يتناول الكاتب وعالم الاجتماع اللبناني هنا ما فعلته المدينة في البشر، وكيف استطاعت المدن أن تصوغ المجتمع وتشكله بل تبرمج كل سلوكياته واهتماماته، بالصورة التي يكشف لنا فيها أنها وقد استأثرت بأكثر من نصف سكان العالم، أصبحت تنتج العزلة على الصعيد الفردي، والعزلات على الصعيد المجتمعي.

اجتماع المدن المتشقق .. وصناعة العزلات

بلال خبيـز

 

ما الذي تعرضه علينا المدن؟ إنها تعرض خدمات. مستوى المرء المالي ليس مهمًا. مهما كانت موارد المرء ضئيلة، فإنه سيدبر شؤون عيشه في المدينة واستئجار آخرين لخدمته. هذا يبدأ من خدمة الحافلة التي تنقله من مكان إلى آخر، ويمر بالعامل الذي يجهز له طعامه السريع في المطعم الشعبي، وينتهي بصاحب الشقة الذي يجهز له مكانًا للنوم مقابل أجر معلوم. كل هؤلاء هم خدم، وكل ما تعرضه المدينة هو خدمات. المخدوم أيضًا يخدم آخرين في مجال عمله وتحصيل عيشه. في الخلاصة كل سكان المدينة هم خدم ومتلقو خدمات في الوقت نفسه. إنما أي اجتماع تتمخض عنه حياة المدن الحديثة؟

إن الذين يعيشون في مدن متسعة ومزدحمة يعيشون بوصف كل صلاتهم مع بشر هذه المدينة محصورة بمقدمي الخدمات. سيطهو طعامك في المطعم شخص لا تعرفه ولن يتسنى لك أن تعرفه. لقد بذل كل هذا الجهد لخدمة شخص لا يعرفه، لكنه يتلقى أمواله. وعلى النحو نفسه سيدلك موظف استعلامات إلى وجهتك بلطف وكياسة بالغين. هو نفسه، ما كان يمكن أن يلتفت إليك أو يرد على سؤالك، لولا أنه مكلف بخدمة الزبائن المحتملين لقاء أجر يدفع له. وستشرح لك النادلة فوائد القهوة التي تنتجها الشركة التي توظفها بسعة صدر وصبر لا مثيل لهما، وهي تطالبك كل الوقت بأن تقبل خدمتها لك. هؤلاء جميعًا الذين تصادفهم في يومك في المدن هم في نهاية الأمر ليسوا زملاءك المواطنين، ولا أبناء طائفتك، ولا أصدقاءك، وليسوا طبعًا من الأهل والعائلة، إنهم خدم مهما بلغت مراتبهم الاجتماعية من سمو وقدراتهم المالية من وفرة واتساع.

هذه الخدمات التي تعرضها عليك المدن طوال الوقت، لا تقتصر آثارها على تسهيل العبور في دهاليزها المضاءة وتمكين المرء من الوصول إلى غاياته في هذه المتاهة التي لا تنتهي. إنها تتعدى هذا الأمر إلى ضرب أسس في الاجتماع البشري كان علماء الاجتماع يحسبون أنها خالدة لا تزول ولا تتحول. أول ما تطاوله آثار هذه الخدمات وتأثيراتها، يتصل اتصالًا مباشرًا بالعلاقات بين الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة. متاهات الخدمات التي تنشئها المدن الحديثة، تجعل كل طبقة من الطبقات تسير وتعمل وتعيش وفق نمط خطي لا يتصل من أي باب بالطبقات والفئات الاجتماعية الأخرى.

وبمعنى آخر تضرب أخلاق قسمة العمل في مقتل. فالعامل الذي يعمل في محل لبيع الألبسة الفخمة مضطر لخدمة الزبون المفترض الذي يدلف إلى داخل محله. حتى حين يكون الخادم في هذه المعادلة أعلى دخلًا وأوفر ثروة من المخدوم. علاقات الاحترام التي كانت تفرضها حيازة الثروات لم تعد قائمة على المعنى الذي كانت عليه سابقًا، وحلت محلها علاقات تهذيب ممنهج وبارد. سيبقى العامل الذي يقوم بالخدمة على هدوئه وتهذيبه أمام أسئلة الزبون الغبية أو المستفزة أو المتعالية. وفي كل الأحوال يعرف الخادم والمخدوم في هذه المعادلة، أنهما يمثلان أدوارًا قررا في هذه اللحظة بالذات تقمصها بإتقان. ولن يغير في طبيعتها واقع أن الزبون أقل ثروة ومعرفة وتهذيبا من البائع.

المجال الثاني الذي تقتحمه علاقات الخدمة هذه في الاجتماع يتصل بطبيعة السلطة التي تنشأ في كل علاقة بين شخصين. المخدوم في هذه الحالة، يريد الانتساب إلى مقدم الخدمة وليس العكس أبدًا. المخدوم الذي يقرر أن يلبس ثيابا باهظة الكلفة هو من يريد أن يدخل عالم كريستيان ديور، الذي تتحدد معالمه وحدوده حصرًا في مقرات الشركة ومتاجرها، وهذه المتاجر والمقررات هي من سيقرر في نهاية الأمر ما سيرتديه وما سيقلع عن ارتدائه. وليس مهمًا أن يكون المرء مدمنًا على ارتداء قمصان زرقاء اللون، صانعو الموضة قد يقررون هذا العام والعام الذي يليه تجنب اللون الأزرق لسبب لن يقنع أحدًا على الإطلاق، وعلى الجميع أن يقلعوا عن ارتداء الأزرق لأنه لا يتناسب مع الدرجة الشائعة اليوم، ولأن صانعي الموضة استثنوا هذا اللون من خياراتهم، وعلى المستهلك أن يستثنيه من خياراته هو أيضًا.

كذلك لن يذهب المخدوم إلى مطعم ويطلب أن يأكل ما يجيد طبخه في بيته. سينتقي من المعروض عليه، وهو محدود دائمًا، ما يظن أنه لن يجعله يندم على خياره هذا. في المقهى سيسألك النادل أسئلة كثيرة، وهو يعرف وصاحب المقهى يعرف أن كل هذه الخيارات التي يعرضها عليك مجهولة تمامًا بالنسبة لك، لكنه يريد موافقتك على إضافة معجون الفطر إلى قهوتك. وما عليك إلا أن ترفض ليبادرك بالسؤال التالي، الذي سيكون أيضًا خارج مداركك ومعارفك. وعليك أن تقرر إذا كنت مستعدًا لإنفاق بعض أموالك وخوض هذه المغامرة التي لا تعرف عواقبها، أو الالتزام بما تعرفه وتتقنه وتألف إليه. نظام الخدمات المدني، يضرب والحال هذه، فكرتك عن المعرفة. ما أنت ملزم بمعرفته في هذا النظام لا يتعدى اللغة التي لفظت فيها تعابيره، أما ما تعرفه وتدركه وتختبره فهو الذي تألفه والذي تبدي استعدادك لإعطائه فرصة أن يصير أليفًا.

مع ذلك ما زلنا في المدن ما زلنا نقيم صلات مع أصدقاء، وننشئ علاقات حب وزواج من بين أهلها وسكانها. لكن نظرة مدققة لطبيعة هذه العلاقات تجعلنا نشك في أننا نعيش في مدن متسعة أصلا. ذلك أن ما يحدد طبيعة الحي الذي تسكنه في المدينة ليس سوى مستواك المالي، وقدرتك على تحمل تكاليفه. يعمل المرء مع زملاء يتقاضون الرواتب نفسها التي يتقاضاها هو نفسه، وتاليا، فإنهم يسكنون في أحياء يسكن فيها من يتمتعون بالامتيازات نفسها التي يتيحها للمرء حجم راتبه. وعلى مر الأيام والسنين، يتحول المرء من مقيم في مدينة كبيرة، يحسب أنه حر في اختياراته فيها، إلى مقيم في حي يشبه الحي الذي يقيم فيه زميله في العمل، ويحدث أن يؤدي هذا التشابه والضيق في مناطق السكن إلى جعل أحياء أخرى كثيرة في المدينة خارج مداركنا وخارج قدرتنا على تبين معالمها. أحياء الأقل دخلًا هي أحياء مجهولة بالنسبة لنا، وأحياء الأعلى دخلًا هي أحياء يحوطها ألف سور وسور.

هكذا نطرد من مداركنا مساحات شاسعة من المدينة لأنها لا تتوافق مع قدراتنا المالية، سلبًا وإيجابًا، صعودًا وهبوطًا. ومع مرور الوقت تصبح المدارس التي تتواجد في الحي الذي تعيش فيه مناسبة من حيث مستوياتها لمستوى الدخل الذي تحصله، فتسوء مدارس الأحياء الأفقر وتمتاز مدارس الأحياء الأغنى، وهذا أيضًا ينسحب على الطرقات والخدمات العامة وحجم الحيز الفردي المتاح لكل شخص، ووفرة الأماكن المشتركة. في الخلاصة يتحول سكان المدينة إلى شعوب لا تتصل في ما بينها إلا من طريق تقديم الخدمات وتلقيها، في حين أنها في السائر والدائم ومن أيامها لا تقيم أي صلة بمن يختلفون عنها في دخلهم ووظائفهم.

ما تقدّم يحاول تبيان أن التقسيمات الاجتماعية التي حفلت بها فلسفة القرن العشرين، وتحددت على أساسها سياسات ونشأت أحزاب وبنيت دول، لم تعد قائمة فعليًا. وعلى المقلب الآخر فإن المدن الحديثة دمرت كل معالم الاجتماع الأهلي، وغالبًا ما تكون محاولة العودة إلى أطره المتكاتفة والمتكافلة بمثابة نكوص عن المعاصرة ودخول في مجهول العالم وعتمته. والحال لقد جعلتنا المدن أعضاء في أحزاب ضيقة الأفق، إلى حد أن معظم أحاديثنا التي نتسامر عبرها مع أقراننا لم تعد تتعدى الحديث عن ظروف العمل في الشركة التي نعمل فيها مع أصدقائنا، أو محاولة نسيانها، بسبب كلفتها الباهظة التي ندفعها من أعصابنا وأوقات راحتنا.

الاجتماع في المدن الحديثة، ضيق إلى حد خانق. لكن الإعلان الذي لا تكف هذه المدن عن مطالعتنا به وتكراره على أنظارنا وأسماعنا، وتحاول إقناعنا به، لا يكف عن ادعاء أن المدن عامرة بالمصادفات الرائعة إلى حد أن كل من يعيش فيها سيكون مؤهلًا لمثل هذه المصادفات. ويصر الإعلان نفسه دائمًا على تأكيد حريتنا وتعدد خياراتنا على نحو لا حدود له، مع أن المطعم الذي نتناول طعامنا فيه لا يملك أكثر من بضعة خيارات يعرضها علينا. لكنه ومن أجل التحايل على هذا الفقر المدقع في الخيارات، يقصفنا بأسئلة لا تحصى تتعلق بأمزجتنا وتفضيلاتنا في الأكل، ليوهمنا أننا نقرر شؤوننا بأنفسنا حقًا. في وقت يبدو أننا فقدنا القدرة على التقرير في أي شيء، حتى في ما نقرر أن نرتديه من ثيابنا الداخلية.  

ورغم أن كل ما تقدم مما يفترض أننا ندركه ونحدس به، إلا أن ما يتناقص رويدًا رويدًا هو الكلام. الكلام المشترك بين المواطنين والمفاهيم التي نتواطأ عليها جميعًا. وها نحن نتحوّل إلى فئات مغلقة وضيقة الآفاق، تدور في دوائر مغلقة تتعلق بطبيعة العمل الذي تعتاش منه، وتقيم علاقات الحب والزواج والصداقة والعداوة في هذا الحيّز الضيق الذي نسجن أنفسنا فيه.

في صناعة العزلات:
يفوق عدد سكان المدن عدد سكان الريف حول العالم. ومن المتوقع أن ترتفع أعداد المقيمين في المدن خلال العقدين المقبلين بنسب تفوق ارتفاع مثيلتها في الريف بأضعاف. حيث تقدّر الإحصاءات أن يصبح نحو 70 بالمئة من سكان العالم مدينيين بحلول عام 2050. المدن في المجتمعات الحديثة تجر العالم وراءها. الدول الكبرى أصبحت تعرّف بعواصمها أو مدنها الكبرى. اقتصاد العالم يصنع ويتطور وينمو في المدن. وحاجات البشر ورغباتهم وأهواؤهم وليدة اجتماعات مدينية، أكثر مما هي نتيجة احتياجات تمليها طبيعة البشر.

المدن ليست كائنات طبيعية. إنها تنحو دائما نحو أن تكون مصنوعة من ألفها إلى يائها. بل حتى الحيوانات تنحو في المدن لأن ترتفع عن طبيعتها البرية لتتحول إلى مستهلكة. وجنوح المدن هذا نحو كل ما هو مصنوع ومختلف عن طبيعته الأصلية، هو ما يجعل الإنسان المقيم فيها مغتربا عن نفسه وأصله وأقرانه. في المدن يعيش الناس بوصفهم غرباء. ثمة علاقات اجتماعية تنشأ في المدن، لكنها علاقات تدار من مسافات، تطول أو تقصر بحسب التقدم العلمي والتقني. المقيمون في باريس في السبعينيات من القرن الفائت كانوا أقرب اتصالًا ببعضهم بعضًا من المقيمين فيها اليوم. ذلك أن كل الاكتشافات التقنية والعلمية، التي تدّعي أنها تسهّل للبشر تدبير شؤون عيشهم وحيواتهم، ليست في مآلها الأخير إلا وسيلة من الوسائل التي تسمح للبشري أن يبتعد مسافة أكبر عن نظيره البشري.

يمكن تعريف الاجتماع البشري بالسعي المحموم نحو صناعة العزلات. واجتماع المدن من جهته، ورغم الاكتظاط الذي تشهده شوارعها والزحمة التي لا تفارق أحياءها، إلا أنه اجتماع يمنع فيه التلامس من أي نوع. في الأصل يجنح اجتماع المدن إلى تغييب العين كليا ومنعها من التدقيق والتعيين. كل المارة في المدن هم عابرون، ولا يفترض بنا أن نلمحهم مرة أخرى. لهذا تنشأ في المدن علاقات أشبه بالصداقات، على أرضية تكرار التقاء شخص بآخر في الحافلة أو المقهى أو مطعم الوجبات السريعة. البشري منا يريد أن يصدق أن هذه اللقاءات تحصل بالصدفة، وأن الشخص الذي يلتقيه في المقهى لمرات عديدة خلال فترة زمنية قصيرة، ليس مقيمًا في الحي الذي يقيم فيه هو نفسه، ولا تحكمه ظروف العمل نفسها بحيث لا تترك له إلا أوقات فراغ تشبه أوقات الفراغ التي تترك له وتماثلها تمامًا.

المدينة التي تشبه غابة من الناس، ليست غابة في حقيقة الأمر إنها بستان. بستان تتم العناية بأدق تفاصيله: في هذه الساعة من الصباح تبلغ الزحمة ذروتها في هذا الشارع. في هذه الساعة من ليل السبت يغص الملهى المجاور بالزبائن وتصدح الموسيقى من بين جدرانه لتبث صخبًا إلى كل أرجاء الحي. وفي هذا الوقت الميت من النهارات، يقف الجائعون صفوفًا أمام مطعم الوجبات السريعة على الناصية. كل هذه المصادفات مدبرة بدقة. وكل ما يحدث في أثنائها لا يخرج عن قيد التوقع قيد أنملة. في كل الحالات التي نعيشها في المدن الحديثة لا يبدو أننا ننعم بنعمة اتخاذ أي قرار. عليك أن تختار مما هو معروض أمامك، لا أن تختار ما تحبه وترغب فيه وتنصرف عما تبغضه.

لاحظ بيير بورديو أن المجتمعات الحديثة تفرض على الناس إقامة علاقات مع من يماثلونهم في الثروة والثقافة والتعليم والمهن. الأطباء يقترنون بطبيبات أو عاملات في القطاع الصحي، والمهندسون يقترنون بمهندسات. وينجب المهندسون مهندسين كما ينجب الأطباء أطباء. هكذا ينقسم الاجتماع بحسب بورديو إلى فئات مهنية، تتمتع كل فئة منها بالحظ نفسه من الثروة والسلطة والمجال الاجتماعي.

لكن مدن اليوم تخطت في تخصيصها هذا التصنيف. ما زال الأطباء أطباء، لكن كثرة منهم تضارب بأموالها في البورصة، وتحقق أرباحًا وخسائر قد تغنيها عن ممارسة المهنة أو قد تدفعها إلى الإفلاس التام. لكن الأطباء ليسوا كل سكان المدن. ثمة مهن لا تحصى يصعب على المرء أن يحتفظ بها طوال الوقت. مدراء الشركات قد يصبحون عاطلين عن العمل لأسباب تتعلق بحمى المنافسة، وقد يضطر بعضهم للعمل في وظائف أدنى قدرًا وأقل إنتاجية. بعض الحرفيين ينجحون في التحول إلى أرباب أعمال متسعة ومربحة، بعضهم يقضي جل وقته يتنقل من عمل إلى آخر. المسألة لا تتعلق بالمهارة بقدر ما تتعلق بموقع المدينة التي يعيش فيها المرء من الاقتصاد العام، ودورها في السياحة المحلية والعالمية، وعدد المؤسسات الكبرى التي تضمها بين أحيائها.

ولهذا يمكن أن نصادف في حانة منسية في طرف من أطراف مدينة كبيرة عازفا أمهر من مايلز ديفيس، لكنه يعرف أنه سيبقى في هذه الزاوية من المدينة ولن يستمع إلى موسيقاه إلا زوار البار الذي يعزف فيه. لهذا يعلن ريتشارد سينيت نهاية عصر المسارات المهنية، ويلاحظ أن الأميركي العادي يتنقل في المتوسط بين 12 إلى 13 وظيفة مختلفة خلال حياته المهنية، ذلك أن مهارة المرء اليوم لا تقرر له حجم الصيد الذي يمكن أن يحظى به، مثلما كان الأمر ليكون في مجتمعات الصيادين، كما أن جمال الشابة أو الشاب الفاتن لن يتيح لها أو له أن تتصدر أو يتصدر أغلفة المجلات ومساحات الشاشات.

الأمر لا يتعلق بالفرد نفسه. ثمة معوقات كثيرة تحول دون أن يكون الفرد اليوم ما يمكن أن يكون عليه وما يرغب في أن يكون عليه معًا وفي آن. لكن تحقق هذه الرغبة لا يعني أن المرء أصبح قادرًا على الاحتفاء بجسمه بوصفه آخر ما يربطه بالطبيعي والبري وغير المصنوع، بل، على الأغلب، سيتحول الجسم مع تحقق هذه الرغبات إلى صورة بحت. فالجسم الذي يستعرض أعضاءه أمامنا في المدن اليوم هو جسم مثير بوصفه صورة، لا بوصفه جسمًا. المرأة التي تعرض أجزاء من جسمها في الشارع أو المقهى أو البار تريد أن نعجب بصورة هذا الجسم لا بحقيقته. فالجسم الحقيقي الذي تملكه نادرًا ما يتقبل شراكة من أي نوع.

تبدو مدن اليوم الحديثة وكأنها تغذ خطاها نحو تحويل الكائنات المقيمة فيها إلى كائنات بلا لغات أو أجسام، والأهم، أو ما يعنينا في هذا المقال، أن المدن الحديثة تحضّنا على الاشمئزاز من أجسامنا، والتعامل مع أجسام الغير بدرجة أعلى من الاشمئزاز. نحن اليوم نتجنب المتشرّدين والمتسوّلين في المدن، لأننا لا نطيق الروائح المنبعثة من أجسامهم التي لم تكشط المستحضرات روائحها الطبيعية وملامسها. ونتجنب الخروج إلى الشارع من دون تحضير مسبق لئلا نُنبذ بسبب روائحنا أو أشكالنا غير المعتنى فيها. لكننا ورغم كل استعداداتنا لملاقاة الآخر في الشارع من دون هوية أو ما يفصح عنها، فإننا نحتمي منه، أي الآخر، بسياراتنا وهواتفنا وساعاتنا وثيابنا التي ما عادت تريد إثارة فضول الآخر ورغبته، لشد ما باتت متماثلة ومتشابهة.

وهي في تشابهها هذا إنما تريد الإيحاء للمار العابر بجانبنا أننا أيضًا اغتسلنا جيدًا قبل الخروج من البيت، وأن ساعاتنا متصلة بالإنترنت، ونحن نجيد لغات يجيدها هو نفسه. وتاليًا فليس ثمة سبب يدعوه للخوف منا. بالمقابل، ثمة أسباب تدعونا لتفحص ممتلكاته ومقتنياته لنطرد الخوف منه من نفوسنا. لكننا قطعًا، ولأننا متشابهون إلى هذا الحد، وكلنا نغتسل بالنوع نفسه من الشامبو، ونرتدي العطر نفسه الذي يرتديه الآخرون، لا نرغب في أن نقيم علاقة عميقة بأي من العابرين الذين لا يضيفون إلينا شيئًا وما عادوا قادرين على غوايتنا أو فتنتنا على أي وجه من الوجوه. حتى العلاقات المستدامة والشراكات التي نجهد لعقدها مع شركاء حياتنا لا تبدو، في ضوء الراهن من الأوضاع، أكثر من عقود مصلحة بحتة.

والأرجح أننا بتنا ننظر إلى الزواج والارتباط في العصر الحديث كعبارة عن اضطرار أيضًا، لا يحث عليه الحب، بقدر ما يحث عليه الخوف: الخوف من فقدان الوظيفة، الخوف من المرض، الخوف من العجز. ونحن في كل هذا نريد أن نعقد اتفاقًا غير مكتوب مع الشريك والأبناء يقضي بأن يعتني واحدنا بالآخر في حال عجزه أو مرضه أو بطالته.

 

عن (ضفة ثالثة)