صدر حديثا كتاب نقدي للباحثة الجزائرية فاطمة قيدوش يستقصي تمثلات الجسد في قصص غادة السمان، حيث يحتل الجسد مكانة محورية في عالم الأدب، ما جعله محملا كبيرا مليئا بالتصورات، وهذا البحث الصادر عن دار خيال للنشر بالجزائر، يسعى الى الغوص في الأعمال القصصية للروائية السورية غادة السمان (1942)، عبر العديد من الأبواب أهمها: مفهوم الجسد، الجسد الغواية، الجسد بين التحرر والتشيّؤ، الجسد والسلطة، الخوف من الجسد وتقويض الأنوثة، الجسد الأنثوي من القمع إلى الوأد، والفحولة بين التأليه والتهشيم.

قصص غادة السمان تعيد رسم الجسد الأنثوي والذكوري

 

(الجزائر) تشتغل الباحثة الجزائرية فاطمة قيدوش في كتابها "تمثلات الجسد في قصص غادة السمان"، الصادر عن دار خيال للنشر بالجزائر، على الغوص في الأعمال القصصية للروائية السورية غادة السمان (1942)، عبر العديد من الأبواب أهمها: مفهوم الجسد، الجسد الغواية، الجسد بين التحرر والتشيّؤ، الجسد والسلطة، الخوف من الجسد وتقويض الأنوثة، الجسد الأنثوي من القمع إلى الوأد، والفحولة بين التأليه والتهشيم.

وتحاول الكاتبة أن تعلي من قيمة المرأة وتخلدها حافظة للموروث الثقافي. فيما يحتل الجسد مكانة محورية في عالم الأدب، حتى وإن كان يحضر بخلفية لاواعية من قبل الكتّاب، فالجسد عقل ووجود، وعليه ألصقت الكثير من العناصر الثقافية والتصورات والأفكار، ما جعله محملا كبيرا مليئا بالتصورات، ويكفي بحث صغير في النصوص الأدبية لاكتشاف وجود هذا الجسد وما يخفيه من أفكار.

تيمة الجسد
تؤكد الباحثة في حديث معها على أن موضوع الجسد يعد من الموضوعات الشائكة التي فيها الكثير من التشعب والتعقيد، وقد أخذ مفهوم الجسد حصته من كل المعارف الأسطورية، والدينية، والثقافية، وأولت له الفلسفة قبلها اهتماما بالغا بين كونه كيانا منفصلا عن العقل، وكونه تابعا تسكنه الروح، وبين التقديس والتدنيس تأرجحت الآراء، وظلت علاقة الإنسان بجسده مرتبطة بالخطيئة باعتباره من الرزايا والخطايا، وشاعت هذه النظرة في الديانات المختلفة.

وتضيف قيدوش "دخل الجسد بكل ثقله إلى ساحة الدراسات ما بعد حداثية التي دفعت به إلى الواجهة لتكشف عن ميولاته ورغباته، وتعري الثقافة التي نظرت إليه وصنفته بين جسد عار، ومستور، والجسد السلعي والدوني والمهمش، وكشفت عن مدى مساهمة التربية الثقافية والاجتماعية في نظرتنا إلى الجسد -الأنثوي منه والذكوري- من خلال دراسات مختلفة على مدونات كثيرة لكتاب أبدعوا وكاتبات تميزن في سردهن، منهن غادة السمان".

وتوضح أن نصوص السمان جاءت حبلى بتيمة الجسد بنوعيه الذكوري والأنثوي، حيث ظهر هذا الأخير بصور متعددة نتيجة ما ألصقته به الثقافة الذكورية، وما توارثته الذاكرة الجماعية من أفكار خاطئة استمدت مفاهيمها من الموروث الشعبي.

وتلفت إلى أن الجسد الأنثوي أصبح مادة مستباحة خاضعة لشروط العرض والطلب، وانتقلت جمالياته، وتحولت إلى علامة تجارية خاضعة لشروط السوق وأذواق المستهلكين، ما يزيد من امتهانه فيصبح أكثر عرضة للمقايضة كأي سلعة، وكان بذلك الجسد الأنثوي محل تنظير النسوية.

ولم يتوقف ذلك، في رأي الباحثة، على الجانب الحسي والمعنوي، وإنما تعداه إلى الجانب القيمي، فتظهر المرأة المجاهدة في مواجهة السلطة حين ترغب الكاتبة من خلالها الكشف عن الجوهر الحقيقي للمرأة، بعيدا عن نمطية الرقة والنعومة التي لازمتها، تمهيدا لنبذها تاريخيا، فيحضر الجسد الأنثوي كهوية تحافظ على الموروث مقابل سياسة المحو التي يمارسها المستعمر للسيطرة عليه، وتشيد الكاتبة وتعلي من قيمة المرأة بكونها حافظة للموروث الثقافي.

وتؤكد هذه الباحثة أن الجسد الذكوري تمظهَر وتباين حضوره بصور مختلفة في قصص الأديبة غادة السمان، حيث اتسم عالم الذكورة في قصصها بنوع من الارتباك بين التقدير والتقديس يصل إلى حد التأليه، وأحيانا ينزاح السرد بهذا المقدس إلى أغوار الدناءة والتدنيس حين تقوض فحولة الجسد الذكوري، فكانت قصصها بذلك مرايا عاكسة لمعاناة الجسد في المجتمعات العربية المحافظة التي فاضلت بين الجنسين.

مكاشفة جريئة
يعود اختيار الباحثة لكتابات السمان نظرا إلى أنها كاتبة شاملة. لا لأنها تحررت من الأنواع الأدبية التي ربما تحن إلى بعضها بل لأنها أيضا تأبطت اللغة ومشت بين الألغام محتفية بأناقة مزاجها. وكتبت بجرأة ما جعل نصوصها كاشفة.

صنعت السمان من الكتابة عالما من حرير. نسجت من اللغة سجادة مغرية للحواس. يمكن لمَن يقرأ نصوصها أن يستعين بخياله لا من أجل أن يفهم بل من أجل أن يتمتع مشدودا إلى عالم يقع بين الواقع والخيال. أن تقرأ نصا من نصوصها فذلك معناه التحليق في فضاء لغوي متفجر.

تعرف السمان كيف تجذب قراءها إلى عالمها من خلال الكشف عن عيوب الذات من خلال ما يسمى بالاعتراف. ما تكتبه هو قريب في الجزء الأعظم منه من أدب الاعتراف الذي لم تعرفه الثقافة العربية إلا في ما ندر. من خلال ما يقرأه، يجد القارئ صورته في المرآة، كما هو وعلى حقيقته لا كما يظهر في الواقع. وهذا الانعكاس ينهض فيه الجسد أولا ثم تأتي بقية الكشوفات الأخرى.

جرأة الكاتبة جعلتها تضع حياتها تحت مجهر الكتابة. وليس يسيرا على كاتبة من نوعها أن تفصل بين حياتها والكتابة. الكتابة هي حياتها التي تجري على الورق فيما يمكن أن تشك أنها عاشت حياتها من غير أن تضع إصبعها على سطر من السطور التي كتبتها.

حين تقول "ليتنا نصنع الحياة قبل أن نصنع الخلود” فهي تعرف أن قفزة غير موفقة قام بها الإنسان منذ ملحمة جلجامش لا تزال تثقل عليه وتفسد أحلامه. فالخلود كلمة مبهمة، أما الحياة فهي معنى العيش المباشر الذي تطلقنا أسئلته مثل غزلان في دائرة لامتناهية.

لذلك كتبت السمان من أجل أن تهبنا صورة لإنسانيتها الحرة جيدا وفكرا وعاطفة لا من أجل أن تفسر ألغاز حياتنا أو تفر بتلك الألغاز إلى معنى غامض هو الخلود. بهذا المعنى تكون كاتبة واقعية ولكنه معنى بحدود ضيقة. ذلك لأن السمان كانت ولا تزال تبحث عما يمكن أن تهبه الكتابة من معان لحياتها.

ويذكر أن الباحثة حيدوش حاصلة على درجة دكتوراه في الأدب العربي الحديث والمعاصر من جامعة الجزائر، ومن مؤلفاتها “ويلفظني البحر” (مجموعة قصصية) عن دار ابن الشاطئ للنشر 2014، و"معجم أدباء ميلة.. سير ونصوص" دار دهيلي للنشر 2023.