تسعى هذه القراءة لمشروع سيزا قاسم النقدي المتميز إلى إبراز ثوابت خطابها وأصوله المنهجية، والذي ينهض على المقارنة كاستراتيجية معرفية شاملة، وما تتطلبه من خلفيات ثقافية عريضة واسعة، لا بالنصوص موضوع المقارنة وحدها، وإنما أيضا بسياقاتها التناصية والتاريخية، والكشف عن أهم منجزات مشروعها الثري وإضافاته الأصيلة للثقافة العربية.

قراءة في خطاب سيزا قاسم النقدي

المقارنة بوصفها استراتيجية معرفية

طارق النعـمان

 

أولًا: القيم الحاكمة لمسيرة هذا الخطاب

منذ أن كنتُ، طفلًا، وقبل أن أعرف من هي سيزا قاسم، وأنا أسمع من حين إلى آخر اسم سيزا قاسم يتردد على لسان أبي وصديقه عبد المنعم تليمة، وبالطبع وبحكم ندرة وغرابة الاسم؛ فما كان لهذا الاسم أن يسقط من ذاكرتي، أو يتوه في زحام الأسماء المألوفة والمكرورة. لكن أول معرفة مباشرة لي بسيزا قاسم كانت عام 1980 وأنا في السنة الأولى في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، حيث رأيتها وجهًا لوجه في مدرج (78) في حفل تأبين الراحل الكبير عبد العزيز الأهواني، تحديدًا في ذكرى أربعينه. وكان في الحقيقة تأبينًا جليلًا ومَهِيبًا، وقد ألقت فيه سيزا قاسم كلمة مؤثرة وشاجية تنم عن إجلال كبير لأستاذها، هذا العالم الكبير الشامخ. وكانت هذه أيضًا أول مرة استمع فيها لعبد الرحمن الأبنودي وجهًا لوجه على الرغم من أنه كان حينها طالبًا في ليسانس اللغة العربية. وقد أنشد ليلتها رائعته البديعة ’’الخواجه لامبو العجوز مات في إسبانيا‘‘ مُهدِيًا إيَّاها إلى روح الأهواني بحكم اشتغال الأهواني بالأندلسيات وبحكم علاقته بإسبانيا في نوع من المُمَاهَاة والمُمَاثَلَة بين ما كان يحمله الأهواني من قيم نبيلة ورفيعة وما تحمله شخصية لامبو أيضًا من قيم سامية ونبيلة.

في هذا السياق الجليل عرفتُ سيزا قاسم، وهي تُؤدِّي طقسًا من طقوس الحب والوفاء تجاه واحد من أحب أساتذتها إليها وأحب أستاذ لكل من أحبَبْتُهم واحترمْتُهم من أساتذتي أنا شخصيًا. ثم أخذت المعرفة تتزايد وتتعمق تدريجيًا عبر لقاءات عديدة ومتواترة داخل قسم اللغة العربية وأنا معيد مع أساتذتي عبد المنعم تليمة، وعبدالمحسن بدر، ونصر حامد أبو زيد، وجابر عصفور، وكذلك في سيمنارات القسم والتي كان منها سيمنار باسم عبد العزيز الأهواني، وهو السيمنار الذي قدَّمت فيه دراستها البديعة عن ’’توالد النصوص وإشباع الدلالة: تطبيقًا على تفسير القرآن‘‘. ثم أخذت تدعوني بعد ذلك لزيارتها وتوثَّقت علاقتي بها وكنت كثيرًا ما اتصل بها لأسألها عن معلومة أو عن مرجع، وأخذت العلاقة تتعمق وتتوثَّق مع الزمن.

والحقيقة أنني منذ أن عرفتُها وهي تمثل لي نصًا إنسانيًا وأكاديميًا حافلًا بالقيم والمبادئ الجليلة والجميلة والراقية هذه القيم التي تتمثل في: الجدية، الإخلاص، الدأب، المثابرة، الإتقان، دفع أجيال جديدة للعمل والمشاركة، ونقل منظومة القيم الجادة إليهم، الصرامة في العمل، وعدم المساومة على القيم العلمية والأكاديمية بأي صورة من الصور، عدم خلط القيمة العلمية بالمصلحة الشخصية، أو بالمجاملة مهما كانت علاقة الأفراد بها ومهما كان ما تَكِنُّه من حب لهؤلاء الأفراد. فهي في هذا الجانب سيدة حديدية بكل معنى الكلمة، ولا شك أن حديديتها تلك حديدية موجبة ومحمودة؛ لأنها ليست حديدية القسوة أو التسلط والتعالي، وإنما هي حديدية الجدية والرغبة في التعلم والعمل والإنجاز والكمال، ودفع الآخرين أيضًا نحو هذه القيم، وبالطبع شتَّان ما بين كلا النوعين من الدوافع، دوافع الإتقان والكمال ودوافع التعالي والتسلط.

وقد ظلت سيزا قاسم تُجسِّد هذه القيمة منذ أن عرفتُها وحتى آخر عدد صدر من مجلة ألف، وهو العدد الخاص بالموت، وكانت هي المُشْرِفة على تحريره، وكانت لي دراسة بعنوان «مرثية لاعب سيرك والخواجة لامبو العجوز: قراءة نصية مقارنة في شعرية السقوط والموت»، وهي دراسة سبق لها أن قرأتها وقيَّمتها تقييمًا إيجابيًا جدًا وأثنت عليها ثناء جعلني في قمة السعادة والفرح، ولكن لأنني لم ألتزم بإجراءات التقدم ومساراتها، نتاج عدم معرفتي بأن هناك عددًا عن هذا الموضوع؛ فإنه لم يُتح لي نشر هذا المقال في هذا العدد من (ألف). وبالطبع ما كان لي أن أفكر، ولو لحظة حتى، في أن أطلب منها أن تتغاضى عن هذا الأمر، أو أن أمارس دلالًا عليها بحكم ما أعلمه من محبة لي لديها، ربما لو كان شخص آخر هو المسئول عن العدد، ربما كنتُ قد فكرتُ في أن أطلب منه أو منها هذا، ولكن معرفتي بها جعلتني لا أفعل، ولا ألمِّح لها حتى عن الأمر؛ ذلك لأنني أعلم علم اليقين أنه لا مجال لديها للمجاملة في أمور من هذا النوع، رغم معرفتي الأكيدة من مدى محبتها وتقديرها لي.

ولكني أعلم أيضًا أنها لا تُساوِم ولا تُساوَم على مبدأ، ولا تقبل أن تتغاضى عن قيمة تؤمن بها، أو أن تُوصَم للحظة بأنها تميز أحدًا على أحد لقربه منها. هذه هي سيزا الأستاذة التي عرفتها معرفة وثيقة منذ أن كنتُ معيدًا والتي ظلت تمثل لي قيمة من القيم العلمية الرفيعة القليلة التي ظللتُ أحترمها على مدار حياتي العلمية والأكاديمية. هذه هي سيزا قاسم الأستاذة والنجمة الشامخة على صعيد القيم الأكاديمية، والإنسانة الشديدة الرقي والتواضع على الصعيد الإنساني أيضًا، إنها سيزا قاسم المُحبِّة والمُحْتَضِنَة والمُشجِّعة دومًا للطلاب المُبشِّرين الذين ترى فيهم بارقة اجتهاد ما، أو علامة صدق وطموح معرفي حقيقي.

إنني لا أنسى أبدًا موقفها مع أحد أصدقاء عمري الأحباء، المرحوم محمد عبد الحميد، وهو يُعِد رسالته للماجستير في علم اجتماع الأدب في منتصف الثمانينيات بعنوان«البناء السياسي في أعمال يوسف إدريس»، وكيف احتضنته، رغم أنها لم تكن مشرفة عليه، وكيف كانت تمده بالمراجع والأبحاث والمقالات الأجنبية في مجال علم اجتماع الأدب الذي كان مجالًا جديدًا تمامًا على الثقافة العربية في تلك الآونة، كيف كانت تُشجِّعه، كيف كانت تدعمه، ومدى سعادتها به لاقتحامه هذا المجال الجديد، وقد ناقشتْهُ في النهاية وكانت مناقشة مشهودة في أواخر الثمانينيات، رحمه الله هذا الصديق الجميل الراقي.

 كما لا أنسى أيضًا ما فعلتْه معي وأنا أقترب من إنهاء الماجستير؛ إذ فُوجِئتُ بأستاذي الحبيب والعزيز على قلبي، الأب والصديق الجميل عبد المنعم تليمة، رحمة الله عليه، يعطيني ظرفًا مُغْلقًا ويقول لي «هذه هدية د. سيزا لك لطباعة رسالتك». هكذا، إنها لكي لا تحرجني تركت هذا المبلغ مع أستاذي العزيز الراحل عبد المنعم تليمة؛ وحين قاومت الدكتور عبد المنعم، ورفضتُ أن آخذ المبلغ، زجرني وقال لي ّسيزا سوف تزعل جدًا لو رددتَ هديتها لك، أنت في مقام ابنها». تلك هي سيزا قاسم كما عرفتها، فضلًا عن مودتها واطمئنانها الدائم على أصدقائها وتلاميذها، وأسعد بالطبع لكوني واحدًا منهم رغم أنها لم تُدرِّس لي يومًا، ولم أتتلمذ على يديها بشكل مباشر، إلا أن المُؤكَّد هو أنني تعلمتُ منها أكثر مِمَّا تعلمتُ من كثيرين درَّسوا لي. إن سيزا قاسم سيدة تحمل من قيم العلم والمعرفة والثقافة بقدر ما تحمل من القيم الإنسانية السامية والراقية. وهي تجمع في إهاب واحد معًا نموذجين تربويين مع طلابها وتلامذتها، نموذج الأم الصارمة الحاسمة تجاه أي تراخٍ أو تقصير علمي أو ميوعة في شئون العلم والمعرفة، ونموذج الأم الراعية الحانية والحاضنة على الصعيد الإنساني. وهي تجمع بينهما باقتدار لافت، وسلاسة مُدهِشة، دون أدنى تعارض. وقد شهدتُ هذا معها بأشكال مباشرة وغير مباشرة.

أتذكر أيضًا أنني في أحد اللقاءات معها إبان عملي في المجلس الأعلى للثقافة، تقريبًا عام 2013، سألتُها، بحكم علمي بدأبها ومتابعتها الدائمة للإنتاج الجديد في مجال النقد والبلاغة عن أحد المقالات الإنجليزية الحديثة، وكان عن الكناية، فقالت لي لا، وإذا بي، بعد حوالي أسبوعين، تصلني رسالة منها، وفيها المقال؛ وبالطبع فقد اشترته لترسله إلي، وبقدر ما استشعرت الحرج حينها، بقدر ما سعدت بالمقال وبما في لمستها الإنسانية من مودة وحب وحنو. وحين قلت لها لِمَ كلفتِ نفسك أستاذتنا؟ كان ردها أنت ابني يا طارق. هذه سيزا قاسم التي تعلمت وتعلم كثيرون منها من أبناء جيلي ومن غير أبناء جيلي الكثير.

ولعل من أبرز ما يميز شخصية سيزا قاسم هو قدرتها الدائمة على التعلم والتساؤل. وفي الحقيقة، فإنني قد ظللت أتعجب طويلًا بيني وبين نفسي، ويتعجب معي، أيضًا، آخرون كثيرون سواي، كيف لم تُعيَّن سيزا قاسم بعد حصولها على هذه الدكتوراة الاستثنائية بكل معنى الكلمة في توقيتها عضو هيئة تدريس في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، كيف؟ أكثر من علامة استفهام تفرض نفسها بالتأكيد، وأكثر من علامة تعجب كذلك. ولا شك أن الجواب على مثل هذا السؤال لا بد له من أن يدين كثيرين، وربما على رأسهم جميعًا الراحلة العظيمة أستاذتها الدكتورة سهير القلماوي رحمة الله عليها.

ثانيًا، خطاب سيزا قاسم النقدي ومجالاته:
إن المتابع لخطاب سيزا قاسم النقدي يلفته هذا التنوع في الحركة وهذا التجوال الثري واللافت بين أقاليم وربوع وفضاءات الثقافة العربية المختلفة من الخطاب النثري الترسلي القديم على نحو ما هو في رسالة طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، إلى الخطاب الروائي المعاصر على نحو ما يتجلى في دراستها البالغة التميز بناء الرواية في ثلاثية نجيب محفوظ ومقارنتها بكل هذا العدد الضخم من الروايات الغربية وكل هؤلاء الروائيين: أوجيني جرانديه لبلزاك، ومدام بوفاري لفلوبير، والمطرقة والفريسة لزولا، وثلاثية جلزورذي الفورسايت ساجا، والبحث عن الزمن الضائع لبروست، ومدام داللوي لفرجينيا وولف كممثلين لرواية تيار الوعي، إلى خطاب العتامة وخطاب الشفافية، والمفارقة التي ينطوي عليها كلا الخطابين في علاقتهما بالنوع الأدبي، إلى الخطاب الديني، والتفسير على وجه التحديد بين مفسرين وبلاغيين من أمثال الطبري والزمخشري والرُّمَاني، وعلماء علوم قرآن مثل الزَّرْكَشي والسيوطي، إلى الخطاب التاريخي لدى الطبري والمسعودي وابن خلدون، إلى التنظير لمفهوم الخبر في التراث العربي، إلى تحليل نماذج متنوعة من الخطاب السردي المعاصر، ما بين روايات وقصص قصيرة على نحو ما يتجلى في كل تلك الدراسات الشديدة العمق والتكثيف المُضمَّنة في كتابها (روايات عربية: قراءة مقارنة)، إلى الشعر المعاصر على نحو ما هو في قراءتها الشديدة التميز والجِدَّة لكل من قصيدة، أو بالأحرى ديوان، (آية جيم) لحسن طلب، وديوان (أشياء ليس لها كلمات) لجرجس شكري، إلى نظريات السيميوطيقا وقراءة المكان والزمان من منظور سيميوطيقي في الشعر الجاهلي، إلى نظريات القراءة في الهرمنيوطيقا وفي التراث العربي على نحو ما تتجلى في شروح أو قراءات الشريشي للمقامات إلى خطاب الصورة والفنون التشكيلية على نحو ما هو في كتابها (القارئ والنص: العلامة والدلالة)، وفي قراءتها لصور ولوحات مارجو فييون عن النوبة،  إلى السيميوطيقا وأحدث منجزاتها، إلى الصمت كخطاب يملك شفراته الخاصة، إلى المقارنة بين خطاب الجنون بين إزراموس وعقلاء المجانين للنيسابوري، ووصولًا إلى العلاقة بين التاريخ والرواية، فضلًا عن العديد من الترجمات المهمة في اللغويات، والنظرية الأدبية، والسيميوطيقا، وتحريرها أول وأهم كتاب صدر عن السيميوطيقا في العالم العربي، وهو كتاب (مدخل إلى السيميوطيقا: أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1986، والذي شاركها في تحريره صديقي وأستاذي الحبيب الراحل نصر حامد أبو زيد الذي فقدته جامعة القاهرة نتاج زحف قوى الظلام المنتظم على الأكاديميا المصرية.

وهو الكتاب الذي أعادت إصداره في طبعة أخرى عام 2014، بإضافة قراءة ضافية ووافية لها عن أهم التطورات التي شهدها مجال السيميوطيقا منذ صدور الطبعة الأولى وحتى تاريخ صدور الطبعة الثانية. ولعلني أستطيع أن أزعم أن هذا السفر القيم هو الذي عرَّف الثقافة العربية بالسيميوطيقا وفتَّح أبوابها المختلفة أمام كل طامح لمعرفة هذا المجال الجديد؛ ولذا لم يكن من قبيل الصُّدَف أن يُقرِّظ راحل عظيم بحجم شكري عياد هذا الكتاب بمقال كبير وأن ينعته بأنه ’’نمط جديد من التأليف: لا لأنه مجموع من عدة مقالات لعدد من الكتاب .. بل لأن هذه المقالات قد خضعت لتخطيط دقيق يحاول أن يُغطِّي جوانب موضوع جديد وصعب. ثم ـــ وهذا هو الأهم ـــ لأنه يُقدِّم طائفة مختارة من النصوص الأصلية في هذا الموضوع مترجمة بكثير من العناية .‘‘ (مدخل إلى السيميوطيقا، ط2، ص 15) لقد كان مدخل إلى السيميوطيقا حدثًا ثقافيًا بكل معنى الكلمة، ولا شك أنه لعب دورًا معرفيًا في توجيه أنظار العديد من الباحثين إلى هذا المجال الجديد، وكان مسئولاً عن توجه العديد من الشباب نحو هذا المجال، وبالطبع ما كان لهذا أن يحدث لولا وعي سيزا قاسم بضرورة تحريك الجمود المنهجي الذي كان يرين على الثقافة العربية وخصوصًا النقد الأدبي ومجالات الدراسات الإنسانية بعامة، ولذا كان من الطبيعي أن تتوجه إلى أسماء بعينها للمشاركة في مثل هذا الكتاب، أسما عرفت بطليعيتها الثقافية والمعرفية.

إن هذه الطائفة من المقالات التي يُحدِّثنا عنها شكري عياد تمتد من بيرس إلى سوسير، إلى بنفنست، إلى تشومسكي، إلى مايكل رفاتير، إلى كير إيلام، إلى يوري لوتمان، إلى جان موكارفسكي، إلى أوسبنسكي وإيفانوف وتوبوروف، وهي تتوزع ما بين رصد أنماط العلامات، إلى سيميوطيقا اللغة، فسيميوطيقا الشعر، وسيميوطيقا المسرح، وسيميوطيقا السينما، وسيميوطيقا الفن، وأخيرًا سيميوطيقا الثقافة، وقبل كل هذه الدراسات المتنوعة المترجمة مساهمات عربية أصيلة وتأسيسية من فريال غزول، وسيزا قاسم، والراحلة الغالية أمينة رشيد، وعبد الرحمن أيوب، والراحل والصديق الحبيب نصر حامد أبو زيد. أعتقد أنه هكذا يمكننا أن نفهم عبارات شكري عياد، ولماذا استغرقت كتابته لمقاله عن هذا الكتاب ثلاثة أشهر، وكان يُقدِّر قبل أن يشرع في قراءة الكتاب أنه يمكنه أن يفرغ منه في أسبوع أو أسبوعين على الأكثر.

إن هذا التنوع في الحركة والانتقال بين كل تلك الأقاليم والعوالم الثقافية المتباعدة، والمراحل التاريخية والزمنية المتباينة وكل تلك الأنواع الأدبية المختلفة، والتنقل بين أنظمة سيميوطيقية متعددة كاللغة والفنون التشكيلية والتصوير والموسيقى تكشف أننا إزاء ناقدة تسعى إلى الاكتمال، والكمال، وإلى الموسوعية، سواء على مستوى الإحاطة بركائز الثقافة العربية عبر تاريخها الممتد أو على مستوى متابعة المُنْتَج النقدي الغربي الحديث والمعاصر، فضلًا عن متابعة نادرة للأدب العالمي بحكم اتقانها لعدة لغات.

لعله يمكننا أن ننطلق في رصد خطاب سيزا قاسم من مصطلح من أهم مصطلحاتها وهو مصطلح «إشباع الدلالة»؛ إذ يمكن القول إن سيزا قاسم لا تنطلق في عملية الكتابة إلا بعد أن تكون قد تشبَّعت من موضوعها ومادة موضوعها تشبعًا شديدًا جدًا، إلى حد يمكن القول إنه يجاوز حدود الإشباع والتشبع إلى الهضم والتمثل الكامل، بقدر ما تكون في الوقت ذاته متمثلة تمامًا أدوات تشغيل هذه المادة من أجل إنتاج الدلالة وإشباعها، وإن كان بمعنى مختلف ومناقض تمامًا لمعنى ومفهوم الإشباع الذي تشير هي إليه لدى الطبري، والمتمثل في مراكمة النصوص على هذا النحو الذي يمكن له أن يطمس الدلالة ويٌشوِّش المقروء.

ثالثًا: آفاق المقارنة:
مع سيزا قاسم تُشكِّل عمليات المقارنة نوعًا من أنواع إعادة كتابة النص من خارجه، إذ تصبح المقارنة نوعًا من أنواع انفتاح النص على نصوص أخرى؛ ومن ثم تشغيل النص من خلال نصوص تبدو وكأنها مُحرِّكات خارجية، ومن خلال انفتاح آفاق النص على ما سواه من نصوص أخرى تتواشج معه بصور متنوعة ومتعددة، أو لنقل، انطلاقًا من عبارة جينيت، عبر نصوص حافة به أو تقع على تخومه، يتجاوز النص موضع المقارنة ذاتَه، يتحول من كونه نصًا لازمًا ليصبح نصًا متعديًا، نصًا يمتلك تلك الخاصية التواصلية التي تجعله يُجَذِّر نفسه على صعيد المتن الثقافي. (حول مفهوم النصوص الحافة، انظر مقدمة الترجمة والصراع للكاتب.)

إن سيزا وكما يبدو لي، ترى أن المقارنة تُحرِّر النصوص، تُخرجها من انكفائها على ذواتها، لتمنحها أجواء وأهواء أخرى، وتمنحها مواقع أخرى للرؤيا والمُطَالَعَة. بعبارة أخرى يمكن القول إن المقارنة لدى سيزا قاسم تنقل النصوص من مقام الثبات والسكون إلى حال من الحيوية الحركة، أو إذا ما استعرنا بيت أبي تمام؛ فإنها تُجدِّدها من خلال تغريبها على نحو ما يقول:

وطولُ مُقامِ المَرْءِ فِي الحَيّ مُخْلِقٌ           لديباجتيهِ فاغْتَرِبْ تتجدَّدِ

مع المقارنة، تقرأ النصوص بعضُها بعضًا حضورًا وغيابًا، سلبًا وإيجابًا، وينير بعضها بعضًا، تتحاور وتتبادل الأسئلة والإجابات، وربما أيضًا تتجادل وتتصارع فيما بينها. والمقارنة لدى سيزا لا تقتصر فقط على حدود مقارنة نصوص أدبية ببعضها البعض، وإنما تتجاوز هذا النطاق إلى مقارنة النصوص الأدبية بالفنون التشكيلية على نحو ما نجد فيما تعقده من مقارنة بين طبيعة القراءة في التصوير وطبيعة القراءة في الأدب، في كتاب (القارئ والنص: العلامة والدلالة)، أو ما يوجد مثلًا في قصيدة (آية جيم) لحسن طلب من لعب لغوي وما يوجد لدى كل من سيزان، وكانجينسك وكِلي من تلاعب بالأشكال، وما ينتج عن هذا التلاعب من توليد احتمالات جديدة. أو ما يوجد من توليدات اشتقاقية لدى حسن طلب وما يقوم به نحات مثل جياكوميتي Giacometti من محاولات لاستخراج الأشكال الكامنة في المادة أو ما كان يحاوله مثَّال مثل مايكل أنجلو من إيقاظ للشكل الغافي في قطعة الرخام.

كما نجد مثلًا المقارنة بين قصيدة ونص سردي على نحو ما نجد في تلك المقارنة اللافتة بين (آية جيم) و(ألس في بلاد العجائب)، وما يُوجد من تشابه واختلاف بين ما يقوم به همتي دُمتي من تغيير لدلالات الكلمات كما يحلو له، وما يحدث في (آية جيم) من اختيار علامة فارغة وشحنها بالعديد من الاحتمالات الممكنة، أو مقارنة ما يوجد من تشابه بين التنويع على حرف الجيم في القصيدة، وما يوجد من تنويع لإمكانيات التيمة الموسيقية الواحدة في التأليف الموسيقي. كما تُقارن بين لا مرجعية الخط واللون في الفن التشكيلي واللا مرجعية في الشعر، أو مثلما تقارن أيضًا بين (آية جيم) ولوحة بيكاسو (الحديقة في ضوء القمر). (انظر تحليلها لآية جيم في هذا المجلد) وما تفعله  في قراءتها لديوان (أشياء ليس لها كلمات) لجرجس شكري لا يختلف عما فعلته مع (آية جيم) لحسن طلب، إذ نجدها لكيما تضع يدنا على بعض خصائص شعرية جرجس شكري مثل: المزج بين العوالم المتعارضة، أو انتزاع المفردات من سياقها الدلالي وإقحامها في سياقات مناقضة، أو تجسيد التشظي الإنساني من خلال لغة بسيطة سلسة تقترب من لغة الكلام اليومي، أو تجسيد السؤال الشعري الذي ينطوي عليه الديوان على نحو ما ينعكس في عنوانه وقصائده، وهو هل «هل كل الأشياء لها كلمات؟» أم أن «العالم أوسع من اللغة»؟ 

تطوف بنا من شارل بودلير إلى آرثر رامبو، إلى فلاديمير ماياكوفسكي، إلى سان جون بيرس، إلى إيف بونفوا، إلى أدونيس، إلى حركة التسعينيات في الشعر العربي، إلى علاقة الشعر بالفنون التشكيلية، وانفعال الفنون التشكيلية بالشعر، إلى الربط بين ديوان جرجس ونص ينتمي إلى نوع أدبي مغاير تمامًا، وهو نص الغيطاني (حكايات هائمة)، إلى شعر الهايكو الياباني وتسربه إلى الثقافة العربية من خلال عز الدين المناصرة، وما يوجد من تشابه واختلاف بين قصائد التوقيعة قديمًا وكتابة عز الدين المناصرة لها حديثًا، وبين قصيدة جرجس شكري الراهنة، وما تنطوي عليه قصائد جرجس من نقلات موضوعية صادمة ومفاجئة تعكس تنوع الخبرة الإنسانية.

هكذا هي سيزا، بقدر ما تغوص في أعماق وتلافيف النصوص لا يشغلها النظر إلى الشجرة عن رؤية الغابة، فإذا كانت الشجرة هي الشكل، أو النص هو الشكل، فإن الغابة، النصوص التي يبرز بينها النص، هي الأرضية التي ينعكس على خلفيتها الشكل، وهو ما لايتاح إلا لمن تتسم ثقافتهم بقدر كبير من الموسوعية. وسيزا في هذا تنطلق من مبدأ أصيل وحاضر تمارسه وتدعو دومًا إليه، وهو أن «كل باحث يجب أن يكون على قدر كبير من التخصص وفي الوقت نفسه يكون مُلِمًا بكل المقاربات الحافة التي تمس موضوعه.» (سيزا قاسم، مدخل إلى السيميوطيقا، ص 406). ومن ثم فإن سيزا قاسم تنطلق في مقاربتها النقدية من تخصصها الدقيق «الأدب المقارن» إلى آفاق أرحب بكثير من الحدود الأكاديمية للتخصص، إذ تنطلق في مقاربتها من يقين أن النصوص الأدبية ليست إلا مكونًا من مكونات الثقافة؛ ومن ثم لا يمكن فهم تلك النصوص، ناهينا عن قراءتها وتفسيرها، بمعزل عن الثقافة المُنْتِجَة لها، وهو ما يقتضي بالطبع ضرورة توسيع المنظور.

ولعله يمكن القول إن هذا النص الوارد في مقالها الضافي عن آخر تطورات السيميوطيقا والذي تختتم به الطبعة الثانية من كتاب «مدخل إلى السيميوطيقا» بعنوان «أمَّا بعد»، والذي تُوجِز فيه مقولات يوري لوتمان المحورية في سيميوطيقا الثقافة، لا يقدم لنا فقط منظور لوتمان وإنما يُقدِّم لنا أيضًا منظور سيزا قاسم للثقافة؛ إذ يمكن القول إنها تتبنى هذا المنظور تمامًا في ممارساتها القرائية وتحديدًا في مرحلة ما بعد الدكتوراة وربما يمكنني أن أقول بداية من دراستها الفذة عن ’’توالد النصوص وإشباع الدلالة‘‘، فهي ترى أن نظرية لوتمان في الثقافة تنبني على أن: «الثقافة نظام مُرَكَّب يتألف من أكثر من نظام وأكثر من شفرة، النص هو في جوهره مُتعدِّد اللغات، وينتمي إلى أكثر من لغة في الوقت نفسه، وأي تواصل هو في جوهره عملية ترجمة، الفن هو أداة إدراكية تُشكِّل الواقع عن طريق نظامه الخاص، لا يمكن لأي ثقافة أو نص أو علامة أن تُوجَد بمفردها، وتقع المعايير في مركز الثقافة، حيث تُحدِّد الصورة التي تعكسها عن نفسها، إن الصراع الذي يقوم بين مركز الثقافة وأطرافها هو المُحرِّك الذي يُؤدِّي إلى الدينامكية داخل الثقافة، وتقوم الحدود بعمل غربلة ما هو ثقافي مِمَّا هو لا ثقافي.» (سيزا قاسم، السابق، ص 422)

إن هذا النص الذي تُكثِّف فيه سيزا قاسم نظرية لوتمان في سيميوطيقا الثقافة يُمثِّل ويُوجِز أيضًا المنظور الذي تتبنَّاه وتنطلق منه سيزا في ممارساتها النقدية؛ ومن ثم يمكن القول إن هذا المنظور للثقافة هو الذي حكم ممارسات سيزا النقدية وقراءاتها، ومنحها نكهتها الخاصة والمتميزة عن كثيرين وكثيرات مِمَّن يمارسون الدراسات النقدية المقارنة. وإذا كانت البينية هي ما يشكل، فيما يفترض، قوام المقارنة، فإن البينية بالطبع، تتحول إلى موقع وفضاء، ولكنه دومًا فضاء وموقع متحرك، وهو ما يتجلى في حركات سيزا قاسم الدائبة؛ ذلك أن المقارنة تعني، ضمن ما تعني، دومًا الانتقال بين الحدود، والحد بطبيعته فضاء بيني؛ ومن ثم فإنه يفصل ويوصل، ينفتح على الداخل في اللحظة ذاتها التي ينفتح فيها على الخارج؛ ومن ثم يبدو الناقد الذي من طراز سيزا قاسم وكأنه يملك وجهي يانوس الذي ينظر في اتجاهين في آن واحد. وهذا تحديدًا هو ما يتجلى في إبداعات سيزا قاسم النقدية على نحو أصيل ولافت. وبالطبع، فإن أهم ما يميز المقارنة كنشاط هو أنها تفتح الحدود على بعضها البعض، وتقلقل فكرة الحد، وتخلق أيضًا الجسور، وإن كان بالطبع بدرجات متفاوتة.

كما أن المقارنة تعني ضمن ما تعني تحرير النصوص من حدودها المُنْغَلِقة على ذاتها، وفتح قنوات اتصال بينها وبين نصوص أخرى سواها. ولا شك أن النقد التطبيقي المقارن مجال مُجْهِد وصعب؛ لأنه غالبًا ما يتطلب مضاعفة الوقت والجهد. لأن أي قراءة نقدية لنص ما لا تجاوز حدود النص المقروء لا تتطلب الجهد ذاته الذي تتطلبه وتفرضه المقارنة بين أكثر من نص، نصين مثلًا أو أكثر، وبالطبع فإن العائد أيضًا غالبًا ما يكون أثرى وأوفر. من هنا تأتي خصوصية ممارسات سيزا قاسم النقدية وتميزها. بعبارة أخرى إن قراءاتها التطبيقية المقارنة تفتح النصوص على فضاءات أخرى؛ ومن ثم تمنح النصوص وتمنح القارئ أيضًا هواءً جديدًا، وفضاءً مغايرًا. إنها تُحرِّك النص، تلقي به في آفاق، أو لنقل حتى، في أحضان نص آخر أو نصوص أخرى قريبة أو غريبة، وهو ما تتولد عنه بالضرورة دلالات أخرى جديدة لم تكن له لو ظل مُنْغَلِقًا على ذاته.

بهذا المعنى يمكننا القول إن المقارنة تحديدًا تعيد إنتاج النصوص، تنقلها من نطاق اللزوم إلى نطاق التعدي، وغالبًا ما لا تكتفي المقارنات الجادة والعميقة على نحو ما هي مقارنات سيزا قاسم بما يبدو على سطح النصوص، وتتجاوزه إلى ما قد يبدو راسبًا تحت السطح، على نحو ما يتجلى في العديد من دراساتها في كتاب (روايات عربية). وبالطبع فإن النصوص بعد المقارنة لا تبقى كما هي قبل المقارنة. ولا بأس هنا من تقريب وتمثيل ما تحدثه المقارنة من صلات بما تحدثه علاقات النسب وما ينتج عنها من أثر. بعبارة أخرى، إن النصوص التي تتم المقارنة معها كثيرًا ما تصبح امتدادًا للنص موضع المقارنة؛ إذ مثلما غالبًا ما تضيف علاقات النسب للأطراف الداخلة في تلك العلاقات نوعًا من رأس المال الاجتماعي، وربما أيضًا الرمزي، يُمكِننا القول أيضًا إن المقارنة غالبًا ما تُكْسِب هي الأخرى النصوص نوعًا ما من رأس المال الرمزي من خلال ما تعقده بين تلك النصوص من علاقات وارتباطات.

إن سيزا قاسم، إذًا، تمارس النقد التطبيقي المقارن من منظور ثقافي ولكنه منظور ثقافي ينطلق من أرضية سيميوطيقية، وعلى وجه التحديد من أرضية لوتمانية، خصوصًا في مرحلة ما بعد الدكتوراة. فالهاجس الثقافي، ودلالات العلامات في سياقها الثقافي الخاص هو الهاجس المهيمن والملح على مجمل ممارستها النقدية. وإذا كانت المقارنة تعني، ضمن ما تعني من دلالات كثيرة، تعابر النصوص، أي خروج النصوص من حدودها إلى حدود أخرى سواها؛ فإن المقارنة بهذا المعنى تغدو فعلًا من أفعال التوسط، والحراك والانتقال بين فضاءات مختلفة، من حد إلى حد، ومن ضفة إلى أخرى، نوعًا من الذهاب والإياب والمرواحة، وداخل تلك الحركة ونتاجًا لها كثيرًا ما تنطمس بعض العلامات الفاصلة بين الحدود، ويُعاد ترسيمها، ويُتَكَشَّف أن بعض ما كان يعد داخليًا هو في حقيقة الأمر أيضًا خارجي، أو أن ما كان يُتصوَّر أنه خارجي هو كذلك داخلي. وهكذا تتيح المقارنة رؤية الذات في مرايا الآخر، ورؤية الآخر أيضًا في مرايا الذات، كما تتيح أيضًا للنصوص أن تحاور بعضها البعض.

ومِمَّا يستلفت الانتباه والنظر أن نجد أن سيزا قاسم تنتهج المقارنة حتى داخل الثقافة العربية، وقبل أن تلج مجال الأدب المقارن؛ على نحو ما نجد في رسالتها للماجستير عن (طوق الحمامة لابن حزم) التي تقارن فيها كتاب الطوق مع العديد من النصوص العربية الأخرى السابقة عليه واللاحقة كذلك له؛ ولكنها لا تكتفي بهذا فنجدها تعود بعد ما يربو على أربعة عقود لتعقد المزيد من المقارنات مع التراث الغربي أيضًا. إذ كما يبدو، فإن المقارنة واحدة، في جوهرها؛ بما أنها تتيح للنص الانفتاح على ما سواه من نصوص أخرى سواء كانت هذه النصوص من داخل الثقافة المنتمي إليها النص أو من خارج تلك الثقافة، ذلك أنها في الحالين تمثل توسيعًا لمجال الرؤية، وإدخالًا للنص في علاقات مختلفة ومتنوعة ورؤيته مرة في ذاته وأخرى عبر مرايا النصوص الأخرى التي تتم المقارنة معها. ولعل هذا هو السر في ولع سيزا قاسم بالمقارنة. إن المقارنة تنير النص وتُضوِّئه، وتمنحه آفاقًا وزوايا أو منظورات جديدة للرؤية.

رابعًا: المقارنة بوصفها استراتيجية معرفية:
إن المقارنة لدى سيزا قاسم تمثل استراتيجية معرفية ترسَّخت إلى حد يمكن القول معه إنها قد أصبحت معه تُشكِّل أسلوبًا معرفيًا يحكم عمليات القراءة لديها. فمع سيزا قاسم لا قراءة دون مقارنة سواء داخل الثقافة الواحدة أو بين ثقافات مختلفة، وهكذا تمثل المقارنة أحد مكونات النسق أو الجهاز القرائي لدى سيزا قاسم كما تمثل أحد أساليب فك شفرات النصوص المقروءة لديها. ولا شك أن هذا يطرح سؤالًا مهمًا، خصوصًا حين تكون هذه المقارنات مجاوزة لنطاق التخصص الذي هو الأدب المقارن، لتصبح ملازمة لكل قراءة نقدية تؤديها سيزا قاسم حتى داخل الثقافة الواحدة. وهنا لا بد أن نتحدث عما تمنحنا إياه المقارنة وعمَّا نناله في حضرة المقارنة، ولنعلم ما الذي نفقده مع غياب المقارنات.

إن المقارنة؛ بما تتيحه لنا من فتح حدود النصوص على بعضها البعض، تكسر الحواجز وتؤكد وحدة الثقافة بقدر ما تؤكد أيضًا الاختلاف، سواء كانت المقارنة تتم داخل ثقافة واحدة أو بين ثقافات متعددة، أي أنها تلعب دومًا في ملاعب الهوية والاختلاف، وتفتح بالقوة الهويات على إمكان الاختلاف والمغايرة. كما تمنحنا أيضًا المقارنة مواقع جديدة للرؤيا والمعاينة، مواقع تتيح للنص أن يجاوز ذاته وأن يرى نفسه من موقع آخر أو مواقع أخرى سوى موقعه، بقدر ما تتيح للنص الآخر أن يُرَى هو الآخر في مرايا أخرى. ويمكن التدليل على هذا بوضوح من خلال الإشارة المباشرة إلى بعض قراءات سيزا قاسم وطبيعة المقارنة الكامنة لكي لا يبدو كلامنا مجردًا أو عامًا بالنسبة للقارئ؛ إذ كما سبق وقلنا، فإن المقارنة حاضرة حتى في تلك النصوص التي لا تنتمي إلى ما يدخل في نطاق الأدب المقارن؛ على نحو ما نجد من مقارنات داخل الثقافة ذاتها بين مُفَسِّرِين وبعضهم البعض، أو فيما بين مُؤَرِّخِين وبعضهم البعض كذلك.

هكذا تبدو المقارنة  كإجراء وكأنها إحدى وسائل الإدراك والفهم، والتفسير، وليس بوصفها مجرد محاولة لكشف ما يوجد من تأثر وتأثير أو من تناصات بين النصوص كما يكون لدى كثيرين. وإنما تتجاوز المقارنة هذا لتصبح موقعًا ينطلق منه النظر وتتشكَّل عبره المعاينة والرؤيا، ففي دراستها «توالد النصوص وإشباع الدلالة: تطبيقًا على تفسير القرآن» يصبح الطبري موقعًا يُنظَر منه إلى الزمخشري، كما يصبح الزمخشري موقعًا يُرَى منه الطبري، كما هو كذلك في دراستها الرائعة عن الخطاب التاريخي العربي «الخطاب التاريخي من التقييد إلى الإرسال» يصبح الطبري على صعيد الكتابة التاريخية موقعًا أيضًا يُنظَر منه إلى كل من المسعودي وابن خلدون، والمسعودي موقع يُرَى عبره كل من الطبري وابن خلدون، وابن خلدون موقع يُرَى عبره الطبري والمسعودي. هكذا يتبدى لي فعل المقارنة في تلك النصوص التي لا تدخل في نطاق اعتيادية إجراء المقارنة في الأدب المقارن بوصفه إجراءً لازمًا في ممارسة سيزا قاسم النقدية، إجراءً يتم عبره الفهم ويتم من خلاله التفسير والتأويل والقراءة.

إلا أنه وإن كان إجراءًا لازمًا في ممارستها النقدية فإنه فعل يتعدى نطاق الأدب المقارن إلى ما سواه. بعبارة أخرى، فإنه يمكن القول إن المقارنة لدى سيزا قاسم تتحول إلى استراتيجية معرفية cognitive strategy للرؤيا والنظر لديها، استراتيجية معرفية لا تلبث أن تتحول إلى أسلوب معرفي cognitive style يتحول بدوره إلى أن يصبح خُطاطة معرفية cognitive scheme قارة في البنية الذهنية العميقة لدى سيزا قاسم، (حول مفهوم الخُطَاطة المعرفية، انظر ليكوف وجونسون، الفلسفة في الجسد، ترجمة، طارق النعمان، ص 91 وما بعد). المقارنة إذًا بقدر ما تعني إدراك التشابهات؛ فإنها تعني أيضًا الانفتاح على الاختلاف والتباين والمغايرة، والقدرة على الإنصات لتعدد الأصوات.

وبهذا المعنى يمكن القول إن المقارنة تصوغ رؤيا سيزا قاسم للعالم؛ فالعالم، لديها، لا يُرى إلا في علاقاته، وعبر أصواته المختلفة والمتعددة، ولا يمكن النظر إلى مفرداته بمعزل عن بعضها البعض، أي عمَّا يشابهها ويخالفها أو يتضاد معها. ولا يمكن معاينته من موقع واحد فقط، ولكن لا بد من تبديل مواقع النظر والرؤيا والحِرَاك والمُنَاقَلة فيما بينها، وهو ما تتيحه المقارنة، حين يكون الناقد واعيًا بقيمة أفعال المقارنة ومتمكنًا من مجال وأدوات المقارنة. وليعرف القارئ الفارق يمكنه أن يقرأ هاتين الدراستين لسيزا قاسم ويقارن بينهما وبين من يتناولون كلا المُفَسِّرينِ اللذين تقارن بينهما سيزا، أو المؤرخين ذاتهم الذين تقارن بينهم سيزا، وتلك الدراسات التي تدرس كل واحد من هؤلاء المُؤَرِّخين وحده، ودون أي شكل من أشكال المقارنة، ليعرف بنفسه عمق الفارق ما بين الممارستين، ممارسة مزدوجة أو تعددية منفتحة وأخرى أحادية منغلقة. إن تلك هي الآلية المعرفية التي تعمل وتشتغل من خلالها ممارسة سيزا قاسم المعرفية.

إن المقارنة تمنح النصوص هواء جديدًا ومذاقًا مختلفًا، وبهذا المعنى فإنها تمثل نوعًا من أنواع المُؤَاخَرة، أي أنها عملية أشبه ما تكون بالعملية المجازية التي تحدث في الاستعارة وفق المنظور المعرفي للاستعارة، من أنها: الكيفية التي نُمَفْهِم Conceptualize بها مجالًا ذهنيًا ما وفقًا لمجال آخر. أي أنها ترسيم لمجال عبر مجال آخر كأن أرسِّم الحب مثلًا عبر مجال النار أو المواد المشتعلة أو الحارقة أو المتفجرة. (انظر جورج ليكوف، النظرية المعاصرة للاسعارة، ترجمة طارق النعمان) على نحو ما نجد مثلًا في حديث ابن حزم عن علامات الحب: «وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحب وتأجج حريقه، وتوقد شعله، واستطارة لهبه.» (ابن حزم، طوق الحمامة، ص 18) إذ نرى الحب عبر مرايا النار والتأجج والحريق والاتقاد والاشتعال واللهيب أي عبر المجال الدلالي للنار وأفعالها وتجلياتها المختلفة، كذلك هي المقارنة تجعلنا نرى النص عبر مرايا نص آخر أو نصوص أخرى.

وهكذا يبدو الفارق بين القراءات النقدية المُؤدَّاة عبر المقارنة والقراءات النقدية المُنْغَلِقَة على النص موضع القراءة أشبه ما يكون بالفارق بين التعبيرات الحرفية والتعبيرات المجازية؛ إذ مثلما تفتح التعبيرات المجازية آفاقًا ومواقع ومجالات جديدة تتم رؤية الموضوع عبرها كذلك تتيح المقارنة أن تتحول النصوص إلى مرايا لبعضها البعض. وهكذا يمكن القول إن المجاز والمقارنة كليهما تجمعهما آلية واحدة، ويعملان من خلال تلك الآلية الواحدة المشتركة، وهي تلك الآلية التي أدعوها آلية المُؤاخرة otherness. إن المقارنة تصنع ما يصنعه التشبيه والاستعارة وهو رؤية طرف ما من خلال طرف آخر، وبهذا المعنى يمكننا القول إن المقارنة في جوهرها فعل مجازي بامتياز. وهذا هو سر تميز القراءات المقارنة حين تكون تلك القراءات متمكنة من أدواتها ومتقنة لهذه الأدوات.

ولعلها ليست صدفة أن التشبيه في تعريفاته البلاغية ينبني على المقارنة comparison بل إن كلمة comparison ذاتها تُستخدَم استخدامًا ترادفيًا وتبادليًا مع كلمة simile والأمر لا يقتصر في هذا على البلاغة الغربية فقط، بل إن مصطلح المقارنة يرد أيضًا في نطاق شرح التشبيه داخل البلاغة العربية على نحو ما نجد لدى عبد القاهر في الأسرار (انظر أسرار البلاغة، ص 170، 319، 348). وكذلك عند حازم القرطاجني في (منهاج البلغاء وسراج الأدباء)، (انظر حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 14، 44-45، 132) ولا شك أن المقارنات المجاوزة للبحث عن التشابهات تبدو أكثر تشابهًا مع الاستعارة منها مع التشبيه. إن هذه المشابهة بين المقاربات المقارنة والتشبيه والاستعارة تتيح في تقديري أن ندرك مدى أهمية المقاربات المقارنة في القراءة النقدية، إذ في تقديري أن الفارق بين القراءات النقدية المقارنة والقراءات النقدية غير المقارنة يكاد يكون بمثابة الفارق بين التعبيرات الحرفية بأحادية دلالتها والتعبيرات المجازية بتعددية وانفتاح دلالاتها وما تضمره من إيحاءات وتداعيات وظلال.

وهنا لا بد من إدراك أن المُقَارَنَات ليست من قبيل المعطيات القبلية الكامنة سلفًا في النصوص التي تتم مقارنتها، بعبارة أخرى؛ إنها ليست قارة أو حاضرة حضور المعادن في باطن الأرض، وكل ما على المقارنات والمقارنين استخراجها من باطن النصوص، وإنما هي عمليات تكوينية يقوم بها المُقارِنون والمقارنات، وفي تقديري الشخصي، أن الوعي المقارن وعي تستهويه المرايا والجسور وألعاب تحويل المنظور ومواقع الرؤية. كما أنه وعي قابل للانقسام على ذاته؛ ومن ثم قابل للتعدد والتكاثر. إن كل هذا الولع بالمقارنة لدى سيزا قاسم يتطلب قراءة معمقة إلى ما يكمن وراء هذا الولع، وما يتضمنه هذا الإصرار على المقارنة من مفاهيم ورؤى، أي قراءة تقرؤ ما تضمره المقارنة أو ما وراء المقارنة أو إن جاز التعبير، ميتا المقارنة meta-comparison، لدى سيزا قاسم. أو لنقل قراءة تستكنه الفرضيات الضمنية الكامنة والثاوية وراء ممارسة المقارنة لديها، ومن خلال قراءتي لكل أعمال سيزا قاسم يمكنني أن أقول إن المقارنة لديها تشتمل على هذه المجموعة من الفرضيات والمفاهيم والرؤى المُباطِنة التي يمكننا إيجازها على النحو التالي:

1- إن النصوص يكتب بعضها بعضًا، بحكم خضوعها جميعًا للآليات الثقافية المُنتِجة والمُولِّدة لها وهو ما يتجلى في إيثارها لاستعارة توالد النصوص على مصطلح التناص، وهي في هذا شديدة التأثر بالطروح اللوتمانية حول الثقافة ودور الذاكرة الثقافية وآليات عملها أكثر بكثير من تأثرها بما يُقال في أدبيات التناص.

إذ يمكننا أن نلمح لدى سيزا قاسم نوعًا ما من أنواع البحث عن البنية المُوَلِّدة، واستعارة التوالد من أهم استعارات سيزا قاسم النقدية، إلا أن البنية المُوَلِّدة لدى سيزا تختلف عن البنية المُوَلِّدة بمفهومها الجولدماني الذي ينصب على الطبقة وأيديولوجيا الطبقة، لينصب على البنى الثقافية المُولِّدة للنصوص والتي لا تمثل الأيديولوجيا سوى مكون واحد من مكوناتها فحسب. ويمكن القول إن هذه الاستعارة استعارة محورية في خطاب سيزا قاسم النقدي، بل لعله يمكن القول أنها استعارة ممتدة في هذا الخطاب ومُباطِنة له، سواء تم التلفظ بها صراحة على نحو ما هي حاضرة في مقال «توالد النصوص وإشباع الدلالة»؛ أو لم يتم التصريح والتلفظ بها على نحو مباشر؛ إذ تبدو حاضرة وفاعلة في توجيه القراءة والتفسير، على نحو ما يمكننا أن نرى مثلًا في تحليل قصيدة (آية جيم) لحسن طلب وعلاقة القصيدة مثلًا بالنص القرآني، دون حتى أن تذكر الناقدة استعارة «التوالد»، أو فيما ترصده بين بعض قصص يوسف إدريس، وتوالد بعض هذه القصص من رحم بعضها البعض كما سوف نرى. وهنا لا يملك القارئ سوى أن يتساءل لماذا لم تستخدم سيزا مصطلح التناص مثلًا لينوب عن استعارة «توالد النصوص»؟ وأتصور أن هذ التفضيل يعود إلى الآتي:

أ‌- إن التوالد ليس وليد النصوص وحدها كما هو التناص على صعيد اللغة، وإنما هو أيضًا وليد الواقع والقيم والثقافة التي لا تمثل النصوص (اللغوية) سوى جزء ومكون واحد فحسب من مكوناتها العديدة والمتنوعة. بعبارة أخرى التوالد يتيح الانفتاح على كل الأنظمة السيميوطيقية داخل الثقافة وهو ما لا يتيحه استخدام مصطلح التناص الذي يبدو وكأنه ينحصر في نطاق سيميوطيقي واحد هو نطاق اللغة. فالتناص، على الرغم من أهميته على صعيد النظرية النقدية، يبدو أكثر محدودية من مصطلح ومفهوم التوالد.

ب‌- يمكن القول أيضًا إن استعارة التوالد استعارة تحوي في ثناياها مرجعيتها وفحاويها الجنسية. وبهذا المعنى فإنها استعارة تُضمِر دلالات الخصوبة والتخصيب الدائم، ومن ثم الإنتاجية وهي دلالات لا تلزم بالضرورة عن مصطلح التناص.

تلك هي الصورة المركزية الثاوية والقارة على امتداد مشروع سيزا قاسم النقدي. ومن ثم من الطبيعي أن نجد أن قراءات سيزا معنية دومًا بطبيعة العلاقات بين النصوص، وبين بعض النصوص وما عداها من فنون أخرى. فالأبعاد العلائقية الظاهرة أو الخفية هي ما يشغل قارئة سيزا أو الجهاز القرائي لدى سيزا قاسم، وبالطبع فإن هذه العلاقات غالبًا ما تكون خفية أو أنها أقرب للخفاء منها للوضوح، ومن ثم يغدو دور الناقدة/ أو الناقد هنا هو إفشاء علاقات النصوص الخفية أو السرية ببعضها البعض وإبرازها للعلن، أو التوسط لعقد علاقات حب وتواصل بين النصوص، أو حتى تنافر وتدابر على حد ما هو مثلاً في علاقة نصي صنع الله ابراهيم (نجمة أغسطس) و(إنسان السد العالي) ببعضهما البعض. هكذا يبدو النقد وكأنه يحتفي بما بين النصوص من حب، من خلال إبراز هذا الحب أو هذا التلبس النصي ونقله من فضاء الخفاء والإخفاء إلى فضاء التجلي والظهور، أو بما يوجد بينها من رفض أو اعتراض أو تصحيح للوعي.

وهو ما يؤكده تمامًا هذا النص الذي ترى فيه أن علاقات النصوص ببعضها البعض «تتفاوت ... في الدرجة، والنوع، والاكتمال. فهناك نصوص تربط بينها أواصر وثيقة بحيث لا يمكن فهمها بدون الكشف عن هذه العلاقة، وبدونها تبدو هذه النصوص مبتورة مشوهة. وهناك نصوص تتنافر أو تتباعد بحيث يصعب الكشف عن أية علاقة فيما بينها. وقد تتنافى النصوص بحيث يمكن تعريف النص الواحد من خلال النص ـــ الضد. وقد تكون العلاقة رأسية (في حالة النص المُولِّد والنص المُولَّد الذي يصبح بدوره مُولِّدًا)، أو أفقية (في حالة مجموعة من النصوص مُولِدة من نص واحد). (انظر سيزا قاسم، توالد النصوص وإشباع الدلالة) وفي هذا النص يتكشف أن ما لدينا ليس فقط استعارة «التوالد»، وإنما استعارة أخرى تبدو لازمة عنها، وهي استعارة «الأسرة النصية» كاستعارة كامنة أو استعارة ضمنية تنطقها عبارات الفقرة السابقة؛ فالعلاقات الرأسية تتكشف عن علاقة والدية علاقات أبوة وأمومة أو أمومة وأبوة، بينما تبدو العلاقة الأفقية وكأنها علاقة أُخُوَّة بين مجموعة من النصوص. وبالطبع، فإن كلا النوعين من العلاقات الرأسية والأفقية يندرجان معًا في نطاق «استعارة الأسرة» أو «استعارة العائلة» المُؤلَّفة من أم تلد وأبناء تربطهم علاقة بنوة بالأم وعلاقة أخوة فيما بينهم. إن استعارة الأسرة ربما تردنا إلى الصورة العائلية، والتشابهات االعائلية لدى فيتجنشتاين. (حول التشابهات العائلية لدى فيتغنشتاين، انظر فيتغنشتاين، تحقيقات فلسفية، ترجمة عبد الرزَّاق بنور، ص 172، وما بعد)

كما تأتي استعارة ثالثة، وهي «استعارة الامتصاص» في جانب منها لتتجاوب مع «استعارة التوالد»، لتبدو وكأنها تُجسِّد، وتعرض لنا، ما بين النصوص من تلاقح لا على الصعيد الزماني الخطي التتابعي فقط ولكن أيضًا في الاتجاه المعاكس؛ إذ إن «النص الواحد يُمْتَص في النصوص التالية له بطريقة بينة مُجْهَرَة، من خلال الاستشهاد والذكر الصريح، أو بطريقة ضمنية وذلك بأن يؤثر فيها، بما قد يُشكِل مسارها، ولا يقتصر ذلك التفاعل بين النصوص على المسار التاريخي التصاعدي ـــ أي حين يؤثر الأقدم في الأحدث ـــ ولكنه يشمل كذلك المسار التنازلي ـــ أي أن كل نص يُضاف إلى تراكم الثقافة قد يُغيِّر في النظرة إلى ما سبقه.» (السابق، ص 31) وهو ما يعني أن النصوص الجديدة تُغيِّر تراتبيات القيمة على مستوى النصوص إيجابٍا وسلبًا وهي نقطة بالغة الأهمية على صعيد سلم القيمة داخل الثقافة وعدم ثباته وتحولات النصوص زمنيًا بين درجاته.

وكمثال على امتصاص النصوص لبعضها البعض تكشف لنا سيزا بشكل دال الكيفية التي يمتص بها نص الطبري القصة اليهودية لأيوب أو لنقل الكيفية التي يتناص بها نص الطبري في تفسيره لقصة أيوب مع النص اليهودي للقصة، ومواضع الطمس والحذف «البيت التاسع من الإصحاح العاشر» (نفسه، ص 68) الذي يخاطب فيه أيوب الرب مُعترِضًا بكيف يكون هو من خلقه ثم ينقلب عليه هكذا ليسحقه. هكذا تحكم الثقافة الإسلامية الكيفية التي تدخل بها قصة أيوب تلك الثقافة، أي بأي صورة وبأي كيفية تفتح الثقافة حدودها لاستقبال نص وافد، وكيف تُجرِّده مِمَّا لا يتوافق مع قيمها، وتضفي عليه وتُلبِسه أو تكسوه قيمها هي الخاصة. ولا شك أن الكيفية التي تقرؤ بها سيزا قاسم قصة أيوب وترجمتها من الثقافة اليهودية إلى الثقافة الإسلامية، لو طبقت على النصوص التي تم تمصيرها في مطلع القرن العشرين، لكشفت لنا الكثير عن آليات هجرة النصوص واستقبالها في ثقافات مغايرة، وأدوارها اللاحقة في إبداع وتوليد نصوص جديدة، وما يجري ويتم عبر عملية ترجمة ثقافة إلى ثقافة أخرى من عمليات طمس وحذف وتشويه وإضافة، ولعل هذا هو الفارق بين التوالد في عالم الطبيعة و«التوالد الاستعاري» بين النصوص في عالم الثقافة.

وهكذا تبدو سيزا هنا، في قراءتها لاستقبال نص الطبري لقصة أيوب؛ وكأنها تقول إنه قد تم تحويل ديانة النص من اليهودية إلى الإسلام، أو أسلمة النص اليهودي، إن ثمة استعارة تشخيصية مُضْمَرَة هنا على الصعيد المفهومي، هكذا تتحول الهُوية الدينية لقصة أيوب من الهُوية السردية اليهودية إلى هُوية سردية أخرى هي الهُوية الإسلامية. ومن أجمل ما في هذه الدراسة عن توالد النصوص هو النجاح في اختيار نص يتسم بمجموعة من الخصائص والسمات القادرة على كشف ما يمكن أن ننعته بالتناص الثقافي، وما يحدث في مثل هذه النوعية من التناص من عمليات تحويل وتكييف للنصوص، وهو نص أيوب الذي يصطدم مع الثقافة السائدة التي هي ثقافة الطاعة المطلقة والإذعان المطلق والتنزيه المطلق لله، في مقابل الثقافة اليهودية الحافلة بالصراع الدائم مع الرب والأنسنة المستمرة والمتواصلة لصورة الرب.

ليست النصوص فقط لدى سيزا قاسم هي ما يكتب بعضها بعضًا، وإنما المجالات المعرفية المختلفة أيضًا يكتب بعضها بعضًا ويولد بعضها البعض. ويمكننا أن نرى تجليًا صريحًا وواضحًا لهذا في قراءة سيزا للخطاب التاريخي لدى الطبري، وكيف انعكس وتحكم منهج الإسناد وسلسة السند في مجال الحديث النبوي على الكتابة التاريخية لديه؛ حيث ترصد سيزا في مقالها ـــ «الخطاب التاريخي من التقييد إلى الإرسال»، والذي لا يدخل أو يُصَنَّف فقط في نطاق الدراسة المقارنة، بل يدخل أيضًا في نطاق إبستمولوجيا الكتابة التاريخية ـــ إشكالية الكتابة التاريخية لدى الطبري وكيف يمكن أن تفضي السلامة الشكلية لسلسلة الإسناد إلى إمكانية تمرير العديد من المرويات الزائفة أو المكذوبة استنادًا إلى سلامة هذه السلسة من الجرح وكونها تنطوي على رواة مشهورين بكونهم رواة عدولًا. وكأنه يمكن أن يتم استبدال سلسلة النسب بواقعية ومنطقية ومعقولية الوقائع والأحداث.

بعبارة سيزا فإنه «لا يمكن أن تُعد سلسلة الإسناد أداة صحيحة للتوصل إلى حقيقة الوقائع، فهي في الحقيقة طريق يوصل إلى الراوي الأول للحادثة. فالإسناد من حيث تعريفه إنما هو إثبات فعل القول، ورد النص إلى مُنتِجِه، وليس إثبات الفعل إلى فاعله. ومن هنا تأتي المغالطة؛ فالطبري من خلال الإسناد يصل إلى النص، ولكنه لا يصل إلى الفعل؛ وبذلك يظل في مجال النصوص دون الخروج منها إلى مجال الأحداث» (الخطاب التاريخي من التقييد إلى الإرسال). هكذا تبدو سلسلة الإسناد لدى الطبري وكأنها جسر يتم من خلاله تجاوز الزمان وعبوره، إنها من منظور سيزا قاسم تُلغي البُعْد الزماني، وتعيد الخطاب إلى لحظة إنتاجه، إلى لحظة التلفظ به، وبهذه الصورة تلغي المسافة بين المستمع والتلفظ، أي على حد عبارتها «تضع المستمع في مواجهة القائل الأول للخطاب؛ بما يُوحِّد بين الشاهد والراوي في شخصية واحدة، فيأتي الخبر عادة في صيغة ضمير المتكلم، وهذا الوضع يُخالِف قانون البُعْد الزماني للخطاب التاريخي.» (السابق).

إن الطبري وكما يبدو، من خلال تحليل سيزا قاسم، مُولَعٌ إلى أقصى حد بآنية وفورية ومباشرة الماضي، أي بحضورية الحدث، وهكذا يبدو الحدث حاضرًا وليس مُؤرَّخًا، إنها سلطة حضور الماضي، هكذا تبدو سلسلة الإسناد وكأنها بساط الريح الذي يحملنا إلى الحدث لنراه في آنيته وفوريته وحضوره المباشر، حيث تضمن السلامة الشكلية للسند واقعية الحدث بغض النظر عن معقوليته أو عدم معقوليته. وهذا الحضور تحديدًا لسلسلة الإسناد هو ما يتلاشى ويختفي مع محاولة المسعودي، وهنا تلفتنا سيزا قاسم بألمعية إلى أن إسقاط الإسناد في (مروج الذهب) لا يأتي «من باب تخفيف النص والاختصار»؛ أي أنه ليس مجرد إجراء بلاغي غايته الإيجاز، وإنما هو إجراء منهجي يستهدف «تحويل ملكية النص من الشاهد الراوي الأول إلى المُؤرِّخ الراوي» (نفسه).

يبدو أن وظيفة الإسناد بالنسبة للطبري تلعب دورًا فيما يتعلق بالتنصل من المسئولية، بينما يمثل إسقاط الإسناد لدى المسعودي تحمل المسئولية عن النص التاريخي الذي يقدمه. وهنا تكشف لنا سيزا قاسم أن تحول الكتابة التاريخية من التقييد إلى الإرسال، ما بين الطبري والمسعودي، قد ارتبط بمجموعة من المظاهر الأسلوبية التي تبدو وكأنها تجليات لتحول إبستمولوجي، ذلك أن هذا التحول من الخبر المُسْنَد إلى الخبر المُقرَّر أو الخبر غير المُسْنَد أو الخبر المباشر يعني أننا لم نعد إزاء نفس الخطاب، وإنما إزاء خطاب مختلف. فالخطاب الأول المُسْنَد فيه الخبر أو خطاب الخبر المُسْنَد هو خطاب بؤرته هي الإسناد، إسناد الخبر إلى قائليه، بينما خطاب الخبر غير المُسْنَد بؤرته هي الحدث ذاته.

إن مركز الإحالة في كل خطاب من الخطابين يختلف عن الآخر، إذ يتمثل مركز الإحالة في الحالة الأولى في إسناد القول إلى القائلين، بينما يتمثل مركز الإحالة في الحالة الثانية في إسناد الحدث إلى الواقع. بعبارة أخرى يمكننا أن نقول إن ما تشير إليه عبارات سيزا قاسم هنا هو أن شروط الصدق الخاصة بكل خطاب من الخطابين مختلفة تمامًا عن الأخرى، فشروط الصدق في الحالة الأولى تتمثل في: هل قال فعلًا المُسْنَد إليهم القولُ هذا القولَ أم لا، فإذا كانوا فعلًا قالوه، أصبح هذا الخطاب مُحقِّقًا لشروط صدقه الخاصة، أمَّا في حالة ثبوت أنهم لم يقولوه فإن هذا الخطاب لا يكون مُحقِّقًا لشروط الصدق الخاصة به بغض النظر عن كون الخبر ذاته صادقًا أو غير صادق على المستوى الواقعي، بينما تتمثل شروط صدق الخبر في الحالة الثانية في حدوث أو عدم حدوث الحدث أو الأحداث التي يتضمنها الخبر على مستوى الواقع.

وهكذا ترى سيزا قاسم أن ثمة تدرجًا تصاعديًا يحكم مسار الكتابة التاريخية ما بين المؤرخين الثلاثة الطبري والمسعودي وابن خلدون، وهو مسار يمضي من المستوى العُرْفِي الماثل في الخبر المفرد لدى الطبري أو على حد تعبيرها »عند تقديم المفردة» الماثلة في «الخبر المفرد»؛ إلى المستوى السياقي لدى المسعودي المتمثل في ربط كل مفردة بالمفردات السابقة واللاحقة عليها، بما يجعل تتابع المفردات وتراصفها معًا يُشكِّل سردية ما، تتطلب من القارئ مهارة وقدرة معرفية على فهم تلك السردية في ترتيبها وتتابعها، وصولًا مع ابن خلدون إلى ما تنعته المؤلفة بالمستوى الدلالي الذي يتطلب من القارئ الكشف عن البنيات المُجرَّدة التي تكمن وراء الأخبار المفردة. وهنا بالطبع وحين نتأمل الكيفية التي تقرؤ بها سيزا حركة الكتابة التاريخية لدى هؤلاء الكُتَّاب الثلاثة، يتضح أنها لا تقف فقط عند المنهج الذي تخضع له عملية الكتابة لدى كل منهم، وإنما تتجاوز ظاهر المنهج إلى عمق العمليات المعرفية الحاكمة للمنهج، أي إلى ما يعرف بمارواء المعرفة metacognition وما ينتج عن اختلاف هذه العمليات الما وراء معرفية من اختلاف إبستمولوجي في كيفية صياغة موضوع العلم لدى كل مؤرخ من المؤرخين الثلاثة انطلاقًا من اختلاف ممارسته المعرفية للكتابة التاريخية.

إن موضوع العلم لدى الطبري وفق ما يمكن استنتاجه من طرح سيزا قاسم يُخْتَزَل في ضبط الإسناد، إسناد الخبر إلى الرواة وصولًا إلى أصل الخبر أي القائل الأول أو أصل ومصدر الخبر، أمَّا مع المسعودي فإن موضوع العلم هو انطباق الخبر على الواقع، بينما يتمثل مع ابن خلدون، في العلل المحركة للظواهر التاريخية ذاتها التي تتطلب بدورها عمليات استدلالية مُركَّبة لكيما يتم الكشف عنها. إن السؤال الحاكم لمقاربة المسعودي هو سؤال العلة والتعليل، وليس السؤال ماذا قال فلان أو من قال ماذا؟ لقد ربط المسعودي بين البيئة والجغرافيا بوصفها الوسط الذي يحيى فيه الفاعلون التاريخيون، ذلك أن البيئة وطبيعة المكان تؤثران في البشر وفي طباعهم وأمزجتهم. وبغض النظر عن مدى اطراد هذا التصور فإنه دال على عقلية مختلفة عن العقليات النقلية التقليدية، عقلية تسعى للتعليل والتفسير وربط الظواهر بأسبابها. فالتاريخ لدى المسعودي«في جوهره تركيبي لا تحليلي، أي ينحو إلى الوحدات الأكبر أكثر مما ينحو إلى الوحدات الأصغر، وقد انتقد ابن الأثير الطبري لأنه فتَّتَ الحادثة الواحدة بحيث يصعب استيعابها وتمثلها».

وانطلاقًا من طبيعة السؤال المنظم للكتابة التاريخية لدى المسعودي تُفسِّر لنا سيزا قاسم سبب عدم تبني المسعودي للتأريخ الحَوْلِي، واللجوء إلى تقسيم تحكمه العوامل الاجتماعية والسياسية. وترى سيزا أن المسعودي يمكن أن يكون فعلًا مُعْتَزِليًا نظرًا لما يغلب من عقلانية على مقاربته في الكتابة التاريخية التي تنحو إلى التعليل والتفسير والتي لا تكترث بالأسانيد، وإنما تُخضِع الأخبار للعقل والمنطق، وعلاقاتها بسياقها. إذ ما يغلب عليه هو «الاحترام للآراء لا للأسماء، وللحقيقة لا للقائل» (نفسه). وفي مقابل هذا تكشف لنا سيزا ما قد تنطوي عليه سلاسل الإسناد من موضوعية زائفة، حيث تكون السَّلامة الشَّكلية لسلسة الإسناد هي المعيار الوحيد المُعْتَمَد، كما تكشف أيضًا ما يمكن أن تنطوي عليه مراكمة الروايات حول الموضوع الواحد من مخاطر أو تزييف وتضليل؛ ذلك أن «التراكم لا يعني ــ بأي شكل من الأشكال ـــ الموضوعية؛ فقد يكون التراكم في بعض الأحيان ستارًا من الدخان يختفي وراءه التحيز، ولا بد من تمحيص دقيق للنصوص للتوصل إلى استقرائها استقراءً تاريخيًّا صحيحًا يجاوز إطار هذا البحث، ولا ندعي أننا قادرون على القيام به.» (نفسه)

وفي مقابل كتابة الطبري ومنهجيته، تبدو كتابة المسعودي، من منظور سيزا قاسم كتابة تأويلية، «ويأتي تأويله من طريقة ترتيب الحوادث في شكل متتالية تعاقبية بقصة مقتل الخليفة عثمان. أي أن الخط الذي يحكم مسار النص يصل إلى ذروة قد مهَّدَت له الأخبار التي سبقته، ولا تكتسب هذه الأحداث دلالة إلا بربطها بهذه الذروة.» وهنا تطرح علينا سيزا قاسم سؤالًا بالغ الأهمية يمكننا أن نسمع فيه أصداء لوتمان في حديثه عن الثقافة والذاكرة في كتابه «الذاكرة والتاريخ: مقالات في السيميوطيقا الثقافية» (see Lotman 2019:134)، حيث تتساءل عن السبب في ضياع جميع أعمال المسعودي عدا كتاب (مروج الذهب)، والكتاب الأول فقط من كتاب أخبار الزمان البالغ ثلاثين جزءًا، لماذا؟ وتجيب من خلال سؤال آخر يشي بالجواب، إذ تقول: هل لأن الثقافة تقوم بلفظ وطمس كل ما يتنافى مع قواعدها في إنتاج النصوص؟

وهنا يمكننا أن نتلمَّس أصداء لوتمان وما يقوله لنا عن أن «كل ثقافة تُحدِّد نموذجها الخاص لما ينبغي أن يتم تذكره، أي الحفاظ عليه، وما ينبغي أن يلقي به إلى غياهب النسيان. وهذا الأخير يُمْحَى من الذاكرة الثقافية و«يتوقف عن الوجود» فيما يبدو. بل إن الزمن يتغير تماشيًا مع أنساق الشفرات والنماذج الثقافية للتذكر/ والنسيان. ويمكن لما يتم الإعلان عن كونه أساسيًا بحق أن يتكشف عن كونه «ليس أساسيًا بصورة ما، وأنه يخضع للنسيان، بينما يمكن لغير الأساسي أن يصبح أساسيًا وحافلًا بالمعنى.» (ibid., 135).

هكذا يتبدى مفهوم كتابة النصوص لبعضها البعض في بعض قراءات سيزا قاسم المقارنة، كما يتبدى أيضًا مدى انشغالها بالسؤال الإبستمولوجي والمنهجي على مستوى الكيفية التي تتوالد بها النصوص والكيفية التي تنتج بها الثقافة نصوصها؛ إذ يمكن القول إن السؤال ’’كيف‘‘ تتوالد النصوص داخل الثقافة يظل سؤالًا مباطنًا للعديد من قراءات سيزا قاسم وأنها أكثر انشغالًا أيضًا بـ ’’كيف‘‘ تقول هذه النصوص ما تقوله.

2- ثانيًا وانطلاقًا من هذا أي من كتابة النصوص لبعضها البعض؛ فإن النصوص أيضًا يقرؤ بعضها بعضًا. إن سؤال القراءة هو السؤال المُهيمِن على مجمل مشروع سيزا قاسم النقدي ولذلك ليست صدفة أن نجد لديها كتابًا كاملًا عنوانه (القارئ والنص) وهو يطرح أسئلة ’’القراءة‘‘ على الصعيدين النظري والتطبيقي. كما نجد أن كتابًا آخر لها يحتل فيه دال ’’القراءة‘‘ جزءًا من عنوانه، وهو كتاب (روايات عربية: قراءة مقارنة) والذي تأتي دراساته كلها كقراءات تطبيقية. وفي ظل هذا يمكن القول إن هذين الدالين دال ’’القراءة‘‘ ودال ’’المقارنة‘‘ يُوجِزَان لنا مجمل الهاجس المعرفي المُهيمِن على مشروع سيزا قاسم النقدي. ولعله يمكنني من خلال استقراء هذا المشروع أن أقطع بأنه لدى سيزا قاسم لا إمكان للقراءة دون مقارنة، دون خروج من نص المقروء إلى نص آخر قد يتشابه أو يختلف أو يتشابه ويختلف معه هذا النص، أو قد يكون هو النص الثقافي الأكبر، أو النص الغائب لكنه المُنتِج لهذا النص؛ أي دون أن يكون هناك نص آخر يقرؤه أو يتقارؤ معه.

النصوص لدى سيزا قاسم مثلها مثل البشر لا تعيش في عزلة وإنما هي نتاج مجتمعها النصي بقدر ما قد تكون أيضًا نتاج مجتمعها الثقافي والاجتماعي، النصوص مثل البشر تخضع لمنطق التخصيب والتوالد والتناسل؛ ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يربو استخدام سيزا لمصطلح التوالد «توالد النصوص» على مصطلح التناص، إذ إن التناص قد ينحصر في نطاق بعض الوحدات الصُّغْرَى أو الكُبْرَى المشتركة بين بعض النصوص؛ بينما ما يشغل سيزا يتجاوز حدود هذا كما يتجاوز مجرد تقصي المصادر إلى ما هو أبعد وأعمق غورًا، أي إلى البنية المُولِّدة للنص، أي أنها تبحث عن آلية التوالد ذاتها، أي عمَّا وراء النص، أي النظام الثقافي المُوَلِّد للنص، بل لا يتوقف الأمر مع سيزا أيضًا عند هذه الحدود، وإنما يتجاوز ما وراء النص إلى ما في ثنايا النص، أي إلى الشفرة الخاصة التي يتشكل منها النص انطلاقًا من تعرف خصوصية وآليات اشتغال علاماته، وكذلك التراسلات الداخلية لتلك العلامات داخل النص، وبالتالي فإن المقارنات تكون دومًا انطلاقًا من وبهدف فض شفرات كل نص من النصوص موضع المقارنة، المقارنة إذًا جزء لا يتجزؤ من قارئة سيزا قاسم أو جهازها القرائي.

3- أن المقارنة مثيرة دومًا للأسئلة حول أسباب التشابه في حالة وجود تشابهات، كما أنها مثيرة أيضًا للأسئلة حول أسباب الاختلاف في حالة وجود اختلافات؛ ومن ثم تدفع إلى محاورة النصوص، ومحاورة ما يكمن خلف ما فيها من تشابهات أو اختلافات، بعبارة أخرى إنها تفرض على القراءة النقدية نوعًا من الدينامية والانفتاح على ما يقف وراء توالد النصوص، أي على الثقافة أو الثقافات المُولِّدة للنصوص موضع المقارنة.

4- أنه لا يمكن فهم النصوص إلا من خلال الثقافة، أو بعبارة أخرى أن النصوص ليست إبداعًا فرديًا خالصًا، وإنه مهما كان مستوى الإبداع الفردي يظل للذاكرة الثقافية فاعليتها في تشكيل وتوليد وإنتاج النصوص. وهي في هذا الصدد متوافقة تمامًا مع أطروحات لوتمان. ومِمَّا يؤكد هذا ما تقوله لنا من أنه «من أوصاف النص الفني ومميزاته أنه لا ينتهي بانتهائه، ولا ينغلق على نفسه، ولا يتحدَّد بحدوده بل إنه يتشعب خارج كلماته وألفاظه وصوره بأنه يستدعي غيره من النصوص التي دارت حول نفس الموضوعات، فالأدب سلسلة متواصلة من النصوص لها علاقة وثيقة بعضها ببعض، والأدباء والنقاد شغوفون بإيراد الأشباه والنظائر من الأقوال.»  (القارئ والنص، ص ص 141-142)

إن منظور سيزا للنص الأدبي إذًا لا ينفصل عن منظورها لعلاقة النص بسواه من نصوص الثقافة، وهو ما تعكسه هاتان الاستعارتان الدالتان: استعارة الشبكة، واستعارة الدوحة، أو الشجرة الهائلة الضخمة، في سياق قراءتها لقراءة الشّريشي لمقامات الحريري ومنهج قراءته؛ إذ ترى «أن كل نص جديد يُبْدَع ليس منفصلًا عن غيره من النصوص بل إنه يدخل في الشبكة اللامتناهية من النصوص الأدبية، ومن المهم بمكان أن هذا الشرح، (أي شرح الشريشي للمقامات) ينفي الحدود الزمنية التي تفصل بين النصوص فقد أخذ ينهل ويستشهد بالنصوص العربية جميعًا على مر العصور من منشئها حتى يوم تأليف الكتاب. فالأدب هو هذا المخزون الهائل الحي في الذاكرة الجمعية من نصوص شعرية ونثرية تراكمت على مر العصور، والتي يستدعيها كل نص جديد يبدع بها ومنها مضيفًا إليها بعض الابتكارات والإبداع هو إعادة صياغة للخبرات السابقة.. من هنا نرى مدى موسوعية مثل هذا الشرح الذي يمكن اعتباره دوحة ضخمة جذعها هو المقامات ولكن فروعها وأوراقها وجذورها من هذا التراث الضخم المتشعب». (السابق، ص ص 142-143)

«فالمخزون الثقافي نسيج محكم تتشابك خيوطه المتداخلة بحيث يصعب استخراج خيط دون تمزيق القماش، بل إن النص لا يمكن أن يقوم بذاته بمعزل عن باقي نصوص الثقافة، فلا يمكن أن يُفهَم وتنجلي مغاليقه دون أن يوضع على خريطة الثقافة برمتها.» (نفسه، ص 177) إن قراءة سيزا قاسم في كتابها الفريد وربما أيضًا المتفرد (القارئ والنص: العلامة والدلالة) تمارس نوعًا من أنواع القراءة الحفرية أو الأركيولوجية على الصعيد المعرفي، فهي تسعى في الفصل المُخصَّص منه للشريشي إلى إدراك الطبقات الدلالية المتدرجة انطلاقًا من الشرح المعجمي عبورًا ووصولًا إلى التفسير المنطلق من والمبني على الشفرة الثقافية الحاكمة لعملية التفسير لدى الشريشي. وهنا يمكننا أن نعاين الكيفية التي تقرؤ بها سيزا مثلًا مصطلحًا ومفهومًا مثل ’’المعاني‘‘ في سياق وروده لدى الشريشي وربطه بالكيفية التي تتم بها معالجة موضوع ’’المعاني‘‘ لدى نقاد مثل ابن قتيبة والعسكري، كما هو في ’’المعاني الكبير‘‘ لابن قتيبة، و’’ديوان المعاني‘‘ للعسكري. إن نص الشريشي يبدو هنا مجدولًا مع تلك النصوص التي تتناول موضوعة المعاني في التراث، بحيث ما أن يتم شد الخيط لدى الشريشي حتى يبدو ملضومًا في نسيج تلك النصوص التي تتناول المعاني في التراث العربي. بهذا المعنى نجدنا إزاء قراءة حفرية، قراة قادرة على الانتقال بين طبقات الدلالة في النص من خلال الانتقال بين النصوص المترسبة أو الراسبة بشكل أو بآخر في ثنايا النص المُعَايَن.

وهنا يبدو النص المقروء وكأنه مرآة تنعكس على سطحها بدرجات متفاوتة في وضوحها وعتامتها العديد من النصوص الأخرى الظاهرة أو الغائرة في ثناياه، بحيث لا يمكن قراءة هذا النص قراءة عميقة دون تجاوز سطحه إلى ما يكمن وراء هذا السطح، من نصوص أخرى يتعالق ويتناص معها سواء بصور مباشرة وصريحة أو بصور خفية أو ضمنية. النص إذًا لدى سيزا لا ينتمي إلى نفسه ولا حتى إلى مؤلفه بقدر ما ينتمي إلى الثقافة المُنتِجة له، فالثقافة هي المؤلف الضمني لأي نص، وربما تكون في الوقت ذاته هي أيضًا القارئ الضمني وربما أيضًا المروي عليه. 

5- أن المقارنة بين نصوص تنتمي إلى ثقافة واحدة ولغة واحدة لا تقل أهمية عن المقارنة بين نصوص تنتمي إلى ثقافات ولغات مختلفة.

6- أن مقارنة نصوص كاتب واحد تتيح إمكانية التعرف على التطور لدى هذا الكاتب في حالة اشتغاله في أكثر من عمل على تيمة واحدة، على نحو ما نجد هذا مثلًا في قراءة سيزا لقصة «الأورطى» من مجموعة (لغة الآي آي)، من خلال مقارنتها بكل من قصة «طبلية من السماء» في مجموعة (حادثة شرف) وقصة «الشيخ شيخة» في مجموعة (آخر الدنيا)، وكشفها عما يوجد من تناص بالتشابه وتناص بالاختلاف بين القصص الثلاث.

7- إن المقارنة تلعب دورًا فاعلًا سواء على مستوى فهم النص أو على مستوى التفسير، وخصوصًا على مستوى فهم وتفسير توالد النصوص داخل الثقافة.

8- أن المقارنة تُثْرِي الممارسة النقدية وتثري القراءة وتمنحها قدرًا كبيرًا من العمق، أو إن جاز القول تمنح القارئ عينًا أخرى تتم من خلالها الرؤيا والقراءة، بل وتتيح لنا أيضًا إمكانية أن نرى كل نص من النصوص موضع المقارنة مرة بوصفه شكلًا وأخرى بوصفه أرضية. فالولع بالمقارنة لدى سيزا قاسم حاضر، كما سبق القول، حتى فيما لا يدخل في نطاق الأدب المقارن. فالمقارنة تبدو وكأنها المرآة الملازمة لفعل القراءة لديها؛ حيث يصبح كل نص تتم المقارنة به بمثابة المرآة التي ينعكس عليها النص المُقارَن. وبهذا المعنى يبدو وكأن النصوص في الفعل القرائي لدى سيزا قاسم وكأنها هي التي تقرؤ بعضها البعض، هناك دومًا نص يتوسط قراءة نص آخر، الزَّركشي تتم قراءته من خلال الرُّماني؛ إذ نستطيع أن ندرك الرؤيا التجزيئية للدلالة والانشغال بالتفاصيل إلى حد إغفال الكل لدى الزَّركشي من خلال إدراكنا للرؤيا الكلية لدى الرُّماني، ومن خلال تمثيل الانشغال برؤية الأشجار الذي يحول دون رؤية الغابة في كليتها. هكذا تتم قراءة الزَّركشي عبر مرايا نص الرُّماني. وهكذا تتجلى قيمة الرُّماني بكيفية مختلفة عنها إذا ما كان قد تم الاقتصار والانغلاق على نص الرُّماني وحده، وكأن الضد يبرز حسنه، أو قبحه، الضد.

هكذا يتبادل كل نص من النصين المواقع على مستوى علاقتهما ببعضهما البعض؛ إذ يصبح نص الزَّركشي مرة وكأنه هو الأرضية لنص الرُّماني ونص الرُّماني هو الشكل، ويصبح نص الرُّماني مرة هو الأرضية ونص الزَّركشي هو الشكل. وبالطبع فإن هذه المقارنات تتيح لقارئ الثقافة معايير متماسكة يمكن الارتكان إليها على سلم القيمة المعرفية للنصوص داخل الثقافة. هذه هي وظيفة المقارنة داخل الثقافة الواحدة كما تتجلى في ممارسة سيزا قاسم للمقارنة بين نصوص تنتمي إلى ثقافة واحدة، بينما تتيح المقارنة بين نصوص تنتمي إلى ثقافات مختلفة إدراك طبيعة البنى المُولِّدة لتلك النصوص وما يمكن أن يوجد بينها من اختلاف وتشابه.

9- أن المقارنة تساعد في الكشف عما يوجد بين الثقافات والحقب الزمنية المختلفة من تشابهات واختلافات، ومن ثم تساعد على إتاحة مادة أكثر ثراء ودقة للتأريخ لكل من الأدب والثقافة.

10- أن النصوص المقروءة والقارئة على حد سواء هي جزء من تراث ثقافي أشمل تستمد شفراتها منه.

11- أن النصوص الأدبية المنتمية إلى سيميوطيقا اللغة كثيرًا تكون متولدة في حالات عديدة عن أنظمة سيميوطيقة أخرى غير لغوية.

12- إن القراءات تتفاوت قيمتها تبعًا لطبيعة المُفسِّرة التي تنطلق منها القراءة، أي تبعًا إلى إذا ما كانت القراءة تقتصر على حدود المعجم أم أنها تتجاوز نطاق المعجم إلى نطاق الموسوعة، والتي لا تنفصل في هذه الحالة عن مجمل التراث الثقافي الذي تنتمي إليه النصوص المقروءة. وأنا هنا لم آتِ بمصطلح الموسوعة من عندياتي وإنما هو مطروح وحاضر بصور عديدة، مضمرة وصريحة في آن واحد، فهي تقول مثلًا عن شرح الشريشي لمقامات الحريري: «نرى مدى موسوعية مثل هذا الشرح الذي يمكن اعتباره دوحة ضخمة جذعها هو المقامات ولكن فروعها وأوراقها وجذورها من هذا التراث الضخم المتشعب.» (نفسه، ص 143) بل إن الشريشي يرجع «في هذا العمل الموسوعي إلى المخزون الثقافي الضخم الذي ورثه من سابقيه، فاستعان بكل ما اطلع عليه من كتب أو مؤلفات أو دواوين شعر أو كتب أمثال وتاريخ جغرافيا، ورحلات فرجع إليها الشريشي وضمنها شرحه». (نفسه، ص 152) ولعل هذا هو سر احتفاء سيزا بشروح الشريشي للمقامات، لأنها تنطلق من آفاق الموسوعة المنفتحة على الثقافة في كليتها، وليس من حدود المعجم المقصورة على اللغوي وليس على الثقافي في ثرائه وتنوعه. وفي ظل هذه الفرضيات التي تفرض أشكالًا مختلفة من انفتاح النصوص على سواها وعلى الثقافة التي تنتمي إليها النصوص يكون فعل المقارنة حاضرًا بالضرورة، سواء بشكل مباشر وصريح أو بشكل غير مباشر وضمني.

وهنا يمكننا أن نلمح نوعًا من التأثر بأطروحات لوتمان حول الثقافة والنصوص وتوالد النصوص، وربما أيضًا تصور إمبرتو أيكو حول الفارق ما بين المعجم والموسوعة في عمليات الفهم والتأويل. إن نموذج سيزا القرائي مبني على الموسوعة وليس على المعجم، أي على المتن الثقافي بعلاماته المختلفة اللغوية وغير اللغوية، أي على سيميوطيقا الثقافة في علاقاتها باللغة. إذ يرى إيكو أننا «يفترض أن نفهم اللغة لا على أنها قاموس مختصر، ولكن باعتبارها نظامًا معقدًا من الكفاءات الموسوعية.» (إيكو، السيميائية وفلسفة اللغة، ص 135) إن جزءًا من الكفاءة الموسوعية مثلًا يتمثل في إدراك أن نصًا معينًا ينتمي إلى نوع معين يكون على علاقة ببعض النصوص التي تنتمي إلى هذا النوع؛ على نحو ما هو مثلًا في فهم الشريشي للمعاني في ضوء كُتُب المعاني لدى ابن قتيبة والعسكري. فضلًا عن معرفة السيناريوهات الثقافية المُضْمَرَة في كلمات أو أفعال أو عمليات معينة، حيث تتمايز المعرفة المبنية على القاموس على التحديد المعجمي أو القاموسي للكلمة، بينما تتجاوز المعرفة المبنية على الموسوعة نطاق التعريف المعجمي إلى المتن الثقافي وما يقترن بهذا المتن من سيناريوهات مختلفة خاصة بالدال موضع القراءة أو التفسير. (انظر السابق، ص 184، وما بعد)

إن كل هذه النقاط تُعد، في تقديري، دوافع ومحركات كامنة ومُضْمَرة في إلحاح سيزا قاسم على المقارنة بوصفها استراتيجية معرفية مهيمنة تحولت لتصبح خُطاطة معرفية ملازمة لمجمل ممارساتها النقدية المختلفة والمتنوعة بين القديم والحديث، وما بين الثقافة العربية والغربية، وبين الأنواع الأدبية المختلفة، وبين الأدب والفنون الأخرى. خصوصًا أنها تتجاوز بالمقارنة نطاق الأدب المقارن الأكثر اهتمامًا بالمقارنة بين آداب لغات وثقافات مختلفة لتصبح المقارنة لديها، كما سبق وقلت، أسلوبًا معرفيًا ملازمًا لأي فعل نقدي أو قرائي لديها سواء بين نصوص أدبية أو ثقافية مختلفة اللغة، أو بين نصوص أدبية تنتمي إلى لغة واحدة.

لقد أصبحت المقارنة كأسلوب معرفي مفضل لدى سيزا قاسم جزءًا مركزيًا من جهازها النقدي وجهازها القرائي، أو إذ ما استعرنا مفهوم ياكبسون عن العنصر المهيمن فإن المقارنة هي العنصر المهيمن على خطاب سيزا قاسم النقدي. ولا شك أن المقارنة حين تُمارَس من خلال معرفة رصينة ودقيقة تمثل إثراء حقيقيًا للنص وتمنحه مصادر أخرى للحياة لا تكون له بدون المقارنة، وكأن المقارنة طاقة إضافية تمنحها الناقدة ويمنحها الناقد للنص على مستوى الحضور الثقافي والذاكرة الثقافية حتى بغض النظر عن القيمة الخاصة بالنص، أي حتى في ظل ما يمكن أن يوجد من تفاوت في القيمة بين النصوص موضع المقارنة.

ولا شك أن المقارنة بحقها وبما تتطلبه من معارف وخلفيات معرفية ليست بالأمر المتاح للجميع ولكنها تتطلب خلفيات معرفية عريضة وواسعة، خلفيات لا تُتاح إلا للراسخين والراسخات في العلم. إن هذا ما يمكننا أن نقرأه في هذا الحضور الطاغي واللافت للمقارنة في مشروع سيزا قاسم النقدي. إن المقارنة بين نصين ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين تتيح لنا فهم البنية المُولِّدة لكل نص من النصين وما يوجد بينهما من تشابهات واختلافات، فالمقارنة تتجاوز نطاق النصين أو النصوص إلى ما وراء تلك النصوص، أي إلى البنية المُولِّدة لكل نص من النصوص موضع المقارنة.  ولكيما ما أوضح مدى قيمة المقارنة وما تنطوي عليه من إضافة، فإنه يمكن القول: إن المقارنة، كما سبق وقلت، تمنحنا عيونًا أخرى للرؤيا مثلما يمنحنا التشبيه والاستعارة والمجاز عيونًا أخرى لا تكون لنا بدونها، إذ تتيح لنا أن نرى الأشياء عبر أشياء أخرى ومن خلال سواها، وهي بهذا المعنى، وكما سبق أيضًا وقلت،  فعل مجازي بامتياز. وهذا هو سر تميز القراءات المقارنة حين تكون تلك القراءات متمكنة من أدواتها ومتقنة لهذه الأدوات على نحو ما هي قراءات سيزا قاسم التي تحوِّل الفعل النقدي المقارن إلى فعل مجازي بكل معنى الكلمة.

وثمة مكون أخير من مكونات الجهاز القرائي لدى سيزا قاسم، وهو «الصمت»، ولعلها ليست صدفة أن نجد سيزا قاسم تحتفي بالصمت كل هذا الاحتفاء في مقالها «عن الصمت والأدب». إن سيزا تعود لنشر دراستها عن (طوق الحمامة) بعد أربعة عقود ونيف. هكذا يمكن القول إن طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي: تحليل ومقارنة، هو عطية من عطايا الصمت الماثلة في التأمل والتدبر والإنصات على مدار كل هذه العقود. هل لو أن سيزا قاسم كانت قد نشرت هذه الدراسة فور الانتهاء منها، كانت ستعود إليها مرة أخرى؟ ربما، ولكن المؤكد أن الصمت عن النشر هو الذي أتاح إعادة النظر فيها لتخرج بصورتها التي خرجت عليها في 2014. لماذا تنجذب سيزا قاسم لتقدم مثل تلك القراءة في علاقة الصمت بالأدب، لماذا تنجذب لموضوع كهذا؟ أليس لأن الصمت عمل متصل بالتأمل والتدبر وإعمال الفكر وعدم التسرع، وعدم الرضا ومراجعة الذات؟ وليس «علامة رضا» كما تخدع الثقافة الشعبية نفسها.

إن اختيار سيزا لهذا الموضوع لهو اختيار دال وكاشف وعاكس لأبعاد من شخصية سيزا قاسم؛ إذ يُمكِّننا أن نقرؤ فيه سر إقلال سيز، على الرغم من كل ما تحظى به من معرفة ومن أدوات لإنتاج المعرفة؛ إذ المؤكد أن ما لدى سيزا من معرفة وإبداع يفوق بكثير كم إنتاجها. هكذا يبدو الصمت الناتج عن الرغبة في الإتقان والإجادة والتميز على متصل مباشر مع الكيف. تختتم سيزا قاسم قراءتها البالغة العمق عن صمت الأدباء والمعنونة بـ «عندما يصمت الأدباء» بهذه الجملة المفتاحية: «أليس من الحكمة اختيار الصمت بدلًا من الانصياع في مسار الوسطية أو الانحطاط؟» (سيزا قاسم، روايات عربية، ص 264) إن هذه الجملة على قصرها بالغة الدلالة على شخص سيزا قاسم وموقفها من الكتابة، بل ومفهومها أيضًا للكتابة، وعلى الكثير كذلك مِمَّا يتميز به خطاب سيزا قاسم النقدي، وهي في تقديري دالة أيضًا على مدى انشغال سيزا قاسم بالكيف مقارنة بالكم، ليس فقط فيما يتعلق بالآخرين، أو بالخطاب الأدبي فقط، وإنما أيضًا فيما يتعلق بالخطاب النقدي عامة، بل وبخطابها النقدي هي شخصيًا.

ذلك أن سيزا قاسم تسعى في كل ما كتبت إلى أن يكون نصها النقدي إضافة، فالكتابة بالنسبة لسيزا قاسم إضافة، وما لم تكن كذلك، فالصمت أجمل وأفضل، أو لنقل أبلغ وأجدر، أو على حد تعبيرها أكثر «حكمة» من الثرثرات النقدية المجانية التي تعج بها مئات الكتب لبعض النقاد والمُؤلفين؛ ممن لا تعدو كتاباتهم في معظمها أن تكون مجرد نوع من التكرار والاجترار والإعادة دون إفادة، دون أدنى شعور بالملل أو الترهل والإملال. وهكذا، يبدو اختيار سيزا لموضوع صمت الأدباء اختيارًا له بعده الشخصي على مستوى علاقة سيزا قاسم بالمعرفة وبالكتابة، وبفعالية الصمت، ودور الصمت الفعَّال على مستوى العلاقة بالمعرفة والعلاقة بالكتابة. إن سيزا قاسم فيما يبدو لي من أنصار بلاغة الصمت، ذلك الصمت الذي يتيح الإنصات لأصوات المقروء ونبراته وما قد يتردَّد فيه وفي نبراته من أصداء لنصوص أخرى.

وهكذا يبدو لي أن للصمت في خطاب سيزا قاسم النقدي تجلياتٍ مختلفة ومتنوعة، إذ يبدو حاضرًا في صُلب عمليات القراءة لديها ومكون من مكوناتها؛ وهو ما يمكننا أن نتبينه بجلاء في قراءتها لقصة «الأورطي» ليوسف إدريس؛ إذ تنبئنا سيزا قاسم عن خبرتها واستجابتها القرائية تجاه هذه القصة على هذا النحو الذي تتجلى فيه بلاغة وفعالية الصمت الخلاقة: «قرأت هذه القصة منذ زمن بعيد وكان لها أثر عنيف عليَّ، أشبه بالصَّفْعَة: فعندما انتهيتُ من القراءة انتابني وجوم هو أعمق وأشد وقعًا ـــ أو هكذا خُيِّلَ إليَّ ـــ من الذي انتاب شخصيات القصة؛ وكل من ذكرتُ لهم هذه القصة كانوا يُشاركونني نفس الشعور.

ومرت السنوات وأعدتُ قراءة «الأورطى» وفي كل مرة ينتابني نفس الإحساس: قلق شديد ... أسى عميق ... دهشة ... مشاعر مختلطة، متداخلة، غامضة ... ولكن جاء اليوم الذي كان لا بد أن أجاوز فيه هذا السطح لألج إلى أعماق النص: أن أجاوز سطح قراءة التذوق إلى عمق قراءة الفهم. وإذا أمكن أن أصل إلى أغوار قراءة التفسير والتأويل. وكانت الحيرة؛ من أين أبدأ؟ كيف أستطيع أن أفهم هذه القصة؟ وكلما أواجه بهذه الحيرة لا يسعفني إلا النص نفسه: استجوابه، محاورته، محاصرته. ولكن في هذه الحالة لم يكفني النص. ولذلك كان لا بد أن أوسِّع الحلقة، والحلقة الأوسع هي أعمال الكاتب الأخرى. فالمفردات اللغوية والقصصية والمجازية والرمزية تُفسِّر بعضها البعض في الخطاب الواحد. ويبدو لي أنني وجدتُ ضالتي في قصتينن، الأولى هي «طبلية من السماء» والثانية هي «الشيخ شيخة». (السابق، ص ص 211-212)

إن هذا النص يتيح لنا أن ندرك أن الصمت يمثل جزءًا أصيلًا من عملية القراءة والكتابة، فليس الحوار فقط هو ما يقتضي الصمت كيما نسمع المُحَاوَر، بل إن القراءة والكتابة أيضًا تقتضيان الصمت. فالصمت يتيح المسافة الكافية للرؤية من مكان آخر، للابتعاد عن النص والبحث عن مواقع أخرى للتطلع إليه، للإنصات إلى ما قد يهمس به النص، لقد كان على سيزا أن تبحث عن همسات النص في نصوص أخرى ليوسف إدريس، وهو ما وجدته في كل من قصة «طبلية من السماء» من مجموعة (حادثة شرف)، وقصة «الشيخ شيخة‘» من مجموعة (آخر الدنيا). إن بلاغة الإنصات تلك التي يحدثنا عنه واين بووث في واحد من كتبه المهمة والحديثة، وهو بلاغة البلاغة Rhetoric of Rhetoric، لا تنفصل بحال عن بلاغة الصمت، يلعب الصمت إذًا دورًا محوريًا في عملية القراءة لدى سيزا قاسم حتى وإن لم تصرح هي بذلك، وهو ما يمكننا أن نرصد مجلى آخر له في كتابها عن ابن حزم الذي صمتت عنه لما يربو عن أربعة عقود كاملة لتعود إليه بعد كل هذا الصمت مضيفة إليه حصيلة كل هذه السنوات من الصمت. كما نجد أن من تجليات الصمت أيضًا في كتابات سيزا قاسم هذا النزوع الشديد إلى الاقتصاد في العبارة وعدم التكرار، وهو ما يتجاوب مع موقف سيزا النقدي أيضًا من الإطناب الفائض المتمثل في إشباع الدلالة لدى الطبري.

ومِمَّا يتجاوب مع بلاغة الصمت هذا النوع النادر من الأمانة الذي يتجلى في هذه النبرة الاعتذارية في سياق حديثها عن الفارق بين قراءة النص وقراءة اللوحة؛ إذ تنبئنا سيزا قاسم عن بعض من طبيعتها كدارسة وقارئة؛ إذ تقول: «أود بادئ ذي بدء أن أقدم بعض المحاذير في سلوك مثل هذا التأمل، فالموضوع المطروح من الاتساع والتشعب والتعقيد بحيث إن من شأنه أن يشيع التوجس ـــ بل الذعر ـــ في نفس من يشرع في تناوله، أنا بصفة عامة لا أميل إلى مثل هذه الموضوعات العريضة التي تستلزم اللجوء إلى كثير من التعميمات التي قد تُخِلُّ بدقة الحُجَّة، ولكن عذري في ذلك هو أنني أشعر بأنه من الأهمية بمكان أن نتأمل مثل هذه القضايا العامة لتعميق وعينا بما تنطوي عليه من غنى لمن يعملون في مجال الكلمة والصورة، وأيضًا يجب أن أعترف قبل أن أنطلق في المناقشة أني لست متخصصة في (نفسه، ص 191) مجال الفنون التشكيلية، ولكن قد يشفع لي أن اهتمامي بالفن التشكيلي ليس بجديد، فقد كنت دائمًا متابعة للحركة الفنية في مصر، بالإضافة إلى تعرف المدارس الفنية الأساسية في الغرب» (نفس، ص ص 191-192)

هكذا يبدو خطاب سيزا قاسم هنا خطابًا اعتذاريًا، فهي واعية بما هي مُقْدِمة عليه، وهو أنها تدخل في نطاق ما قد يجرها إلى ما ترفضه وتتجنبه على امتداد مسارها المعرفي، وهو التعميم الذي كثيرًا ما يفضي إلى عدم الدقة والجزافية والتهويم، بل إنها تبدو وكأنها تعتذر عن هذا التورط مُبرِّرة إياه وما يمكن أن يفضي إليه من بعض التعميم إلى أهمية الموضوع وغياب ما يُلقي الضوء عليه في الأدبيات العربية، وما لديها من خبرة جمالية ذوقية أو تذوقية على امتداد تاريخها. وهنا بالطبع يجد المرء نفسه بشكل عفوي وتلقائي وربما لا واعٍ يعقد بعض المقارنات مع آخرين ممن يمتلكون شجاعة الحديث عما لا يعلمون وإطلاق الأحكام العريضة دون أن يرمش لهم جفن.

ولذا فإن هذه النبرة الاعتذارية بكل ما تعكسه من تواضع وأمانة وصدق مع القارئ ومع الذات جديرة بالإجلال والتقدير، إذ تبدي سيزا قاسم كل هذا القدر من القلق رغم كل ما تمتلكه من أدوات ومن خبرة في مجال الفنون التشكيلية، وهو ما يكشف عن معدن سيزا الباحثة وسيزا الإنسانة في الوقت ذاته. إن هذه الفقرة تنطوي على بعد أخلاقي لافت لا ينبغي أن يُغْفَل أو أن يتم المرور عليه مرور الكرام، كما تكشف لنا أيضًا أن أخلاقيات الباحثات والباحثين جزء لا يتجزء من أخلاقيات الإنسان، والعكس أيضًا صحيح، بقدر ما يلوح من هذه الفقرة كذلك هاجس الرغبة الدائمة في الدقة والإتقان. وأخيرًا أتمنى أن أكون قد وُفِّقْتُ في إبراز بعض ثوابت خطاب سيزا قاسم النقدي وبعض ما ينطوي عليه مشروعها النقدي من ثراء وقيمة وإضافة أصيلة للثقافة العربية.

المصادر والمراجع العربية:
أولًا، المصادر والمراجع العربية:

ابراهيم (صنع الله): تلك الرائحة وقصص أخرى، الطبعة الثالثة، دار الهدى للنشر والتوزيع، جمهورية مصر العربية، المنيا، 2003.  

ابراهيم (صنع الله)، القلش( كمال)، مسعد (رءوف): إنسان السد العالي، دار الكتب العربي للطباعة والنشرـ القاهرة، 1967.

ابراهيم (صنع الله): نجمة أغسطس، دار الفارابي، بيروت، 1980.

ــــــــــــ: يوميات الواحات، الطبعة الأولى، دار المستقبل العربي، القاهرة، د ت.

ابن حزم (الأندلسي): طوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.

الأبنودي (عبد الرحمن): الأرض والعيال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2017.

ـــــــــــــــــــ: جوابات حراجي القط، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2017 .

الجرجاني (عبد القاهر): أسرار البلاغة، قرأه وعلق عليه، محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بجدة، 1991. 

النعمان (طارق): مفاهيم المجاز بين البلاغة والتفكيك، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2019.

عامر (أيمن): الحل الإبداعي للمشكلات بين الوعي والأسلوب، مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة، 2003.

القرطاجني (حازم): منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق محمد بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت-لبنان، 1986.

توفيق (محمد): الخال، الطبعة الثانية، المصري للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013.

قاسم (سيزا): بناء الرواية: دراسة مقارنة في ’’ثلاثية‘‘ نجيب محفوظ، الهيئة  المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004.

ــــــــــــــ: القارئ والنص: العلامة والدلالة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002.

ــــــــــــ: روايات عربية: قراءة مقارنة، هيئة قصور الثقافة، القاهرة، 2020.

ــــــــــــ: مدخل إلى السيميوطيقا :أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، إشراف بالاشتراك مع نصر حامد أبو زيد، ، الطبعة الأولى، دار إلياس، القاهرة، 1986.

ــــــــــــ: مدخل إلى السيميوطيقا :أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، إشراف بالاشتراك مع نصر حامد أبو زيد، ، الطبعة الثانية، دار التنوير، القاهرة، 2014.

ــــــــــ: طوق الحمامة  في الألفة والألّاف لابن حزم الأندلسي: تحليل ومقارنة،،القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2014.

ثالثًا، المراجع المترجمة:
باشلار (غاستون): تكوين العقل العلمي، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ــ لبنان، 1982.

ــــــــــــــ: العقلانية التطبيقية، ترجمة بسام الهاشم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ــ لبنان، 1984.

إيكو (إمبرتو): السيميائية وفلسفة اللغة، ترجمة أحمد الصمعي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت – لبنان، 2005.

بيكر (منى): الترجمة والصراع: حكاية سردية، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2018.

فتغنشتاين (لودفيك): تحقيقات فلسفية، ترجمة وتقديم وتعليق، عبد الرزَّاق بنُّور، الطبعة الأولى، المنظمة العربية للترجمة، بيروت-لبنان، أبريل، 2007.

ليكوف (جورج): النظرية المعاصرة للاستعارة، ترجمة طارق النعمان، مكتبة الإسكندرية، القاهرة، 2014.

ليكوف (جورج) & جونسون (مارك): الفلسفة في الجسد، ترجمة طارق النعمان، المركز القومي للترجمة، 2014.

رابعًا، المراجع الأجنبية:

Booth, Wayne C. (1983 [1961]) The Rhetoric of Fiction, Chicago: University of Chicago Press.

ـــــــــــــــــــــــ (2012). The Rhetoric of Rhetoric. Oxford: Blackwell.

Friedman, Susan Stanford. (2013). “Why Not Compare?” in Comparison: Theories, Approaches, Uses. Ed. Rita Felski and Susan Stanford Friedman. Baltimore: Johns Hopkins UP, 34-45. Print.

Glicksohn, J. & Golan, H. (2001). Personality, Cognitive Style And Assortative Mating, Personality And Individual Difference, Vol. (30), No. (7), Pp. 1199-1209.

Graham, Allen (2000) Intertextuality, London and New York: Routledge.

Kassem-Draz, Céza. “Opaque and Transparent Discourse: A Contrastive Analysis of the Star of August and The Man of the High Dam by Son‘Allah Ibrahim.” Alif: Journal of Comparative Poetics, no. 2, 1982, pp. 32-50. JSTOR, doi: 10.2307/521736.

Li, S., & Munby, H. (1996). Metacognitive strategies in second language academic reading: A qualitative investigation. English for Specific Purpose , 15 (3), 199-216.

Lodge, David. (2011). Small World. London: Vintage.

Lotman, J.( 1990). Universe of the Mind: A Semiotic Theory of Culture, Ann Shukman (trans), Umberto Eco (into.), London: I.B.Tauris.

   ـــــــــــــ  2009 [1992]. Culture and Explosion, Brain James (trans). Berlin: Mouton de Gruyter.

______2019 [1992]. Culture, Memory and History: Essays in Cultural Semiotic, Brain James  (trans). Berlin: Mouton de Gruyter.

Peterson, P.L., & Swing, S.R (1983). Problems in classroom implementation of cognitive strategy instruction. In M. Pressley & J.R Levin (Eds.), Cognitive Strategy Research: Educational Applications (pp. 267-287). New York: Springer-Verlag.

Radhakrishnan, R. (2003). Theory in an Uneven World. Oxford: Blackwell.

Rahimi, M., & Katal, M. (2012). Metacognitive strategies awareness and success in learning English as a foreign language: An overview. Pocedia - Social andBehavioral Sciences , 31, 73-81.

Zhang Limei (2018). Metacognitive and Cognitive Strategy Use

in Reading Comprehension: A Structural Equation Modelling Approach. New York: Springer-Verlag.