يقدم الروائي والباحث اليمني في هذه الدراسة المهمة صورة مفزعة لمدى تخلفنا في عالم يركض لمواصلة النهوض والإنتماء للغة العصر الجديدة، بينما نحن غافلون، سد حكامنا في وجهنا بالتخلف الأفق. إنها دعوة لثورة معرفية لن ننقذ بدونها عالمنا العربي ولغتنا من التردي والهوان.

التعليمِ واللغةِ العربية في الزمن الرقمي

رؤيةٌ نقدية ومشروعُ إعادةِ بناء!

حبيب عبدالرب سروري

مدخل: نحو جَدَلٍ حول مأساة واقع التعليم العربي ولغته في الزمن الرقميّ!

هدف هذا المقال:
(1) ـ
 تفكيك بنية التعليم العربي وتسليط الضوء على قاعدته التحتية الرميمة التي تمنع نهوضه وتطوره،

(2) ـ رسم الخارطة المأساوية لخواء حضور اللغة العربية في الزمن الرقمي،

(3) ـ لفت نظر الجميع لتأخّرِها المرعب للبدءِ ببناءِ قاعدةٍ تحتيّة لحضورها على الإنترنت، في حين أكملَت معظمُ الدول بناء هذه القاعدة التي أخذَتْ عدّة عقود، قبل أن تَبدأ عصرَ الرقمنةِ ومشاريعَه المعرفيّة العملاقة،

(4) ـ إثارة جدلٍ عربيٍّ واسع حول كل هذه القضايا،

(5) ـ ضمّ أكبر مجموعة من كتّاب وباحثين ومدرّسين وطلّاب، وأصحاب قرار أيضاً (أياً كان ضعف إدراكهم للأهمية القصوى لإنقاذ اللغة العربية، أو رغبتهم الحقيقية في دخولها غرفة الإنعاش) للعمل لتحقيق أهداف محدّدةٍ متكاملة لتغيير أسس التعليم العربي وإنقاذِ لغتنا التي نعشقها أيّما عشق! سأتناول في الجزء الأول من المقال بنية التعليم العربي المعاصر عموماً، وفي الجزء الثاني منه الواقع المزري للّغة العربية، كوعاء لإنتاج وتقديم المعارف في العصر الرقمي!

(أ) ـ الجزء الأول: بنية التعليم العربي المعاصر
(أ ـ 1) ـ لماذا لا يمكن للتعليم العربي الراهن غير إدارة التخلف؟
سأستهلُّ هذا الفصل من المقال بحكمةٍ صينية شهيرة: «لو وهبتكَ سمكةً لأعطيتك ما يكفي للعشاء هذه الليلة. لكن لو علّمتك الصيد لوَهبتكَ ما يكفي للعشاء طيلة حياتك!». أحتاجُها، في الحقيقة، لتوضيح أن ثمّة نوعين من المعارف: الأولى أشبه بالسمكة في المثل الصيني، والثانية بتعلم صيدِ وطبخ السمك! الأولى معارف منتَجة (بفتح التاء)، والثانية منتِجة (بكسر التاء) تسمى أحياناً «ما وراء المعارف»، أي المعارف التي تتّخذ المعارف موضوعاً لها: تصنعها، تبرهنها، تدرسها، تنتقدها، تعيد خلقها... الأولى تمثّلُ البناء الفوقي للمعرفة، أو ثمرَتها. والثانية بناءَها التحتي، أو أرضيّتَها وماءها وهواءها... مهمة التعليم تدريس الأولى، بالطبع. لكن مهمته الأهم والأعمق هي تجذير ممارسة الثانية، أي تعليم الطالب اكتساب ما يسمى بالعقلية العلمية!

المعارف المنتَجة (بفتح التاء) التي تُدرِّسها مدارسنا العربية هي تلك التي ترجمناها من الغرب (باستثناء دروس اللغة العربية والدين أساساً، التي لم يكتبها الغرب لنا، فأخذناها من كتبٍ سحيقة، عمرها عدة قرون!). ربما هناك تأخرٌ في ترجمةِ ومتابعة جديد هذه المعارفِ الغربية غالباً، أو نقصٌ أكيدٌ في الإمكانيات أثناء تدريسها، لكنها معارف حديثة، لم تسمح لنا مع ذلك بأن نصل لمستوى الغرب أو حتى بالخروج من تخلفنا الذي يزداد يوماً بعد يوم! أفضل ما يمكنها أن تقدّم لنا هو كيف نستخدم هذا الجهاز الغربي أو ذاك، كيف نعالج بعض الأمراض، كيف نقرأ آثارنا القديمة! السؤال الجوهري هنا: لماذا لا يمكنها أن تسمح لنا أكثر من استيراد سمك الغرب المطبوخ (الذي يصلنا غير طازجٍ غالباً)؟ السبب الرئيس، الذي لا نتجرأ الخوض فيه بعمق، يكمن في أن البناء التحتي للتعليم العربي وادٍ غير ذي زرع (ظلّ ظلاميّاً كما هو، منذ عصر الانحطاط الذي ساد فيه فكرٌ سلفيٌّ أحاديّ الاتجاه في الثقافة العربية الإسلامية، أطاح بالتراث العقليّ لِلعصر الذهبي، لاسيما الفكر المعتزلي). بناؤنا التحتي هو منبعُ تخلفنا، لأنه يُعلّم الإنسان العربي بنجاح كيف لا يفكر، كيف يكتفي باستيراد السمك وأكله. هو أرضيةٌ جرداء لا تسمح بإنتاج المعارف! ثمة خللٌ جوهري في علاقته بالبناء الفوقي الذي استوردناه من الغرب ومقرّرات مدارسه الحديثة!

(أ ـ 2) ـ البناء التحتي للتعليم العربي معادٍ للعلم!
لأوضّح ذلك يلزم التذكير بأن البناء التحتي للتعليم في الغرب تأسس في معمعان الصراع بين الكنيسة والعلم، منطلقاً من فكرةٍ جوهرية تفصل بين العلم والدين، تعودُ شرارتها الأولى لابن رشد الذي اعتبرهما، قبل 8 قرون، كرتين لا تقاطع بينهما: الأولى تتمحور حول البرهان، والثانية حول العقيدة. الأولى «علوم صنعيّة»، والثانية «علوم شريفة»! استندت الحضارة في الغرب على هذه الفكرة التأسيسية فيما ابتعدت الحضارة العربية الإسلامية عنها، وتجمّدت في قرون انحطاطٍ لم تنته بعد! طوّر الغرب بعد ذلك تلك الفكرة أقصى تطوير، لتصبح اليوم بشكلها الراقي ميثاق العلاقة الحضارية بين التعليم الحديث والدين، الذي يقوم على الأساس التالي: للعلم والدين وظيفتان مختلفتان. العلمُ مجالُ نشاطِ المدرسة، يتخصصُ بدراسة وتفسير الكون والحياة. والدين مجالُ نشاطِ الكنيسة أو دور العبادات الأخرى، يختصُّ بالعلاقة الروحية بين المؤمن وإلهه، وتعليم من يريد القيمَ الأخلاقية الدينية: حب الآخرين، التعاون. لا يحقُّ لِلعلم المسّ الإيديولوجي بالدين أو التدخّل بشئون معابده، ولا يحق للدين التدخل في شئون العلم أو التسرب إلى المدرسة. الاحترامُ المتبادل بينهما ضرورةٌ اجتماعية جوهريّة يلتزم بها الجميع (وإن اعتبر بعض المفكرين، مثل دِريدا، أن الفكر الغربي أخطأ عندما رفض التدخل في الفكر الديني، وكأن هذا الفكر غير ناتج من الموروث الثقافي والحضاري. مما جعل نخباً عديدة من المفكرين في القرن العشرين يجهلون الفكر اللاهوتي وفلسفته ومكوناته، بسبب غلوهم ورفضهم لهذا الموروث)!

هذا الفصل بين العلم والدين هو أساس البنية التحتية للمعرفة في الغرب. المدرسة الحكومية الفرنسية، على سبيل المثال، لا تعترف بأي دين كان، بما فيه المسيحية، منذ عام 1905 الذي نُزِعت خلاله آخر صورة للمسيح من آخر جدار مدرسة! لا تقبل هذه المدرسة العلمانية الحقائق الموجودة في الكتب الدينية. تعتبرها «أحداث دينية» لا علاقة لها بالحقائق التاريخية والعلمية. تتأسس العقلية العلمية في هذا الصرح الملائم، بشكلٍ طبيعيٍّ متين. يتعلّم الطالب فيه أن الفضاء المعرفيّ الإنساني ممتلئٌ، منذ الأزل، بالإجابات اللاعلمية على كل الأسئلة، وأن حلول الإجابات العلمية محلّها صعبٌ جدّاً دوماً. مهمة العلم الكبرى هي تعليم منهجية القطيعة المعرفيّة معها، أي تعليم أنبل وأقدس الكلمات: «لا»، لغة العقل! تاريخ العلم ليس أكثر من سلسلة لاءاتٍ لا غير! تُعلِّم المدرسة الطالب كيف عليه أن يبرهن صحّة «لائِهِ» من ناحية، وأن يخترع «نَعَماً» بديلاً من ناحية أخرى. تُعلِّمهُ أن كلَّ من صنعوا التاريخ من عظماء وعلماء وأنبياء لم يقولوا أكثر من «لا»، فيما العبد والعاهرة والسفّاح لا يردِّدون غير «نعم»! تُعلِّمه منهجية التساؤل الحر والنقد الدائم والرفض، كيف يحوّل دماغه إلى سياجٍ (أو «لجنة رقابة») يمنع تسلّلَ الأفكار اللاعلمية. مبدأها الرئيس في ذلك: كل ما يصلك من معلومات وأطروحات وتأكيدات هو افتراضيٌّ وغير صحيح ما لم يبرهن علميا. تُعلِّمه ضرورة البرهان وطرائق صنعه!... هذه هي الأسس الجوهرية للبناء التحتي للتعليم في الغرب.

مدرستنا العربية تعتبر كل ما في الكتب الدينية حقائق علمية. أيُّ استنتاجٍ علميٍّ مخالفٌ لها مرفوضٌ بالضرورة. يتحول العلم فيها إلى مُطبِّلٍ للدين، مُلزَمٍ بأن يقبل كل مسلماته. العلم (كما تقدمه مدرستنا) موجودٌ في الكتب السماوية، وفقهاؤنا علماء رسميون، يتحدّثون كلّ يوم باسم العلم في الإذاعة والتلفاز والمدرسة! تنشأ عقلية الطالب وتنمو في هذه البيئة بطريقةٍ لاعلمية: تفسِّرُ الأحداث بشكل غيبيّ. يمكنها بسهولة (وبِتلذّذٍ أيضاً!) أن تقبل كل ما يخالف العقلية العلمية من معجزات وخرافات، لأن الدماغ خالٍ من أيّ سياجِ رقابيّ يمنع من تسلّلها إليه. هو بابٌ مفتوح على مصراعيه لِملاحم «اللاأشياء الصغيرة»، حسب تعبير شكسبير. يتعلم الطالب في هذه البيئة أن يخضع، أن يقبل كل شيء دون أدنى تمحيص أو شك، أن لا يقول غير لغة الخروف: «نعم». نموذجهُ في الحياة ذلك الإنسانُ الذي، كما قال الفرزدق:

ما قال «لا» قطُّ إلا في تشهُّدِهِ            لولا التشهُّدُ كانت لاؤهُ «نعمُ»

يتعلّم التلميذ في واقعنا العربي ثقافة «الثوابت»: العلم فيه يتحرّك في ظلِّ الدين، اللغة مجمّدةٌ من أجل الدين (في حين أحدث الانجليز والفرنسيون واليونانيون والإسرائيليون، على سبيل المثال، ثورات وإصلاحات متتالية في لغاتهم، لأن الأمة التي لا تطوّر لغتها في ضوء حاجة العصر، تظلُّ متخلفةً أبداً). فيما يحتاج هذا التلميذ أن يتعلّم ثقافة «القطيعة»: كيف يتلو في كل لحظة ما تيسّر من سورة «القطيعة»، كيف يمارس يوميا قسطاً بسيطاً من القطيعة مع البارحة، مع ثقافة البارحة، مع مسلّمات البارحة، مع لغة البارحة. يتعلم الطالب في المدرسة العربية كيف يتلقّن، كيف يسلِّم بالواقع ويكرّره، كيف يقبلُ رؤيةً ما للعالم كما هي. يتعلّم باختصارٍ شديد كيف يلغي الإرادة والعقل، ويعيش حياة الاستهلاك والتقوقع. فيما يلزم على المدرسة أن تُعلِّمه كيف يُكوّن رؤيته الخاصة للحياة دون أدنى فرضية مسبقة لا تقبل النقد والجدل والرفض، كيف يُفجّر إرادته وعقله وملكاته دون حدود، كيف يبني عالما على أنقاض آخر!

ذلك وحده ما يسمح للإنسان بأن لا يكتفي بتعلم نظريات صنعها الغير، بل يتعلّم في الجوهر كيف يصنَعُ النظريات، كيف يخلق المعارف، كيف يكسِّر القيود المعرفية، كيف «يصطاد السمك ويطبخه». باختصارٍ شديد، يتعلّم كيف يتعلّم! كم هي شاسعة تلك المسافة التي تفصل بين نوعين من التعليم: أحدهم يعلمك كيف لا تدري أنك لا تدري، والآخر يعلِّمك كيف تتعلّم أن تتعلّم!

(أ ـ 3) ـ نحو أسسٍ جديدة للبنية التحتية للتعليم العربي!
لعل مدرستنا العربية صارت اليوم بِحاجةٍ مُخِّيّة عاجلة لإعادة بناء قاعدتها المعرفيّة التحتية على أساس الفصل بين «العلوم الشريفة» و«العلوم الصنعيّة». سأضرب مثلاً بسيطاً على ذلك من ردِّ «قارئٍ محايد» على تعليق أحد قرّاء لمقالٍ لي في موقع صحيفة «القدس العربي» على أنترنت: «نظرية داروين: فرضيةٌ غبراء أم حقيقة ساطعة؟». قال المعلّق: «حتى نفِي العلمَ حقه يجب الرجوع بكل هدوء وسكينة إلى مرجع المسلمين الأوحد، وهو بدون نزاع القران الكريم، كتاب الله وبرهانه في ميادين المعرفة الإنسانية. وأنا على يقين أن من يقرأ: «إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج» سيعرف كل شيء». ردّ عليه «قارئ محايد» أتفِّقُ معه في الجوهر، قائلاً: «القرآن الكريم الذي نحبه جميعا ليس كتاب بيولوجيا. لماذا تحشره في قضايا ليست من اختصاصه؟ هذا الخلط بين الدين والعلم هو مشكلتنا الكبرى، وسبب تخلفنا. الإنسان يعرف، من قَبْل القرآن بآلاف السنين، أن الطفل يأتي من نطفة وجنين (بعد مجامعة بين رجل وامرأة). لماذا نحمل هذه العبارة أكبر من طاقتها، ونطلب منها أن تكون درساً في البيولوجيا؟» لعلّ في هذا الرد أحد الأسس الجوهرية لبناءٍ تحتيٍّ جديد تحتاجهُ مدرستُنا. لأن إقحام «العلوم الشريفة» في مجالات «العلوم الصنعيّة» يسيءُ للأولى ويمنع الثانية من النشوء والتطور! الخلط المعرفي بينهما (كما تمارسُه مدرستنا العربية) خطأٌ جوهريٌّ فادح يلزم تجاوزه إذا أردنا فعلا بناء عقلية علمية للطالب العربي.

السبب في ذلك أن المعارف التي يقدمها العلم يمكنُ مناقشتُها، تخطيئُها، إعادة صياغتها. يلزم برهنتها علميّا قبل الاعتراف بها في كل الأحوال. في حين أن المعارف الدينية لا تخضع لنفس العلاقة والمقاييس. المعارف العلمية أشبه بـ«دليل الهاتف التلفوني» في حين أن المعارف الدينية أشبه بديوان شعر يُقرأ بعين التأويل والمجاز! عند قراءة دليل الهاتف يمكن التأكد من أي رقم، الاتصال الصوتي به، تصحيحه، تغييره. في حين أن الشعر يُقرأ كما هو، بشكلٍ مجازيٍّ في الأساس! لأعطي مثلا صغيراً: لو جاز، عند قراءة قصة النبي موسى في أي كتابٍ ديني، التعاملُ معها بالطريقة العلمية (أي مثل التعامل مع دليل الهاتف) لأمكنَ توجيهُ أسئلةٍ كثيرة: لماذا لم يُذكر النبي موسى في أي مخطوطٍ هيروغليفي، في حين تعج هذه المخطوطات بتفاصيل حياة المصريين القدامى، بما فيها أخبارهم اليومية التافهة؟ لماذا ليس للنبي موسى قبر «أو بالأحرى ثمّة عدة قبور باسمه، كلها اخترعت حديثاً»؟ كيف يمكن قبولُ قصةِ شقِّ البحر، حكايةِ عصاه التي تحولت ثعباناً، حربهِ غير المعقولة مع فرعون مصر (رمسيس الثاني كما يقال أحيانا، أم آخر؟) والتي لم ترد في أي وثيقة تاريخية، وكل القصص الأخرى التي تمسّه؟ بالطبع لا يجوز توجيه هذه الأسئلة لأن شخصية النبي موسى وكل هذه القصص معارف دينية بحتة (يمكن الاعتقاد بها أو عدم الاعتقاد بها)، لكنها ليست معارف تاريخية، ولا تخضع لذلك لنفس مقاييس التعامل العلمي مع المعارف التاريخية!

(أ ـ 4) ـ خاتمة الجزء الأول
أختتم هذا الجزء من المقال بلفت نظر القارئ لتجربة اليابان التي أدركت في القرن التاسع عشر أنه كي تلحق بالغرب يلزمها استلهام تجربة تعليمهِ في بنائها الفوقي والتحتي معاً. ترجمَتْ كل مراجعه التعليمية، وأعطت لِبناء العقلية العلمية في ميزانيتها واهتماماتها نصيباً رئيساً. كانت قبل ذلك أكثر تخلفاً من مصر، لتصل اليوم إلى ذروة الحضارة الإنسانية وأعلى درجات التنمية البشرية، رغم أنها لا تمتلك أي موارد طبيعية إطلاقاً. فيما قبعتْ مصر العظمى في الحضيض!...

ألا نحتاج نحن أيضاً للاستفادة من تجربة اليابان؟ أليس من حقّنا أن تعود إلينا بضاعة ابن رشدنا الذي استوردها الغرب منا ليبني حضارته؟...

(ب) الجزء الثاني: واقع اللغة العربية في الزمن الرقمي
(ب ـ 1) مدخل: العربية في العصر الرقمي عجوزٌ يحتضر!
يستخدم العرب، بأعداد أكثر فأكثر لحسن الحظ، البريدَ الإليكتروني وتصفّحَ مواقع وصُحُف إنترنت، وتنزيلَ المواد الإليكترونية من مقالاتٍ وأغان. إذا اعتبر القارئُ هذا الحضورَ العربيَّ انتماءً للعصر الرقميّ، فمن الأفضل أن لا يواصل قراءة هذا المقال، لأن هذا القارئ الأريب أشبه تماماً بمن يُعرِّف الإنسان بـ«كائنٍ حيّ يتنفّس ويأكل ويشرب فقط»! ثمة ستّ فجائع تلخّص مأساتها الحالية، ستوضح للقارئ أن العربية في العصر الرقميّ عملاقٌ من قش. قبل سردها يلزمني إعطاء تعريفين!

(ب ـ 2) النص الورقيّ والنص الرقميّ: تعريفان لا بدّ منهما، قبل سرد الفجائع!
إذا كان تعريف النصّ الورقي سهلاً «هو نصٌّ مكتوبٌ أو مطبوعٌ على عدد من الأوراق»، فتعريف النص الرقمي أصعبُ وأوسعُ بكثير: هو نصٌّ يصلُ من شبكة كمبيوترات (تتكون من كمبيوتر واحدٍ على الأقل، أو تضمّ كلَّ كمبيوترات الكون إذا لزم الأمر) ويُقرأُ على شاشة. غير أن له خصوصيات عدّة، شديدة الأهمية والثراء، لا توجد في النصّ الورقيّ، سأسرد أبرزها الآن:

(أ) ـ هو نصٌّ فائق، Hypertext: تتعانق فيه كل الوسائط معاً، من صوتٍ وصورةٍ وفيديو، في وعاءٍ تفاعليٍّ جميلِ الإخراج، متعدِّدِ الأبعاد، عبقريِّ المحتوى! لذلك هو أرقى وأثرى الوسائط الثقافية التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ! (لعلّ عبارة: «نصّ تشعبّي»، التي تُستخدم غالباً لترجمة Hypertext ليست مناسبة جدّاً!).

(ب) ـ هو نصٌّ مفتوح (وليس مغلقاً مثل النص الورقيّ الذي يبدأ بالصفحة الأولى وينتهي بالأخيرة) بفضل «صلات النصوص الفائقة»، Hypertext Links، المشار لها عادةً بخطوط أسفل أية كلمة، والتي تسمح (عند نقرِها) بالانتقال إلى موضعٍ آخر في نفس النص أو إلى أيِّ نصٍّ آخر في أي كمبيوتر في أطراف الكرة الأرضية. تستطيع هذه الصلات أيضاً الانتقالَ الآلي إلى قواميس لشرح مدلولات كلمات النص، أو تقديمَ أية معلومات عنها.

(ج) ـ هو نصٌّ هوائي، يمكن الوصول إليه من أي جهاز (كمبيوتر، تلفون نقال، جهاز ألعاب الكترونية، جهاز القارئ الالكتروني الجديد) ومن أي مكان: المكتب، الشارع، الشاطئ، سرير النوم، المرحاض. ثمة استعارة تقليدية أنيقة تُصوِّر هذه الخصوصية بشكلٍ صائب: Cloud Computing، أو «الحوسبة السحابيّة» إذا جاز القول!

(د) ـ هو نصٌّ ذَرِّيُّ الفهرسة (يتم فهرسةُ جميع كلماته، وليس فصوله فقط مثل الكتاب الورقيّ) بفضل ما تسمى: «موتورات البحث» الكونية (مثل جوجول الذي يحوي حاليا أكثر من 25 مليار نص، ومليار صورة، موزعة على نصف مليون كمبيوتر، في 32 موقعاً جغرافياً أميناً، كثيرٌ منها تتخندقُ قرب المفاعلات النووية). بفضلها يمكن الوصول إلى النص الرقميّ بطريقة عبقرية لم تخطر ببال قبل سنوات قلائل: يكفي أن تُقدَّمَ لموتورات البحث كلمةٌ أو بضعةُ كلمات من النصِّ أو من عنوانه، أو كلمات قليلة تتعلّق به، كي تضع هذه الموتورات النصَّ أمام القارئ (مثل خاتم سليمان السحريّ) وتعرضهُ على الشاشة في بضعة ثوان! ليس ذلك فحسب، بل تقدِّم رهن إشارة القارئ في نفس الوقت أيضاً، جميع النصوص والوثائق والكتب الموجودة على الإنترنت التي تحتوي على تلك الكلمات المقدمة لموتورات البحث! ألا تبدو الحقيقة هنا أشدَّ إعجازاً من الخيال؟

(هـ) ـ هو نصٌّ سهلُ التحديث (يتطلب ذلك ثوانٍ فقط أحياناً، بعكس النص الورقيّ الذي يلزم إعادة طبعه!)، سهلُ النسخ والنقل والإرسال (يتمّ ذلك في هنيهات!)، سهلُ الحمل (لا وزن له أو أعباء لوجيستيكية!)، ليس له أية مضار بيئيّة مثل النصّ الورقيّ! ناهيك أنه أرخص من النص الورقيّ بكثير، لاختفاء الحاجة للورق والحبر والمطابع ومكتبات التوزيع!

(ب ـ 3) ـ الفجيعة الأولى: لغةٌ بلا بناءٍ تحتيٍّ معرفيّ!
توالت على العالم منذ بدء التسعينات من القرن المنصرم، لاسيما الغرب والشرق الأقصى، مشاريع عملاقة تدعمها الدول والجامعات والمؤسسات العامة، لِرقمنة البناء التحتي للمعارف والحياة العمليّة من نصوص علمية وتقنية وثقافية متنوعة، ودراسات ومحاضرات ودروس للطلاب من المدرسة الابتدائية حتى الجامعة (أقود شخصيّاً مشروعا قوميّاً فرنسيّاً تساهم فيه بعض الجامعات ومراكز الأبحاث، يرتبط برقمنة بعض مواد «الحاسوبيات اللغوية»)، وقواميس وموسوعات وخرائط جغرافية حيّة ترسلها الأقمار الصناعية بشكل مباشر. لكن العالم العربي يعيش في كوكبٍ آخر بعيدٍ كليّةً عن منملة هذه النشاطات والمشاريع شديدة الجوهرية! النتيجة اليوم تفقأ العين: بوابات إنترنت للبناء التحتي المعرفي لكل تلك الدول (بوابات المشاريع القومية الرسمية، والمكتبات الرقمية المجانية المتخصصة في شتى المجالات، مواقع المؤسسات التربوية العامة أو الخاصة، الجامعات ومراكز الأبحاث، الأساتذة أو الطلاب) زاخرةٌ بملايين الصفحات الرقمية التي تشكّلُ الصرح الجديد لمجتمعات المعارف!

يجد القارئ اليوم في مواقع إنترنت تلك الدول ملايين النصوص والكتب الرقمية العلمية والثقافية! جميعها مدجّجة بـ«صلات النصوص الفائقة» التي تسمح بالانتقال اللحظيّ المباشر إلى جميع المراجع الرقمية المذكورة في تلك النصوص والكتب الموجودة على الإنترنت. معظمها غنيّةٌ بكل الوسائط من صوت وفيديو وصور ذات ثلاثة أبعاد، مُترعةٌ بتمثلات التجارب المختبرية ونصوص المحاضرات بالصوت والصورة، متجدّدةٌ ومتطوِّرةٌ في كل لحظة! ثمّة ملايين المحاضرات والمقالات العلمية والتمارين المحلولة والتجارب العلمية والدراسات والأبحاث المقدّمة بطرق تربوية تفاعلية ثريّة طازجة، في كل اللغات... إلا العربية!

ثمّة أيضاً مكوّنات جديدة لِلبناء التحتي للمعارف الرقمية لم توجد قبل إنترنت، صارت إحدى أهم مناهل المعرفة على الصعيد الكوني: الموسوعات التي يتمُّ تطويرُها ورفدُها يومياً، بشكل تفاعليٍّ تعاضديٍّ كونيّ، مما جعل الموسوعات الورقية تبدو بالمقارنة بها شديدةَ الفقر والتخلف! يلزم الإشارة هنا إلى موسوعة ويكيبيديا على سبيل المثال، التي يمكن لأي إنسان متطوِّعٍ إغناءُها بأية لغة، والتي أضحت مرجع الملايين من البشر يوميّاً! يصعب هنا عدم التنويه إلى أن معظم طوبات هذه الموسوعة، لاسيما في أغلب المجالات العلمية والثقافية، تخلو من الترجمة إلى العربية، في حين تُترجم غالباً إلى لغاتٍ أقل تداولاً من العربية بكثير! يكفي فتح هذه الموسوعة على الإنترنت وتقديم أي كلمة، بلغة غير العربية، لموتور بحث الموسوعة، لرؤية النص الموسوعيّ المتعلق بهذه الكلمة مترجماً لِعديد من اللغات الأكثر أو الأقل تداولاً على السواء، إلا العربية! (الكارثة أصمُّ وأطمّ: في أحيان كثيرة لا يوجد حتّى رديفٌ عربيٌّ لتلك الكلمة!). عدد المواضيع المكتوبة في ويكيبيديا باللغة البولندية، على سبيل المثال، يساوي عشرة أضعاف ما هو مكتوبٌ بالعربية تقريباً!

باختصار شديد: في كل المجالات العلمية والتقنية، وفي معظمِ الحقول الثقافية والعمليّة، تمتلك اللغات (عدا العربية) اليوم قاعدةً تحتيةً معرفيّةً رقميةً متعدّدةَ الوسائط (أقصت النصّ الورقي وحلّت محله تماماً، ليبدو، في هذه المجالات على الأقل، وكأنه من مخلفات العصر الحجري!). صناعة المعارف فيها دخلت سباقاً يوميّاً! أما القاعدة التحتية المعرفية بالعربية فهي غائبةٌ بشكلٍ كليّ: لا توجد أيّة مشاريع عربية تستحق حتى الذكر، في هذا الجانب! لعلّ اللغة العربية تحتضرُ اليوم بهدوء جراء عدم مواكبتها الزمن الرقميّ: لا يجد فيها الطالب أو المدرّس ضالّته! لذلك، على سبيل المثال، أضحت المواد العلمية تُدرَّسُ باللغات الأجنبية في كل المدارس الخاصة في العالم العربي، وفي كثير من المدارس الحكومية أيضاً. ناهيك عن غياب العربية شبه الكليّ في تدريس المواد العلمية والتقنية والطبية في جميع الجامعات العربية تقريباً، بسبب عدم استخدامها لكتابة المعارف الحديثة! ربما لذلك يُقال اليوم أكثر فأكثر إنّها «لغةٌ لا تصلح للحداثة، بلا مصطلحات»!.

(ب ـ 4) الفجيعة الثانية: لغةٌ تعاني من أنيميا الترجمة!
من المعروف أن حملة الترجمة الواسعة من مختلف اللغات الإغريقية والسريانية والفارسية والسنسكريتية والحبشية، في العصر العباسي، للكتب الأجنبية في شتى المجالات من فلسفة ومنطق وطب وفلك ورياضيات وأدب، أغنت العربية براوفد فكرية وكلمات ومصطلحات كثيرة، لتصبح بفضل ذلك لغة الحضارة الكونيّة في القرون الوسطى (مثل الإغريقية قبل الميلاد، والإنجليزية والفرنسية والأسبانية اليوم). ومن المعروف أيضاً أن اليابان لم تتحوّل من دولة متخلفة في بدء القرن التاسع عشر إلى إحدى أكثر دول العالم تقدّما اليوم، إلا بفضل حملة ترجمة واسعة لكل معارف الغرب وانجازاته وسياسته التعليمية، انطلاقاً من أن ترجمة إبداعات الآخر الأكثر تطوراً، واستلهام نهجه، هو مفتاح اللحاق به! وفي العقود الأخيرة شنّت الصين أيضاً حملةً واسعةً شرسةً لترجمة المعارف الكونية، لاسيما الغربية، انطلاقاً من نفس المبدأ. استخدمت في ذلك الوسائل التقنية الحديثة، لاسيما إنترنت. قدّمت عروضاً ومكآفات للمترجمين من متخصصين أو طلاب، داخل الصين أو خارجها. فتحت معاهد وأقسام جامعية ونظَّمتْ مسابقات عديدة للترجمة!.

ثمة اليوم (بفضل الحاسوب، وعلوم الكمبيوتر الجديدة، لاسيما علوم «الحاسوبيات اللغوية») طرائق آلية جديدة، تسمح للكمبيوتر بترجمة النص دون مترجم، وبشكل فوريّ! البرمجيات التي أنتجتها هذه التطورات العلمية والتقنية تستطيع اليوم ترجمة كتاب، أو موقع إنترنت، بدقائق. ربما مازالت نتيجة ترجمتها غير دقيقة أو غير جيّدة أحياناً، لاسيما عند ترجمة النصوص الأدبية واللغوية المعقدة. لكنها تساعد على الحصول على نصٍّ أوليٍّ خامٍ سريع جدّاً، يكفي تصليحه وتحسينه يدويّاً للحصول على الترجمة النهائية! مازال استخدام هذه التقنية عربياً ضعيفاً جدّاً رغم إمكانية استثمارها بقوّة، لاسيما لِردمِ هوّة الترجمة العلمية والتقنيّة والثقافية! أنيميا الترجمة العربية صارخةٌ اليوم: كثير من عيون الكتب العالمية لم تر النور بعد بالعربية! معظم أمهات الكتب الحديثة التي تشكّل نبراس الحضارة المعاصرة، غير معروفة بالعربية! يكفي لاستيعاب حجم الكارثة ملاحظة أن ما ترجمته إسرائيل في السنوات العشر التي تلت تأسيسها يفوق كل ما ترجمه العرب منذ بدء القرن التاسع عشر إلى اليوم!

(ب ـ 5) ـ الفجيعة الثالثة: لغةٌ بلا مُدوّنة!
مدوّنةُ أية لغة، (Corpus)، هي مجموعةٌ هائلة (تعدُّ كلماتها بالمليارات) من عيّنات النصوص المكتوبة أو المنطوقة، الآتيةِ من قطاع متنوع عريض محايد من المصادر (الصحف والمجلات المكتوبة والمسموعة والمرئية، الكتب المتنوعة، النقاشات، التقارير، مواقع إنترنت) والتي تعطي صورةً دقيقةً كاملةً عن اللغة في مختلف أشكالها واستعمالاتها اليومية والعلمية والعمليّة والأدبية، خلال مرحلةٍ زمنية معيّنة!.

تمتلك اللغات اليوم مدوّناتها، المسماة أحياناً «بنوك اللغة». ثمة بوّابات على الإنترنت تسمح بالوصول لـ«قواعدها البيانية» الضخمة والبحث المحدّد في طيّاتها، أو معالجتها أتوماتيكياً بشكلٍ إجمالي! من كنوزها (التي يتمُّ رفدها كل يوم) تُستخلَصُ القواميس والمعاجم المتخصصة في المجالات اللغوية والعلمية والتقنية والعملية. هي المختبر الذي تخرج منه الدراسات اللغوية المتنوعة لِبُنيَة اللغة وظواهرها وشتى دلالات كلماتها، لنواقصها واحتياجاتها المتجدّدة، لمعاجم تاريخ وأصول الكلمات وعلاقتها باللغات الأخرى (المعاجم الإيثومولوجية التي لا توجد حتى الآن في اللغة العربية)! المفارقة المثيرة والمؤلمة أن اللغة العربية التي كانت أول من أسس القواميس والمعاجم اللغوية (منذ الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب قاموس العين، وربما الأصمعي قبل ذلك)، والتي قامت في عصرها الذهبي بِدورٍ طليعيٍّ في تأسيسِ دراسات النحو والصرف العبقرية، وتصنيفِ المفردات وترتيب جذورها واشتقاقاتها، وتأليفِ كل المعاجم (بما فيها معاجم الجنّ والشياطين!)، والتي انفتحت بشكلٍ مبكِّرٍ على لغات العالم منذ العصر العباسي، وحملة ترجماته الزاخرة، لا تمتلك حتى الآن مدوّنتها اللغوية، أو أي معجم إيثومولوجي!

(ب ـ 6) ـ الفجيعة الرابعة: لغةٌ بلا «مُتعرِّفٍ ضوئيٍّ لِلأحرف»!
المتعرِّف الضوئي لِلأحرف، Recogonizer Optical Character،OCR، (أو القارئ الضوئي الآلي) برنامجٌ قاعديٌّ ضروريٌّ تمتلكه كل لغة، يسمح بتحويل النص المصوّر بكاميرا أو ماسح ضوئي (سكانير) إلى نصٍّ رقميّ يمكن فتحه بناشر الكتروني (مثل «ورد»)، وأرشفته كملف على الكمبيوتر! لا يوجد حتّى اليوم قارئٌ ضوئيٌّ آليٌّ عربيٌّ يستحق أن يحمل هذا الاسم! (بيعت في الأسواق العربية برامج غير جيدة لهذا الغرض، رمى بها بعض من اشتراها في سلّة المهملات، رغم سعرها الباهظ!).

يُشكِّلُ عدم تصميم برمجيةِ قارئٍ ضوئيٍّ آليٍّ لأحرف اللغة العربية حتى الآن عائقاً كبيراً يمنع دخولها عصر الرقمنة، لأنه وحده ما يسمح بتحويل صور صفحات الكتاب إلى نصوصٍ رقميّة! دونه يلزم من جديد إعادة طباعة كل ما كُتِب بالعربية على الكمبيوتر! تستخدم اليوم كلُّ اللغات، التي تمتلكُ قارئاً ضوئياً آلياً، أجهزةً الكترونية ذاتية «روبوتات» تستطيع بدقائق، وبشكل آليٍّ كامل، فتح الكتاب وتصويره صفحةً صفحة، وتمرير القارئ الضوئي الآلي عليه لِتحويلهِ إلى نصٍّ رقميّ، قبل أرشفتهِ وزجِّهِ في فضاء إنترنت الكوني، ليصل إلى أرجاء العالم في لمحة بصر!

بعض هذه الأجهزة، الذي يكلّف الواحد منها اليوم حوالي ربع مليون دولار، تشتغل في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال، لرقمنة مئات الكتب يوميّاً، بلغاتٍ غير العربية! في 2007 فقط رَقْمَنَ مشروع جوجول مليون كتاباً بفضل هذه التكنولوجيا!

انتقال النص من مرحلته الورقية، إلى نصٍّ رقميٍّ يهيم في شبكة كمبيوترات إنترنت الكونية، يمثِّلُ عبوراً من مرحلة حضارية سحيقة إلى أخرى أرقى بكثير (أشبه، دون مبالغة، بالانتقال من عصر الشموع إلى عصر الكهرباء) لما يتمتع به النص الرقمي من مواصفات سردتُها أعلاه! يمثّل غياب قارئٍ ضوئيٍّ آليٍّ لِصُور النصوص بالعربية معضلةً قوميّة يصعب تصوّر إمكانية وجودها اليوم، في أي بلد، ناهيك عن عالمٍ تمتلك بعض دولهِ ثروات وإمكانيات ماديّة هائلة، كالعالم العربي!

(ب ـ 7) ـ الفجيعة الخامسة: لغةٌ بدون تقنيات تصحيحٍ وموتورات بحثٍ ملائمة!
أتاحت ديموقراطية إنترنت وسهولة النشر الإلكتروني الكتابةَ المباشرة والنشر السهل للجميع، وليس للنخبة فقط كما كان الحال قبل الإنترنت! إذا كانت تلك نعمةً للشعوب التي حدثت فيها ثورات وتحديثات وإصلاحات في لغاتها، والتي صمَّمتْ برمجيات كمبيوترية لتصحيح نصوصها قبل وضعها على الإنترنت، فإنها نقمةٌ وبليّةٌ حقيقية في العالم العربي الذي لم تتطوّر لغته منذ قرون، والذي يكتظُّ بالأميين، والذي لا نبالغ إذا قلنا إن كثيراً من خريجي مدارسهِ (وجامعاته أحياناً) أنصاف أميين أثناء الكتابة!

الموضوع خطيرٌ في الحقيقة لأن صفحات إنترنت بالعربية (لاسيما منتديات الدردشة والحوارات، وصفحات الأخبار والتعليقات العامة على الأحداث اليومية والكتابات) ملطّخةٌ بأدغال من الأخطاء اللغوية والإملائية التي لا تخطر ببال! المذهل أن عدد بعض الكلمات المكتوبة بغلطات إملائية على الإنترنت قد يفوق يوماً عددَ نفس الكلمات المكتوبة بدون أخطاء! مما ينذر بأنها ستحلُّ محلها، بحكم مبدأ سيادة الأغلبية الإحصائية، عند أية معالجة أتوماتيكية للّغة العربية تمرُّ على كلِّ ما كتب بها على الإنترنت! من يدري، قد تحلُّ محلها أيضاً في أعين القراء العرب، لاسيما قراء الأجيال القادمة، بحكم مبدأ «الانتقاء الطبيعي» الدارويني الشهير، لأن هذه الأخطاء هي الأكثر حضوراً ومرجعية!

سأضرب مثلاً عمّا يعني افتقار موتورات البحث، كجوجول، لمصحّح لغوي عربي: يكفي أن تُقدِّم لجوجول كلمةً مكتوبة خطأً: «يصوموون»، أو «مريظ»! لِتصلك آلاف من صفحات إنترنت تحمل هذه الكلمة المكتوبة خطاً، بسبب عدم وجود مصحح لغوّيّ بالعربية مرفق بموتورات البحث! فيما لو تكتب الكلمة بخطأٍ إملائيٍّ بِلغة أخرى، مثل الفرنسية: «Mangeoons» فسيصحِّحها موتور جوجول أتوماتيكيا لِتصبح: «Mangeons» قبل أن يعطيك صفحات إنترنت التي تحوي هذه الكلمة المصحّحة! موتورات البحث نفسها، كجوجول، ليست ملائمة للعربية، لأنها لا تأخذ خصوصيات تصريفاتها ومرادفاتها في الاعتبار أثناء البحث!

المريع أن ملايين الصفحات العربية الموبوءة بأعدادٍ فلكيّة من الأخطاء الإملائية مؤرشفةٌ اليوم في شبكة إنترنت شأنها شأن غيرها. تشكّلُ جميعها، دون تمييز، ترسانة النصوص العربية على الشبكة الكونية! ما أشبه هذه الترسانة أحياناً بشيخٍ عجوزٍ خائر القوى، تلتهمه الفيروسات!

(ب ـ 8) ـ الفجيعة السادسة: لغةٌ لم تدخل عصر الرقمنة بعد!
دخلت كثيرٌ من الدّول في السنوات الأخيرة، بعد إكمالها بناء القواعد التحتيّة الرقمية (قارئٍ ضوئيٍّ آليٍّ للأحرف، مدوّنه لغوية، ترجمة كثيفة يدويّة وآليّة، برامج تصحيح لغويّ، وموتورات أبحاث ملائمة) عصر مشاريع الرقمنة العملاقة: أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مشروع جوجول وبعض كبار المكتبات القوميّة في عام 2004 برقمنة 15 مليون كتاباً، مشروع ميكروسوفت الموازي، مشروع المكتبة القومية الفرنسية برقمنة 6 مليون كتاباً، مشروع دول الشمال الأوربي.

اللغة العربية لا تفتقر بشكلٍ كُليٍّ مفجع لنظائر هذه المشاريع فقط، لكنها لم تبدأ بعد بناء قاعدتها التحتية! الأرقام العربية التي سأقولها الآن تشرح وحدها ضراوة المأساة: مجمع اللغة العربية في الجزائر الذي تدعمه الجامعة العربية بميزانية خاصة منذ 1975، والمكلف بتأسيس «الذخيرة العربية»، رقمَنَ حتّى الآن بضعة مئات فقط من الكتب العربية، بسبب عدم وجود هذه البنية التحتية! تنوي مشاريع قُطْريّة عربية برقمنة عدد ضئيلٍ للغاية من الكتب العربية، أشعر بالخجل من ذكره! هذا كلّ ما في الوفاض العربي!

لا شكّ أن ثمة مواقع عربية تستحقُّ كلَّ تشجيع وتطوير كـ «المسبار»، «الورّاق» «المصطفى»، «مكتبة الإسكندرية»، «المعرفة»، «صخر»، «الكلمة» وغيرها مما أجهله من المواقع المخلصة التي تبذل جهوداً متفانيةً لتعزيزِ حضور العربية وتفاعلها مع اللغات، ورقمنةِ المعارف والكتب بها. لكنها ستظلُّ ضعيفة التأثير إذا لم يحتضنها مشروعٌ قوميٌّ جبّار، بأهداف عمليّة متكاملة محدّدة!

(ب ـ 9) ـ ثلاثة مقترحات...
في اتجاه هذا المشروع، أودُّ تقديم ثلاثة مقترحات مترابطة للمؤسسات الثقافية والتعليمية العربية، وللحكومات العربية ولِجامعة الدول العربية (وإن كان أملي باهتاً جدّاً في أن تلاقي آذاناَ صاغية!):

(1) ـ الاستفادة من التجربةِ الصينية في الترجمة، المستندةِ على تقنيات العصر الرقمي: فتحُ مسابقات ترجمة للجميع (مترجمين تقليديين، طلاب ومتخصصين، كتّاب، معاهد وأقسام ترجمة)، وتقديمُ مكافآت تُعطَى حسب مقاييس تختارها لجانُ تحكيمٍ خبيرة، في ضوء خطّة ترجمة عربية لترجمة ما يعادل العشرة آلاف كتاباً سنويّاً! يمكن وضع هذه الكتب المترجمة في بوّابات إنترنت لتصل للجميع، دون الحاجة إلى طباعة معظمها بالضرورة!

(2) ـ فتح باب مسابقات للمدرّسين الجامعيين داخل العالم العربي أو خارجه، تضع مقاييسها وتختار عروضها الناجحة لجان تحكيمٍ متخصّصة، هدفُها بناء بوّابات دروسٍ رقمية عربية نموذجية على الإنترنت للطلاب العرب في مختلف المواد العلمية والتقنية، تستخدم تقنيات متعددة الوسائط حديثة!

(3) ـ إكمال البناء التحتي للغة العربية على الإنترنت (قارئٌ ضوئيٌّ آليٌّ للأحرف، مدوّنةٌ للغة العربية، موتورات بحث، وبرمجيات تصحيح ملائمة، تقنيات ترجمة آلية) خلال 3 سنوات!

(ب ـ 10) ـ خاتمة الجزء الثاني
من المعروف أن هناك علاقةً فيزيولوجيةً عميقة بين التفكير واللغة. تجمُّدُ العربية (التي لم تعرف الإصلاحات الجذرية لمواكبة حاجة العصر، مثل بقية اللغات) هي المرساةُ التي تشدُّ سفينةَ العقل العربي وتبركُه منذ قرون! تأخّرُها اليوم بالبدءِ ببناء قاعدتِها التحتيّة التي ستؤهّلها لخوض مشاريع الرقمنة الكبرى، يوسّعُ الهوَّة الشاسعة التي تفصل العرب عن بقية العالم المتقدّم!

لعلّ استعارة «السلحفاة والأرنب» لم تعد اليوم مناسبةً لمقارنةِ سرعةِ تطوُّرِ العالم العربي بالقياس إلى الغرب والشرق الأقصى اللذين صارا، بفضل مشاريع الرقمنة الكبرى، أشبه بأرنبٍ مُجنَّح! في حين أمست سلحفاتنا العربية الحبيبة عرجاء، تلتهمها الفيروسات! ثمّة مع ذلك مقترحاتٌ عمليّة متكاملة قدّمها هذا المقال (في جزئيه الأول والثاني)، قد تساهم في تغييرِ شيءٍ ما، إن وَجَدت من يلتفتُ إليها، ويلتفُّ حولها، ويناقشها ويطوّرها ويحوّلها إلى واقعٍ عملي! لعلها بحق مفتاح مجتمع المعرفة الذي لا تنميةَ أو تطوّرَ بِدونه!. 

روائي يمنيّ وأستاذ جامعي في علوم الكمبيوتر، فرنسا.