبتَ أنتَ، وتسقط غرناطة فى المحيط!‘‘، أو على نحو ما يفضي سقوط السيف من كف لوسياس في قصيدة ’’جيرنيكا أو الساعة الخامسة‘‘ إلى سقوطه على سجادة البهو قتيلاً وفقده. وهكذا تبدو كل تيمة من التيمتين قابلة أن تكون أحيانًا سببًا وأن تكون أحيانًا أخرى نتيجة أو أن تعيد كل منهما إنتاج الأخرى: السقوط يفضي إلى الفقد والفقد يفضي إلى المزيد من السقوط، وفقًا للكيفية التي يتم بها بناء القصيدة، ووفقًا للكيفية التي تنتظم بناءها وتشكيلها. كما يمكن القول أيضًا إن ثمة تيمة ثالثة تمثل الفضاء الذي تتجلى فيه كلتا التيمتين السابقتين، وهي تيمة المدينة، حيث المدينة هي الفضاء المُنتِج لكل من السقوط والفقد، أو، على حد تعبير لوسيان جولدمان، البنية المولدة التي تنبع وتتولد منها كلتا التيمتين، بما يجعلها التيمة الجامعة بين التيمتين. فالمدينة بنية مولدة للفقد والسقوط، والفقد بنية مولدة لشعرية النصوص.

إن هذا الثالوث متلازم في العديد من نصوص حجازي، إذ نجد المدينة فضاء للفقد الذي غالبًا ما يفضي إلى السقوط، مثلما نجد أنها أيضًا فضاء للسقوط الذي يمكن أن يفضي بدوره إلى الفقد، في دورة هي أشبه ما تكون بعملية إعادة إنتاج متبادل بين هذين الحدثين وبين المدينة التي مثلما تُساهم، بشكل متواصل في عملية إعادة إنتاج هذين الحدثين، يُساهم أيضًا تكرار وقوع هذين الحدثين في فضائها في إعادة إنتاجها على تلك الصورة الاغترابية السالبة التي غالبًا ما تتجلى بها في نصوص حجازي؛ بما هي ذلك الفضاء المتاهي، الهارب والمُراوِغ والمُولِّد والحاضن للألم والفجيعة والاغتراب والوحشة والضياع المادي والنفسي والروحي؛ وبما هي على الرغم من متاهيتها فضاء من الحديد والزجاج والحوائط، فضاء لا يفضي فيه الحائط إلا إلى سواه من الحوائط، على الرغم من اكتشافه المفاجئ والمُدهِش لحبه لها؛ مما يجعل هذا الثالوث يبدو وكأنه يمثل متلازمة تيمية وشعرية في مجمل نصوص حجازي الذي يبحث عن القرية في المدينة ويبحث عن مدينة بعينها في مدينة أخرى سواها، على نحو ما هو في قصيدة أغنية للقاهرة، ’’زمن يلتقي منازله الأولى، فلا يُدرِكُ منها إلا طلولاً طلولا، أتراني بادلتُ حلمًا بحلم ووصلتُ اغتراب يومٍ بأمسِ؟‘‘ ليظل الفقد هو رفيقه في كلتا المدينتين، إذ تتوزع هذه التيمة، كما سبقت الإشارة، على مجمل دواوينه، من ديوانه الأول ’’مدينة بلا قلب‘‘ إلى ’’طلل الوقت‘‘ على نحو ما يتجلى مثلاً في قصيدة ’’مقتل صبي‘‘؛ إذ يتجلى حضور الفقد من أول حرف في القصيدة كالطلقة المدوية عبر دال الموت الذي يصدمنا بحضوره الاسمي الصلد وبدويه وطنينه على هذا النحو الذي يسقط به على الميدان والذي يجسد وقعه صوت الطنين في الجملة الافتتاحية ’’الموت في الميدان طنْ‘‘ حيث يسقط أو يحط الصمت ’’كالكفنْ‘‘، ثم تتضاعف دلالة الفقد من خلال إيقاع النون الساكنة التي تجسد حضور السقوط والطنين معًا والتي تبدو وكأنها صدى لفعل سقوط الموت، ومن خلال النفي ’’فما بكت عليه عينْ‘‘، ومن خلال السؤال الذي يفتقد الجواب، ’’قالوا ابن منْ؟، ولم يجب أحد‘‘، ثم تكرار النفي ولكن هذه المرة من خلال أسلوب القصر الذي يُعمِّق دلالة النفي في هذه الجملة التي يتلفظها أحد المارة ’’فليس يعرف اسمه هنا سواه! يا ولداه!‘‘ والذي يغيب عن المشهد كله بمجرد ما أن يتلفظها، لنبقى في حضرة الفجيعة التي توجزها تلك العبارة المُقتضَبة ’’يا ولداه‘‘، وفي حضرة الغياب والصمت، وكلام العيون التي لا تنطق سوى العجز والفقد ’’قيلت وغاب القائل الحزين، والتقت العيون بالعيونْ‘‘، لنصل إلى هذه الصورة الفاجعة الشاخصة الدالة على اقتران النفي بالفقد ’’وحَمْلَقَتْ عينانِ في ارتعاب وظلَّتا بغيرِ جَفنْ!‘‘، ولنصبح في حضرة هاتين العينين الجاحظتين العاريتين اللتين انحفر فيهما رعب الصدمة والمفاجأة ولم تجدا من يرد لهما جفنيهما، وكأنهما ستظلان هكذا جاحظتين تنظران إلينا وإلى كل قارئ للقصيدة. ثم تأتي الخاتمة لتُجسِّد هامشية وضآلة هذا الفتى المُشرَّد، القروي على الأرجح على نحو ما يُوحي وصف الذبابة التي لولبت جناحها عليه وأنها قد أتت من المقابر الريفية الحزينة، والتي يبدو وكأنها هي وحدها من يعرفه في عالم المدينة، وكأن القصيدة تعقد من خلال هذه المجاورة نوعًا من المُمَاهاة أو المماثلة الضمنية ما بين الصبي الغريب وتلك الذبابة التي تضطلع وحدها بطقس وداعه، وكأن حضوره في هذه المدينة لا يعدو ولا يجاوز حضورها. وهكذا ينجح توظيف النفي في القصيدة في تجسيد دلالة الفقد على أبدع ما يكون؛ حيث يستمد النفي هنا شعريته من عمق خبرة الفقد، والقدرة على تقمص اللحظة وتجسيد مشهديتها من خلال الإحكام السردي للحدث، وبالطبع يقترن سقوط الموت هنا المُفضي إلى الفقد بالميدان، مركز المدينة وصرتها، الذي بدلاً من أن يكون فضاءً للقاء والتواصل، يصبح مجرد فضاء لسقوط الضحايا والفقد، فضاءً للقتل. وهو ما يمثله فضاء المدينة في العديد من قصائد حجازي.

وتظل القرية هي المرجع المركزي للفقد والمكان الهارب الذي يبحث عنه في أعماقه وفي كل مكان آخر سواها، حتى وإن أوهمنا أنه قد أصبح ابنًا للمدينة؛ إذ يظل المشهد الريفي ينبض في فضائه الروحي والنفسي وتلوح أو تحوم ظلاله حتى في فضاء قصائده الأخيرة التي يبدو فيها وكأنه لا يتحدث إلا عن المدينة، إذ يبقى هذا المشهد وفضاء القرية وكأنه الرحم الذي يحلم بالعودة إليه، إلا أنه لا يفتأ يراوغه ويتفلت منه مثل هذا النهار المبتعد في قصيدة طردية والتي يعكس معجمها وتُجسِّد بعض صورها ورموزها بعضًا من مفردات ومكونات المشهد الرعوي أو الريفي، على الرغم من أنها، أي القصيدة، تنطلق من فضاء المدينة، وتحديدًا باريس التي يبدو الربيع فيها وكأنه يحيله على ذاك المشهد الريفي البعيد، الذي يستثيره زمن القصيدة الماثل في الربيع، وفوح عطرها حيث يمكن لضمير المؤنث الغائب ’’وفاح عطر(ها)‘‘ هنا أن يعود على المدينة الحاضرة في النص أو على القرية الحائمة في فضائه والمُستتِرة تحت هذا الضمير، والقطا الذي يتبعه من بلد إلى بلد وكأنه يلازمه ولا يفارقه، ومع ذلك يعجز عن اصطياده، وكأنه ’’دخان القرى‘‘ الذي ما زال يتبعه على حد ما يذكر في قصيدة ’’طللية‘‘، ذاك أن حضوره لا يعدو مستوى الحلم الذي لا يَهِمُّ باليقظة حتى ينفضَّ عنه هاربًا وصاعدًا بلا جسد على هذا النحو الأثيري اللا متعين؛ وعلى الرغم من كل إيهاماته بالانعقاد والتعين والتجسد والاقتراب واسترجاع صورته من البَدَد، إلا أنه كما تومئ هذه العبارة الأخيرة فإن ما يرجع أو يُستعاد من البَدَد ليس هو القطا، وإنما صورته فحسب؛ مما يجعل هذه الصورة تتحد مرة أخرى مع الزبد، وهو ما لا يبقي معه سوى احتراق الوقت في العشب أو احتراق العشب في الوقت؛ حيث لا تعني حركة الزمن المُحترِق هنا سوى دورة الفصول التي يتحول معها لون العشب من الأخضر إلى الأصفر المحترق، والانتقال من الربيع إلى زمن احتراق العشب ذاته وذبوله المُفضي حتمًا للسقوط والفقد، إذ يبقى في حضرة هذا البريق المرتعد الذي يبدو في ظل احتراق الزمن واحتراق العشب وكأنه لا يعدو أن يكون بريقًا زائفًا أشبه بالبرق الخُلب، أي البرق الذي لا يعقبه مطر، على نحو ما هو في حديث الاستسقاء: "اللهم سُقيًا غير خُلَّبٍ برقُها"- أي غير خالٍ من المطر، وعلى نحو ما هو في بيت حافظ إبراهيم:

         إيهِ يا دنيا اعْبَسي أو فابْسِمي  *** لا أرى برقَك إلا خُـلَّـبا

ولنبقَ في النهاية في حضرة الزبد والعَدْو ما بين الماء والغيمة والغيمة والماء؛ مما يعني استحالة الإمساك بأي منهما على الرغم من جمال كل منهما، على نحو يجعله ’’كالقابض على الماء خانته فروج الأصابع‘‘، لتتأكد رحلة الفقد المتصلة مع جملة الختام ’’ومُذ خرجتُ من بلادي.. لم أَعُدْ!‘‘ بقدر ما يتأكد حلم العودة الذي لا يتحقق. ناهينا بالطبع عن دلالة اختيار القطا تحديدًا كطائر، وكونه طائرًا من الطيور المهاجرة؛ بما يحيلنا على إمكانية التماثل بينه وبين تلك الذات المُرتحِلة المُهاجِرة عن ذاتها الأولى، ورغبتها المُحبَطة دومًا، على نحو ما يتجلى في العديد من القصائد الأخرى، من فشل في اصطياد تلك الذات أو إطلاقها؛ إذ تبدو أيضًا في قصيدة ’’القيامة والطفل الضائع‘‘ ضائعة وممزقة وشريدة ومرتحلة في عمر آخر ليس هو عمرها، مُتنقِّلة من صقيع إلى صقيع ’’وأظلُّ أهربُ، ضائعًا بين القطارات التي مدَّتْ على جسدي الحديدَ، ومزَّقتْنِي في المدائنِ، راحلاً في غيرِ عُمري، ناقلاً في كل يومٍ جذريَ العريانَ من ثلجٍ إلى ثلجٍ‘‘ من خلال هذه الاستعارة النباتية المُركَّبة التي يتماهى فيها مع هذا النبات الذي قمع حديد القطارات جذوره من البزوغ وظل يبحث لنفسه عن تربة يمكنه النماء فيها؛ فلا يجد سوى الثلج الذي لا يسلمه إلا لثلج سواه، لتظل تلك الذات دائرة في هذا الفلك الجهنمي من الضياع والفقد والسقوط عبر المدن المختلفة. ومع طلل الوقت نصبح أمام مجلى الفقد المطلق؛ ذلك أنه إذا كان يمكن إعادة بناء الأطلال المكانية، وإعادتها إلى سيرتها الأولى وعودة أو إعادة من هجروها وارتحلوا عنها إليها ليقطونها مجددًا، فإنه من المستحيل استعادة الزمن الذي لا يمكن له قط أن يمنح سوى الطلل.

وأخيرًا، يمكن القول إن كل هذ الحضور لتيمة الفقد في نصوص حجازي، وإن كان يمكن أن يُفضي إلى المرارة والأسى والغضب؛ فإنه لا يفضي قط إلى العدمية أو اليأس، وإنما يفضي إلى محاولة مواجهة ومقاومة الفقد عبر أفعال التذكر التي لا تكف ولا تتوانى عن الظهور والمعاودة، والاستضافة الدائمة لصور وأشباح المفقودين، ومن هنا سر كل هذا الكم من الرثاء والمرثيات في نصوصه، التي تنحو بالرثاء منحى مغايرًا للمنحى المناسباتي التقليدي لشخوص بعض الموتى، ليصبح لديه تطويبًا لقيم ومعانٍ يُراد اغتيالها، ويُراد لها السقوط والغياب والفناء والفقد، وبهذا المعنى يمكن القول إن نصوص حجازي تنسخ الفقد وتقاوم الفقد من خلال اللعب على تيمة الفقد ذاتها.