يكشف لنا الناقد المغربي المرموق في هذه الدراسة عن إضافات صوت نقدي عربي جديد، هو الناقد البحريني نادر كاظم، ويتناول عمله الكبير في تفكيك الخطاب العربي ثقافيا عبر التناول العربي للسود، الأفارقة، أي ما يدعوه بالاستفراق في مواجهة الاستشراق، بالنقد والتحليل.

فك الاستفراق

صورة السود في المتخيل العربي الوسيط

يحيى بن الوليد

يظهر أنه ليس كل دراسة تشدد، وسواء على مستوى العنوان المركزي أو الفرعي، على مفهوم "الثقافة" تندرج، وبالضرورة، في دائرة "النقد الثقافي" الذي يستند إلى "أفق قرائي" مخصوص قوامه المزج المتفرد بين المعارف والمناهج. والغاية من هذا التمييز هي التأكيد على اندراج دراسة الناقد البحريني نادر كاظم "تمثيلات الآخر ـ صورة السود في المتخيل العربي الوسيط" (2004)(1) ، ضمن متصل "النقد الثقافي"، وبمعناه المنهجي والتصوري، وعلى صعيد قراءة التراث التي تهمنا في هذه الدراسة. وهو النقد الذي دشنه الناقد السعودي محمد عبد الله الغذامي بدراسته "النقد الثقافي ـ قراءة في الأنساق الثقافية العربية" (2000) التي فتحت نقاشا قل نظيره في الخطاب النقدي العربي المعاصر. ودراسة "تمثيلات الآخر"، والتي تتأطر بدورها داخل هذا المتصل، لا تخلو من "جدة" و "تميز"، بل و "إضافة" بالنظر إلى "الاسترتيجية" التي تحكمها في التعامل مع موضوع "السود" في "المتخيل" العربي الوسيط.

ولم يكن "التعالق" مع المناهج الغربية، من لسانيات وبنيوية وسيميائيات وتفكيكية وصولا إلى مناهج "ما بعد" أو "ما بعد بعد الحداثة"، وفي نماذج نقدية عربية عديدة، يخلو من "انبهار" و "توظيف براني". فقد بدا أن "الأساس"، وإلا فيما قل من محاولات نقدية، هو "المنهج" ذاته، مما أفضى إلى نوع من "الصنمية" أو "الفيتيشية" المنهجية التي بموجبها تتعطل "المعرفة" التي من المفروض إنتاجها حول الموضوع المدروس. وقد ساهم غياب "نقد النقد"، وبمعناه "المعياري الجذري" لا "الوصفي الشارح"، في تعميق هذا "الخلل الثقافي" الناجم عن سوء "تقدير" المنهج/ المناهج. وليس من شك في أننا نقصد، هنا، إلى المنهج باعتباره "تصورا" و "رؤية" لا بوصفه مجرد "أداة" أو "تمرين" أو "تطبيق ديداكتيكي".

أجل إن النقد الثقافي، وهو موضوع متشعب، لا يخلو من صلات بالمناهج سالفة الذكر، بل إنه حصيلة المناهج سالفة الذكر وفي سياق "ما بعد بعد البنيوية" (Post ـ poststructuralisme) كما يتصور دارسوه. غير أن هذا النقد ينطوي على دلالات مغايرة مقارنة مع المناهج السالفة التي ـ وبالنظر إلى ما سلف ذكره ـ لا تزيد إلا في تعميق "الفجوة" ما بين الثقافة والمجتمع، بل وتعمل على حصر النقد في دائرة "الاختصاص" التي لا تمس، وفي الأغلب الأعم، مشكلات المجتمع. فالنقد الثقافي يتيح إمكانات مغايرة للخطاب النقدي، بل ويسمح لهذا الأخير بتمظهرات "المثقف" ومن خلال العمل النقدي ذاته في علائقه معقدة الأطراف مع "الإنتاج الأدبي" وفي التباس هذا الإنتاج بما يمكن نعته بـ "القاع الاجتماعي". فهذا النقد يبدو أكثر ارتباطا بالحاضر بالنظر إلى "المسألة الثقافية" التي راحت تفرض ذاتها بقوة في سياق "سياسات الهوية" و "مشكلات التمثيل" التي يعنى بها هذا الأخير. إن النقد الثقافي، ولا سيما في الجانب المتعلق بـ "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي"، "إشكالية" و "معركة" في الوقت ذاته، وهي المعركة/ الإشكالية التي تتضاعف دلالاتها الحدية في "العالم الثالث" بالنظر لـ "البعد الثقافي" للعديد من المشاكل التي تلوي بـ "بنياته".

وتتأكد، وأكثر، أهمية النقد الثقافي، في الخطاب النقدي العربي المعاصر، على مستوى "التعالق" مع التراث الذي شغل ـ و لا يزال ـ حيزا محوريا في الفكر العربي المعاصر. ولا يبدو غريبا أن يشغل التراث هذا الحيز داخل الثقافة العربية "المغلوبة" نتيجة "اللقاء الصادم" مع "الغرب" الحداثي الكولونيالي. ولذلك يظهر التراث وكأنه جدير بأن يقدم "إجابات" قد تسهم في "إضاءة" الحاضر المأزوم، غير أن جميع هذه الإجابات لا تفارق دائرة "التأويل" أو بالأدق "صراع التأويلات" بالنظر إلى تعدد التيارات أو المجموعات القرائية داخل الفكر العربي المعاصر ككل. فمن الجلي أن التراث هو قراءاته وتأويلاته، وهي قراءات تختلف من قارئ مؤُول إلى آخر ومن مجموعة قرائية إلى أخرى بل ومن عصر قرائي إلى آخر. غير أن السؤال الذي يفرض ذاته يتصل بـ "مضامين" هذه التأويلات وبـ "الاستراتيجيات" المتبعة في بلورة إشكالاتها.

ونادر كاظم واحد من هؤلاء النقاد ـ القراء، من المُؤَِولين، الذين لا يمكن التغافل عنه في سياق دراسة المتصل القرائي "المتقطع" داخل الخطاب النقدي العربي المعاصر، بكتابه سالف الذكر الذي يعبر عن "المرحلة الثقافية التاريخية" وبالمعنى "الحفري" الفوكوي للمرحلة والذي ينص على المدد الطويلة لا القصيرة العابرة. وكتاب "تمثيلات الآخر"، ومع بعض الملاحظات التي يمكن توجيهها له كما سنرى، يندرج ضمن سلسلة الكتب التي كان لها تأثير واضح داخل الخطاب النقدي العربي المعاصر شأن كتاب "جدلية الخفاء والتجلي" لكمال أبو ديب (1979) و "الأدب والغرابة" لعبد الفتاح كيليطو (1982) و "المرايا المتجاورة" لجابر عصفور (1983) و "الخطيئة والتكفير" لعبد الله الغذامي (1987)... بل ويمكن إدراجه، وبالنظر إلى اتكائه على "نقد المتخيل"، كما سنرى، ضمن سلسة كتب فكرية كان لها أثرها على مستوى توجيه قراءة التراث مثل كتاب "نحن والتراث" لمحمد عابد الجابري (1980) و "التراث والتجديد" لحسن حنفي (1980) و "من أجل نقد العقل العربي الإسلامي" (وقد ترجم تحت عنوان مغاير "تاريخية الفكر العربي الإسلامي") لمحمد أركون (1984) و "مفهوم النص" لنصر حامد أبو زيد (1990) و "نقد النص" لعلي حرب (1994) ... إلخ.

وعلى الرغم من بعض "الحيف النقدي" و "الإعلامي" فقد فرضت دراسة "تمثيلات الآخر" نفسها بقوة داخل الخطاب النقدي العربي، ومرد ذلك، وكما أسلفنا، إلى "جبهة" النقد الثقافي التي استند إليها صاحب الدراسة في تدبر موضوع السود في الثقافة العربية الكلاسيكية. وهو النقد ذاته الذي خصه الدارس بكتاب لاحق "الهوية والسرد ـ مقدمات في النقد الثقافي" (2006)، وهو الكتاب الذي مهد له صاحبه بدراسته حول "الهويات بين التحبيك السردي والتشكيل الإيديولوجي" المنشورة في مجلة "نزوى" العمانية (العدد 33، يناير 2003). كتاب جدير بأن يكشف عن "انهمام" الدارس باختيار النقد الثقافي في انكبابه على دراسة "السرد" في التباسه بالتاريخ والأنثروبولوجيا والجغرافيا والسياسة. وكل ذلك في المنظور الذي لا يفارق مناط تشكل الهوية. هذا بالإضافة إلى أن كتاب "تمثيلات الآخر" مسبوق بدراسة حول "المقامات والتلقي ـ بحث في أنماط التلقي لمقامات الهمداني في النقد العربي الحديث" (2003)، دراسة تؤشر بدورها على "تورط" الدارس في "قارة التراث". فمن الجلي أن الدارس يتكئ، وفي خطابه النقدي ككل، على "مرجعية" قرينة "أطروحة" متعينة تستند إلى "نهج قرائي/ تأويلي" يحمي "مشروعه" من تلك "الوصفية" التي هي قرينة "النمطية".

وفي الحق لا خوف من قراءة التراث اعتمادا على مناهج الغرب النقدية المعاصرة، بل إنه لا يمكن "الفكاك" من هذا الأخير طالما أنه يكمن في أساس الفكر العربي ذاته كما يقول المفكر المغربي عبد الله العروي(2). وعلى مستوى آخر فالمفاهيم ذاتها، أو بالأحرى شبكة المفاهيم، هي ما يمنح القراءة بعدها "الفلسفي الاصطلاحي المعاصر"، بل ويجعل منها "حدثا" و "تدخلا" خلاقا. ومن هذه الناحية تكشف الدراسة، وبدءا من عنوانها، عن انخراطها (الواعي) في المرجعية الغربية من أجل الإسهام في "الفكر القرائي" الذي يفيد على مستوى قراءة التراث (العربي) المشروط بـ "سياق تاريخي" له "مقتضياته التداولية المخصوصة". وفي هذا الصدد فالدراسة اختارت أن تدرس موضوع "السود" وبالاستناد إلى مفاهيم مركزية تتأكد بدءا من " نص" العنوان، وهي: "التمثيل" و "الآخر" و "المتخيل"، هذا بالإضافة إلى مفهوم "الوسيط" الذي يحيل بدوره على المرجعية الغربية ذات الصلة التحقيب. وجميع هذه المفاهيم تفيد من "فلسفة الاختلاف"، بل وتندرج في سياق "ما بعد الحداثة"، ومعنى ذلك أنها تحيل على مرجعية ثرية تمتاح من معارف ومناهج ونظريات مختلفة لا يمكن الاطمئنان إليها. وقد برع الدارس، وعلى مدار أغلب لحظات أو محطات الدراسة، في اجتراح تجانس أو سياق متماسك لها، والكشف ـ بالتالي ـ عن "نجاعتها الإبستيمولوجية" في تعامله مع موضوعه.

وتجدر الملاحظة إلى أن موضوع "السود"، أو "طبقة السود"، ليس جديدا في الدراسات التراثية، ولا سيما تلك التي استندت، وفي نطاق دراسة "الثورات الاجتماعية" مثل ثورة الزنج والعبيد والقرامطة، إلى "المنظور التاريخي الماركسي" الذي هيمن في سنوات المد أو الغليان الإيديولوجي في الثقافة العربية، وعلى نحو ما نجد عند أدونيس في "الثابت والمتحول" وهادي العلوي (1932 ـ 1998) في أبحاثه المتفرقة حول "أصول التعذيب في الإسلام" وقبلهما أحمد عُلَبي في دراساته حول "نورة الزنج" ... إلخ. ودون أن نتغافل، هنا، عن بحث طه حسين المبكر "ثورتان" والمتضمن في كتابه "ألوان" (1952). وهو ذات الموضوع الذي يعالجه الناقد المصري البارز جابر عصفور، وبنوع من الإفادة غير المباشرة من "النقد الثقافي"، في نطاق ما ينعته بـ "بلاغة المقموعين" من المبدعين والمفكرين ومن الكتاب والشعراء والفلاسفة والمتصوفة ممن شملهم القمع اللاهب في التراث. وفي الحق، فالنقد الثقافي هو، وبشكل من الأشكال، امتداد لـ "النقد الماركسي" لكن يغير معناه التقليدي الفج أو الأرثوذوكسي، وهو ما يشير إليه نادر كاظم بدوره وبدءا من نص المقدمة (ص 19). إنها "ماركسية البناء الفوقي" أو "الماركسية الإنسية"(3). أو "الماركسية الغربية" كما اصطلح عليها، تلك الماركسية التي تشدد على "الثقافة" والتي صاغت أفاقها الرحبة الأعمال الإشكالية لكل من جورج لوكاتش وأنطونيو غرامشي ولويس ألتوسير ومدرسة فرانكفورت، وهذا موضوع آخر يقع خارج نطاق هذه الدراسة. وعلى الرغم من إفادة الدراسة من هذا المنحى فإن دراسته تظل، وداخل فضاء النقد الثقافي ذاته، أقرب إلى "الحفريات"، "حفريات المعرفة" كما سنلاحظ، منها إلى أي نوع معرفي آخر عدا "الأنثروبولوجيا التاريخية" أو "الثقافية" التي تنافس هذه الحفريات في أحيان.

فمن الجلي أن السود هم محور الدراسة أو بالأدق "صورة" هؤلاء في المتخيل العربي الوسيط. والمدخل لمعالجة الموضوع هو مفهوم "الآخر" أو "الآخرية" التي لا تحيد بدورها عن دلالات "الهوية" و "الاختلاف". ولا يخلو المفهوم من دلالات غربية حدية، ولا سيما من ناحية مفهوم "العقل" الذي أفضى إلى "البربرية" أو "الكارثة" (بتعبير تيودور أدورنو)(4). وغير بعيد عن هذا السياق يمكن أن نفهم ما تنعته ماري سيسيل ديفور المليح (1924 ـ 1998) بـ "موت أوروبا" الذي حصل منذ فجر العصر الكلاسيكي، وعلى وجه التحديد عندما قررت هذه الأخيرة "تجاهل الآخر". وفي هذا الإطار تتبدى، لها، أي ماري سيسيل ديفور المليح، أهمية فكر الفيلسوف إيمانويل ليفيناس (1905 ـ 1995) الذي تلمس فيه بعدا يصدع "الأنطولوجيا" و "انغلاق الكائن"، ليفانس الذي اعتنى بـ "الآخرية" و "الأخلاق" لا باعتبارها فرع من الفلسفة، بل باعتبارها "الفلسفة الأولى". عكس أنطولوجيا مارتن هايدغر (1889 ـ 1976) التي لا تخلو، وفي توجهها الباطني، ورغم نجاحها في إظهار الاتجاهات العميقة للفلسفة الغربية، من "توتاليتارية". ففكر ليفانس نجح في إصلاح الأخلاق، الأخلاق القادرة، ومن خلال "الاعتراف بالآخر"، على إنقاذنا. غير أن الاعتراف بالآخر، هنا، ليس "خلطا" أو "توحدا" به. الآخر هو "آخر"، وهو مختلف، وينبغي أن يكون على هذه الحال حتى يتحقق "التفاعل الذاتي" أو "التذويت" (Intersubjectivité). إنه الاعتراف بـ "واقع" الآخر. وتلك هي "اليقظة"، "اليقظة المجهضة" في أوروبا(5). ويبقى أن نختم، في هذه النقطة، بـ "الواقع"، "واقع الآخر"، الذي يعادل، في حالة موضوعنا، "واقع" أو "عالم الأسود" الذي تحدث عنه أحد منظري "الزنوجة" (Négritude) "شاعر إفريقيا" (والرئيس السنغالي السابق) ليوبولد سيدار سنغورLéopold Sédar Senghor (1906 ـ 2001).

وقد يكون الآخر غير مسلم أو مسلما أو غير مسلم دخل الإسلام، وقد يكون من السودان والبرصان والعميان والمعتوهين ... وغير هؤلاء ممن لم تكن الثقافة العربية الوسيطة "تعترف" بهم، ودون أن نتغافل، هنا، عن "التفاوت" الحاصل على هذا المستوى: مستوى "عدم الاعتراف". فالآخر، إذا، "متعدد"، غير أن الدارس يشدد على "صورة" السود لما تكشف عنه هذه الصورة من "استراتيجية الهيمنة" التي تحكمت في الثقافة العربية الوسيطة في تعاملها مع "الآخر". ومن هذه الناحية يتحدث عن ما ينعته، ومنذ نص المقدمة، بـ "ضخامة التمثيل" التي تكون من بين أهم الأسباب التي حفزته على "الحفر" في الموضوع. ولا يبدو غريبا أن ينطوي مثل هذا التمثيل (الضخم) على "خطاب" (ص 176) لا يخلو من "اختلاق" (ص 58) و "إساءة" (ص 450)، بل ومن "عنف" (إيديولوجي ورمزي) (ص 433) و "قوة" (مادية مباشرة)(ص 48)... إلخ. وهو ما يتأكد من خلال "شبكة" (ص 217) أو "أرشيق ضخم" من المتون والأشعار والمرويات.. جنبا إلى جنب الطب والجغرافيا والتاريخ والتنجيم... وغير ذلك من الأنواع المعرفية التي شكلت "ترسانة" (ص 15) عززت التمثيل، بل ورسخته في الثقافة/ التاريخ العربي الوسيط.

ويوجد الآخر داخل الثقافة وخارجها أو يوجد "داخلها" و "غريب" عنها في الوقت ذاته كما يقول ميشال فوكو(6)، وهو ما لا يغيب عن ذهن الدارس حين يتحدث عن الأسود "بوصفه آخر خارجيا يقبع هناك في مجاهل أفريقيا النائية، وبوصفه كذلك آخر داخليا ميزته هذه الثقافة بسواد لونه، مع أنه وُلد أو ترعرع في محيط هذه الثقافة، وارتبط برباط الدين واللغة والمظاهر الثقافية الأخرى كاللباس والعادات والتقاليد" (ص 24، وانظر 427). ومن ثم سيجد السود أنفسهم أمام ثقافة تنطوي على "آليتين" متضادتين: "آلية الدمج" و "آلية الإقصاء". وفي هذا السياق لم يكن السود يعانون من ما كان يسميه فرانز فانون، وإن في أثناء الحديث عن "الأحزاب الوطنية" في عهد الاستعمار، بـ "الفراغ الإيديولوجي" (7)، بل كانوا لا يملكون "أدوات التمثيل"، غير أن ذلك لم يمنع بعضهم من أن "يقاوموا" وعلى أرض التمثيل ذاته، بدليل أنه لا "توجد سلطة دون مقاومة" كما هو مقرر في حفريات فوكو المعرفية. وعلى الرغم من هذه المقاومة، وفي مستوياتها المتفاوتة، وعلى الرغم من "الانقطاع" الحاصل في فترة في "خطاب التمثيل"، وهو انقطاع لم يمس "التاريخ" أو "الابستيمي" إذا جازت مفاهيم ميشال فوكو(الإبستيمي الكلاسيكي للثقافة العربية الإسلامية)، فإن الحصيلة الأخيرة، أو الصورة النهائية، كانت هي "تلفيق المغايرة المضاعفة" و "اختلاق الاختلاف المركب" (ص 26). وما كان للصورة الأخيرة أن تتكرس، وفي "عالم الخطاب" و "المجتمع" معا طالما أنه "مجال" للخطاب، لولا تلك "المرجعية" أو "المرجعيات" التي ـ وبلغة الدارس ـ "نصبت هذا الأسود بوصفه الآخر القصي والمختلف كل الاختلاف عن العربي من حيث اللون والعرق ودرجة التحضر واللغة والدين وحتى الجنس النوعي، أي أنهم ليس بشرا تامين ومكتملين، إنهم في درجة وسطى بين البهائم والبشر ـ فهم نصف بشر ونصف حيوان، لهم من البشر الشكل والهيئة فقط، ولهم من الحيوان طبيعة العُجمة، والتوحش، والهمجية، وتشوه الخَلق والخُلُق، وانعدام النظام والدين واللغة وغيرها" (ص 163). وبعابرة أخرى "ليس لهم سوى وجه الإنسان" كما يقول لمَارمُولْ كرْبَخالْ في كتابه "إفريقيا"(9).

غير أن التمثيل السالف ما كان سيأخذ حجمه السلبي الفادح لولا "مركزية" الحضارة العربية و "غلبتها السياسية"، وإلى جانب حضارة الروم والفرس، في العالم الوسيط. وفي الحق لا يمكن أن نرد المشكل إلى "الغلبة الحضارية" بمفردها، فهناك "الثقافة" أيضا ورغم الالتباس الحاصل بين الطرفين وخصوصا في منظور الأنثروبولوجيا التاريخية التي سلفت الإشارة إليها قبل. فالمشكل قائم في الثقافة، أو "صوت الثقافة"، وعلى وجه التحديد في "أنساقها": "أنساقها المفترسة" إذا جازت العبارة. ويميز الدارس، وداخل التمثيل، بين تمثيل غير تخييلي وتمثيل تخييلي، هذا ولا يغيب عن ذهنه، وهو ما تقرره العلوم الإنسانية كذلك، أنه ليس هناك تعارض بين ما هو "حقيقي" وما هو "متخيل" (ص 298). ويدرس التمثيل الأول، في الباب الأول، وعبر فصلين: فصل أول يدرس فيه ما ينعته بـ "مرجعيات" المتخيل التي يحصرها في التاريخ والأنساق الثقافية (الدين واللغة والرمز)، وفصل ثان يدرس فيه "محتويات المتخيل الثقافي غير التخييلي" وعلى نحو ما هو متضمن في متون كانت وراء "تنميط" صورة السود في المتخيل العربي الوسيط. ويخصص الباب الثاني للتمثيل التخييلي ومن خلال ما ينعته بـ "الإنتاج الأدبي" في نوعيه البارزين السرد والشعر: ويدرس في الفصل الثالث المرويات الشعبية "سيرة بني هلال" و "سيرة الأميرة ذات الهمة" و "سيرة عنترة بن شداد" و "سيرة سيف بن دي يزن" و "ألف ليلة وليلة"، فيما خصص الفصل الرابع (والأخير) للشعر من خلال ما أسماه بـ "التمثيل" الذي مثله ابن الرومي بقصيدته التي نظمها في إثر "ثورة الزنج" و "خراب البصرة" والمتنبي في "كافورياته المتقلبة" موازاة مع ما ينعته بـ "التمثيل المضاد" الذي مثله عنترة بن شداد (أشهر "شاعر أسود" في العالم العربي الوسيط أو "الأسود المضيء في الجاهلية") ونصيب بن رباح وأبو دلامة وسُحيم عبد بني الحَسْحَاس والحَيْقُطان وسُنيح وعُكيم.

وتجدر الإشارة إلى أننا لا نسعى، في هذه القراءة، إلى تلخيص الدراسة التي تقع في ما يقرب من ستمائة صفحة، بل إن عملا من هذا النوع، وفي حالة دراسة في حجم دراسة "تمثيلات الآخر"، قد يسهم في "الإساءة" إليها. إن ما يعنينا هو "الأفق القرائي" التي تنتظم في إطاره هذه الأخيرة، ذلك الأفق الذي أكسبها "فرادتها" داخل المنجز النقدي العربي المعاصر. وقبل ذلك لا بأس من الإشارة، وهو ما كنا قد ألمحنا إليه من قبل، إلى خلاصة الدراسة المتمثلة في "تواطؤ" جميع المعارف في "تحقير" السود، بل وإخراجهم من دائرة "الحضور" أو "النوع الإنساني". ولم تنخرط، في هذا "التواطؤ، النصوص ذات الدلالة "الحدية" بمفردها (وعلى افتراض أن هناك نصوص ذات دلالة حدية)، بل إنه حتى النصوص التي تتستر وراء "الجمالية" (والشعر تعيينا) انخرطت، وحتى نحافظ على اصطلاحه واصطلاح أستاذه عبد الله الغذامي، وبشكل "أخطر"(ص 432) في التواطؤ، هذا وان الدين بدوره، ورغم "سردية الوفاق" مع العبيد في صدر الإسلام، لم يسلم، وبسبب من "بعده الثقافي"، من لوثة التواطؤ. وقد بلغ الأمر، على المستوى الأخير، حد "استنطاق" أحاديث في "ذم" العبيد (ص 129)، ودون أي نوع من الاكثرات بما كان قد أقدم عليه الرسول (ص) من خطوات جديرة بأن تعكس نظرة الإسلام المتسامحة تجاه السود. غير أن "سردية الوفاق" لم تمنع "سردية العداء القديمة" من الظهور (ص 82). ويحق للدارس، وبسبب من "السند الثقافي" لـ "الأفق القرائي" للدراسة، أن يقطع بأن الإسلام كان "حاسما" على مستوى "العقيدة" لا على مستوى "الثقافة"(ص 144)، ومثل هذه المواضيع لا تزال تندرج ضمن ما ينعته محمد أركون بـ "اللامفكر فيه".

وسيرا على ما نعتناه بـ "الأفق القرائي" للدراسة فإن أول ما يلفت النظر هم "السود" محور الدراسة. ومن هذه الناحية، وفي مستوى أول، فالدراسة تقرن السودان بـ "الأحباش" تارة (وهي الحالة الغالبة وخصوصا في الباب الأول، وهو ما يفرضه منطق التاريخ كذلك) وبـ "الزنوج" تارة أخرى وبـ "العبيد" تارة ثالثة وإن في مواضع محدودة. وفي مستوى ثان نجد الدراسة تميز بين الأطراف، وهو تمييز كانت تفرضه بعض المواقف كما في تفسير بعض الأحاديث، بقول الدارس: "وهكذا فإن مدح السودان لا يكون إلا مخصصا في "الأحباش"، كما أن ذمهم لا يكون إلا مخصصا في "الزنج". ولقد وجد بعض العلماء في هذا التمييز بين أجناس السودان من أحباش وزنوج مخرجا من التعارض الحاصل في الأحاديث التي رويت في شأن السدوان والأحباش" (ص 87). وفي مستوى ثالث تصل الدراسة بين جميع الأطراف وداخل الدائرة نفسها، ومن ثم يغدو الأسود "الزنجي والحبشي والعبيد" (ص 427). المؤكد أنه لا يمكن أن نلزم الدراسة بالتدقيق في "فروق" تفارق "أفقها"، لكن ألا يمكن أن نتساءل، وإن في حال واحدة فقط، هل كان "العبيد" دائما من "السود" فقط؟ وألم يكن يندرج تحت التسمية ذاتها غير السود من "الأرقاء" و "المماليك"؟ وألم تكن هذه التعابير هي الشائعة في المصادر القديمة كما يذكرنا أحمد علبي (وقد سلفت الإشارة إليه) في كتابه "ثورة العبيد في الإسلام"(10). وحاصل القول، هنا، إن السود، في الدراسة، ومن جوانب عديدة، "مفهوم عام".

وقبل أن ننتقل إلى الملحوظة المتعلقة بـ "المنهج" لا بأس من أن نشير إلى رغبة الدارس (غير المعلنة) في تقديم "نظرة متكاملة" عن السود في المتخيل العربي الوسيط، وهو ما جعل الدراسة في حجم قل نظيره بين الدراسات المعاصرة التي تعنى بمعضلة التراث في الثقافة العربية المعاصرة. ومن هذه الناحية أتصور أن الدراسة كان بإمكانها أن تكون في حجم قد يقل أو يزيد عن الحجم الذي انتهى إليه صاحبها، ودراسة من هذا النوع ليس من شك في أنها "مشروع" (مشروع "عمر أكاديمي" بأكمله). وفي هذا السياق فقد استندت الدراسة إلى "مخطط واضح" أفضى بها ـ وعلى مستوى "الخلاصات" ـ إلى "تصورات" لا يمكن دحضها بـ "صورة" أو "شكل منهجي"، لولا "ذبابة" التكرار التي حطت في أكثر من موضع من مواضع الكتاب. وعلى الرغم من الرغبة في الإحاطة بالموضوع في جوانبه المتعددة فإن الدارس قلص من حجم "ثورة الزنج"، بل إنه لم يطبق عليها النقد الثقافي الذي قطع على نفسه الالتزام به على مدار الدراسة. أجل إنه يقدر أهداف هذه الثورة الإنسانية النبيلة، وسعيها إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتحرير العبيد، وبالقدر نفسه يتحدث عن "التحريف" الذي طال جوهرها (ص 458) ... غير أنه بدوره سقط في "بعدها السياسي" و "الاجتماعي". ومن هذه الناحية ألم يكن بإمكان الدارس أن يلتفت إلى قائد هذه الثورة علي بن محمد وهو غير الشاعر علي بن محمد الحِماني؟ وألم يكن القائد الأول بدوره شاعرا تميز شعره بالهجاء والظرف؟ وألم يكن بالإمكان إدراجه في "التمثيل المضاد"؟.

وعلى مستوى آخر يبدو "المنهج" بارزا على مدار الدراسة عدا في بعض المواضع ـ وهي معدودة جدا ـ التي تنحرف بـ "القراءة" من "التحليل" إلى "الإخبار" لكي لا نقول "الانطباع". والمنهج، هنا، وهو ما كنا قد اشرنا إليه من قبل، "خطاب" يندغم في العمل النقدي ذاته في مقولاته الذهنية ومستوياته التصورية. ومن الجلي أن منهج "تمثيلات الآخر" قوامه استراتيجية ما يمكن نعته بـ "استراتيجية الصوغ" أو "البناء": بناء الموضوع، وكل ذلك بالاستناد إلى "المفاهيم" أو "شبكة المفاهيم" التي تحمي العمل (النقدي) من "شقشقة الكلام" إذا جازت عبارة عبد اله العروي. وهي استراتيجية لا تخلو من نجاعة مقارنة مع الانطلاق من المنهج باعتباره شكلا جاهزا يستبق "فعل القراءة" ذاته وعلائق هذه الأخيرة التفاعلية أو التأثرية مع الموضوع. ويتكئ الدارس، وبدافع من "الضبط المفهومي" و "الإنتاج المعرفي"،على ترسانة من الأسماء أهمها إدوار سعيد وميشال فوكو وكيفورد غيرتس وجلبير دوران وتودوروف ورايموند ويلياميز وبول ريكور وفالتر بنيامين (وإن في موضعين) ولويس ألتوسير وغريماس وليتش ... ومن هذه الناحية فهو يجاور بينها وفي سياق أوسع يسعى فيه إلى أن يجاور بين معارف ومناهج ونظريات تتحدر منها الأسماء السالفة كالتاريخ والأنثروبولوجيا واللسانتيات والسيميائيات ومدرسة فرانكفورت والتاريخانية الجديدة وحفريات المعرفة وخطاب ما بعد الاستعمار .. وكل ذلك في منظور "النقد الثقافي" باعتباره "توليفا" (Bricolage) لكي لا نقول "ترقيعا" كما في بعض الترجمات القدحية، توليفا جديرا بالكشف عن ثراء التراث وثراء القراءة في الوقت ذاته.

غير أن "الانفتاح" على "مناهج الغرب"، أو بالأحرى "التقيد" به، وهو تقيد لا فكاك منه، لم يجعل الدارس يتعامى عن المرجعية العربية المعاصرة التي جعلته يكشف عن "جزيرته" التي يشغلها نقاد في مقدمهم عبد الله الغذامي الذي خص الدراسة بمقدمة "حيية" و "مؤازرة" رغم "نبرة" النقد التي مهد بها. وكما سلفت الإشارة فقد أثار كتاب هذا الأخير "النقد الثقافي" نقاشا واسعا في الثقافة العربية حتى وإن لم يرق إلى "الضجة" التي كان قد أثارها كتابه الأول "الخطيئة والتكفير" (1985) الذي أنجزت حوله خمسة كتب موازاة مع ما يقرب من مائتين مقالة كما أحصى الغذاني نفسه. غير أن دراسة "تمثيلات الآخر"، ومقارنة مع "النقد الثقافي"، تبقى، في تصورنا، أكثر انتظاما داخل فضاء "النقد الثقافي". فالقراءة التي تنتظم دراسة الغذامي موغلة في "التأويل المفرط" حتى نميز بين هذا التأويل ونوع آخر من التأويل (غير المفرط) الذي لا يسلم منه النقد الثقافي بل والخطاب النقدي عامة في "حضوره المستقل". هذا بالإضافة إلى أن دراسة الغذامي لم تسلم من تأثير "التفكيكية" أو "التشريحية" كما يترجمها الغذامي، وهي التي دشن بها هذا الأخير مساره النقدي المتميز. ولا تبرز التفكيكية (العدمية لا "الإيجابية" التي تتحدث عنها غياتري سبيفاك)، في دراسة الغذامي، من ناحية الإصرار على "نفي المركزية" و "كشف التناقضات" فقط، بل ومن خلال نبرة "زرع الشك" (القوية) التي تطبع القراءة من أولها إلى آخرها، مما يعطى نوعا من الانطباع بأننا بإزاء "نزوع" نحو "هدم التراث"(11). وخلاصة القول، في هذه النقطة، إن التفكيكية لا تزال، ومن ناحية صلتها بالنقد الثقافي، أو إمكانية انتظامها في فضائه، موضع شك وتساؤل، وهو ما يشير إليه نادر كاظم بدوره (ص 293). ومصدر هذا التساؤل هو مفهوم "التمثيل" (Représentation) الذي يبدو مفهوما "قاعديا" في النقد الثقافي، وهو ما تشكك فيه التفكيكية.

غير أن الجزيرة سالفة الذكر لا يشغلها عبد الله الغذامي فقط فثمة دارسة القص الشعبي نبيلة إبراهيم وعبد الله إبراهيم جنبا إلى جنب أسماء أخرى أفاد منها الدارس في غضون الدراسة. وفي هذا السياق تجدر الملاحظة إلى كثرة المراجع التي اعتمدها، وهي كثرة كانت، وفي أحيان، تغطي على "صوته"، هذا الرغم من "منطق التشغيل" أو "المحاورة" التي تبدو في تعامله مع مراجعة الكثيرة. وكما أن الدراسة لم تتقوقع في دائرة المرجعية النقدية العربية المعاصرة، وإنما انفتحت على المصنفات التراثية، وفي مقدمها المصنف الخلدوني وإن في مواضع محدودة كما في أثناء دراسة موضوع "الهوية" الذي يعادل مفهوم "النسب" عند ابن خلدون، وهي محاولة تندرج في نطاق "نمط قرائي" ("سالب") قرين "عصرنة التراث" التي لم تستأثر بـ "الأفق القرائي" للدراسة، ولا سيما في المنظور الذي يفضي إلى إغراق القراءة في "المقابلات" التي لا تحيد عن دائرة "التوتر" الذي تؤججه "الثقافة المغلوبة".

سلفت الإشارة إلى أن "النقد الثقافي" "جماع" أو "توليف" معارف ومناهج ونظريات، وهو ما يبدو جليا في دراسة نادر كاظم. إلا أن ما يلفت الانتباه، في هذه الأخيرة، وعلاوة على منحاها "الحفري"، هو "خطاب ما بعد الاستعمار" الذي أفاد منه الدارس بل وأكد أهميته منذ نص المقدمة التي بسط في جانب كبير منها "اختياراته المنهجية". وسيكون من السذاجة ادعاء تقديم هذا الخطاب وفي هذا الحيز الضيق، غير أن ذلك لا يحول دون التأكيد على "جاذبية" هذا الخطاب بالنسبة لأبناء "العالم الثالث" الذين يسهمون بدورهم ـ وبنسبة عالية ـ في صياغة أساسه النظري والتطبيقي داخل الغرب ذاته. ويصل هذا الخطاب، وبشكل لا سابق له، بين "الإمبريالية" و "الثقافة". فهذه الأخيرة، وخصوصا من ناحية "الاستشراق"، أسهمت، وعن طريق "تخييل" الآخر و "قولبته، في تكريس "الظاهرة الاستعمارية". وعادة ما يؤرخ لهذا الخطاب، وإن كانت له جذور سابقة، بكتاب إدوار سعيد الإشكالي "الاستشراق" (1978) الذي شكل "ثورة إبستيمولوجية" في مجال الدراسات الاستشراقية، بل وكان وراء ظهور حقل "خطاب ما بعد الاستعمار".

فالاستعمار ليس "ظاهرة حديثة"، وإنما هو "ظاهرة قديمة"، بل إنه يكمن في عمق "استرسال التاريخ" إذا جازت عبارة عبد الله العروي(12). ومن ثم فتمثيل السود، وقولبتهم وتنميطهم، بل و "إحداثهم"، عمل لا يخلو من دلالات "الاستعمار" أو من دلالات "الاستعمال الكولونيالي". وهي الفكرة التي يشرحها فرانز فانون، وإن بأثر طردي لا عكسي، في كتابه الصادم "معذبو الأرض" (1961)، وعلى وجه التحديد في نطاق حديثه عن السنوات الأولى التي أعقبت "الاستقلالات الإسمية" في القارة الإفريقية. لقد كانت هذه السنوات كفيلة بترسيخ التمييز بين "إفريقيا البيضاء" الموصولة بالثقافة الأوروبية و "إفريقيا السوداء" المتوحشة والعنيفة وغير المتحضرة. وهي صورة غربية في الأساس، وقد أسهمت "البورجوازية الوطنية الفتية" في تكريسها(13). فتعامل الثقافة العربية الإسلامية الوسيطة مع "الآخر" (السود تخصيصا) يندرج ضمن تقاليد استعمارية تندرج بدورها في المتصل الذي حكم موقف الغزاة الإسبان من الهنود الأمريكيين وموقف الغرب "الاستشراقي" و "الاستعماري" من الشرق وموقف اليابان "الاستعمارية" من كوريا .. كما يقول الدارس (ص437).

ولا تتضح إفادة الدارس من "خطاب ما بعد الاستعمار" من ناحية "القراءة الطباقية" التي أشار إليها في أكثر من موضع (ص28، 451) والتي وظفها في نطاق دراسة "التمثيل" و "التمثيل المضاد"، وهي القراءة التي تبدو بارزة في "التلقي العربي" لهذا الخطاب. لقد تجاوزها إلى ذلك "الوصل" الفريد الذي أقامه بين "الاستشراق" و "الاستفراق" (Africanisme). ومن هذه الناحية إذا كان "الاستشراق" قد ارتبط بـ "الظاهرة الاستعمارية"، وهو ما شرحه بتفصيل إدوار سعيد في كتابه السابق، فإن "الاستفراق" ارتبط بـ "الغلبة الحضارية". يقول الدارس هنا: "وفي سياق هذه الغلبة ترعرع ما يمكن أن نسميه هنا خطاب "الاستفراق" (Africanism) العربي، أي هذا التمثيل العربي للسودان، وهذا الاهتمام العربي المحموم بالتعرف على أجناس السودان والزنوج الأفارقة وثقافاتهم المتنوعة، وذلك على غرار الاستشراق في علاقته بالشرق". وعلى الرغم، كما يضيف، من أن "الاستفراق" العربي "لا يبلغ في خطورته مبلغ الاستشراق من الناحية السياسية والاقتصادية والمؤسساتية، فإنه، كالاستشراق، خطابا تمتزج فيه "إرادة القوة" السياسية الحضارية(...) بـ "إرادة المعرفة" والبحث والرغبة في الاستكشاف، كما أن كلا من الاستشراق و "الاستفراق" كان يمارس عملية تمثيل نشطة وعنيفة لآخر خارجي مختلف عنه دينيا وثقافيا ولغويا وحضاريا"(ص 45). بل إن ما سلف تجاوز ما تسميه "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" بـ "الحرب الثقافية" إلى "الإبادة الثقافية" التي يشير إليها الدارس أيضا (ص 209).

وعلى مستوى آخر ثمة صلة تصل ما بين التمثيلات والمتخيل، بل ويمكن الحديث عن نوع من "الصلة معقدة الأطراف" التي تصل ما بين الطرفين. غير أن ما سلف لا يحول دون القول، ومع الدارس نفسه، بأن التمثيلات مصدرها المتخيل أو أن المتخيل هو الذي كان وراء "تشكلها" حتى نحافظ على مفاهيم "حفريات المعرفة". وحتى إن كان الدارس لا يتغافل عن أن المتخيل يتشكل بدوره بواسطة التمثيل (ص 39) فإن ذلك لا يحول دون إشارته إلى "خطورة المتخيل" (ص 29)، بل إن الأمر يتجاوز الإشارة إلى مجال "الأطروحة" الناظمة للدراسة. وغاية القول، هنا، إن "نقد المتخيل" يضع الدراسة بجوار مشاريع فكرية ذات صلة بـ "نقد العقل" الذي يبدو أكثر استجابة لأسئلة الحاضر اللاهبة. ولا نقصد، هنا، إلى "نقد العقل" في المنظور الذي يفصل ما بين "التحليل الإبستيمولوجي" و "التحليل الأنثروبولوجي" على نحو ما فعل، وعلى سيبل التمثيل، محمد عابد الجابري في مشرعه المعمد بـ "نقد العقل العربي" (أربعة أجزاء). فالطريقة التي ينهجها الجابري هي ما جاءت "حفريات المعرفة" لتعيد النظر فيه، لقد "أقصى" هذا الأخير ـ ونتيجة اختياره المنهجي الصارم ـ ما يقع "وراء العقل" أو "اللاعقل". وفي هذا السياق يمكن أن نفهم تشديد فوكو على مواضيع كـ "الجنون" و "السجن" و "الجنس"، أي تلك المواضيع التي تقع في دائرة "الهامش" ("الهامش غير الأعمى" كما ينعته عبد الكبير الخطيبي).

والغاية مما سلف هي أن نشير إلى أن "تمثيلات الآخر" تبدو أقرب إلى مشروع محمد أركون منها إلى مشروع الجابري، أركون الذي شدد على ما نعته بـ "رطوبة الخيال" في نطاق دراسة "المستويات الخطابية" لـ "العقل العربي". وعلى ذكر الخطاب فمفهوم "المتخيل" (الجماعي) (L Imaginaire social)، عند نادر كاظم، يرادف، ومن جوانب كثيرة، مفهوم "الخطاب" (Discours) بمعناه "الحفري". فالخطاب يستبعد التمييز بين الأنواع المعرفية وبالقدر نفسه يستبعد التمييز بين "الحقيقي" والتخييلي"، إضافة إلى أنه يكشف عن "تمفصل" المعرفة والسلطة... إلخ. والدراسة بدورها لا تحيد عن هذا الإطار، غير أنها لا تبحث في "الإنسية العربية الوسيطة" ولا في "الإسلام الكلاسيكي" الذي لا يقارن بـ "الإسلام الأصولي المعاصر" (الشاحب) وغير ذلك من المواضيع التي تشغل "عقل" أركون. ما يهم دارسنا هو "مستويات الإساءة" التي طالت "التمثيل": تمثيل السود في "المتخيل"/ "الخطاب" العربي الوسيط. ومن هذه الناحية يمكن إدراج الدراسة ضمن "العقل السردي" (La Raison Narrative) الذي تحدث عنه جون بيير فاي في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه. غير أن "السرد"، هنا، بمعناه المبلور في "النقد الثقافي"، أي السرد من حيث التباسه بـ "الثقافة" ذاتها، وكل ذلك في المنظور الذي لا يحيد عن دلالات "الهوية"، ومن ثم منشأ كتابه "السرد والهوية" الذي اشرنا إليه من قبل.

وعلى هذا المستوى الأخير، مستوى الهوية، لا يبدو الدارس متقوقعا في "فخ الهوية" أو "الهوية الكبسولية". لقد ثقف عن "جده الثقافي" ابن خلدون أن "النسب أمر وهمي" (ص68). ومن ثم يمكن أن نفهم تشديده على "الهويات المتحولة" (ص61)، بل إن هذه الهوية تقع في أساس "الأطروحة" الناظمة للدراسة. غير أن "التحول"، وكما يمكن أن نضيف، لا يفيد البتة "انتفاء الثوابت"، ويظهر أن الفيلسوف والباحث فالتر بنيامين لخص، وبطريقته الشذرية الثاقبة، الفكرة ذاتها حين أشار، وفي نطاق تقريب مفهوم الهوية، إلى أن "أ" هو "أ" غير أن هذا لا بعني أن "أ" سيظل "أ"(14). ومن ثم "منطق التحول" سالف الذكر، لكن داخل الحيز الذي يشغل ما بين "أ" و "أ"، لا داخل "العدم" الذي عادة ما يتيه فيه المتفلسفة من العرب.

"تمثيلات الآخر" ليس مجرد "سياحة ثقافية" في التراث ولا في نظريات "تحليل الخطاب" ، وإنما هو، وإلى جانب ذلك، أو قبل ذلك، "مشروع" يتأكد، وأول ما يتأكد، من خلال المفهوم/ المحور المتمثل بـ "السود" الذي هو، وعلاوة على كونه "تمثيلات جماعية"، "مقولة فكرية"، غير أن هذه المقولة، وحتى نتلافي "سند الحكم" أو "الأحكام" التي تلازم الفكر وتثقله، تبدو متأطرة داخل سياق "النقد" بمعناه المبلور في "فلسفة الاختلاف" في دعوتها إلى "وحدة النوع الإنساني" لكن في المنظور الذي لا يستبعد دلالات "التنوع الإنساني" (الخلاق). ولقد اختار الدارس معالجة الموضوع، وكما لاحظنا، من خلال "قارة التراث". فلا "قطيعة" مع التراث، لكن شريطة الوعي بـ "طبقاته المعرفية" و "مستنداته التصورية"... حتى يتم إشراكه، وبشكل "نقدي" لا "ثبوتي جوهراني، في "خطاب" الثقافة العربية المعاصرة في سعيها للتصدي لأشكال "البربرية" أو "الاستئصال" التي لا تزال تطال الإنسان والعالم أو "الكلمات والأشياء" إذا جاز عنوان ميشال فوكو. لا بد من قرون من أجل "أنسنة" العالم الذي تم جعله "حيوانيا" من قبل القوى الإمبريالية كما يقول فرانز فانون في "معذبو الأرض"(15). قرون وقرون مرت، لكن دون أن تنزع الثقافة العربية الإسلامية هذه "الحيوانية" عن "السود". و "تمثيلات الآخر" هي، وبشكل من الأشكال، وبـ "نزوعها الإنساني الهادئ"، إحدى "العلامات" الجادة على طريق "فك الاستفراق"/ "الاستعمار". 

ناقد وباحث من المغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ نادر كاظم: تمثيلات الآخر ـ صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004. وتجدر الإشارة إلى أننا سنحيل على صفحات الدراسة داخل المتن تلافيا لإثقال هذه القراءة بالإحالات.
(2) ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1995، ص 93.
(3) ـ للتوسع في هذا الموضوع ينظر: عبد الله العروي: العرب والفكر والتاريخي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 1985.
(4) ـ ينظر مقال تيودور أدورنو "نقد الثقافة والحضارة" الذي كتبه على خلفية "النازية" في ألمانيا، ويعد هذا المقال أحد النصوص الممهدة لـ "النقد الثقافي"، ويمكن الاطلاع عليه في:
Theodor Wiesengrund Adorno: Prismes: critique de la culture et société, trad. de l'allemand par Geneviève et Rainer Rochlitz, Paris, Payot, 2003.
(5) ـ ينظر: يحيى بن الوليد: الكتابة الأليغورية ـ فجر البدايات وخيبة الفلسفة الأوروبية/ مجلة "فكر ونقد" (المغرب)، العدد 26، 2000، ص 29 ـ 36.
(6) ـ Michel Foucault: Les Mots Et Les Choses, Gallimard, Paris, 1966, P 15.
(7) ـ Franz Fanon: Les Damnés De La Terre, Gallimard, 1991, P 162.
(8) ـ Michel Foucault: Les Mots Et Les Choses, P 64, P68.
(9) ـ مارمول كربخال: إفريقيا، الجزء الأول، ترجمة محمد حجي وآخرون، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، 1984، ص 51.
(10) ـ أحمد علبي: ثورة العبيد في الإسلام، دار الآداب، بيروت، 1985، ص 175.
(11) ـ يحيى بن الوليد: ملاحظات حول النقد الثقافي عند عبد الله الغذامي/ مجلة "علامات"، النادي الثقافي، جدة، المجلد 14، الجزء 55، 2005.
(12) ـ A. Laroui: Esquisses Historiques, Centre Cultural Arabe, 1993, P 162.
(13) ـ Franz Fanon: Les Damnés De La Terre, PP 203 - 205.
(14) ـ Walter Benjamin: Fragments, Trd: T.C.Jounlanne Et J.F Poirier, PUF, 2001, P 29.
(15) ـ Franz Fanon: Les Damnés De La Terre, P 135.